newtr

  • 428 المقابلة الصحفية مع مجلة (العربي)

    عبدالله البردوني >  المقابلة الصحفية مع مجلة (العربي)

    نشرت في العدد 378 الصادر بتاريخ مايو 1990م
    أجرت الحوار: فاديا الزعبي:
    عبدالله البردوني واحد من كبار الشعراء العرب المعاصرين، ولد في قرية بردون بالجمهورية العربية اليمنية، وتلقى تعليمه في صنعاء، شارك في الحركة الوطنية المناهضة للعهد الإمامي قبل قيام الثورة. وهو يضطلع بدور كبير في الحركة الثقافية اليمنية المعاصرة. صدرت له دواوين عديدة منها: “من أرض بلقيس” و”في طريق الفجر” و”مدينة الغد” و”لعيني أم بلقيس” وله كتب في الأدب الشعبي وغير ذلك. أجرت اللقاء الزميلة فاديا الزعبي وهي صحفية من القطر العربي السوري.
    – الغموض في الشعر تختص به القصيدة الحديثة، وقد شمل هذا الغموض قصيدتك العمودية في دواوينك الأخيرة، في حين كانت قصائدك الأولى عمودية كلاسيكية واضحة. ماسر هذا الانعطاف إلى الرمزية الغامضة؟
    – لابد أن يمر كل شاعر بعدة مراحل، المرحلة الأولى استبطان الذات، والمرحلة الثانية اقتران الذات بالموضوع الخارجي، والمرحلة الثالثة إيصال الخارج إلى الداخل أو اتحادهما، والمرحلة الرابعة التوحيد التام بين الموضوع والذات. ولعل قصائدي قد اجتازت هذه المراحل منذ أواخر الأربعينيات وحتى الآن.
    كانت المجموعة الأولى “من أرض بلقيس” انعكاساً لخريف الرومانتيكية العربية، فكانت الذات تغلب على الموضوع، ومع هذا كانت المجموعة الأولى من أهم دوافعي إلى المواصلة الشعرية، لأن هذه المجموعة نالت رضا اللجنة الشعرية في المجلس الأعلى للفنون والآداب في مصر فنشرتها في أهم مشروع ثقافي هو مشروع “الألف كتاب” فحققت هذه المجموعة سمعة بعيدة، وكانت المجموعة الشعرية الوحيدة في مشروع “الألف كتاب” الذي تميز بحسن اختيار المؤلفات والمترجمات على السواء.
    أما المجموعة الثانية “في طريق الفجر” فقد كان صوت الواقع فيها أعلى من صوت الشعر، لأن قصائدها ترعرعت في ظروف المتغيرات المتسارعة من عام 1959م إلى صدور المجموعة عام 1966م. فانعكس على قصائد المجموعة الثانية تفجر الثورة ومعاركها الحربية، وجدلها السياسي مع الفئات الاجتماعية. لهذا بدت مجموعة “في طريق الفجر” بقصائدها ال58 منقطعة عن مجموعة “من أرض بلقيس” بقصائدها ال58 أيضاً.
    خصائص المرحلة الثالثة
    – بم تميزت المرحلة الثالثة من إنتاجك الشعري؟
    – بعد “في طريق الفجر” تغير المناخ الخارجي واتحد الداخل، وخفت صوت الواقع نتيجة البحث عن دافع أفضل، يناقض القائم أو يأتي منه، أو يرد عليه، فكانت مجموعة “مدينة الغد” التي صدرت عام 1970م، بداية المرحلة الثالثة من مراحلي، لأنها حنين إلى المدينة الفاضلة كما اسماها الفارابي، أو حنين إلى الطوياوية الأوروبية والجنة الموعودة أو المفقودة، فانعكست على قصائد “مدينة الغد” ثورية الواقع على واقعيته، ومحاولة الاجتياز إلى الأفضل.
    امتدت من هذه المرحلة، مرحلة مجموعة “لعيني أم بلقيس” التي صدرت طبعتها الأولى في بغداد عام 1973م. أما المرحلة التالية، فتشكلت من مجموعة “السفر إلى الأيام الخضر” التي صدرت في دمشق عام 1974م. غير أن هذا السفر لم يصل، وإنما تأرجح بين الارادة والعجز لرحلة المجتمع العربي، فأثمر هذا الشعور بالاحباط. ثم من مجموعة “وجوه دخانية في مرايا الليل” التي صدرت في الكويت عام 1977م، وامتدت هذه المرحلة بوصفها امتداداً للأدب الحزيراني دون أن تتأثر بمعركة اكتوبر 1973م. فظل الأدب الحزيراني يلوح كثيراً ويخبو قليلاً من مستهل السبعينات إلى منتصف الثمانينيات. وكانت غرة هذه المرحلة المجموعة السابقة “زمان بلا نوعية” التي صدرت عام 1979م، وفيها تصور للزمن الذي لا رائحة له، ولاشكل. وكان هذا نهاية مرحلة ثالثة.
    جاءت المرحلة الرابعة من بداية الثمانينات إلى عام 1983، وانعكس تناقضها على مجموعة “ترجمة رملية لأعراس الغبار” التي صدرت عام 1983 وفيها إشارة إلى تلقيح الرمل بالرمل، أو تخصيب الغبار بالغبار كرمز لتشابه السلطة السياسية والسلطات الثقافية.
    ظلت هذه المرحلة تتطور من داخلها حتى شكلت بداية لمرحلة جديدة تبدت في مجموعة “كائنات الشوق الآخر” التي صدرت عام 1986م. وهي شوق الأشياء إلى الرحيل، وشوق كل كائن إلى الخروج من كينونته، بما في ذلك الرصيف والربوة، والنهر والبستان، والشاطيء والصحراء.
    – نعود مرة أخرى إلى الغموض، ماسره وما الأسباب الداعية إليه؟
    – الغموض مسألة نسبية فإذا كان بعض يرى في ذلك غموضاً، فإن بعضاً آخر يرى فيه وضوحاً، وأخص بالذكر جموع المثقفين الذين واكبوا تطور الشاعر وبلغوا مستواه، فاضطر الشاعر أن يبعد علواً على الجمهور، لكي يهبط عليه هبوط المطر الذي يستنبت الأرض، ويتحول إلى قوة صعود من الهبوط فيتلاقى الشعر ومتلقيه. وليس هناك سبب سياسي للغموض، ولا أظن أن أكثر القراء يشكون غموضاً في كل دواويني، إلا الذين وقفوا على ما صدر في الخمسينيات أو الستينيات، وتجاوزهم الزمن الذي لايتوقف.
    المبدع والناقد
    – ما رأيك في الحركة النقدية العربية عموماً، واليمنية بشكل خاص، وما الجديد في مسارها؟
    – الحركة النقدية تتبع الحركة الابداعية، لأن عمل الناقد يتوقف على عمل الشاعر المنقود أو الروائي المنقود، فالناقد مسبوق بالمادة المنقودة التي هي سبب في نقده. ومع تسارع حركة الابداع تتسارع حركة النقد. ولعل اليمن كغيره من أقطار شبه الجزيرة مايزال أقرب إلى الشعر منه إلى النقد، بل إن الشعر مايزال متفوقاً على سائر الأنواع الكتابية الأخرى، لأن مجتمع شبه الجزيرة مايزال مجتمع الشعر والزراعة والتجارة.
    ومع ذلك فهناك حركة نقدية، لكنها لاتنتمي إلى شبه الجزيرة، وإنما هي من تأثير قراءة كتب النقد، ومدارسه الابداعية، ولهذا لم يسم الدكتور عبدالعزيز المقالح كتاباته النقدية “كتباً في النقد” وإنما عنونها بقراءة في شعر (فلان) أو قصص فلان أو رواية فلان، أو مسرحية فلان.
    ولاشك أن القراءة بعض النقد، ولكنها ليست النقد باسمه ومسماه، أما الذي يتميز برؤية نقدية ماتزال في بواكيرها فهو الشاعر عبدالودود سيف الذي ينتمي إلى المدرسة الأسلوبية على تسمية، أو المدرسة البنيوية على تسمية أخرى، إلا أن عبدالودود لم يتمكن من جمع المدارس أو خير مافيها لخدمة النص أو استخدامه.
    ومع ذلك لايمكن أن نقول إن في اليمن حركة نقدية، ولكن هناك محاولات نقدية بدأت من منتصف الاربعينات وازدادت تطوراً في السبعينات ثم وقعت فيما وقعت فيه المدارس النقدية من تعميم ورصد للظواهر، دون وصول إلى السر الشعري. وليست هذه الظاهرة غريبة على الأدب المعاصر. فهناك سبق للمبدع على الناقد. لأن المبدع مختلف العوالم في حين يظل الناقد محصوراً بالنصوص المنقودة، فهو تابع للمنقود الذي هو أكثر منه تطوراً.
    المسافة بين الناقد والشاعر
    – هل هناك تفاوت بين الشاعر والناقد؟
    – لاحظنا في تاريخنا الأدبي المسافات بين المبدعين والنقاد، فكان الآمدي في القرن العاشر الميلادي متخلفاً بالقياس إلى إبداع منقوديه، أبي تمام والبحتري. وكان “علي عبدالعزيز الجرجاني” في القرن نفسه متخلف الذهن بالقياس إلى تحليق المتنبي، وكان “ابن بسام” في كتابه “الذخيرة” مجرد مؤرخ للأدب الاندلسي. كما كان “ابن رشيق” مجرد مدو لما رواه الشعراء في بعضهم، أو ما قاله النقاد في بعض الشعراء، دون أن يبدي رأياً معارضاً أو موافقاً. فكان كأغلب النقاد يعتمد على قول “الطرماح” في شعر “ابن أبي ربيعة” أو على قول الجاحظ في شعر “أبي نواس” أو على قول البحتري في شعر أبي تمام. فكانت آراء الشعراء في بعضهم أهم مادة قدمها “ابن رشيق” و”الآمدي” و”الجرجاني” والآراء التي كان يبديها “الآمدي” و”الجرجاني” كانت تدل على قصورهما عن بلوغ السر الشعري، أما عن قدرة الشعر على تطوير اللغة واشتقاقها وخدمتها عن طريق استخدامها فالنقد متخلف عن الابداع في كل عصر كما لاحظنا في النماذج القديمة. وكما نلاحظ من النقود التي كتبها طه حسين، والعقاد، والرافعي، ومارون عبود وأمين الريحاني. فقد كان هؤلاء يعنون بالشاعر من الوجهة النفسية، ومن حيث تأثره بظروف البيئة، وتأثيرها فيه، ولايغوصون في نصوصه إلى حد أن طه حسين قال عن لغة الشعر المهجري بأنها غير صافية، أو سماها لغة صحفية، بحجة أنها لاتشبه لغة الحطيئة والبحتري.
    الناقد الثاقب
    – من الناقد الثاقب الذي ترى فيه نموذجاً جيداً؟
    – الناقد الثاقب في رأيي هو “الدكتور محمد مندور” في كل مؤلفاته: كالنقد المنهجي عند العرب، والميزان الجديد، والشعر المصري بعد شوقي، وقضايا أدبية، فقد كان مندور لايُحِّملُ النصَ فوق ما يحتمل، ولايجاوزه إلى الظواهر المذهبية، لهذا كان يناقش النقاد القدماء، فيستغرب على “الآمدي” “استغماضه” شعر أبي تمام حتى الواضح منه.كذلك أنكر مندور على طه حسين نقده لشعر محمود أبي الوفاء، وللمهجريين، فنكاد أن نسمي كتابات مندور “نقد النقد”. أما مارون عبود الذي شغل الخمسينيات وبعض الستينيات، فكان يصدر عن ذاتية ويلجأ إلى التفكه حين يعوزه البرهان الفلسفي أو التعليل الأدبي. لهذا لم يصل النقاد إلى مصاف الشعراء، لأن الشاعر أو الروائي ينظر بعين المبدع الذي يحرك المادة، في حين ينظر الناقد إلى النص الذي أُبدع.
    صحيح أن بعض ملامح النقد تشارك المبدع في إنشائه، لكنها لاتصل إلى مرتقاه. ومن الضروري أن نعرف أن النقد إثراء للثقافة، وضرورة لتتبع مسيرة الشعر. ولكن لايمكن أن نقول أنه يُبَصِّرُ الشاعر أو يُسددَ خطاه.
    الشكل ليس مقياساً
    – الناس والنقاد في صراع بين تيارين، تيار القصيدة العمودية الكلاسيكية وتيار القصيدة التفعيلية. ويميل بعضهم إلى القول: إن القصيدة العمودية انتهى وجودها في الوطن العربي، باستثناء شعر الجواهري والبردوني، ونزار قباني وغيرهم. فما رأي البردوني في القصيدة العمودية الكلاسيكية، وفي القصيدة التفعيلية، ولماذا يُقبل الشعراء على القصيدة التفعيلية؟
    – ليس الشكل مقياساً للجودة، سواء أكان عمودياً أم تفعيلياً، فهناك قاسم مشترك في الرداءة وفي الجودة في الشكلين معاً. لهذا كان شرط الشعر أن يكون شعراً جيداً أياً كان شكله. أما تصنيف الشعر إلى عمودي وتفعيلي، وإلى عمودي متطور فهذا تصنيف خارجي يفيد في معرفة الحركة الثقافية، والتحرك الاجتماعي، لكن الشكل لايتسبب في جودة الشعر، أو في رداءته، لأن الأساس امكانيات الشاعر في أي شكل.
    ومن العجب أن الاحكام التي تواردت في الخمسينيات قد سقطت على الرغم من تكرارها، فما أكثر ما ردد الأدباء الصحفيون أن القصيدة العمودية قد انتهت. وأن القصيدة الجديدة هي شعر العصر، قالوا هذا في الخمسينيات، وهانحن في بداية التسعينيات نقرأ شعراً عمودياً جيداً. كذلك فإن بعض نقاد السبعينيات وقعوا في الخطأ، فارتأوا أن الشعر الجديد قد انقرض عهده، وانتهى بنهاية السياب، وصلاح عبدالصبور، وخليل حاوي، ولم يثبت هذا الرأي للنقاش، فقد أثبت الشعر الجديد امكانية تواصله.
    فالذين رأوا نهاية الشعر العمودي في الخمسينيات كالذين أعلنوا نهاية الشعر الجديد بموت بعض رواده وسكوت بعضهم. وكلا الحكمين خاطيء كأغلب أحكام النقد. لأن الأحكام النقدية تتأثر بالفترة الآنية، ولاتستبصر ظواهر بزوغ الفترة الآتية، وبالتالي فإن الحاسة المستقبلية عند النقاد غير مرهفة كارهاف حاسة الشعراء بما هو آت.
    ومن البديهي أن الشعر كله يملك الجودة، ويملك الرداءه، ومن المعروف أن المجيدين في كل فترة لايتجاوزون عدد أصابع اليد أو اليدين. فإذا كان في عصرنا ثلاثمائة شاعر، فلابد أن المجيدين منهم لايزيدون عن أصابع اليدين. وهذا معهود في كل فترة. ففي القرن التاسع الميلادي كان أجودُ الشعراء ثلاثة: أبوتمام والبحتري وابن الرومي، وفي القرن العاشر والحادي عشر، كان أجودهم ثلاثة: المعري، والشريف الرضي ومهيار الديلمي.
    واذا رجعنا إلى العصر الأموي فسوف نجد أكثرهم إبداعاً ستة شعراء هم ابن أبي ربيعة، وجرير، والفرزدق، وكُثَيِّرْ وجميل والأخطل. وكان هؤلاء في العصر العباسي والأموي من جملة آلاف الشعراء كما دلت على ذلك مقولة جرير: “إني كافحت ثمانين شاعراً، ظهرت عليهم جميعاً” ولانجد من أولئك الثمانين اليوم إلا الأخطل والفرزدق. فالمجيدون هم الذين يغالبون الزمن كله في كل عصر، فأصحاب الابداع المطلق -أو الطبقة العليا ابداعاً- لايزيدون عن ستة: بدر شاكر السياب، أدونيس، خليل حاوي، عبدالوهاب البياتي، نازك الملائكة. محمود درويش. كذلك القصيدة في الشعر العمودي، فإن شعراءها المجيدين لايزيدون عن عدد شعراء المدرسة الجديدة. فيمكن أن تكون الطبقة الأولى مكونة من الأسماء التالية:
    عمر أبو ريشة، والجواهري، وبشارة الخوري، ومحمد مهدي المجذوب، وسليمان العيسى، ونزار قباني، ويمكن أن تتكون الطبقة الثانية من: أحمد الصافي النجفي، ووصفي قرنفلي، وعبدالسلام عيون السود، والياس ابو شبكة، وسعيد عقل.
    كذلك في الأدب الأوروبي بشقيه الغربي والشرقي، فلايكاد أحد يذكر شاعراً فرنسياً إلى جانب بودلير، ورامبو، وأراجون. كذلك الروائيون، فإن الطبقة الأولى تتكون من أميل زولا، وبلزاك وشاتوبريان، ويأتي غيرهم في طبقة ثانية. ويمكن أن نجد الطبقة الأولى في الأدب الروسي متمثلة في تولستوي ودستوفسكي وتشيخوف وجوجول.
    وإذا لاحظنا المدرسة العربية الرومانتيكية فإننا لانجد خامساً لعلي محمود طه، وكاظم جواد، وابراهيم ناجي، وأبي القاسم الشابي، فليست المسألة كثرة الشعراء؛ وإنما المسألة زيادة نوع الشعر. والذين يجمعون بين جودة النوع وكثرة الانتاج قله في كل عصور الأدب، بما في ذلك شعراء المعلقات في الجاهلية، وشعراء الملاحم في العصور اليونانية القديمة.
    هناك شعراء يَعِدون ولايفون، وهناك من يتألقون بالقصيدة والقصيدتين ثم يتوقفون، من أمثال ابن النحاس، وابن زريق البغدادي في القديم. ومن أمثال المازني، وجبران في الحديث. ولهذا انصرف المازني إلى الكتابة، وانصرف جبران إلى القصة الطويلة، والمقالة النقدية، بعد أن بدأ الاثنان شاعرين كبيرين.
    المهرجانات محاكمة آنية:
    – من خلال حضورك لمهرجانات شعرية وندوات ومؤتمرات أدبية. هل ترى أن هذه النشاطات تضيف شيئاً إلى الواقع أم أنها مجرد نشاط آني؟
    – لاشك أن المهرجانات الشعرية والمؤتمرات الأدبية من أهم سبل التعريف بالثقافة العربية كلها، أما المهرجانات والمؤتمرات في ذاتها فإنها لاتبدع شعراً خاصاً بها، فعندما يجتمع الشعراء في أي مهرجان ينشدون ما سبق أن كتبوه، وربما يعيدون قراءة ما قرأوه في مهرجان سابق، ولهذا فإن الشعراء يصعدون إلى المنصات بدواوينهم، أو بأوراق من جرائد أو مجلات. وقلَّ من يخص المهرجان بقصيدة خاصة.

  • 429 المقابلة الصحفية مع صحيفة (رأي) وهي آخر حديث صحفي أدلى به الفقيد

    عبدالله البردوني >  المقابلة الصحفية مع صحيفة (رأي) وهي آخر حديث صحفي أدلى به الفقيد

    نشرت في العدد 174 الصادر بتاريخ17أغسطس1999م

    أجرت الحوار: نادية مرعي
    الأستاذ الجليل عبدالله البردوني الإنسان والأديب الحاضرة بصماته في قضايا وآداب وثقافة اليمن قديمه وحديثه من أول حرف إلى مالانهاية، ومعضا يملأ أرواح الحروف فيلسوفاً يناجي الحقيقة ينبض شوقاً وحنيناً يتواصل معها تفر منه يذوب فيها ترسب فيه حكمة من أرض بلقيس في مدينة الفجر طريقاً لعيني.. الأيام الخضر.. حضور متميز يبذر أزهار الحب والعطاء أنى يهم وجهه في مرايا الليل مجسداً زمناً بلا نوعية بحكمة وخبرة صقلها واقعه المعيوش ترجمة رملية لأعراس الغبار كائنات شوق آخر جوّاباً للعصور، رواغ مصابيح لروح متقدة وارفة تظلل الحياة وقلب كبير يتسع أشتات الأنفس والأفكار بشفافية، عبدالله البردوني تجربة إبداعية تختصر جوهر الإبداع في صورة عملاقة ينشر المدى رؤى وبحاراً لا تنضب.
    حظيت بشرف لقائه في صومعته وكان لي معه هذا الحوار:
    – تضج الساحة الإبداعية في واقعنا اليمني المعاصر بدفق من النتاجات الأدبية والفنية، يرافق ذلك الزخم صمت بارد من قبل النقاد، على أنه لاحركة إبداعية بلا حركة نقدية.. أستاذ عبدالله ماتفسيركم لهذه الأحجية؟
    – إن السؤال عن النقد والنقاد في بلادنا بحاجة إلى معالجة موضوعية ذات أبعاد، فاليمن في الأربعين عاماً الأخيرة زخمت بالكثير من النتاج الإبداعي – لاسيما الأدبي – خاصة الشعر المتطور وإن كان شكلاً عمودياً، والقصيدة الجديدة التي بدأت مزاولة الظهور حتى الآن منذ بداية الستينيات، ومنذ السبعينيات حتى الآن تكاثرت الاسماء الشعرية والاسماء القصصية، وكانت الاسماء القصصية اكثر في عدن من أي مدينة يمنية، وكان تكاثر الاسماء الإبداعية عموماً في اليمن منذ السبعينيات بفضل الوجود الجامعي ومعرفة التعليم الأكاديمي وكثر الشعراء والشاعرات والمبدعون عموماً، ومع هذا كله فإن غياب النقد يرجع إلى ثلاثة أسباب:
    أولاً: إن الأديب أو الفقيه اليمني لايضيق من شيء كما يضيق من النقد، ويتعوذ بالله منه ويعتبره معيبة، يفهم ذلك المتابع لكتاب “الغاية في أصول الفقه” لحسين بن القاسم؛ قال القارض:
    “لله من غاية أعوذها بالله
    من رأي كل منتقد”
    فهم يرون الانتقاد اعتراضاً وتجهيلاً وإدراكاً لمواطن العجز أو خلق معايب ليست موجودة، ويقبلون الخصومة دون النقد.
    ثانياً: إلى الآن لم ينقطع أديب للنقد في ذاته، مثل بعض النقاد، في البلاد الأخرى مثل “محمد مندور، وعزالدين إسماعيل، وحنا عبود، وإبراهيم عبود، وميشيل عاصي، وعبدالجبار البصري…إلخ”، فلانجد في بلادنا من انقطع للعمل النقدي وحتى من يقوم بالنقد مقاربة فإنه يسميها قراءة – تخلصاً من مسؤولية النقد – والناقد يتفرغ للعمل الابداعي النقدي ويتابعه ويتطور معه ويطوره، مثل الناقد “محمد النويهي” من اكبر نقاد الشعر الحديث بدأ، بالشعر القديم وانتقل إلى التفعيلة ودعا إلى الشعر الحديث، كذلك الناقد الكبير “عبدالقادر القط”، وغيرهم ممن يتابعون الإبداعات ويميزون بين ماهو خطوة للأمام وماهو غير ذلك وما هو فن معاصر جيد وجديد وبين ماهو رتيب، فالجدة لاتظهر إلاّ في الإجادة، كما أن الاختلاف والتمايز بين الاتجاهات الإبداعية يخلق المعارك النقدية الإبداعية بين السلفيين والحداثيين، وكانت تلك المعارك أحياناً تهدف إلى زوال الحديث والقضاء عليه وليس مجرد نقده بل قبوله أو رفضه.
    ثالثاً: قلة الإبداع على كثرة النتاج، بمعنى عدم التميز والجدة التي تدفع الناقد للكتابة فلدينا كم كبير ومبشر لكنه أو لنقل معظمه لايرقى إلى مستوى الإبداع، ولابد من مكاشفة أنفسنا بأنها تجارب جيدة تدل على مستقبل إبداعي إذا اتخذت طابعها الخاص وتميزت بماتحدثه من ردود أفعال.
    – يرى البعض أن النقد مهمة صعبة، بينما يستسهلها البعض الآخر وثارت مؤخراً مناوشات متبادلة حول النقد والكتابة الانطباعية أستاذ عبدالله.. أين النقد في كل ذلك؟
    – النقد معرفة مواطن الجمال والدخول فيها، مواطن القبح والدخول فيها منطق الإبداع والجدة وإبرازه، والناقد تؤثر فيه الظروف والتغييرات الثقافية، ولابد أن يتميز الناقد بالموضوعية وثقابة الرؤية والقدرة على الاختلاط بالمؤلف والتداخل معه حتى يكاد أن يكونا شخصية واحدة ورؤية مشتركة فيغدو الناقد شريك المبدع هذه المشاركة تدفعه للإبداع والكتابة النقدية التي ليست مجرد انطباع مع أو ضد، وقد يتطرق الناقد لابعد مما قصد المبدع، فالنقد رؤية النص ورؤية ماوراء العبارة، وما استعمال الرمز، ولأي غاية، وهل الدلالات والأدوات، وما بالنص من الظواهر والكوامن.. عفوية مشروعة؟ أم أنها مفتعلة مقحمة؟ وليس النقد مجرد التوصيف والإحصاء، ولامجرد انفعالات عاطفية نحو بعض الكتابات التي تكون بفعل الصداقة، أو إجابة الطلب والمجاملة والتشجيع، برغم ماقد يكون فيها من بدوات نقدية جميلة أو تنبؤات في محلها أو في غير محلها، والنقدات، في مجالس القات والمناوشات على صفحات الجرائد ليست من النقد في شيء، بل إنها تشبه ماتتنابز به بعض النساء في “التفرطة”، وأتصور أن مادار بين المحمدين من مناوشات ليست ذات أسباب أدبية أو سياسية، فكل واحد أدلى بما في لسانه، ومايجول في خاطره عفواً، وليس مايتفق مع أدبيات النقد.
    – أستاذ عبدالله – في كتابكم “رحلة في الشعر اليمني قديمه وحديثه” كانت لكم تناولات نقدية، ما معاييرها، وهل أنتم تقبلون النقد؟!
    – كانت عندي أفكار في النقد عندما كتبت ذلك الكتاب، وكنت لا أعتبر الشعر إلاّ إذا كان وطنياً متحمساً، أو كان ثورياً متحمساً، لأننا كنا نخوض أربعين جبهة من الحرب، وفي تلك الفترة ما كان يمكن للشعر إلاّ أن يكون كذلك، وقد تركت بعض الاسماء الشعرية التي كانت موجودة آنذاك ولكنها لم تكن ذات أنفاس حماسية، وقد وصفتها بالبعد عن الوطن، والغربة في سبل البحث عن مستقبل يمن جديد، أما بالنسبة لي والنقد فأنا أرحب بكل ما كتب وما يكتب وما سيكتب عني، معي أو ضدي.
    – ماذا عن الحراك النقدي الأدبي عربياً؟
    – كان لحركة النقد الحقيقية التي تزعمها “محمد مندور، أنور المعداوي، أو في مصر و”مارون عبود” في بيروت، “عيسى الناعوري” في الأردن، وغيرهم أثر عظيم في تطور وتغير الحركة الإبداعية، ونقد هؤلاء يعتمد على النص كيف عبر وتخيلوماذا أضاف إلى سابق عليه، وخلق مايسمى بالأدب الخلاق ومايسمى بأشعار الشاعر بوجود الشعر وأشعار القارئ بحس الشعر فيه من الأدب المقروء؛ إذ يحس بأن الأديب قد عبر عما يحس به هو، فكان لأطروحات وملاحظات النقاد حول الإبداع صدى لدى المبدعين ومن جدلية العلاقة بين النقد والإبداع تكون الجدة والتطور والحراك.
    فمثلاً يرى “أنيس داود”: أن حشر الأسطورة وبعض الرموز لايؤدي مكان السياق الشعري الذي تحمله القصيدة، ولاترمز إلى شيء يقبل التعريف، وهكذا ظهر مناوئون ومؤيدون، وكانت مصر أم الشعر وأُم النقد والنشاط والإشعاع.
    – كتب الناقد يوسف الشاروني كتاباً بعنوان “الثلاثة الروائيين” ماذا عن الرواية العربية ونقدها؟!
    – الحقيقة أن يوسف الشاروني رتب روائييه كما يلي الأول نجيب محفوظ والثاني محمد عبدالحليم عبدالله والثالث يوسف السباعي، وقد استغربت عندما قرأت الاسماء واستغربت وجود السباعي إلى جانب محفوظ ومحمد عبدالحليم وكنت أتوقع أن يكون “توفيق الحكم” أول الاسماء، وقد تناول في هذا الكتاب اندفاع هؤلاء الكتاب إلى الرواية وقال إن محمد عبدالحليم، عاطفي يجنح للشعر والفلسفة الرومانتيكية والميل للمأساوية في الحياة والمغامرات الغرامية البائسة نحو ماجاء في روائيته التي صارت فيما بعد فيلم “لقيطة”، أما نجيب محفوظ فقد اعتمد على الواقعية الاشتراكية والسياسية وبدأ مستخدماً الرمز الفرعوني على نحو ماظهر في رواياته: “كفاح طيبة”، “رادوبس”، “عبث الأقدار”، وكلها تاريخية ثم انتقل إلى الرواية الواقعية مثل روايته “القاهرة الجديدة” والتي كانت بعنوان “فضيحة في القاهرة”، وما كان للرأي العام من أثر فيها وتأثر بها والنقد الروائي يحتاج لرؤية عميقة وخبرة وقدرة على الاستنطاق، وقد كتب “سيد قطب” – وهو اخبر ناقد وأكثر امتلاكاً للكلمة من جميع النقاد – كتب بعد صدور “القاهرة الجديدة” و”خان الخليلي” لنجيب محفوظ: إن نجيب محفوظ من الآن لانعتبره من الروائيين العرب ولا من روائيي الشرق، بل إنه ترقى إلى مصاف ديستويفسكي وبلزاك وايميل زولا، فنجيب من الروائيين العالميين، ولو كان أبطاله محليين، فالشمولية والانفتاح عالمي، فسيد قطب أول من رشح محفوظ للعالمية، وسيد قطب ناقد حصيف ذو قدرة نافذة، غير أنه مالاقى من رفاق الكلمة آنذاك المكانة التي يستحقها، وكان شاعراً وأديباً مرهفاً، ثم اتجه للكتابة السياسية والدينية.
    وهكذا نلاحظ الرواية والنقد الروائي وانعكاساتهما على الواقع المحيط، وبرغم ما أحيط بنجيب محفوظ من الأقاويل إلاّ أنه مايزال يرفد الرواية الإنسانية بما يدهش فبعد “زقاق المدق” والثلاثية ظن النقاد أنه قال كل ما عنده، بل إنه صرح في استجواب صحفي بأنه وضع كل معارفه وخبراته الاجتماعية والنفسية في الثلاثية، وبعد شهرين أصدر روايته “اللص والكلاب” وهي تفوق كل ماسبق وانه مايزال يملك مايقول ويحسن القول، وفيها صوّر الثورة والتراجع عنها، والخونة وهم يهتفون لها ويرتزقون منها، وقد تناول “غالي شكري” نقد روايات نجيب محفوظ من وجهة اجتماعية وكيف يخلق النموذج الروائي، وما لذلك من أثر، كذلك كتاب “محمد مندور” “النقد المنهجي عند العرب” وما لهذا الكتاب من أثر في تعريف المثقف العربي بأثر الظروف والتغييرات عموماً في الإبداع وهكذا نجد هؤلاء النقاد خلقوا رؤى وآفاقاً جديدة لتناول الواقع ومعالجة معطياته، كما نلاحظ نشاط القصة والرواية ونقدهما في المغرب العربي كما جاء في رواية “الخبز الحافي” والتي تناولت الحياة الاجتماعية وعرى الجوع والفقر المدقع كما هو في ملايين البيوت الفقيرة في العالم وفي الجزء الثاني من الرواية واسمه “الصعاليك” أرخ الكاتب المغربي.. للصعاليك المعاصرين الذين يختلفون عن صعاليك التاريخ العربي من شعراء العصر العباسي وشطارة، وعياروه، فقد تناول الصعاليك الذين يتجسدون في الخدم والنوادل في الأفران والمطاعم والفنادق الذين يحملون أشهى الطعام والشراب وهم جوعى، وقد أُلزم أصحاب الفنادق والمطاعم إطعام العمال قبل أن يبدأوا عملهم في فرنسا، هكذا يخلق الإنسان أفكاراً خيرية تجد سبيلها للوجود والتنفيذ وإن على يد الغير وإن بعد حين وكفى هؤلاء المبدعين نبلاً أنهم خلقوا مثل تلك الأفكار والمعالجات المرهفة.
    – هناك عصور ازدهار ثقافي للمجتمعات وعصور انحطاط تتأثر بعوامل الواقع، ماذا عن إبداع المرأة؟
    – تتبجح بعض الجهات السياسية بأنها نقلت المرأة، وأثرت في واقعها والحق أن المرأة حاضرة في المجتمع، واتسع مجال حضورها بتطور المجتمع ولابد أن نصف تجربتها بأنها أقصر من تجربة الرجل نظراً للمواقف والمواقع التي تؤثر في تجربتها، والمرأة خلقت من إبداع الظروف ومن تحول المجتمع، وتلك المكانة غير كافية، ينبغي أن يكون لدينا خمسمائة أو سبعمائة مبدعة كممثلات لأدب المرأة في مختلف الفروع والمرأة في مختلف المناشط الثقافية والإبداعية تظل أعمالها أقل من الرجل، نتيجة عدم تفرغها تماماً للعمل الإبداعي، وحتى في بعض الحالات نجد بعض الأديبات مقلات رغم تفرغهن للعمل الأدبي سواءاً عربياً أو عالمياً مثل بنت الشاطئ، وسهير القرماوي، وكوليت سهيل الخولي ولميعة عباس عمارة، وسناء الدروبي، وحتى سيمون دي بوفوار الفرنسية.
    ومهما يكن فتجربة المرأة مرهونة بأدوارها المختلفة وتطورها واجتهادها ونشاطها في التجربة الحياتية عموماً، إلاّ أن هناك من المبدعات من يقتربن في قوة وغزارة ما ينتجن من أعمال أدبية وفنية مثل “غادة السمان” في رواياتها ذات التصورات والتحليلات العميقة ذات الحس الأنثوي، ونوال السعداوي الأكاديمية التي تهتم في دراساتها الجوانب البيولوجية والاجتماعية والتاريخية للمرأة. أما عن مستقبل إبداع المرأة في اليمن فمستقبل البلد كلها معلق بجناح شيطان!
    – لم يعد العالم قرية صغيرة، بل أصبح غرفة صغيرة يرى ويشعر كل من بها ببعضهم بعضاً، في ظل سياسة العولمة وتكتل الأمم شيعاً وأحزاباً كيف ترون المستقبل العربي في إطار المستجد من التغييرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية عموماً؟
    – علينا معرفة ماذا فعلنا اليوم لندخل في الغد، فالناس الذين بلغوا الغايات المختلفة والتطورات الحادثة بدأوا منذ القرن الخامس والسادس عشر إلى الآن، والمستقبل لايأتي ارتجالاً، وإنما هو صيغة جهود متلاحقة ناتجة عن تجارب وطنية، وهنا لايستطيع المواطن لدينا أن يقدم تجارب ومايعاني فنحن لانزال نعاني من سيطرة المقولة “ليس في الإمكان أفضل مما كان”، وبرغم تطور الغرب فلا خير فيه فقوتهم تقوم على إضعاف الآخر ومصادرته وسلبه، والحق إن الشعوب جميعاً تخضع لرأي دولي واحد، والمستر ويلز أول من دعا إلى العالمية، العالم الواحد، لكنه لم يدع إلى عالم تسيطر عليه دولة واحدة تحكم العالم وتصادره، ومع ذلك فقد صدمت تلك القوة التي تحاول بواحدية السيطرة على العالم بمواجهة العراق لها، وصموده أمام ضغوطها ونفس الصدمة لقيتها من يوغسلافيا التي واجهت القصف المستمر لثمانين يوماً وهكذا تهتز فكرة وجود قوة واحدة مطلقة تحكم العالم!!
    – دعا فلاسفة اللغة في مطلع القرن الحالي إلى ما أسموه بفلسفة اللغة العادية، كما تجنح د. يمنى العيد إلى أن الأدباء يثرون اللغة بفصحنة الألفاظ التي يستخدمونها في واقعهم المعيوش، فمارأيكم في بعض الألفاظ الموغلة في القدم والتي يتبعها بعض الأدباء الشباب في كتاباتهم؟ وهل يعد ذلك بعث أم نكوص؟!
    – في الحقيقة الكلمة المفردة جانب مهم في اللغة لكنه ليس مختاراً ولامنتقى فاللغة تتكون مما يتداوله الناس ويتفاهمون في حياتهم، وهناك لغة ارتبطت بالفقه والعلوم والأدب والتاريخ لكنها تتحد مع لغة الحياة وتأتي منها، وهذه اللغة على وحدة أصلها إلاّ أنها تختلف حسب استخدامها من النثر إلى الشعر إلى الخطابة…إلخ، والكلمات التي يقتحمها الكاتب تظل مفردات لاحكم عليها ولاقيمة لها إلاّ بما تؤديه من الدلالة والمعنى، ولذا تتمايز أساليب الأدباء التي لاتخلقها المعاجم والتراجم وإنما تخلقها الفكرة والرؤية التي تفضي إلى تصورات وصور شعرية/شعورية بديعة تحدث إيماضات تخلق لغتها ومفرداتها المعبرة بالمعنى الذي يحرك الحاسة الأدبية ويوقظ الشعور بالخلق والإبداع والصدق الذي يشعر به المتلقي بعيداً عن التنقيب والغوص والافتعال عموماً.
    – في الحداثة ترون أن لانهاية لأية صياغة فنية لأن الجديد يؤصل التجديد كما يستحدث الأجد؛ هل مابعد الحداثة – وفقاً لتلك الرؤية – تستمد أصالتها من الحداثة؟
    – الحداثة جارية على ما أحدث العصر وما سوف يستحدث وليس معناها أنها أساس لما بعد الحداثة والتي تعني العدم “عدم الحداثة” فهذه التسمية في غير محلها، وإن بمعنى الترتيب، فالتسمية لابد أن يكون لها مسمى، وكلمة مابعد الحداثة قائلها لم يفكر في معناها ودلالتها، وعلى أية حال فنحن لم نحقق الحداثة، فكيف مابعدها؟!
    والواقع العام والتقايس الزمني ذو دورات تحمل الواحدة بذور مايليها وليس كل جديد هو الأفضل – مثل تطور الأسلحة – فهذه حداثة هدامة، تفتك بالجنس البشري، وقد تكون رؤية عصر ما أكثر حداثة من بعض الرؤى المعاصرة!
    – في التيارات الشعرية المعاصرة بمدارسها وأصولها المختلفة، تبرز قامات عملاقة، كيف ترون تجربة الدرويش، أنسي الحاج وأدونيس؟!
    – هناك وجوه مميزة في الاسلوب، في الأغوار البعيدة، وإذا لاحظنا الاسماء الواردة في السؤال فهي كذلك؛ إن أدونيس رائد المدرسة التي تعتمد على الحالة الشعورية وفكره الذي كان وهي تخالف الذي يكون منذ أن أصدر ديوانه الأول – شعر عمودي – بدت فيه لمحات غريبة مركبة تركيباً رمزياً ثم انتقل إلى التفعيلة في ديوان “أوراق في الريح” ومنه نشعر أنه وقف على مرسى في الدورة الفنية، ثم انتقل في “أغاني مهيار الدمشقي” فبين طريقه الشعري وفلسفته العميقة يقول في قصيدة حوار:
    “من أنت، من تختار يامهيار؟
    أنىّ اتجهت، الله أو هاوية الشيطان
    هاوية تذهب أو هاوية تجيء
    والعالم اختيار..”
    وتسيطر تلك الألفاظ والمصطلحات على مفردات قصائده، وهو متميز في استخدام الرمز والقناع وكل تسمية لديه كما يشعر بها في شفافية الخلق الفني، وأهم مقومات شعره الغرابة.
    محمود درويش شاعر من كل الوجوه، بدأ بالعمودي وتطور بعد ديوانه “عصافير الجليل”، و”عاشق من فلسطين” و”قهوة أُمي” في ديوان “آخر الليل” والذي حمل بذور الجديد الذي نلمسه اصداره بعد انتقاله إلى القاهرة، وفيه تعاطى مصطلحات أدونيس في ديوانه “تلك صورتها وهذا انتحار العاشق” وهي قصيدة واحدة طويلة، وعندما قرأها في دمشق كان الحضور لايقل عن مائة ألف مستمع، مع أن ذلك لم يعد مقياساً أو دليلاً على شاعرية الشاعر، وقد نجح في الروي على مصطلحات أدونيس لكنه لايملك القاعدة الفكرية والفلسفية كأدونيس، ورجع مرة أخرى إلى ذاته في ديوانه “المحاولة رقم7” محاولاً اختبار نضجه الأدونيسي ولم يفلح ولم يدن منه فرجع للدرويش مسافراً في الغربة والغرابة، وعاود نشر بعض القصائد قتلاً للصمت مثل “وردٌ أقل” و”هي أغنية”، وكانت قصائده تلك لتزجيه الوقت وأخيراً أصدر ديوان “ل ماذا تركت الحصان وحيداً” أما مجموعته الأخيرة، الجديدة فهي تكاد تختلف معجمياً عن تجاربه السابقة كلها وهناك محاولة إغراب وجده ونضج في ديوانه “سرير الغريبة” وبه يكون قد نجح في تجربة الحداثة كما هي عصرياً وفلسفياً، ونجح في محاولة الخروج إلى غيمة أدونيسية وتجربة التجربة الشعرية ذاتها، ووصولها إلى شاطئ وغاية متميزة فهذا الديوان يبدو خلاصة تثقيف وخلاصة تجربته وصياغة ثقافة تختلف عن الثقافة التي جاء منها فجاء الديوان يحمل قوة من الموسيقى المنسقة والغريبة، وكأنه يعزف بأربع آلات أقلها الصوت، أما النغمة فهي ترجع إلى غرابة المعنى ورفاهية الجملة وحسن تبرج المعنى الذي لاتكشفه مصابيح الدنيا مثلما تكشفه ومضة خاطر أو لمعة رؤى يقول في قصيدة “لا أقل ولا أكثر” من “سرير الغريبة”:
    “أنا امرأة، لا أقل ولا أكثر
    أعيش حياتي كما هي
    خيطاً فخيطاً
    وأغزل صوفي لألبسه، لا
    لأكمل قصة “هومير” أو شمسه
    وأرى ماأرى
    كما هو في شكله
    بيد أني أحدق مابين حين
    وآخر في ظله
    لأحس بنبض الخسارة،
    فأكتب غداً
    على ورق الأمس: لاصوت
    إلاّ الصدي…”
    – أنسي الحاج فاتح بوابة الحداثة، فمنذ أصدر ديوانه الأول “لن” سنة 60م أبدى جرأة وتميزاً، ودعا للقصيدة المتطورة، عمل في الصحافة في صحيفة “الحياة” ثم انتقل إلى “النهار” وخاض في السياسة، ثم أصدر ديوان “الرأس المقطوع” والذي بدت فيه روح الجدة والغرابة ثم تلاه ديوان “ماضي الأيام الآتية” والذي جسد رؤية فلسفية عميقة أكثر قوة ونضجاً تبعه ديوان ” ماذا صنعت بالذهب؟، ماذا فعلت بالوردة؟”، وهو تجسيد لحركة الشعر المعاصر عالج فيه الحب والجمال والخير والحرية بعمق يتجاوز حد الدهشة، تلاه ديوان “الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع” تحول مغرقٌ في الحب والحياة، ثم أصدر ديوان “خواتم” ج1، ج2، ثم “الوليمة” يقول في قصيدة “تعريف”:
    “…. الحب زهرة الشفقة
    السماء سقف السجن
    ولكن لاشيء يخنقني
    لأن غرفتي بلاجدار
    ومعلقة بين الأرض والسماء”.
    وأخيراً أصدر ديوان “كلمات كلمات كلمات” في ثلاثة أجزاء.
    وأُنسي الحاج متحرر من الهواجس والالتزام بما هو تقليدي، بوعي بالذات البشرية بحس عميق يدعو للتفاؤل بمستقبل الشعر العربي، وهؤلاء الشعراء الثلاثة يستحقون دراسة بعد استحضار أعمالهم كلها وليس الاعتماد على بعض الأعمال وهذه العجالة لاتكفي لتقييم أي منهم وإنما هو تعريج وإلماح ليس إلاّ، فكتاباتهم مبشرة علاوة على كونهم موجودين في أمة/ أمية، ولا أظن أن قراءهم مثل قراء “آراجون” أو “إيوار” أو “بوشكين” فهؤلاء آية في الإبداع والخلق الإبداعي.
    – في فاتحة مدينة الغد أهديتم القارئ حروفكم – على مآسيها عذاب بديع – واليوم وبعد هذا العمر – المديد إن شاء الله – في معترك لذة/ ألم الإبداع كيف ترونها؟
    – في الحقيقة لحظات الإبداع هي في ذاتها غائبة عن نفسها وغائبة عن الوجود الذي نبتت في تربته، أو تعلقت بجناحه، ولايدخلها الإنسان وهو يحمل اعتقاداً فكرياً أو فلسفياً، وإنما يجدها تقتحمه بلذة وعذاب، وان عذاب الخلق غير عذاب الموت، فالمبدع يتعذب ليخلق، يحترق ليضيء من رماده، هكذا هي لذة الإبداع وألمه، والإمكان لايكفي وإنما تجسيده وتحريكه وتجربته الداخلية من إنسان الإنسان – داخل الداخل – ومن إنسان الوسط بين المعنى وبين العبارة، وليس كل مايقوله الشاعر أو بعضه دليل على أنه أحس عذاب الحرف وعذاب إنطاقه، غير أن هذا العمل لايخلو من تعب يلذ للقارئ الشعور به في محاولة فهم المبدع، وكما يقول أبوتمام: “فإن طريق الراحة التعب”. وأنا عندما أكتب لا أتقيد ب ماذا سيقال وكيف سيكون أثر كذا.. بل إن المبدع يقع في ورطة الجميل بعض القبض على الأجمل.
    – لا تخلو كتاباتكم وإبداعاتكم عامة من التفلسف والعمق الفكري، فقد جاءت بداياتكم مضمخة بالدهشة والتساؤل والحيرة هل تغتصب الفلسفة أدبكم، أم تنقاد الدفقة الأدبية للفكرة؟
    – بيني وبين الفلسفة صلة أي قارئ، ولم تعد الفلسفة حبيسة الأبراج العاجية والألفاظ المبهمة، وأنا أحب الاطلاع على الفلسفة، وأجدها تفرض نفسها بقدرة وتمكن، ولايمكن أن نجد كاتباً أو روائياً أو أي مبدع دون قاعدة فلسفية، فذوو القاعدة الفلسفية كالمتنبي وأبو العلاء، ودانتي وخليل حاوي وبوشكين الذي قامت إبداعاته على فلسفة “إكسر كل ما يقف هناك، قف وراء المكسور العلي” وهكذا والقاعدة الفلسفية تتجلى في إبداع المبدع ويحتاج لإيصالها والتعبير عنها إلى قدرة وتمكن كأبي تمام، والفلسفة تبقى منصة تعين على الوثوب الشعري على أنها ليست في حد ذاتها عملاً شعرياً وإنما بالحكمة والقياس والتأمل يتكون العمل الشعري، بعيداً عن الجدل أو قريباً منه بما يسمو عن الصراع مابين فلسفة التفسير والتغيير، على نحو ما دار بين ماركس وهيجل، وقد سُئل “جوته” عن رأيه في بناء عمارة ما، فقال “هذه قصيدة صامتة” فالفلسفة جانب مهم من الثقافة.
    – ما يربو عن عشرة إصدارات شعرية رفدتم بها ديوان العرب، وعدد كبير من الدراسات والإبداع النثري.. ماذا بعد “رجعة الحكيم بن زائد” وماجديدكم النثري، وأين وصلتم في مذكراتكم، ستطبعونها – أم ستظل قرينة العم ميمون؟!
    – نعم.. هناك محاولة لإصدار ديوانين أو حتى واحد منهما، فقد تغيرت الأحوال والأهوال حتى أشعرتني أنني لا أدري متى سيكون ذلك؟! فدور النشر كانت تطبع ويغطي البيع نفقة الطباعة. إلاّ أنهم في الفترة الأخيرة قالوا إن الكتاب أصبح غير مستهلك، مما دفع بعض الدُور إلى الطباعة وإنزاله إلى معارض الكتاب وبيعه بكميات هائلة كما فعلت دار الحداثة، خاصة ديوان “وجوه دخانية” و”كائنات الشوق الآخر” الذين يسمونه شعر الشعر، والقضية عموماً تتعلق بالناحية المالية، أما في الكتابة والدراسات فأنا أعمل في ثمرة العمر كله كتاب “الجديد والتجديد في الثقافة اليمنية” من أول الحضارة المعينية إلى الآن ويشمل الشاعر والفنان والفقيه والخطيب واللغوي…إلخ.
    والكتاب يناقش قضايا فكرية وفقهية وشرعية إلى جانب القضايا الإبداعية عموماً، فعلماء اليمن وفقهاؤها أجلاء ومطلعون على الثقافات لاسيما الثقافة الفيثاغورية، والمذكرات تسير بشكل جيد، أما رواية “العم ميمون” فهي مكتملة، لكن الطباعة في علم الله، فقد ضعفت مالياً وجسمياً…، وأنا مدين بحوالي 20.000 دولار تغطي الطباعة جزء منها والحوالات، ولكن مغامرة الطباعة في ظروفي هذه صعبة وما باليد حيلة.

  • 430 الكناية في شعر البردوني ديوان (السفر إلى الأيام الخضر) أنموذجاً دراسة سيميوطيقية

    >  الكناية في شعر البردوني ديوان (السفر إلى الأيام الخضر) أنموذجاً دراسة سيميوطيقية

    دراسة وإعداد: عبد الله حمود الفقيه
    المقدمة:
    لكلِّ شاعر من الشعراء طرائقه في تشكيل النص، كلٌّ حسبَ رؤاه، وأفكاره، وقدرته على الخلق والإبداع، والتعامل مع أنظمة اللغة بما يسمح في إنتاج نصوصٍ تمتطي صهوة الإبداع، ولتسمو وترتفع درجاتٍ عُلا في معراج الشعريّة. والشاعر عبد الله البردّوني أحد أولئك الشعراء العظام، الذين استطاعوا، ببراعة وعبقرية، أن يجمعوا بين الأختين: (الأصالة، والمعاصرة)
    ، مستخدماً تقنيات عِدّة،وأدوات متنوعة، في إنتاج الدلالات الإيحائيّة، وبثّ الشعرية روحاً نابضاً يسري في جسد النص فيهبه الخلود.
    والنظام الكنائيّ أحد الأنظمة الفاعلة في النصِّ الأدبيّ، التي تعطيه حيويّةً وثراءً، وتكثيفاً دلاليّاً وجماليّاً في آن؛ إذ إنّه إقصاءٌ للمعاني المباشرة للدوال،والتحّول عنها إلى دلالات إيحائية عميقة، ما يجعل المتلقيّ يشعر بلذّة في رحلته الفضائية، في الكون النصي ، لاستكشاف تلك الدلالات الغائبة، السابحة في فضائه الواسع.
    ويهدف البحث، فيما يهدف إليه، إلى تسليط الضوء على الصورة الكنائيّة في شعر البردونيّ، من خلال النظر العميق، المتأنّي في ديوانه الخامس: ” السفر إلى الأيام الخضر” ، لمحاولة التعرّف على كيفية إنتاج الدلالة في النظام الكنائي، في الديوان، بالتأمل في الأنظمة العلاقية التي تربط الدوال بمدلولاتها، والسياق القوليّ للنص الكنائي، مستفيدا ًمن معطيات الدرس السيمولوجيّ الذي ” يتركز على فعاليات العنصر اللغوي داخل جملة من السياقات الترابطيّة يحددها البحث في الأنظمة الدلاليّة للشفرات،وكيفيّة إنتاجها للمعنى “،ويقوم ” بتحرير النص من المواصفات والقواعد والقيود عن طريق فتح مجالات الخيال والتفاعل مع إشارات اللغة الشعريّة وعلاماتها “.؛ ذلك أنّ ” السيمولوجيا – كمنهج – نقدي- تطوير للمفاهيم اللغويّة والتقنية والأدبية، لتجعلها قادرة على احتضان التوليفات الإبداعية الجديدة التي تدخل فيها الأشياء في نسيج مع الكلمات، والشخوص لتحقيق عمل إبداعيّ فنيّ “ ولأن الظاهرة، موضع الدرس، قد مثلتْ أحد الملامح الرئيسة في تشكيل البثّ الشعري لدى الشاعر؛ فقد آثر الطالبُ أن تكون موضوعاً للبحث، إضافة إلى ما يفتحه البحث من آفاق رحبةٍ للاطلاع، وتوسيع المدارك القرائية، والمعرفية. خاصة أنّه.. على حد علم الطالب­- لم يسبق أن تناول أحدٌ هذه الظاهرة في شعر الشاعر (البردونيّ) تناولاً متكاملاً، وعلى ضوء المنهج السيميائي.
    وقد واجهتُ صعوبات شتّى في البحث ، لعلّ أهمها عدم عثوري على الكثير من المصادر والمراجع التي تناولتْ الكناية في ثناياها خاصة وفق المنهج السيميائي.
    والحقيقة أني واجهتُ الكناية، وبناءها، في أماكن عدة، أهمها المكتباتْ؛ إذ دائماً ما كنتُ أحصلًُ على المدلول المرجعيّ (اسم المصدر) في الفهرس،لكني أظلُّ باحثاً – في المقابل – على المدلول الإيحائي المغيّب، على مستوى الوجود المادي، في المكتبة.
    ومن الصعوبات التي واجهتها كذلك: الكثافة الإيحائية التي يشكل الشاعر مادتها على أساس من التداخل والتعالق والتعامد العلاميّ، والتراكم المعرفي والثقافي، والتشتتْ الدلاليّ، بحيث يصعب التعرّف إلى دلالاتٍ واضحة أكيدة. وكان تقسيم البحث على أساس من التالي:-

    1.المبحث الأول: ويشتمل على الآتي:
    – تعريف الكناية وأقسامها عند البلاغيين القدماء- العرب- وبعض المحدثين.
    2. الكناية من حيث: البساطة والتركيب.
    3. الكناية من حيث التمركز و(اللاتمركز).

    – خاتمة: تشتمل على أهم النتائج التي خلص إليها البحث.
    – قائمة بالمصادر والمراجع التي أفاد منها البحث.

    وإذ أتمنى أن ْ أكونَ قد وفقتْ في بحثي هذا، أتقدم بالشكر الجزيل إلى أستاذي الفاضل
    د/ عبد الله البار ، الذي أفادنا كثيراً ، من منذ المستوى الأول حتى اليوم ، وسنظل إن شاء الله نفيد منه إلى ما شاء الله.
    وإلى أستاذي أ/ محمد الكميم لما أفادني من مراجع ، ومعلومات قيّمة ، وإلى كل من مدّ يد العون والمساعدة لي ، في بحثي.
    والشكر لله تعالى أولاً وأخيرًا.

    1-1 الصورة الكنائية في الدرس البلاغي القديم: –
    لم يقف الدرس البلاغي القديم عند مفهوم واحد جامع مانع لمفهوم – وماهية الكناية – بل تناهبتها الآراء، وتناوشتها وجهات النظر؛ فتعددتْ – تبعاً لذلك – المفهومات، وتشعبت – تبعاً لتغيير زوايا النظر- التقسيمات والتفريعات،وتعدى الأمر ذلك إلى الاختلاف في المصطلح ذاته، فتنقلتْ بين مسميات عدة ، فمن الإرداف إلى التتبيع والتجاوز،إلى آخر ما هنالك من ذلك، كما اخُتلف في علاقة الكناية بغيرها من الصور البلاغية الأخرى، وتقاطعها وتداخلها معها، وغير ذلك مما يجده المتأمل في كتب البلاغة العربيّة. ولا بأس من الوقوف على عجالة، عند بعض تلك الأراء والنظريات الأشتات.
    – أورد قدامة بن جعفر الكناية بمسمى (الإرداف) الذي أدرجه ضمن ما أسماه ب (ائتلاف اللفظ والمعنى) وعرفها بقوله ” أن يريد الشاعر دلالةً على معنى من المعاني، فلا يأتي باللفظ الدال على ذلك المعنى، بل بلفظ يدل على معنى ردفٌ له وتابعٌ له، فإذا دل على التابع أبان عن المتبوع”، فهي ، على ذلك، انتقالٌ بالمعنى من ظاهر اللفظ إلى مضمره، وهو تاليه، أو ملازمه في المعنى ففي قولهم (بعيدة مهوى القرط)” إنما أراد أن يصف طول الجيد فلم يذكره بلفظه الخاص به، بل أتى بمعنى هو تابع لطول الجيد وهو بُعد مهوى القرط” فثمة تحوّلٌ عن المعنى القريب (المرجعيّ)، الذي يشير إليه اللفظ إشارةً مباشرةً، إلى معنى بعيد (إيحائي) يُتوصّل إليه بواسطة المعنى الناتج عن اللفظ المذكور،(المرجعيّ).
    ومثل ذلك ما ذكره الجرجانيّ في تعريفه للكناية بأنها:
    أنْ يريد المتكلّم إثبات معنى من المعاني، فلا يذكره باللفظ الموضوع له في اللغة، ولكن يجيء إلى معنى هو تاليه وردفه في الوجود، فيومئ به إليه، ويجعله دليلاً عليه ، فهي
    (الكناية) تلازمٌ بين معنيين،يدلُّ أحدهما على الآخر، معنى تنتجه القراءة الخطية للدال، وهو المعنى الحقيقي، يتمّ تجاوزه- لعدم القصد إليه-إلى المعنى الكنائي، المقصود بالكلام، فالمعنى الأول ليس إلا أداة توصيل، تؤدي بالضرورة دور الوسيط بين اللفظ ومعناه الإيحائي، بسبب من الارتباط الوثيق بينهما (أي: بين المعنى ومعنى المعنى).
    ولعلّ في تعريف السكاكي لها أكثر إيضاحاً؛ إذ يعرِّفها بأنها: ” ترك التصريح بذكر الشيء إلى ذكر ما يلزمه، ليُنتقل من المذكور إلى المتروك كما نقول: ” فلانٌ طويل النجاد، لينتقل منه إلى ما هو ملزومه،وهو طول القامة، وسمي هذا النوع (كناية) لما فيه من إخفاء وجه التصريح”. ولكنّ المختار في تعريفها عند العلويّ في الطراز،”أن يقال: هي اللفظ الدال على معنيين مختلفين، حقيقةٍ ومجاز، من غير واسطةلا على جهة التصريح”. ويظهر من ذلك ارتباط الدال بمدلولين مختلفين من حيث حقيقة أحدهما، ومجازيّة الآخر، ولكنهما على ذلك – متساويان من حيث احتمال اللفظ لهما معاً في القصديّة).
    وهنا تبرز قضيّة أخرى، من القضايا التي ارتبطتْ بالحديث عن الكناية، وانشغل بها الدرس البلاغيّ سنوات طوالاً، تتمثّل في مجازية الكناية، وموقعها بين الحقيقة والمجاز؛ فمن الدارسين من أنكر مجازيتها، كما فعل الفخر الرازي، الذي يرى أنها ” عبارة عن أنْ تذكر لفظة، وتفيد معناها معنى ثانياً هو المقصود، وإذا كانتْ تفيد المقصود بمعنى اللف*ظ فيجب أن يكون معناه معتبراً، وإذا كان معتبراً، فما نقلت اللفظة عن موضوعها، فلا يكون مجازاً “. ويفرّق دارسو البلاغة بين الكناية والمجاز من زاويتين:
    1. أن المجاز لا يحتمل سوى معنى واحد هو المعنى المجازي؛ لوجود قرينة تمنع من إرادة المعنى الحقيقي، على العكس من الكناية التي تحتمل المعنيين معاً.
    2. يُنتقل في الكناية من لازم المعنى إلى ملزومه، وعلى العكس منها المجاز؛ إذ يُنتقل فيه من الملزوم إلى اللازم.
    ومن ناحية تقسيمهم للكناية، فالزوايا عديدة، والتقسيمات مختلفة ، ومن ذلك الآتي:
    1. من حيث المكنّىعنه: وتحته ثلاثة أقسام:
    1-2 كناية يُطلب بها نفس الصفة وهي ضربان:
    أ‌. قريبة: وفيها يتمّ الانتقال إلى المطلوب انتقالاً مباشراً كالانتقال من (طول النجاد)
    – المعنى الأول (غير المطلوب) إلى (طول القامة) المعنى المطلوب – في مثل قولهم عن فلان إنه ” طويل النجاد “.
    ب‌. بعيدة: وفيها تتعدد الانتقالات الدلاليّة بين المعنيين الحقيقي، والمجازي، فنكون أمام سلسلة مترابطة من اللوازم المؤدية إلى المعنى المقصود من التعبير الكنائي الملفوظ، ومثالهم المشهور على ذلك: الكناية (بكثير الرماد) عن الكرم؛ إذ تتضامُّ اللوازم، وتتعدد الإحالات قبل الوصول إلى مدلول (الكرم) في البنية العميقة، فتتكون السلسلة الآتية:
    (كثير الرماد) كثرة إحراق الحطب كثرة الطبخ كثرة الضيوف الجود والكرم.
    1-2 كناية يُطلب بها نفس الموصوف: وتضمّ ضربين كذلك هما:
    أ‌. قريبة: كما في قول الشاعر:
    الضاربين بكلِّ أبيض مخذم والطاعنين مجامع الأضغان
    فقوله: (مجامع الأضغان) صفة يكنى بها عن موصوف تحيل إليه يتمثل في (القلوب) على المستوى العميق.
    ب‌. بعيدة: وفيها تُضم مجموعة من الصفات التي تحدد بجملتها – الموصوف الذي تحيل إليه. كمثل القول عن الإنسان إنه: (حي،مستوى القامة، عريص الأظفار)، فمجموع هذه الصفات تحيل، بالضرورة، إلى الإنسان، طاردةً ما عداه من الكائنات.
    3-1 كناية يُقصد بها تخصيص الصفة بالموصوف، وهي ما أُسميتْ ب (كناية النسبة):” ويراد بها إثبات أمر لأمر، أو نفيه عنه”. ومنها قول زياد بن الأعجم:
    إن السماحة والمرؤة والندى في قبّةٍ ضُربتْ على ابن الحشرج.
    فالشاعر أراد أن ينسب، أو يثبت للممدوح كل تلك الصفات فنسبها- بمجموعها – إلى قبّة مضروبة عليه. ومثل ذلك قولهم: ” المجدبين برديه “، إذ نُسب إلى الموصوف المجد، وأثبت له، بجعله بين بُرديه، توصلاً بذلك إليه.
    وفي هذا النوع ينتفي المعنى الحقيقي من دائرة القصديّة، ولا يبقى إلا المعنى المجازي، وهو ما يتعارض مع اشتراطهم إرادة المعنيين، الحقيقي والمجازيّ، في بنية الكناية، ولربما لاحظ ذلك عبد القاهر الجرجاني الذي اعتبرها من المجاز الإسنادي” 2. من حيث الوسائط: قُسمتْ إلى الآتي:
    1-2 التعريض: ومن تعريفاته عندهم: أنه ” ما أشير به إلى غير المعنى بدلالة السياق، سواءً أكان المعنى حقيقة أو مجازاً أو كناية”. فهو – على ذلك – ليس خالصاً للكناية وحدها إذ قد يكون كنايةً، وقد يكون حقيقة،أو مجازاً، كذلك، والسياق وحده من يحدد مرجعيّته، فإذا كان السياق مبنياً على الحقيقة كان المعنى التعريضيّ حقيقياًومثلوا لذلك بقولك عند المؤذي: ” أنا لستُ بمؤذٍ للناس ” فإنّ ذلك يُنتج معنىً أوليّاً، هو أن تنفي أذى الناس عن نفسك، ولكن دلالة القياس تُسهم في إنتاج معنى آخر،تعريضيّ يتمثّل في إثبات مانفيته عن نفسك فيمن تكلمتَ به عنده. وإذا كان السياق مجازيًّا كما في قولك: ” أنا لستُ طاعناً في عيونهم” فالمعنى الناتج عن الصياغة اللفظية (نفي طعنك في عيونهم)، والمعنى المراد، نفي أذاك لهم باستعارة (الطاعن في العيون) للمؤذي، ويُشار بالسياق إلى كون من تكلمت عنده مؤذياً أيضاً.
    وقد يكون السياق كنائيّاً كما في مثل قولك” المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده” إذ تُنتج الصياغة معنى حقيقياً هو انحصار الإسلام في الموصوف،ومعنى كنائياً هو انتفاء الإسلام عن المؤذي مطلقاً، وينتقل منه سياقياً إلى نفي الإسلام عن المؤذي المُعّرض به حال القول.
    والمتأمل في الأمثلة السابقة يمكنه أن يلحظ بجلاء، أنها في مجملها، داخلةٌ تحت المفهوم الكنائي، إذ ينتقل بالمعنى من دلالته المرجعيّة إلى الدلالة الإيحائية عن طريق القياس، وقصدية المتكلم. وفي المثال الثاني بالتحديد، المدرج تحت بنية التعريض المجازي، يبدو الخلط واضحاً بين الكناية والمجاز(الاستعارة)، حسب تحديدهم لكل منهما، إذ لا قرينة تمنع من إرادة الحقيقة سوى قصديّة المتكلم، فهو على ذلك، أدخل في مفهوم الكناية؛ إذ يشير السياق الملفوظ (الخطي) إلى الأذى بالطعن في العين كنائياً،ثمّ تقوم البنية كاملة علامة تشير عبر السياق الخارجي­ – إلى إلصاق الصفة(الأذى)، التي نفيتها عن نفسك في البنية السياقية المقالية ؛ بالمُعرّض به.
    2-2 التلويح: ويصطلحونه على ما تعدّدتْ فيه الوسائط بين اللازم والملزوم، كما في قولهم المشهور:” كثير الرماد”. 3-2 الرمز: ويطلقونه على ما قلّتْ فيه الوسائط مع خفاء اللزوم نحو رمزهم للقسوة بـ
    (غليظ الكبد).
    4-2 الإيماء والإشارة: وهي ما قلّتْ وسائطها من الكنايات مع الوضوح كما في قول البحتري:
    أو ما رأيت المجد ألقى رحله في آل طلحة ثُمّ لم يتحوّل
    وللمتأمل في كتب البلاغيين أنْ يلحظ أنّ تحليلاتهم للكناية بقيتْ ” تدور في حلقة تسميتها – الكناية أو تجاذبها بين المجاز والحقيقة، أو قضيّة الإسناد والأقيسة المنطقية واللازم والملزوم.. دون الالتفات إلى بيان السياق القولي للنص الكنائي”. وذات الأمر يمكن ملاحظته بجلاء في الدرس البلاغيّ الحديث- أو على الأحرى، في بعض الدراسات الحديثة للبلاغة – عند العرب – ؛ إذ تظلّ على الرغم من محاولة تحديثها، تدور في ذات الفلك من المفاهيم والتقسيمات والتجزيئات، وحتى في نفس الأمثلة في الدرس القديم، فتُعومل معها على أنها أيقونات، وبني ثابتة غير قابلة للتغيير والتبديل، فاكتسبتْ انغلاقاً دلالياً، أثر سلباً على قيمتها الدلالية.
    فوظيفة الكناية الأساسية هي إثبات وتقرير المعنى الإيحائيّ ” عن طريق تدخل العقل في استخلاص اللازم من الصياغة” ولأن النظر إليها لم يخرج عن إطار علاقة اللزوم المنطقي بين معنيين: حقيقي ناتج عن القراءة الأولى للدال، ومجازي ناتج عن التحوّل من المعنى الحقيقي إليه عن طريق اللزوم بينهما، مع جواز إرادة الأول لعدم وجود قرينة مانعة؛ فقد ظهر” أن علاقة اللزوم في غير واضحة، ومن هنا اعتبرها عبد القاهر الجرجاني من المجاز الإسنادي… “، ومع هذا فهي إحدى أنواع الكناية، كما أنّ الفرق بين التعريض والكناية هو أنّ الكناية ” تقوم على استخدام اللفظ في اللازم مع جواز إرادة الأصل” بينما ” التعريض: أنْ يفهم من اللفظ معنى بالسياق من غير قصد استعمال اللفظ فيه أصلاً “ مع أن التأمل في بنيتي الكناية والتعريض يُظهر أنّ كليهما يومي إلى شيء آخر، وتظلُّ القصديّة متجهة نحو المعنى المجازي، في كليهما، متجاوزة حدود الملفوظ، وإلا بقيتا عند حدود الحقيقة، والحكم في كل ذلك راجعٌ إلى السياق، فهو وحده الذي يحدد المعنى المراد، ففي استخدام كنايات من مثل:
    (كثير الرماد)أو (طويل النجاد) في عصر البوتوجاز والتقنيات والتكنولوجيا الحديثة،إقصاء للمعنى الحقيقيّ، وتجاوز له إلى المدلول الإيحائي وكذلك الأمر في كتايات النسبة، التي تتشكل على أساس من تداخل الصور، وهو ما يوضحهُ ويبرزه النظر العميق في السياق. فالدلالة الكنائية- على كل حال- لا تكتسب قيمتها سوى من سياقها المتموضعة فيه.
    2-1 الكناية في النقد الأوربي الحديث(السيميائي):
    تتموضع الكناية، في الدرس البلاغي العربي الحديث، في إطار علاقتي التجاور والتداعي؛ إذ الكناية كما يرى دي سوسير ” امتدادية أو تتابعية، وتستثمر العلاقات الأفقية للغة” ويتجلى ذلك بوضوح أكثر في نظرية جاكوبسون الدلالية، التي وضعها في حديثه عن الحبسة” القائمةعلى اختزال الوجود البلاغيّة في علاقتي التشابه والتجاور، إذ تتألف هاتان العلاقتان من عملية الإزاحة الحاصلة في كل من المحورين الاستبدالي (العمودي) والسياق (الأفقي)، فالاستعارة تقوم على الإبدال اعتماداً على المشابهة والمشاكلة، على حين يعتمد المجاز المرسل والكناية على الإزاحة القائمة بين التجاور والتداعي”. وفي نموذج هنريش بليث السيميائي تأخذ الكناية موضعها، مع الاستعارة، تحت مسمى
    (الصورالدلالية، أو الميتا دلالية) المنضوية في إطار الصور المعتمدة على الانزياح في التركيب، وهي (الصور السيمو تركيبية)، وتجمع – لديه – الكناية، ” عدداً من التعويضات القائمة على المجاورة التي تعرف في الأسلوبية المعيارية باسم: المجاز المرسل (sunesdoque) (الجزء الكل، النوع- الجنس- المفرد- الجمع)، وتعويض الاسم الشخصي باسم الجنس والعكس(antonomase) والكناية(metonymie) (السبب ، المسبب ، المساحة ، الحجم ، الزمن ، المدة). وذهب إلى مثل ذلك ” جورج لا كوف ، ومارك جونسن في كتابيهما (الاستعارات التي نحيا بها) حيث يستخدمان مصطلح (الإحالة) بدلاً من (التعويض)، فهما يُعرِّفان الكناية ب (استعمال كيان معين للإحالة على كيان آخر مرتبط به ” وشبيه بذلك ما ذهب إليه (أو لمان) الذي أدرج ” الكناية (أو ما أسماه البيانيون العرب بالمجاز المرسل)، في النقول الناتجة عن المجاورة التي يمكن أن تكون فضائية- كدلالة (المكتب باعتباره أثاثاً على القاعة التي توجد فيها أو زمنية – كتسمية صلاة (المغرب) باسم الزمن… الخ”. ومن السيميائيين العرب الذين أخذوا بمثل ذلك، محمد مفتاح إذ يرى ” أنّ المجاز المرسل يصير حالة خاصة من الكناية؛ لأن كلاً منهما يحتوي على علاقة بين شيئين اثنين، وإذا صحّ هذا – فإن كثيراً من العلاقات المنسوبة إلى المجاز المرسل هي علاقات الكناية” على الرغم من وجود فوارق بينهما، الأمر الذي استدركه فيما بعد. ويرى عادل فاخوري: أن معظم الاتجاهات في دراسة الدلالات قد اتجهتْ نحو التركيب العمودي لها، وعلى ذلك ف (ثمّة جانب أفقيّ لم يول بعد الأهمية التي يستحقها، فالمدلولات (م) لا تتعلق فقط بالعلامات الفردية(ع1 أو ع2 أو….ع د) ، بل أحياناً ما تلحق بمنظوم ما من العلاقات وفقاً للتركيب النحوي، وقد تتداخل عدة توابع Function دلالية بالنسبة لمنظوم ما. فعدم الأخذ بعين الاعتبار لتراكب التوابع أو الوظائف الدلالية قد يؤدي إلى سوء الفهم والخلط بين الصور البيانية”على ذلك يمكن القول: إن دراسة البنية الكنائية في نصٍّ ما يُحتِّم عدم اجتزائها من سياقها الواردة فيه، والنظر إليها من خلال موقعها وعلاقاتها بغيرها من العلامات في إطار السياق النصِّي، ليُمكن فيما بعد” تتبّع إنتاج الدلالة الشعريّة وعوامل تولّدها بالتعرّف على هذه البنية وتحديد رموزها لإدراك كيفيّة قيامها بوظائفها السيميولوجية” 1-2 البساطة / التركيب:
    الناتج الدلالي في النظام الكنائي قد ينتج مباشرة عن البنية الكنائية دون المرور بانتقالات، وإحالات عدة عبر نواتج دلاليّة سابقة للمعنى النهائي المقصود في البنية العميقة، وهو ما أطلق عليه دارسوا البلاغة العربية بالكناية القريبة، ولكنّه في مواضع أخرى يتجاوز ذلك التركيب البسيط، ليصبح القارئ أمام شبكة دلاليّة تتعدد فيها الانتقالات الدلاليّة عبر البنية السطحية للوصول إلى الدلالة النهائية.
    ” ونستفيد هنا من قراءة (بيرس) للعلامة، حين تحدّث عن العلاقة المركبة التي تدّل على موضوع ما، وتعبيرها حين يستنطق ذهنياً متلقي العلامة ثم يحيله إلى تعبير آخر (ذهنياً) وهكذا….”. والبنية الكنائية كما في الديوان كما تتجلى بسيطة تتجلى مركبة. أما بساطتها ففي مثل قوله:
    (ما استعرتُ غير جبيني) إلى المدلول الإيحائي في البنية العميقة، المتمثل في دلالات الشموخ والعزّة ،والثانية إلى دلالات البقاء على الأصل وعدم التغيّر، فيتم التحوّل المباشر من دلالة المطابقة إلى الدلالة الإيحائية كالتالي:
    دال مدلول أو ل (مطابقة) مدلول2 إيحائي
    ما استعرت غير جبيني لا أمتلك سوى الجبين الشموخ والعزة.
    ما حملت غير سماتي لم أحمل سمات الآخرين الأصالة؛

    وتبدو بسيطة التركيب كذلك في قوله:
    كيف أقضي ديني، وليس ببيتي غير بيتي، ومعزفٌ غير شادي.
    فالبنية الكنائية(ليس ببيتي غير بيتي) تحيلنا إلى مدلول الفقر والعجز المجاور لخلاء البيت من أيّ شيء سواها، وهو ما تنتجه القراءة الأولى للدال، قبل التحوّل منه إلى المدلول الإيحائي العميق.
    وتتشكّل الدلالة هنا عبر الترابط التماسي بين الدوال في السياق النصيّ الكنائي القائم على التشاكل والتباين بينها في المستويين السطحي والعميق فالنفي في (ليس) يخالفه على المستوى السطحي الاستثناء في(غير)، إذ يقوم الاشتثناء – في الأصل – بتحجيم عمومية النفي قبله ونفيها، ولكنه في المقابل يشاكله دلالياً على المستوى العميق؛ إذ تتجذر، وتؤكّد عمومية النفي بدلالة الاستثناء، ويتضح تخالف آخر في المستوى العميق إذ يقوم التماثل الفونولوجي، سطحياً، المتجلي في الدال(بيت)المضاف إلى(ياء المتكلم)؛ بكسر مركزية التركيب في أصل الوضع، حيث إن الأصل تخالف ما بعد أداة الاستثناء وما قبلها، ولكنّه أعاده بذاته.. ليصبح كل ذلك بؤرة دلالّية تنطلق من الدلالة الكنائية، ويسهم في تكثيفها دلالياً وجمالياً، يتراسل مع ذلك الكناية في قوله
    (معزف غير شادي)؛ إذ يقوم السياق القولي بنية كنائية توحي بالعجز وما ينتج عنه من أسى وألم وحزن.
    وعلى كلّ حال” فإن استقراء آلية” الكناية” والبحث عن معنى المعنى والقبض على المدلولات الكامنة وراء الظاهر لا بد له من قراءات أولية تستحضر:الشاعر والظرف والنص العام والبنية الإفرادية والتركيبية للنص واستحضار الموقف الفكري والبعد النفسي، ثم تأتي القراءة الثانية القائمة على الاستبطان والاستكشاف لمختلف الطبقات الدلالية البعيدة والقريبة لبنية الكناية، إلا أن ذلك لا يمنع من الوقوف أولاً على الدلالات المعجمية المباشرة الأولى (للصورة الكنائية) ففي قوله في قصيدة (صنعاء في طائرة) ومثلي؛ أنا صرتُ عبد العبيد وأنت لكل الجواري وصيفة
    يقوم المقول النصي(صرتُ عبد العبيد) بإنتاج دلالة كنائية عبر علاقة السببية تتمثل في المهانة والذل والخضوع، ويسهم السياق الذي يتموضع فيه التعبير الكنائي بتكثيف الدلالة الإيحائية/، فنجد الدلالة المعجمية للفظة (عبد)المتلازمة ومعنى الخضوع والاستسلام والذل، يكثفها إضافتها إلى الاسم المعرف الجمعي(العبيد)، ويوحي فعل الصيرورة بالانشطار الزمني والتحول المعنوي بين زمنين، ماضٍ يغيّبه النص، ويستوحى منه إشراقه وزهوره، وحاضر متبدّل متغير تفقد فيه الذات حريتها وتُصادر كرامتها، وتُمتهن عزّتها، ما يّولد لديها الأسى ، ويُعمق الشعور بالذل والهوان، والألم النفسي الحاد؛ جراء الانتقال من الحرية إلى العبودية، بل وعبودية العبيد، وينهض- إلى جانب ذلك- التشاكل الصوتي؛ الناتج عن الترابط التماسي بين المضاف (عبد) والمضاف إليه (العبيد)، ليقوم بتوسيع دائرة العبودية حتى لتكاد تشمل جميع العناصر الواقعة تحتها. ومثلها الكناية في عجز البيت (وأنت لكل الجواري وصيفة).
    وإذا تجلى النظام الكنائي في الأمثلة السابقة، وأمثالها في الديوان، بسيطاً يومي الدال فيه إلى مدلوله إيماءً مباشراً دون الحاجة إلى وسائط تتناقل الدلالة محيلة الذهن إلى الدلالة النهائية في البنية العميقة، فإنه في مظان أخرى، في الديوان، يبدو معقداً، مركباً، تحيل فيه العلامة إلى مدلول يصبح بدوره علامةً أخرى تحيل إلى مدلول آخر… وهكذا فتنتقل الدلالة الإيحائية عبر قراءات علاميّة، متتابعة إلى الموضوع المحال إليه في البنية العميقة.
    مثل ذلك يمكن أنُ يُلمح في قوله كناية عن الشقاء: ” أمُّه من سورة المسد”؛ إذ تستدعي العلامة الكنائية، عبر بنية التناص، من القرآن الكريم (سورة المسد)، وبواسطة الدال (أمّه) يخصص الاستدعاء في الآيات التي ذكرت المرأة والتي هي (وامرأته حمالة الحطب، في جيدها حبلٌ من مسد) ، ويؤخذ من الأولى (حمل الحطب) ومن الأخرى (حبل المسد) الذي هو” الحبل المضفور المحكم الفتل”، ما يحيل إلى الشقاء والعذاب، بكل ما فيهما من إيحاءات دلاليّة ونفسية، فتتلاقح الدلالات ، وتتعدد الإحالات، ما يمكن تشكيله على نحو من الشكل التجريدي الآتي:
    علامة / (أمّة من سورة المسد) ” وأمرأته حمالة الحطب/ في جيدها حبلٌ من مسد ”

    موضوع / حمل الحطب حبل المسد في جيدها
    (الشقاء – العذاب) (بنية عميقة)
    وكذلك هي في قوله:
    التابعون بلا رؤوس والملوك بلا رعيّة. ففي البيت كنايتين مركبتين لا يحيل الدال فيهما على مدلوله مباشرة، بل تتعدد الوسائط، وتتجاور الدلالات، وينتفي التساوي بين المدلول المرجعي في البنية السطحية، والمدلول الإيحائي في البنية العميقة.في الشطر الأول تقوم المقولة اللغوية (التابعون بلا رؤوس) علامة سيميائية، تنظفر فيها الدوال وتتضام في إنتاج الدلالات؛ إذ تنطلق الدلالة من دخول عنصر النفي التحويلي (بلا) على الاسم الجمعيّ المنكر(رؤوس)، الرامز عرفيّاً إلى (الأدمغة) (العقول) – التي هي علامةٌ على التفكير، والتفكير بدوره علامة على إنسانيّة الكائن الحيّ؛ إذ يقوم- العنصر التحويلي (بلا) بهدم كل تلك الدلالات، مما يمنح دلالات مغايرة يؤدي إليها ذلك الهدم، من مثل: الحيوانيّة، والصنميّة، المجاورة لدلالات الغباء وسهولة الانقياد مجازيّاً، وينهض بدوره علامة على التبعية العمياء والعبودية والخضوع سبباً ، وهو مؤشر علاميّ على بقاء الحال، واستقراره، على ما هو عليه، وانعدام الأمل في التغيير،على هيئة من الشكل الآتي:
    دال (التابعون بلا رؤوس)
    مد 1 تعطلتْ عقولهم
    مد 2 لا يفكرون
    مد 3 الحيوانية- الصنميّة انعدام الأمل في التغيير وبقاء الحال على ما هو عليه
    مد 4 الغباء
    مد 5 سهولة الانقياد
    مد 6 استمرار التبعية – العبودية

    يتراسل مع ذلك البنية الكنائية في الشطر الثاني من البيت: (الملوك بلا رعيّة)؛ إذ تنطلق الدلالة من بنية التناقض في السياق- أو التضاد على الأحرى- بين دلالة الملوك الأصلية،ودلالتها السياقية فالملوك في الأصل، حكامٌ على شعوب، ومسؤولون عن رعيّة، وانتفاءُ الرعيّة عنهم، ما يؤديه عنصر النفي التحويلي يعني الانفصال، والانفصام بين متلازمين (الملوك والرعيّة)، وما دام ” الحاكم راع، ومسئول عن رعيته “، فانفصاله، وتفرده يعني التخلي عن مسئوليته، ما يوحي بالتمزق والشتات فانفصاله، وتفرده يعني التخلي عن مسئوليته، ما يوحي بالتمزق، والشتات والضعف من ناحية، والظلم المؤدي إلى تثبيت الوضع على طبعيته تلك من ناحية ثانية، ويمكن تمثيل ذلك بالشكل الآتي:
    الدل (المستوى سطحي) مد 1 مد 2 مد3 ” مستوى عميق ”
    التمزق – الشتات- التيه –الضعف – الظلم – الدكتاورية – ثبات الموضع

    (الملوك بلا رعيّة العزلة ” الانفصال) تخلي الحاكم عن مسؤوليته
    بين الحاكم والمحكوم
    فالناتج الدلالي الكنائي يمر بمراحل متتالية قبل أن يصل إلى البنية العميقة، عبر علاقات التجاور والتداعي، والملاحظ أن البنية الكنائية، هنا لا تحيل على بنية دلالية ثابته متمركزة في مدلول محدد ، بل تنفرط عن عقد التمركز، وينزلق الدال إلى مدلول غير محدد، فتنفتح الدلالات وتتعدد القراءات وفق ثقافة ورؤية القارئ.
    وتظهر مركبة متجاورة الدلالات في قوله:
    غزاةٌ لا أشاهدهم وسيف الغزو في صدري
    فالسياق الكنائي يُنتج مدلولاً هو الإحساس بالألم دون معرفة المصدر، ليصبح علامة تشير إلى دلالات متجاورةهي ، خفاؤهم وعدم ظهورهم ما يحيل إلى صعوبة التعرف عليهم والإمساك بهم وبالتالي صعوبة القضاء عليهم، ما يعني انتشارهم واستفحال خطرهم وقوتهم ما يشير إلى خطورتهم البالغة فالبنية الكنائية تتجاوز حدود المدلول المرجعي ، لتوغل في مزيج من العلامات المؤشرة إلى دلالات متجاورة مترابطة مع بعضها بعلاقات الاستدعاء والتجاور. وقد يتجلى النظام الكنائي متداخلاً، متراكباً، يشكله دلالياً، مزيج من العلامات والمؤشرات الرمزية التي تحيل، بكل ما تحمله من شحنات وطاقات دلالية إيحائية، إلى (السيمة) (الوحدة الدلالية الكبرى) في المستوى العميق. من ذلك ما يوحي به قوله:
    وتقل براميلاً تسطو تحت الأضواء ولا تُسجن.
    تتحرك الدلالة الكنائية من الدال (براميلاً) باعتباره مؤشراً رامزاً يشير إلى كل ذات فارغة من المبادئ والقيم الإنسانية، ما يجعلها خواءً قابلاً للامتلاء بأي شيء، بل ساعياً إليه بنهم لا يحد، وعبر السياق الاستعاري يرتبط الكيان السابق، بكيان كنائي آخر يتمحور في قوله (تسطو تحت الأضواء) الذي يُنتج مدلولاًمرجعيّاً على مستوى الكتابة، هو الشهرة والظهور، ويقوم الدال
    (تحت الأضواء) بؤرة دلالية في إنتاجه، وعبر علاقة الأثرية – (من حيث علاقة الدال بالمدلول)، يتحول منه إلى المدلول الإيحائي المتمثل في اللامبالاة، وعدم الخوف المتعالق مع دلالة هيبة الآخرين، وضعفهم عن عمل أي شيء، بما يشبه المُقدمة والنتيجة، إذ عدم الخوف نتيجة لمقدمة هي هيبة الآخر وضعفه، وهو بدوره ، نتيجة لسلطة (البراميل) ونفوذهم، يجاور ذلك على المستوى الأفقي كتابياً، ما ينتجه التضاد، على المستوى الخطي، بين الكيان الكنائي (تسطو تحت الأضواء) المقدمة، والكيان (لا تُسجن) النتيجة؛ فهو يحيل إلى غياب القانون، وضعفه، الأمر المؤدي لا نتشار الظلم، ونقل المجتمع من (الكون الإنساني) إلى (الكون الحيواني)، ليتواشج كل ذلك مع بعضه مكوناً علامة توحي بالطبقية في المجتمع. ويمكن توضيح ذلك بالترسيمة الآتية:
    علامة/ (براميلا) (تسطو تحت الأضوء) ولا (تسجن)
    (أثر)
    طبقة نهمة فارغة عدم الخوف/ اللامبالاة (أثر)
    من المبادئ والقيم هيبة الآخر غياب القانون (سبب)
    موضوع (بنية عميقة.

    أثر نفوذهم وسلطتهم الظلم (الطبقية)
    ومنها ما يسهم في إنتاجه السياق التركيبي اللغوي للدوال، وإيحاءاتها سياقياً ما يمكن ملاحظته في مثل قوله:
    فهنا إقطاعيٌ دسم وهنا إقطاعيٌ أسمن
    فالتشاكل والتخالف على المستوى المورفولوجي والتركيبي في البيتين بؤرة تنتج عنها، وتتكثف، المدلولات الكنائية، متجاوزة حدود المداليل المرجعيّة، فالتشاكل في الصفة (إقطاعيٌ)، والاختلاف مورفولوجياً في الصفتين (دسمٌ) و(أسمن)؛ إذ جاءتْ الأولى على صيغة (فَعِلٌ)الإفراد، والثانية على صيغة (أفعل) التفضيل والتكثير ، وكلاهما تحيلان إلى الغنى والثراء، لكن التمايز اللفظي في الصيغة، معنوياً أنتج تمايزاً آخر في الثراء ونسبته بينهما ما يوحي بالتدرج العمودي كالتالي: أسمن أثرى

    دسم ثري
    وعبر مبدأ النقيض، يوحي السياق بتمايز آخر يتمثل في (فقير (أفقر) ليصبح التدرج كالآتي:ك
    أثرى

    ثري

    فقير

    أفقر
    ما يحيل إلى فكرة الطبقية، بكل ما تحمله من شحنات تعبيرية ودلاليّة. وقس عليه السياق الكنائي في قوله في قصيدة (ابن فلانه) على لسان الذات المتكلمة في النص:
    وإذا لاحظوا قميصي جديداً رددوا: فوق ركبتيها خزانة.
    فالمقول اللغوي(فوق ركبتيها خزانة) ينهض علامة كنائية سيميائية تتشكل من الترابط التماسي بين الدوال الرمزيّة المنضوية تحت المقول النصي الكنائي الكلي، إذ يقوم الدال (خزانة) علامة كنائية تشير عبر علاقة الاحتواء إلى مدلول أول هو الأموال لكنها لا تقف عنده؛ إذ يصبح هو الآخر مؤشراً رامزاً للثراء، عبر علاقة التجاور والتداعي، ويقوم الدال (ركبتيها) مؤشراً رامزاً إلى البغاء، لتتآزر كلها وتتواشج لتصبح المداليل السابقة دالاً واحداً ينتج دلالات متجاورة هي الثراء والتكسب عن طريق البغاء، ليقوم السياق كاملاً بإنتاج بنية تعريضية تنتج دلالات الاحتقار والازدراء، وهو مايمكن تشكيله على نحو من الآتي:
    رددوا: فوق ركبتيها خزانة

    تجاور احتواء
    المال
    (البغاء) (الثراء)
    التكسب والثراء عن طريق البغاء
    تعريض
    الاحتقار والازدراء
    فالتركيب في النظام الكنائي، ناتجٌ عن ذلك التداخل والتقاطع والتعامد بين كيانات علاميّة مترابطة في السياق القولي للنص الكنائي، وهو ما يقوم بتكثيف الدلالات الكنائية، ويعطيها حركيّة دائمة تُبعد البنية الكنائية عن النمطية والنمذجة،؛ مايجعلها ترتفع في سلم الشعرية درجات؛ إذ ” إن جمالية النظام اللغوي في النص الشعري يعتمد على مبدأ الخرق الدائم لقواعد النظام اللغوي المعياري المألوف “.
    لأن البنية الكنائية- بوصفها علامة سيميائية – لا قيمة لها في ذاتها، بل بارتباطها بغيرها من العلامات داخل السياق الواردة فيه؛ فدراستها تقتضي تتبع البنى المشكلة للدلالة في السياق النصي فيها داخلياً، وعلاقتها بغيرها من العلاقات خارجياً، ومن ذلك يمكن تتبع كيفية تشكل الدلالة في النظام الكنائي من خلال السياق الكلي المتموضعة فيه. والنظام الكنائي في الديوان (موضع الدرس) يقوم على أساس من الارتباطات والتواشجات الدلالية بين البنى المختلفة القائمة في كثير من الأحيان، على النقض الدائم للتمركز الدلالي، ما يعطي لفكرة الاعتباطية أساساً،يجعل المتغير ينفتح على دلالات مختلفة، ما نجده في مثل قوله:
    عرفت من أنت يا عمي: تلال (بنا) عيبان أثقله غابٌ من البرد
    فالدلالة الكنائية هنا تنهض عبر اندغام عدة عناصر أسلوبية تقوم بوصفها علامات سيميائية، بتكثيف الدلالات الإيحائية للمدلول في النظام؛ إذ يسهم تواشجها، وتعالقها بإحداث فجوات دلالية بين الدال والمدلول تعطيه شعريته وجمالياته.
    تتحرك الدلالة على مستوى الكتابة في النص من الدال (عيبان) الرامز وفق السياق العرفي إلى دلالات متجاورة منها: الشموخ والعزة والقوة والصمود والثبات، ما يولدها الموقع المكاني الجبلي الشامخ المتجذر في عمق الأرض من ناحية ، وارتباطه تاريخياً بالحدث العظيم
    (الثورة)، لكن السياق يسهم في نقض مركزيته تلك بسلبه تلك الصفات من خلال إسناده إلى جملة تتموضع في إطار الاستعارة المكنية التي تنقله من دلالته الحسية على الجماد الذي من مقوماته
    بمنحه مقومات عرضية تخص (الكائن الحي) التي منها ثم يقوم المستعار الفعلي (أثقل)المتعدي ، بسلب فاعليته، وقدرته على الفعل، الأمر الذي يَسِمُه بالضعف والإنهاك، ومما يزيد في تكثيف كل ذلك إسناد الفاعلية للدال (الغاب) الذي يحيله السياق الاستعاري(بكل ما يحمله من طاقات تعبيرية تدل على الكثافة والتشابك والكثرة)، شيئاً مادياً يُجمع فيحمله(عيبان) ويثقله. وإذا كان من دلالات الغاب الخير والنماء،لارتباطها بالأشجار، فإنه يقوم بنقضها ، بجعلها (من البرد) التي ترمز للجمود والبرودة والجدب، بارتباطها بالشتاء، وإلى جانب ذلك يقف الجانب اللغوي في إنتاج الدلالة وتكثيفها، فتقوم الجملة الفعلية ذات الفعل الماضي (أثقله) بمنح دلالة الجمود والثبات والسكون، إضافة إلى الإيحاء المعنوي، في الفعل (أثقل) بالتعب والإنهاك والضعف والإعياء، وعدم القدرة على الثبات، وتعطل الحركة، يتراسل معه الدال (الغاب)، الذي جاء في بنية القول بصيغة جمع التكسير موروفولوجياً، إذ يوحي بدلالات الكثرة، والكثافة والضياع، والوحشة، ناهيك عن أنها وطنٌ للحيوانات المفترسة والمؤذية للإنسان، ومعه تتواشج دلالات (البرد) على الجفاف والجمود، وانقطاع التواصل، ومما يعمق دلالات التعب وعدم القدرة على الحركة، (من ناحية أخرى) حركية الدوال العمودية من أعلى إلى الأسفل، فالفعل(أثقل) تتحرك فاعليته دلالياً من أعلى لأسفل، ما يدل على السقوط، ومثله (الغاب) في علوه وارتفاعه وكثافته، وتجذره في الأرض، فالغابة: (الأجمة ذات الشجر الكثير المتكاثف) يتراسل معه (الَبَرد) في حركته الرأسية كذلك ، وكل ذلك ينضفر، ويندغم مع دلالات السقوط، والتعب والإعياء والانهزام، والضعف، وانعدام القدرة. ما يشف عن أن الدلالة الكنائية لا تنتج ذاتياً، بل بارتباطها بالسياق النصي، ولأن المدلول يتجاوز حدود فرادة الدلالة، والارتباط الكسول بالدال، فقد يُذهب إلى أبعد من تلكلم الدلالات المتجاورة؛ إذ يقوم ارتباط (عيبان) بالثورة بالإحالة سياقياً إلى جمودها وسقوطها، وعدم قدرتها على التغيير، وينتج دلالة بقاء الأحوال على ما هي عليه، واستواء الزمنين: السابق واللاحق لها ، ما يؤدي إلى سوداويّة الواقع، وثبات المأساة.
    التمركز / اللاتمركز:
    مثل النظام الكنائي في الدرس التنظيري بنية ثابتة، يرتبط فيها الدال بمدلولين كلاهما تستهدفه القصدية، أولهما، وهو المدلول المرجعي، يتعالق تعالقاً مباشراً مع الدال، فالعلاقة بينهما علاقة
    (مطابقة) وثانيهما المدلول الإيحائي المُتحوّل إليه من الأول ، ويرتبط عبر الأول مع الدال بعلاقة (لزوم) ” فالكناية إحالةٌ في نظام (البنية) وارتباطٌ بمغزى آخر، عندما تقول الكلمات شيئاً وتبغي شيئاً آخر، يختفي وراءه..” فسياج النظام الكنائي، بنية ثابتة لوجود ملموس، وحوادث معاشة لعمليّة خلق الفكرة، إنه بنية مستقرة ونمطٌ ثفافيٌ أو اجتماعي – بيئي – محدد يفرض علينا أعرافاً لغوية تتحوّل بدورها- رغم تغيرات بنيات المجتمع – إلى تعابير جاهزة محددة في قيمتها المضمونية وفق أوجه انبثاقها إلى وجود ملموس “ على ذلك تبدو فكرة التمركز الدلالي واضحة جلية؛ إذ تصبح العلاقة بين الدوال ومدلولاتها، علاقة وثقى لا انفصام لها، فما إن يُذكر الدال حتى يتداعى للذهن المدلول الإيحائي، عبر التوصيفات الدلالية بينهما، والمناطة قسراً بالدال، فمدلول الكرم في النظام الثقافي العربي بنية ثابتة، يحيل إليها، عبر التوصيفات المعروفة، الدال(كثير الرماد)، أو دال (بسط الكف) أيقونياً، فبقيت على ذلك دوالاً ثابتة الإحالات، متمركزة المدلولات.
    ومن تلك البنى الثابتة: الندم والحسرة التي تنتج عبر التماس الدلالي بين دالي (عض اليدين)، فهي كناية مشهورة متوارثة، ونجدها بذاتها في الديوان في قصيدة” من بلادي عليها” في قوله:
    قل لها قبل أن (تعض يديها) هل غرام الذئاب يحلو لديها
    فالترابط التماسي بين فعل العض والمفعول (اليدين) يحيل إلى مدلول الندم والحسرة، بنية عميقة عبر حركة (عض اليدين) علامة أيقونية (تصويرية) على مستوى البنية السطحية.
    كذلك الحال في الشطر الثاني من البيت ، ففيه تشكل كنائي يسير عبر بنية التناص الكنائي الرمزي ، في خط دلالي واحد مع المورث الثقافي في البنية الكنائية، ما يسهم في بلورتها تحت دلالة ثابتة يقوم الدال بالإحالة إليها سلفاً، فالذئب في النظام العرفي مؤشر رمزي لمجموعة من السمات والصفات، التي هي في الأصل مقوماتٌ عرَضيّة ” ناشئة بحكم الاعتقاد والعرف، مثل:
    ، ، ، .”.
    فأصبحت بنيات ثابتة مرتبطة لزومياً بالدال (الذئب).
    والنظرة التأمليّة في ديوان البردوني: (السفر إلى الأيام الخضر)، بإمكانها أنْ تكشف عن أنّ الكثير من الرموز الكنائية- – الورادة فيه، لها أصولٌ وجذور في الاستخدام التراثي، العام أو الخاص، من مثل: الرمز بالجبهة أو الجبين للشموخ والعزة، والرمز إلى العلوّ والشموخ والتجذر والقوة بالأشجار، والكناية عن البغي بشهرة بيتها… إلى آخر ما هنالك من ذلك. لكن الحقيقة الأخرى، التي يلاحظ المتأمل المتمعن في تشكيل الدلالة في الديوان، كامنةٌ في أن الشاعر ينأى بتشكيله لدلالات كل ذلك، وتوظيفها في النص، عن أن تنسرب في النمطية والنمذجة التي تجعل من العلامة خائرة القوى، فاقدة القدرة على الإشعاع الإيحائي، نتيجة الإلف الناتج عن التكرار؛ إذ يقوم بغرسها في سياق تتآلف وتتآزر وتتداخل وتتعامد بناه وعلاماته في إنتاج الدلالة، فتكتسب قدرة، وبريقاً إيحائيين، باكتسابها رصيداً جديداً من الدلالات الناتجة عن التداخل العلاميّ، والتكثيف الإيحائي المنبعث من السياق النصي، إنْ لم تنزلق أصلاً عن دلالاتها الوضعيّة، إلى دلالات أخرى عرفيّة مستقطبة من السياق.
    ولعل مثل ذلك يلمح في قوله:
    وبعتِ أخيراً لحى (تبعٍ) وأهداب (أروى)، وثغر (الشريفة)
    فالدال (تُبّع) مؤشّر رمزيّ يحيل، عبر بنية التناص، عرفياً إلى دلالات الحضارة، والمجد والشموخ والعزة، والقوة، يزيده كثافة إيحائيّة إضافة جمع التكسير(لحى) إليه، وفي ذلك كسرٌ للنسق الأصل معنوياً، إذ على الأصل في الوضع أن يقال (لحية تبّع)، الأمر الذي أحدث فجوةً دلاليّة أسهمتْ في إقصاء المعنى الأصلي لتغوص في دلالات إيحائية عميقة، واللحى إحدى المقومات في الرجولة، وفي الرجولة دلالات القوة والبأس، كما أنها ترتبط بالوجه إذ هي: ” شعر الخدين والذقن)، وفي الوجه دلالات العزة والنصاعة والسمات الإنسانية، مما يكثف الدلالات الإيحائية ويثري الأبعاد العميقة في الرمز التاريخي(تبع)، وذات الأمر في (أهداب أروى) و(ثغر الشريفة) إذ تحيل الأولى، بدلالة إضافة الأهداب إليها، إلى النظارة والجمال والعزة، والثانية إلى الفصاحة والتجذر العربي والعزة، عرفياً، لكنّ السياق الكلي، في البيت يقوم بتهديم كل تلك الدلالات، وينقلها من دائرة الإيجاب إلى دائرة السلب، بتسليط الفعل (باع) المسند إلى تاء التأنيث المحيلة إلى (صنعاء)، عليها فهي في بنية القول مفعولات للفعل مسلوبة الدلالات المتعارف عليها فيها لتصبح جميعها في المقولة اللغوية علامة سيمائية، (كنائية) تشير إلى دلالات التغير والتبدل، وتلاشي الحضارة ، وانهدام معاني العروبة الأصيلة، والقيم والعادات، والانبتات عن الجذور والأصول، ما يوحي بالعجز والسقوط والزيف والضعف ، ويشير كل ذلك سياقياً إلى تمكن الاستعمار.
    وقد يقوم النظام الكنائي في سياقات أخرى، على كسر النسق الدلالي المتعارف عليه؛ إذ يوهم السياق الكنائي بانزلاق الدال إلى مدلولات جديدة، مفارقاً للدلالات الأصول المرتبطة به عرفياً،
    (وضعياً)، لكن التأمل في السياق النصي الكلي المتموضع فيه يبين عن خيوط دلالية تكشف عن بقاء الدلالات الوضعية، إلى جانب المحدثة، في البنية العميقة، ما يمنح النظام الكنائي بُعداً جمالياً ودلالياً يجعله يبارح درجة الصفر ليوغل في الشعرية درجات. من ذلك على سبيل المثال قوله: وثبوا كالسيل كالسيل انثنوا تحت أمطار اللظى احمرّوا، ورفوا
    الأصل في (المطر) أنه رمز للخير والخصب والنماء، والتطهير، لكن الظاهر في السياق فقدانه لتلك الدلالات من خلال السياق الاستعاري المتشكل من إضافة(الأمطار) إلى (اللظى)، الرامز إلى الموت والفناء والجدب، ومجيئ دال (الأمطار) ، مورفولوجياً بصيغة جمع التكسير يضفي دلالات الكثرة والكثافة والقوة، فهو رمزللموت والدمار القادم من أعلى، من بطون الطائرات، لا من بطون السماء. لكن المتأمّل في السياق الكلي يلحظ أن علامة (أمطاراللظى) تبارح الدلالات الطارئة تلك، إلى دلالات عرفية، ذات علاقة بالوضع العرفي، هي: البعث ، والنماء؛ إذ لم تكن سوى مقدمة على الرغم من كل الدلالات السابقة، نتيجتها (احمرار المناظلين) وارتفاعهم للأعلى ، ويقوم التدرج اللوني بإنتاج دلالة كنائية متمثلة بالاشتعال والثورة والانبعاث، وفيها صعود وعلو، كما في الفعل (رفّ) من دلالات الانطلاق إلى الأعلى والشموخ، ليصبح كل ذلك علامة (بنية كنائية) تحيل إلى دلالات التحدي والصمود والإصرار.
    ومثله في المقولة الكنائية في قوله في قصيدة ” أحزان.. وإصرار “،
    وانزرعنا تحت أمطار الفناء شجراً ملء المدى أعيا الزوال.
    إذ ينزلق الدال (أمطار) عن دلالات النماء والتجدد والخصب، إلى دلالة الفناء والجدب، بإضافته استعارياً إلى دال (الفناء) على أساس من بنية التضايف اللغوي الاستعاري. لكن الدال
    (شجراً) الرامز عرفياً إلى الشموخ والعزة والقوة، والمقولة المتمحور فيها شرطة نتيجة للمقول السابق، ما يمنح كيان(أمطار الفناء) دلالات البعث ليصبح النص الكنائي كاملاً ذا دلالة إيحائية كلية تتمثل في الإصرار والتحدي والصمود.. الخ.
    مثل ذلك دلالة الأمطار في قصيدة ” لص تحت الأمطار”؛ إذ ترمز الأمطار فيها للمعوقات والأخطار التي أحاطت بالذات المتكلمة في النص (اللص)، وإعاقته عما كان يرمي إليه، والنظر في البنية الكلية للنص يفصح عن بقاء دلالة(المطر) وإيحائه بالتطهير؛إذ أسهم بتطهير (اللص) من دنايا نفسه وعفونتها بإعاقته عن عمله المشين، ومما يثبت ذلك قوله:
    حسناً كف المطر الهامي وبدأت كدربي أتعفن
    فالإحساس بالعفونة لم يكن سوى بعد انقطاع المطر عن هميانه، وهو ما كان مقدمةً تبعتها التوبة والعودة:
    سيهل غدٌ ، وله طرقٌ أنقى، ومتاعبه أهون
    فكأن الأمطار عملت على غسله، وتطهيره، من أدرانه، فبدأ يستشعر خطأه ويُثني خُطاه إلى مستقبل آخر.
    فهو يعطي النظام الكنائي صورة جديدة، تقوم على بناء نظام جديد ” وجعل بؤرة جديدة فيه، تكون أو تحدد مصدراً رئيساً لإنهاض القصيدة من سباتها إلى حيويتها وقيمتها الجمالية، من خلال إكساب الملفوظ(الكنائي) قيمة جديدة غير محددة بالقراءة السابقة، وإنما هي علاماتٌ جديدة متفتّحة، لا تأصيل فيها لنماذج محددة “. فالبردوني يعتمد في بناء صوره على (اللاتمركز)، بإقامة فجوة بين الدوال ومدلولاتها، من خلال التكثيف الصوري والتداخل العلامي، منطلقاً من ذلك إلى إنتاج دلالات جديدة لم يألفها الذهن العربي في بنيته الثقافية الكنائية. ولك أن تأخذ على ذلك مثالاً أخر: الرمز إلى التخلخل في نظام المجتمع، من خلال الرمز إلى ترقي (الديّوث) في المناصب، أو ما يمكن تسميته بـ
    (النخاسة التكنولوجية “الحديثة”) كما في قوله: عنده نعجة فأمسى مديراً نهد أنثى مؤهل غير عادي.
    الحليب الذي يسمى جلوداً طازجاتٍ أمسى سرير ابن هادي
    فبتحاور البنى الكنائية مع غيرها، منتقلاً عبر بنيات الترميز والاستعارة إلى المدلول الكنائي العميق، وهو المرأة التي تصبح أداة لبلوغ المآرب، والارتقاء في المناصب، ما يحيل بدوره إلى الفساد الأخلاقي والقيمي في مجتمع امتهن نفسه وغيره، وضاعت رجله في الوحل.
    ومن ذلك استخدام التناص العكسي لإطلاق دلالات كنائية جديدة تقوم على نقض التمركز الدلالي، كما في الرمز ب(حيكان) إلى الجدب والعقم، مع أنه في العرف رمز للخصب والنماء، في قوله: صباحَ قالوا: سعودٌ قبل خطبتها حبلى، و(حيكان) لم يحيل ولم يلد
    ومن ذلك الكناية في قوله: عرفته يمنياً.. في تلفته خوفٌ، وعيناه تاريخٌ من الرمد
    إذ يقوم التركيب اللغوي علامةً كنائية تشير عبر علاقات التجاور والتداعي إلى دلالات متجاورة منها ديمومة الأوجاع والأسقام، واستقرار الأسى والألم، والانتشار، والكثافة.. إلخ. و(الرمد) معجميّاً: ” وجع العين وانتفاخها”، كما أن مادته اللغوية تشير، إلى جانب ذلك، إلى دلالات أخرى كالهلاك والفناء والغبرة المشوبة بالكدرة ارتباطاً بالرماد، الدال على التلاشي، ناهيك عن أن الرمد مرضٌ قد يصيب العين بالعمى، والإصابة بالعمى تؤدي إلى انعدام الرؤية، المؤدي إلى سيطرة الظلام، وارتباطها سياقياً بالتاريخ يمنحها صفة الكثافة، وطول الأمد ويقوم حرف الجر معنويّاً بملء الفراغ الزمني، في دال (التاريخ) بالرمد بكل ما يحمله من دلالات إيحائية، لتتماس مع دال (العينين)، وتنبثق عبر الترابطات التماسية بين الدوال علامات إشارية تصورية، تتراءى من خلالها دلالات الشحوب والذبول والأسى والألم. بالرجوع إلى السياق النصي والثقافي الموازي، تتراءى مدلولات متجاورةهي: الحروب الهلاك الفناء.
    فهو يستخدم أسلوباً جديداً في التشكيل والصياغة الدلالية، أسلوباً ” ليس فيه إحالة إلى مدلول جديد – (…) وإنما ينقل إليك (مداليل) وهيئات جديدة، تختلف باختلاف قرائها، وكأن معنى النص ، وإنما هو في حقيقته المعنى الذي قصده المتلقي وأسقطه بافتراض وجوده في وعي (المؤلف “ ففي قوله في قصيدة أغنية من خشب مثلاً: لأن أبا لهبٍ لم يمت وكل الذي مات ضوء اللهب
    فقام الدخان مكان الضياء له ألف رأس وألفا ذنب
    إذ تتزاحم عليك دلالات، وإحالات عدة وأنت تقرأ هذه الأبيات، فتتدافع إشارات وومضات دلالية تصويرية متتابعة على بنية المستوى السطحي، فتظهر صورة مصدر من مصادر اللهب
    (شعلةٌ) مثلاً ينطفئ لهبها (لهبه)، ولأن المادة الأصل المشكلة له ما زالت قائمة، فمكان الضياء المنطفي يقوم الدخان ليرسل أشباحه في الفضاء، ولكن إشارات سابقة تُستحضر قبل هذه الإشارات يطلقها النص متجلية على مستوى المقولة اللغوية فيه، مشيرة تاريخياً إلى شخصية تاريخية، تتمثل في ، الذي يحيل بدوره إلى جملة من الصفات التي تلازمه، منها (الغطرسة)
    و (العجرفة) و(محاربة الحق) ، و(الظلم) و(الجهل)… الخ، وبالمماثلة بين الدلالتين السابقتين يتبين أن الصفات التي شكلت (أبا لهب) توازي المادة الأصل التي ينطلق منها اللهب وهو ما أثبته النص، ويقوم الإنسان المتصف بتلك الصفات المتلازم بها موازياً لضوء اللهب في الشمعة، وهما اللذان تحقق، وجودياً، انظفاؤهما ويوازي أولئك المتصفين بهذه الصفات المنحدرين المتشعبين عن الأصل، الدخان الذي قام مكان الضياء المتشعب عن الأصل كذلك. وقد نلمح إشارة رامزة إلى علامات أسطورية تشير إلى التنين في المستوى العميق، ما يضاعف من الدلالات، ويشحنها بشحنات تعبيرية متفرعة متشعبة، ولربما استطاع المتلقي،استناداً إلى السياق العرفي الاجتماعي – السياسي – الخارج نصي – التلميح والإشارة إلى (الإمام) بكل ما يحمله من دلالات وطاقات إيحائية متشاكلة مع (أبي لهب) كالظلم والطغيان… إلخ ، وذاته على مستوى الوجود المادي، إذ كلاهما تلاشى وجودياً بالموت، ما يحيل إليه (ضوء اللهب)، لكن وجود المادة الأصل حال دون هذا التلاشي، بل أسهم في تكثيفه، ،وإن ظهر من خلف الكواليس، فموت الإمام لم يكن سوى إيذاناً بميلاد أئمة ، وإن تغيرت الوجوه والمسميات. ” وبذلك يكون للتضمين أوما يسميه النقد المعاصر ب (التناص) دورٌ كبير في بناء النص الحداثي والتضخيم من الفضاء الدلالي لعلاماته الإشارية بحيث تتشبع كل علامة بفيض هائل من الإيحاءات المستمدة من تفريعات متباينة منها الأسطوري والثقافي والاجتماعي إلى غير ذلك.. “

    وختاماً
    مما سبق يمكن الخلوص إلى الآتي:
    1. يتشكل النظام الكنائي في ديوان ” السفر إلى الأيام الخضر” للشاعر البردوني على أسس عدة، تقوم في مجملها على التكثيف الإيحائي الناتج عن التداخل والتراسل والتواشج بين علامات النص الكنائي وغيرها من العلامات في النص الكلي، والتواشج داخل السياق القولي الكنائي ذاته بين مستوياته، التركيبية،والمورفولوجية، والفونولوجية والعلامات غير اللغوية ، والعلامات خارج نصية ، ليتراسل كل ذلك في إنتاج الدلالة الكنائية وتكثيفها.
    2. تتجلى البنية الكنائية بسيطة التركيب، قليلة الوسائط، والانتقالات والإحالات الدلالية بين الكيان الكنائي ومدلوله الإيحائي، كما تتجلى في مظان أخرى من الديوان، مركبة متداخلة وتركيبها قد يكون عن طريق تعدد الوسائط والإحالات الدلالية، بحيث نكون أمام شبكة متناهية من
    (الإحالات العلامية، وقد ينضاف إلى ذلك أن تصبح مجموعة من الكنايات والمؤشرات الرامزة التي تجتمع في النهاية، بكل ما تحمله من طاقات إيحائية وتعبيرية رامزة، لتكون بمجموعها علامة كنائية سيميائية.
    3. قد يستخدم الديوان نماذج كنائية، متعارف عليها في النظام الثقافي الكنائي العربي، لكنه قليلاً ما يستخدمه استخداماً أيقونياً، ثابت البنية متمركز الدلالة، بحيث يستمد دلالاته من البنية المعرفيّة في الذهن العربي، عبر بنية التناص (التطابقي)؛ إذ ينأى – في كثير من الأحيان – عن ذلك التطابق الكسول بين الدوال ومدلولاتها،المحددة سلفاً، بإعادة صياغتها وتشكيلها وفق سياق جديد يكسبها دلالات متغيرة، متحررة من عقال التمركز، منطلقة في فضاء دلالي واسع.
    وعلى كل حال فالشاعر بما هو صانع ماهر، استطاع أن يُلبس القديم حلّة جديدة، تقوم على مبدأ الخرق الدائم لنظام اللغة، ما يقيم مسافة توتر بين العلامات وما تشير إليه، متحرر بذلك من سلطة النظام الموروث.
    كما استطاع أن يخلق بنيات جديدة لم يألفها النظام الثقافي، والمعرفي العربي، ما أكسب النص حيوية، وبريقاً إيحائياً دلالياً وجمالياً…
    هذا والله ولي الهداية والتوفيق.
    ” المصادر والمراجع ”
    1) ابن الأثير، ضياء الدين: المثل السائر، ج3، ت: الحوفي، وبدوي طبانة، نهضة مصر. و،ط/ت.
    2) ابن جعفر، قدامة: نقد الشعر، ت: محمد خفاجي، مكتبة الكليات الأزهرية: القاهرة 1978- ط1.
    3) ابن منظور،: لسان العرب، مج3، دار صادر: بيروت، ط3، 1994م.
    4) البار، د/ عبد الله حسين: محاضرات في علم البيان، ملزمة لطلاب م3، عام 2002/2003م، كلية الآداب- جامعة صنعاء، قسم اللغة العربية(غير منشور).
    5) البردوني، عبد الله: ديوان ” السفر إلى الأيام الخضر” دار الحداثة: بيروت، ط7.
    6) بليث، هنريش: البلاغة والأسلوبية، ت. محمد العمري، إفريقيا الشرق: الدار البيضاء.
    7) تاور بريت، بشير: السيميائية في الخطاب النقدي المعاصر، مجلة علامات في النقد، ج54، م 4 ، ديسمبر 2004م.
    8) الجرجاني، عبد القاهر: دلائل الإعجاز، ت: محمود شاكر، مكتبة خفنجي: القاهرة 1992، ط 3.
    9) السكاكي، يوسف: مفتاح العلوم، ت: نعيم زرزور، دار الكتب العلمية: بيروت، ط1.
    10) الصائغ، عبد الإله: الخطاب الشعري الحداثوي والصورة الفنية، المركز الثقافي العربي: بيروت ، الدار البيضاء، ط1، 1999م.
    11) طبانة، د/ بدوي: علم البيان، مكتبة الأنجلو المصرية، ط3، 1977.
    12) عبدالمطلب، د/محمد: البلاغة العربية، قراءة أخرى، مكتبة لبنان، ط1، 1997م.
    13) عبو، أ.عبد القاهر: شعرية الحداثة، مقاربة سيميائية، مجلة الموقف الأدبي ع 392، كانون الأول 2003م.
    14) العلوي، يحيى بن حمزة: الطراز، ج1، دار الكتب العلمية: بيروت، 1982م.
    15) غاليم، محمد: التوليد الدلالي في البلاغة والمعجم، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء: المغرب، ط1، 1987.
    16) فاخوري، عادل: حول إشكالية السيمولوجيا، عالم الفكر مج 24، ع 5، يناير،مارس 1996م.
    17) فضل، د/ صلاح: إنتاج الدلالة الأدبية، مركز الحضارة العربية، د- ط/ت: مناهج النقد المعاصر، إفريقيا الشرق، الدار البيضاء، 2002م.
    18) الفهيد، جاسم سليمان: بنية الكناية: دراسة في شبكة العلاقات الدلالية، المجلة العربية للعلوم الإنسانية، ع88، سنة 22، خريف 2004م، مجلس النشر العلمي، جامعة الكويت.
    19) مختار، ملاس: دلالة الأشياء في الشعر العربي الحديث، البردوني – نموذجاً – دائرة الثقافة والإعلام: الشارقة، ط1، 1992م.
    20) المراغي، أحمد مصطفى: علوم البلاغة، دار إحياء التراث الإسلامي، مكة المكرمة، ط10، 1992م.
    21) مفتاح، محمد: تحليل الخطاب الشعري، استراتيجية التناص، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، ط1، 1985م.
    22) نعاس، وليد شاكر: دراسة سيميائية في شعر أبي تمام، رسالة دكتوراة مقدمة إلى مجلس كلية التربية الأولى / جامعة بغداد، عام 1997م، بإشراف أ.د/ سمير علي سمير.
    23) نور الدين، صبّار، قراءة في المستوى الدلالي لنص قديم، الكنائية – نموذجاً – مجلة الموقف الأدبي، ع 381، كانون الثاني 2003م.
    24) المعجم الوسيط، إخراج د/ إبراهيم أنيس، د/ عبد الحليم منتصر، وصاحبيهما، دار الحديث للطبع والنشر، بيروت، ط2.

    الهوامش:
    السيميائية في الخطاب النقدي المعاصر: علامات في النقد: ص 190.
    شعرية الحداثة – مقاربة سيميائية: ص 2 ، الموقف الأدبي.
    مناهج النقد المعاصر: ص 103.
    نقد الشعر ص 157.
    نفسه ص 1
    دلائل الإعجازص 66.
    مفتاح العلوم ص 402.
    الطراز، ج 1 ص 373.
    محاضرات في علم البيان د. البار ص 31 – (غير منشور).
    علم البيان: بدوي طبانة – ص 237.
    ينظر: البلاغة العربية قراءة أخرى –ص 193.
    علم البيان – طبانة- ص 258.
    ينظر مثلاً، علم البيان – طبانة- ص 258،علوم البلاغة المراغي- ص 283.
    مذكور، بتعدد وسائطه في الحديث عن كناية الصفة.
    دراسة سيميائية في شعر أبي تمام – ص 99.
    البلاغة العربية – قراءة أخرى: ص 87.
    نفسه ص 193 بتصرف.
    نفسه ص 194.
    نفسه.
    الخطاب الشعري الحداثوي- الصور العتيّة ص 101.
    بنية الكناية
    البلاغة والأسلوبية: ص 66 وما بعدها.
    نفسه ص 88.
    نفسه ص 119.
    التوليد الدلالي في البلاغة والمعجم: ص 52.
    تحليل الخطاب الشعري ،استراتيجية التناص ص 115.
    ينظر نفس المرجع: ص115، 116.
    حول إشكاليات السيمولوجيا- عالم الفكر ص 185.
    إنتاج الدلالة الأدبية: ص 24.
    دراسة سيسيائية في شعر أبي تمام.
    الديوان: ص 26.
    نفسه: ص 72.
    قراءة في المستوى الدلالي لنص قديم- الكناية نموذجاً ص4.
    الديوان: ص77؟
    الديوان: ص100.
    سورة المسد الأيتين (4.5)
    المعجم الوسيط ” باب الضاد ص 868.
    الديوان: ص 62.
    الديوان ص 13.
    الديوان ص 17.
    الديوان ص 109.
    شعرية الحداثة- مقاربة سيميائية: ص 2.
    الديوان ص 102.
    المعجم الوسيط، باب الغين.
    دراسة سيميائية في شعر أبي تمام: ص 97.
    الديوان، ص 31.
    استراتيجية التناص: ص 92.
    الديوان: ص 81.
    المعجم الوسيط باب اللام: ص820.
    الديوان ص 136.
    نفسه ص 35.
    الديوان ص 11.
    دراسة سيميائية في شعر أبي تمام ص 104.
    الديوان ص 143.
    الديوان ص 104.
    نفسه ص 101.
    لسان العرب مج: باب الدال، فصل الراء، مادة: رمد.
    دراسة سيميائية في شعر أبي تمام: ص 107. عن المعنى الأدبي – وليم راي.
    الديوان: ص 25.
    دلالة الأشياء في الشعر العربي الحديث، عبد الله البردوني نموذجاً: ص57.

  • 431 انفتاح الشكل العمودي.. تجربة الشاعر عبدالله البردوني.. الأستاذ صلاح بوسريف (المغرب)

    >  انفتاح الشكل العمودي.. تجربة الشاعر عبدالله البردوني.. الأستاذ صلاح بوسريف (المغرب)

    1- برحيل البردوني تتوقف دورة تجربة شعرية زاوجت، في شكلها ونمط كتابتها بين زمنين، وتصورين في الكتابة – أعني في الشعر تحديدا – أثناء حديثي عن تجربة الجواهري باعتباره أحد قمم القصيدة العمودية، كما تسمى في العرف العام، أشرت إلى عبدالله البردوني باعتباره، هو الآخر، أحد آخر هذه القمم المتبقية، وباعتباره أحد الشعراء النادرين الذين حفروا في مجرى القصيدة العمودية، أفقا فرديا يتميز بفرادة تلك الاضافات التي ميزتتجربة البردوني، كما ميزت تجربة الجواهري قبله.
    فالشعر المعاصر لم يكن ثورة على الشعر المعمودي باعتباره شكلا، بل ثورة على هذا الشعر باعتباره تصورا ورؤية تقوم في جوهرها على التقليد، وعلى الاتباع، ولم يعد مسموحا في سياقها، بإبداع، أو فتح أي أفق للمغايرة، والاختلاف أعني لفتح النص على مسارب الحداثة، وعلى دم جديد ورؤى مختلفة. وهذا ما جعل من هذا الشعر، في بعض التصورات النظرية التي واكبته، يعتبر القصيدة العمودية نمطا متجاوزا ومنتهيا، لأنه يقوم على الاستعادة واجترار ما سبق. وهذا التصور كان يستثني تلك الأعمال الخلاقة، التي حاولت من داخل الشكل العمودي أن تعيد ترتيب أوضاعها بإعادة وضع اللغة، أو بوضعها، بالأحرى، على محك شعرية تتيح للمعنى أو الدالة أن تتخذ أوضاعا مغايرة، ناقلة النص من أفق المعنى إلى أفق الدلالة أو انفتاحها بالأحرى.
    في ضوء هذا الاستثناء الذي ينخرط فيه شعراء أمثال المتنبي وأبو تمام وأبو نواس، وغيرهم، ممن أدركوا خطورة التقليد وعماءه، كان الجواهري، يعيد ترتيب انتسابات لغته وإيقاعاتها، ويسعى، بما يملك من معرفة عميقة بشعر غيره، إلى توقيع الشكل العمودي بذاته هو كشاعر وبصوته وفرادته لا أن يكون مجرد مستعيد أو مردد لأصوات غيره ولأشكال وأنماط كتاباتهم، بما فيها من معان وأفكار وجزئيات شتى.
    في هذا الاتجاه، كان عبدالله البردوني، يحفر مجرى تجربته لا باتخاذ الشكل الجديد، شكلا لكتابته، ولا باتباع السائد والسير على خطي من سبقا أو من جاءوا بعده، فهو كان يسعي لتوقيع نصه بخصوصيته، وبما يطبع عصره وزمنه من أحداث وقضايا ، سيظل مرتبطا بها في كل كتاباته. فالشكل العمودي، لم يكن عائقا في وجه الجواهري، كما لم يكن عائقا في وجه البردوني، مع فرق التجربة واختلافات سياقاتها وخصوصيات لغتها وإيقاعاتها، وهذا ما جعل البردوني يحول الشكل العمودي من شكل مغلق دائري مفكك، إلى شكل خطي مفتوح مترابط، أو إلى نسيج متواصل سائر لا يرتد على ذاته وفق ما يمكن أن نسميه هنا بالبناء المرآتي أو التقابلي الذي ظل يميز الشكل العمودي للقصيدة العربية ويطبعها بأوضاع ثقافية، ستنعكس على بناء القصيدة وتجعلها صدى لبيئة سيرفض أبو نواس اعتبارها نموذجا له، لأنه أدرك فرق الإقامة، فاختار كما سيختار الجواهري وعبدالله البردوني، الإقامة في عصره وفي زمنه، وهي إقامة شعرية بامتياز.
    2 – تميزت تجربة البردوني بإصراره على كتابة قصيدته بنفس واحد، فهو لا يترك البيت معلقا بين هواءين، فهو كان يلحم أجزاء النص، يكتبا دفعة واحدة، أو يضعه في نسق متسق لاغيا بذلك فكرة البيت باعتباره بيتا من الأبنية أو هو نسيج وحدة، كما يقول ابن خلدون ولأن قضية البردوني الشعرية بالدرجة الأولى، ثم الفكرية؟ لم تكن لتأتي مفككة ناتئة، لذلك كان يدفع بالقصيدة في اتجاه النص، أو ما سيصطلح عليه بالوحدة العضوية، ووحدة الموضوع.
    ليس هذا ما يجعل من تجربة البردوني تحظى باهتمام القراء والباحثين، لأن هذا العنصر كان سابقا عليه، لدى مدرسة الديوان وغيرها، وحتى في بعض النماذج الشعرية السابقة فالبردوني، حتى لا يبقى أسير تبعات شكل شعري مثقل بأثار العابرين، سيتجه، كما يؤكد ذلك الأكور عبدالعزيز المقالح، وكما تؤكده تجربة البردوني الشعرية، إلى تحويل أو تحميل الكلمات والألفاظ والصور دلالات تنجو باللفظ من واحدية المعنى، وتعتني باللفظ باعتبارها جزءا من السياق العام للجملة أو النص، ولعل هذا ما سيجعل من البردوني يستعين بالألفاظ العامية، وبالتراكيب اللغوية البسيطة أو القريبة، بالأحرى، من الفهم العام. فلا داعي للسير خلف تداعيات الشكل، والسير وراء ما يستدعيه من تعابير وصور مثقلة بتاريخ يرى فيه البردوني تاريخ أناس مروا وأشادوا بزمنهم إن سلبا أو إيجابا فقصيدة البردوني تتقاطع فيها كل هذه المستويات، ومن خلالها كان ينسج أفق كتابة ترتبط بزمنها، وتسير في سياقه أو تتجاوزه.
    فالأفق الدلالي الذي كانت تفتحه تجربة البردوني، هو ما سيتيح لقصيدته أن تخرج عن سياق الكتابات العمودية التي ظلت تستدعي السياقات المباشرة والتعابير التي يسهل على القارئ العارف بجغرافية الشعر القديم، أن يحدد انتماءها، وعند البردوني تصبح الأراضي ملتبسة، من الصعب تحديد مرجعياتها ولو أنه يعتبر من بين المتأثرين بأبي تمام بشكل خاص واستثنائي.
    وفي النموذج التالي يظهر بوضوح فرق الهواء الذي يفصل بين تجربة البردوني، وبين من اختاروا الشكل العمودي كشكل تاريخي وليس شكلا شعريا. يقول البردوني:
    مثلما تعصر نهديها السحابة
    تمطر الجدران صمتا وكآبة
    يسقط الظل على الظل كما
    ترتمي فوق القامات الذبابة
    يمضع السقف واحداق الكوى
    لغطا ميتا وأصداء مصابة
    مزقا من ذكريات وهوى
    وكؤوسا من جراحات مذابة
    تبحث الأحزان في الأحزان عن
    وتر باك وعن حلق ربابة
    عن نعاس يملك الأحلام عن
    شجن أعمق من تيه الصبابة
    يشعل الأشجار، تحسو ظلها
    تجمد الساعات من برد الرتابة
    في هذا النموذج وفي غيره ، تصبح اللغة ذات أبعاد، وانشراحات، رغم ما قد يبدو لنا فيها من حصر، لا حد له فهي تتعود وتفتح مساري لتخيلات تصبح اللفظة المعزولة فيها لا معنى لها، شأنها مبنية في سياق خاص ،وهذا ما يجعل الجملة تركيبا نسقيا له ما به يبرر ورود رمزيته (إذا شئنا أن نبسط الصورة) أو انفتاح معانيه حينما يتعلق الأمر بإجتراح معان جديدة وتعبيرات مغايرة.
    وتعود بي الذاكرة في هذا السياق إلى قول البردوني التالي. وهو قول مشحون بكثافة دلالية ملبدة بإيحاءات عميقة، وبإحساس فاجع بالزمن،
    هرب الزمان من الزمان
    خوت ثوانيه الغبية
    من وجهه الحجري
    يفسر إلى شناعته الخفية
    حتى الزمان بلا زمان
    والمكان بلا قضية
    فهل زمان البردوني هنا هو الزمان الكونولوجي المعروف، وهو ما يمكن أن يقال عن المكان.. فالبردوني يحول كل شيء ويجعله يلبس ثوبا جديدا ملبدا بما يعتمل في رؤية الشاعر من تداعيات وتخاييل باهرة.
    -3-
    توقف عدد من الدارسين لشعر البردوني عند أحدى أبرز الخصائص المميزة لتجربته، وهي السخرية. والمتأمل في شعر البردوني سيدرك لا محالة قصدية البردوني في من ، شعره بالسخرية أو بالفخاخ التي تجعل من القارئ يحذر شراكها، خصوصا حين. يعلم أن البردوني لا يهجو بل يصور ويشحن صوره بما يجرنا في أحايين كثيرة إلى استعادة نموذج ابن الرومي، ولا أعنيه حرفيا حتى لا يضيع الفرق. فالبردوني ساخر وليس هجاء، وهو ما يجلوه بوضوح قوله في قصيدته الشهيرة، حين يجره الحديث عن اليمن، وشجون اليمن:
    ماذا أحدث عن صنعاء يا أبتي
    مليحة عاشقاها السل والجرب
    ماتت بصندوق وضاح بلا ثمن
    ولم يمت في حشاها الحب والطرب
    كانت تراقب صبح البعث فانبعثت
    في الحلم ثم ارتمت تغفو وترتقب
    ولن استمر في سرد النماذج. التي يرد فيها مثل هذا النوم من السخرية السوداء، المرة التي كان فيها البردوني قاسيا على ذاته قبل أن يقسو على غيره. فلماذا الكذب والتدليس حينما يتعلق الأمر بالشعر، أو بواقع يقدم نفسه هكذا، فالشاعر حين يلتقط الواقع، فهو يلتقطه بتلك المرارة التي تضيع منه حين يكون تعبيرنا خاليا من النفس الشعري المتسم بإيحائيته وبانشراحات معانيه وقوة تصويره.
    فالبردوني حين يعمد إلى توظيف السخرية للتعبير عن تدمره وصراراته المتوالية، وهو الذي عاني السجن والاعتقال، فهو يقصد من وراء ذلك إلى تفجير ما يحفل به الواقع من تناقضات قبل أن يسعي لتفجير اللغة وإعادة تنسبيها، وهذا في نظرنا ما يجعل من السخرية عند البردوني، ترتبط في بعض أوضاعها بما أصبح ساريا في تجارب بعض شعراء الحداثة من هذا النوع من الكتابة أو أساليب الكتابة بالأحرى.
    -4-
    لن أقف عند البناء الحكائي لقصائد البردوني ولا عند الأبعاد الدرامية التي طبع بها كتابته. فقد عمت دراسات سابقة على كشف أبعاد ذلك في تجربة الشاعر ساكتفي هنا فقط بالإشارة إلى هذه المستويات، في كتابة البردوني باعتبارها من أشكال سعيه لفتح الشكل العمودي واجتناب السقوط في البناء العمودي الذي طبع القصيدة في أعتى مفاهيمها، باعتبارها بنا مفككا، وباعتبارها مسورة بعناصر بنائية تحد من طاقة تفجير الشكل وتجعله أبديا أو تعمل بالأحرى، على تأبيده.
    البردوني إلى جانب الجواهري، باعتبارهما أخر الأسلاف، عملا معا، كل من زاويته، على تحيين الشكل العمودي، وإخراجه من حرفية التقليد، وحرفية البناء، بخلاف أولئك الذين اختاروا البنية التقليدية للقصيدة بعلاقاتها التاريخية وبخصائصها المباشرة. وقد جرتهم، يقول عبدالعزيز المقال، تلك المحافظة، عن قصد أو غير قصد، إلى استرجاع المضامين القديمة والأشكال التقليدية، ولذلك جاء نظمهم اجترارا، ودفعهم الاستخدام الروتيني للقوالب المتوارثة إلى الأسالب الفنية المسبوقة.
    -5-
    لن أتحدث عن الجانب الثوري في تجربة البردوني، أيضا، سأكتفي فقط بإيراد نموذج له، لعله، كما أراه، يكفي للكشف عن ميل هذا الشاعر إلى تسخير تجربته في قول الأشياء كما تتبدى له دون قيد ولا شرط. وهذا ما عرف عنه، أو ما أعرفه عنه، وما تقربنا كتاباته منه.
    يقول من تجربته في السجن:
    هدني السجن وأدمى القيد ساقي
    فتعاييت بجرحي ووثاقي
    وأضعت الخطو في شوك الدجى
    والعمى والقيد والجرح رفاقي
    في سبيل الفجر ما لا قيت في
    رحلة التيه وما سوف ألقي
    سوف يفنى كل قيد وقوى كل
    سفاح وعطر الجرح باقى
    -6-
    وأريد في نهاية هذه الورقة، أن أشير إلى كون البردوني لم يكن شاعرا فقط، بمعنى أنه لم يكن شاعر يكتفي بكتابة الشعر، فهو كان ينخرط فيه نظريا ونقديا. وقد كرس جزاء من جهده النظري والنقدي لإضاة تجربة الشعر اليمني.. وهذا في نظرنا يعكس بوضوح وعي البردوني الشعري. فالشعر لديه ممارسة في الكتابة بمساريه النصي والنقدي أو النظري، أعني أن البردوني كان واعيا بالمسار الذي كان يجترح شعريته في أفقه. ولعل في هذا الظاهرة ما يخفي ربما، تصور البردوني للحداثة، أو انخراطه فيها، رغم ما قد يبدر في موقفه إزاء الشعر المعاصر أو الشكل المعاصر للكتابة الشعرية من تذبذب أو التباس بالأحرى.

  • 432 ترجمة رملية لأعراس الغبار قراءة خاصة… الدكتور محمد جمال صقر

    >  ترجمة رملية لأعراس الغبار قراءة خاصة… الدكتور محمد جمال صقر

    1- للبردوني – رحمه الله ! – بضع عشرة مجموعة شعرية ، بدأت رحلة صدورها سنة إحدى وستين وتسعمائة وألف للميلاد ، وحالت وفاته في سنة تسع وتسعين وتسعمائة وألف دون غايتها. من ثم أعتمد في رؤيته على سابق قراءتي للتسع الأولى منها التي حصلت لي ، ثم على النظر الحاضر في مجموعته الثامنة ” ترجمة رملية لأعراس الغبار ” الصادرة سنة ثلاث وثمانين ، بعد أربع سنوات من المجموعة السابقة لها ، وقبل ست عشرة من وفاته ، أي في زمان فورة نهجه الجديد وأوج اضطرامه.
    رسائل البردوني:
    يبث البردوني في شعره ثلاث رسائل متداخلة: القومية ، والوطنية ، والاشتراكية ، بادي التعصب في الأولى والثانية ، والسخط في الأخرى ، دون أن يخرج في أي من ذلك عن العُرْف إلى النُّكْر.
    2- حينما يقرأ لأمته الكف يعجب:
    ” هل هذا الجاري مفهوم يبدو مجهولا معلوم…
    أدري أني محتل وأرى فوقي خيل الروم
    أدري لكن ما الجدوى من علمي إني موصوم
    هل يبنيني إدراكي أني من أصلي مهدوم
    هل يشفي من أزماتي ترديدي إني مأزوم ” (ص157، 169)
    وحينما يسرد علامات العالم المستحيل يقول:
    ” قيل تنشق بذرة عنه يوما قيل تدمي البروق عنه السحابا
    ربما كان تحت حزن الدوالي وقريبا يجتاز ذاك الحجابا ” (ص187)
    إنه يرى في كف أمته تهاويل لا تصدق ، وهي قائمة واقعة بها ، يعلمها كل من ينتمي إليها ، كما يعلم أن علمها وحده غير مجد شيئا. وربما حمله على استعمال ذلك القالب في بناء قصيدته ، ما يبدو عليه ابن هذه الأمة العالم بواقعها الحزين ، من عدم مبالاة به ، وكأنه يتوهمه ولا يراه ، غير أن الشاعر لا يملك إلا أن يطمح إلى واقع سعيد وإن بدا مستحيلا.
    3- وحينما يسمر مع أم ميمون بحكايا مفاخر اليمن يقول:
    ” آباؤكم كانوا أعز على ذهب المعز وكل ما يغوي
    ماذا أقص اليوم كم سقطوا والموت لا يغفو ولا يثوي
    كان الصباح كأنف أمسية كان الدجى كالملعب الجوي
    والآن هل ألقى معازفه زمن الأسى كي يبتدي شدوي
    وتنحنحت كي تبتدي خبرا فبكت فغاص أمر ما تحوي
    حدث الذي والدمع يسبقها ويقول عنها غير ما تطوي “. (ص228- 229)
    إنه يمجد زمان البطولات العزيز السالف ، ويريد أن ينعم بعاقبته الواقعة غير أنه لا يستطيع أن يخدع نفسه ، فالواقع اليمني كالواقع العربي ، حزين.
    4- وحينما يتفقد حوادث هذا الواقع اليمني العربي ، ويتسمع إلى صخب دعوات أبواقه المزيفة وشعاراته الطارئة الجوفاء ، يراها أعراس غبار لا أصل لها ، رحى تطحن قرونا- كما قال المعري في مثلها- فيقول:
    “يا ريح هل تعطين غير قش من أين تاريخ الركام بعلي
    غدا تراني أستهل عهدا لأنني ضيعت مستهلي
    في القلب شيء يا زمان أقوى لا تنعطف من أجله وأجلي
    أحب ما تولين من عطايا يا هذه الأيام أن تولي “. (ص 30)
    فليس ثم عطاء إلا الوهم ، ولا اشتراك إلا في العدم بالغنى وبالفقر جميعا ، إذ لا قيمة لغنًى مُبْطِر ولا لفقر مُقْعِد.
    5- ولقد كان من آثار عصبيته القومية كثرة استعمال مفردات الثقافة العربية ، أحداثا وشخوصا وعلوما وفنونا ، فهي متغلغلة في قصائد المجموعة التي تنوب عن المجموعات الأخرى أحسن نيابة ، حتى إن الشاعر يخص ذلك أحيانا بالقصيدة حين تصلح المفردة الثقافية العربية ، رمزا خالدا لقضاياه الثلاث السابقات ، كما فعل في قصيدتيه ” وردة من دم المتنبي “، و” تحولات يزيد بن مفرغ الحميري “، يقول في الأولى:
    ” شاخ في نعله الطريق وتبدو كل شيخوخة صبىً مدلهما
    كلما انهار قاتل قام أخزى كان يستخلف الذميم الأذما
    هل طغاة الورى يموتون زعما يا منايا كما يعيشون زعما
    أين حتمية الزمان لماذا لا يرى للتحول اليوم حتما
    هل يجاري وفي حناياه نفس أنفت أن تحل طينا محمى…
    التعاريف تجتليه وتغضي ألتناكير عنه ترتد كلمى
    كلهم يأكلونه وهو طاو كلهم يشربونه وهو أظما
    كلهم لا يرونه وهو لفح تحت أجفانهم من الجمر أحمى
    حاولوا حصره فأذكوا حصارا في حناياهم يدمي ويدمى
    جرب الموت محوه ذات يوم وإلى اليوم يقتل الموت فهما “. (ص56،60-61)
    يبرز المتنبي في القصيدة فارسا متحققا بمعنى الفروسية ، عالي الهمة ، طامح الأمل ، شديد الأنفة ، يريد الجليل الأسمى لأمته ووطنه ونفسه ، ويضيق بالحقير الأدنى ، المستولي على أمته ووطنه ونفسه ، فيشذ عن الخضوع له غير عابئ بما يصيبه من تضييع وتقتيل ، فيضيِّع هو نفسُه تضييعَه ويهتدي ، ويقتِّل هو نفسُه تقتيلَه ويعيش !
    ومن عصبيته القومية وقوفه في شعره عند العمودي ، فلم يتجاوزه إلا في قصيدتين من سبع وثلاثين ، استعمل المشطر في الأولى – وهو نمط من التجديد العروضي قديم – وتعديد القافية في الأخرى ، ثم استعمل عشرة بحور ، لبعضها عنده أكثر من صورة ، ثم استعمل في روي القافية واحدا وعشرين حرفا من حروف المعجم بين المعروف بكثرة الوقوع رويا كالراء والميم واللام والنون ، والمعروف بقلته كالكاف والشين والواو والهاء ، والمعروف بندرته كالطاء والغين والثاء والذال. وأنا لا أخلي ذلك من أثر عماه.
    لقد انقسم الشعراء منذ قديم طوائف أغرت العلماء بالنظر إليهم من جهتها ، عسى أن يكون لها في شعرهم من أثرٍ وجَّههم إلى ما اتجهوا فيه إليه ، فدرس لويس شيخو شعراء النصرانية ، ودرس بعض أصحابنا شعراء الدعوة الإسلامية ، ودرس الدكتور عبده بدوي الشعراء السود ، ودرس الدكتوران عبدالحليم حفني ويوسف خليف كل على حدة ، الشعراء الصعاليك ، ودرس آخرون الشعراء اللصوص ، ولا تقل طائفة العميان عن تلك أهمية ، بل ربما زادت عليها ، إذ الصورة التي أصابها عماهم ، موطنُ عبقرية الشعراء. والحق أن للجاحظ رسالة طريفة في البرصان والعرجان والعميان والحولان ، ربما استطرد فيها إلى ما يفيد في ذلك.
    لقد أستطيع أن أقول معتمدا على سابق اطلاعي على شعر الأعشَيْن وبشار والعكوّك والمعري والحبسي العماني والبردوني اليمني ، وعلى شعر بعض زملائي من العميان ، إن هذه الطائفة أشد تمسكا بالعمودي ومبالغة في الأخذ به ، على رغم أن التجديد حولهم من قديم وقد اطلعوا عليه ، ولا ريب في أن لعماهم أثرا ؛ إذ يستوفز سمعهم ويتعلق بما ألفه.
    6- ولقد كان من آثار عصبية البردوني الوطنية كثرة استعمال مفردات الثقافة اليمنية ، أحداثاً وشخوصا وعلوما وفنونا متغلغلة في قصائد المجموعة على النحو السالف في آثار العصبية القومية ، نفسه ، فالرسائل متداخلة كما سبق أن ذكرت ، غير أن الأمر هنا أشد وضوحا لشدة حضور الوطن الخاص والأهل ، بالقياس إلى الوطن العام والأمة. وليكف دليلا أن البردوني حينما تحدث عن قصائده في قصيدته ” الصديقات “، قال:
    ” هن أنى ذهبن وجه بلادي جئن عنه وجئن منه اختصارا
    أي أسمائهن أشذى نثيثا أي أوصافهن أشهى ابتكارا
    قد أرى هذه تعزا وتبدو تلك صنعا هاتيك تبدو ذمارا
    تلك تبدو بيحان هاتيك إبا تلك لحجا هذي تلوح ظفارا
    قد أسمي هذا سعادا وأدعو هذه وردة وهذي النوارا
    هن ما شئت من أسام وإني كيفما شئن لي أموت اختيارا “. (ص12 -13)
    إنه يرى في قصائده معالم اليمن ، لأنه يرى في معالم اليمن قصائده ، تخرج القصيدة مبنى كالمبنى أو طريقا كالطريق أو جبلا كالجبل أو مدينة كالمدينة أو فتاة كالفتاة ، عفوا لا قصدا وقصدا لا عفوا لأن غايته اليمن ولأن اليمن غايته ، في نمط فريد من الحلول أو الاتحاد بين الشعر والوطن. ويتصل بذلك عشقه الأمكنة الطبيعية وكرهه الأمكنة الصناعية ، وكأنه يرى الأولى خالصة لليمن والأخرى مشوبة بغيره:
    ” فتموت صنعا وهي توقد فوق نهديها النيون
    ويقال تولم للردى وتصوغ من دمها الصحون “. (ص16)
    7- ولقد كان من آثار سخطه الاشتراكي ، أن أنكر على الفقير قعوده عن حقه ، كما أنكر على الغني بطره ، وأن أنكر على المحكوم استكانته ، كما أنكر على الحاكم طغيانه ، يقول في قصيدته ” زامر الأحجار “:
    “موطني أدعوك من تحت الخناجرْ والى زنديك من موتي أسافرْ
    موطني هل أكشف الغور أما يوجز البرقُ المصابيح السواهر
    يرتقي العهر على العهر إلى آخر المرقى لأن السوق عاهر
    ولأن الشارع الشعبي على زحمة الأهل لغير الأهل شاغر
    هذه الموضات أعراس بلا أي عرس هكذا الموت المعاصر
    أيها الأسواق من ذا ها هنا إنها ملأى ولكن من أحاور
    ذلك الدكان يعطي غير ما عنده هذا بلا حق يناور
    ذاك ماخور بلا واجهة ذاك ذو وجهين ودّيّ ونافر
    كل شيء رائج منتعش هل سوى الإنسان معروض وبائر
    تلك أصوات أناس لا أعي أي حرف أصبح الإسمنت هادر
    يا فتى يا ذلك الآتي إلى غيره يرنو صباح الخير صابر
    سنة تبحث عن بيت سدى أتعب التفتيشَ مسعود وشاكر
    إن هداك البحث عن بيت إلى مقعد في أي مقهى لست خاسر”. (ص137، 140، 142-144)
    صباح الخير شاكر ، وصباح الشر ثائر ، فيا أيها الفتى الوطن الصابر على عهر سوق هذا الزمن ، إن عثرت بموضع لرجليك في أي مكان مبتذل ، فافرح به بيتا عظيم المأوى ، ولا تَشَكَّ خسران الصفقة ؛ فقد رضيت أن يُمنع من الحق أهله ، وأن تُعشي العيونَ أضواءُ الزيف ، وأن يُميَّز بعض الناس من بعض بغير حق ، وأن يصير الرياء دينا ، والإنسان سلعة يطغى على صوته الحي ، صوت المال والجاه الإسمنتي. ­
    وسائل البردوني:
    اتخذ البردوني لرسائله المتداخلة ، ثلاث وسائل متداخلة مثلها ، متفاوتة الأداء هي: السخرية ، والحوار ، والتصوير.
    8- أما السخرية فشرْط الأدب فيما أرى ، لابد من أن يشتمل شاديه على مقدار منها في طبيعته ، فإن منزلته تكون عند منتهى سخريته. وما ذلك إلا لما تتسرب إليه السخرية من مفارقات في الحياة ، هي أعمق ما يطمح الأدب إلى تناوله.
    لقد فُطر البردوني على السخرية ، وأشعلها لديه ضيق حاله وهو المبدع الموهوب ، وسعة حال غيره من المترفين الغُلف – كما قال في مقدمة أعماله الكاملة- ، وهي أول ما اطلع عليه من مفارقات ، ثم زادها اشتعالا غرامه بالاطلاع على تراث الهجاء ، يتعزى به – كما قال – عن الحرمان.
    لقد سخر من قومه مُرّ السخرية ، في قصيدته ” من حماسيات يعرب الغازاتي “، فقال:
    ” نحن أحفاد عنتره.. نحن أولاد حيدره
    كلنا نسل خالد والسيوف المشهره
    يعربيون إنما أمنا اليوم لندره
    أمراء وفوقنا عين ريجنْ مؤمره
    وسكاكيننا على أعين الشعب مخبِره
    نحن للمعتدي يد وعلى الشعب مجزره
    كلنا سادة الرماح* والفتوح المعطره
    كل ثقب لنا به خبرة الديك بالذره
    في الملاهي لنا الأمام* في الحروب المؤخره
    حين صهيون يعتدي يصبح الكل مقبره”. (ص230 – 231)
    * هكذا ، وقد انكسر منه ، ولو قال: (سادة الشرى ، لنا الذرى) مثلا ، لانجبر.
    وسخر من وطنه مر السخرية ، في قصيدته ” ترجمة رملية لأعراس الغبار “، فقال:
    ” أيا التي سميتها بلادي بلاد من يا زيف لا تقل لي
    بلاد من يا عاقرا وأما ويا شظايا تصطلي وتُصْلي
    يا ظبية في عصمة ابن آوى يا ثعلبا تحت قميص مِشْلي
    يا طفلة في أسرها تغني ويا عجوزا في الدجى تفلي
    يا حلوة دودية التشهي يا بهرجا من أشنع التحلي
    همست للقواد هاك صدري وقلت للسكين هاك طفلي
    وللغراب البس فمي وكفي وللجراد اسكن جذور حقلي
    فهل تبقى الآن منك مني شيء سوى لعلّها لعلي “. (ص25 – 26)
    وسخر من علاقة الفقراء بالأغنياء والرعية بالأمراء ، مر السخرية ، في قصيدته ” بنوك وديوك “، فقال:
    ” لنا بطون ولديكم بنوكْ هذي المآسي نصبتكم ملوكْ
    يا ضعفنا تبدو لهم سافرا يا ضعفهم هيهات أن يدركوك
    لكم سجون ولنا عنكم تجادل مثل نقار الديوك
    عنا تلوكون اللغات التي نعني سواها أي همس نلوك
    ظنونكم عنا يقينية يقيننا عنكم كخوف الشكوك
    لنا مناقير حمامية لكم مدى عطشى وجبن سَفوك “. (ص150، 152)
    بل قد سخر من نفسه مر السخرية ، في قصيدته ” لعينيك يا موطني “، فقال:
    ” لأني رضيع بيان وصرفْ أجوع لحرف وأقتات حرفْ
    لأني ولدت بباب النحاة أظل أواصل هرفا بهرف
    أنوء بوجه كأخبار كان بجنبين من حرف جر وظرف
    أعندي لعينيك يا موطني سوى الحرف أعطيه سكبا وغرف “. (ص7)
    فبعد أن سخر من الجعجعة العربية بالقوة والجرأة والنخوة ، والمجعجعون جميعا أسرى الضعف والجبن والذل ، وسخر من الجعجعة اليمنية بالأمن والحماية والرَّغَد ، وما ثم إلا الخوف والأسر والخراب ، وسخر من بطر الأغنياء وضعف الفقراء وطغيان الأمراء واستكانة الرعية – تفكر في نفسه وما يفعله لتغيير الواقع الحزين إلى أفضل منه ، فلم يجد نفسه تجاوز الكلام ، فسخر من صنعته المحدودة مهما حاول سكب الهرف بغرف الحرف.
    ويبدو لي أن من سخريته ، عزوفه عن العشق والغزل والتشبيب والنسيب ، ولسان حاله يقول: أنى لي وأنا السجين الحزين المسكين ، أن أتطلع إلى خواطر الطلقاء السعداء ونزغات المترفين !
    ومن سخريته الوثيقة الصلة بعماه ، إنطاقه الجوامد والمجردات ، بالفلسفة الملائمة ، وكأنه يستأنس بها وهي التي تشاركه دون غيرها ، حله وترحاله ، وصحوه ونومه ، في حين أن الناس مهما جالسوه ، منفضون عنه – لا محالة – في وقت ما.
    إنه متى اقترنت بعماه وحدته ، سلط عقله على ما حوله ، وتلبسه ، ثم جعل يتكلم عنه ، فتجد عندئذ للجبل فلسفة (جبليَّة) ، وللرصيف فلسفة (رصيفيَّة) ، وللجدار فلسفة (جداريَّة) ، ولليل فلسفة (ليليَّة) !
    قال في قصيدته (حوارية الجدران والسجين):
    ” هيا يا جدران الغرفة قولي شيئا خبرا طرفه
    تاريخا منسيا حلما ميعادا ذكرى عن صدفه
    أشعارا سجعا فلسفة بغبار الدهشة ملتفه
    في قلبي ألسنة الدنيا لكن لفمي عنها عفه
    الصمت حوار محتمل والهجس أدل من الزفه
    إطلاق الأحرف حرفتكم اخترت الصمت أنا حرفه
    أو قل ما اخترت ولا اخترتم طبعتنا العادة والألفه
    حسنا ألديك سوى هذا إجهادي من طول الوقفه
    من صف ركامي لا يدري أني أوجاع مصطفه “. (ص103/ 107- 108)
    كأنه في أول كلامه يُدل بقدرته السحرية على إنطاق الجوامد بالفلسفة الملائمة ، فتنطق الجدران بأنها تشتمل على أسئلة الدنيا وتعف عنها معتمدة بلاغة الصمت ، ثم تبدو لها دعواها أعرض مما ينبغي ، فترى الصمت طبيعتها والنطق طبيعة غيرها ، فيستحسن الشاعر السجين بينها منطقها ، فيستزيدها ، فتبوح بتعبها من طول الوقفة ، وبأن إضافة اللبنة إلى اللبنة فيها ، كانت منذ البدء إضافة الوجع إلى الوجع.
    وينبغي لي أن أذكر أنه خطر لي كلام للدكتور إبراهيم السامرائي سمعته منه في مجلس أستاذي أبي فهر محمود شاكر في مبتدأ التسعينيات ، يصف فيه شعر البردوني بالركاكة ، فرغبت هنا في بيان أنه ربما تعمد ذلك عفة منه عن دلالة الجزالة ، وخشية لتهمتها ، وأن ذلك من تمام سخريته التي لن تؤديها له على أقسى ما تكون ، إلا تعابير صحفية أو لهجية دارجة ، فارقا بين هذه اللغة وبين العروض الذي تمسك بعموديه ، لتستمر في كل قصيدة المفارقة التي هي مبعث السخرية ، ثم أقبلت أفتش المجموعة المختارة ذهابا وإيابا ، عن شواهد لتلك الفكرة الخاطرة ، فما وجدت لها شيئا ، إلا أن أتكلف الحديث عن الأسماء اللهجية والأعجمية ، أو الاقتباسات من الأغاني أو العبارات الخاصة اللهجية ، وهو ما لا مغمز فيه ولا مؤاخذة به.
    بل ازداد عجبي من البردوني ، حينما عثرت بقصيدته ” زَوّار الطواشي ” أي زوار الحي الصنعاني القديم ذي الحمام التركي الشهير ، واستبشرت أن تشهد للركاكة شهادة عليا ، لفكرتها التي ينبغي أن تجر الشاعر الساخر إلى الركاكة ، فما شهدَتْ. يقول فيها:
    ” كان يرتاد الطواشي راكبا بغلا وماشي
    تارة يلبس طمرا تارة أزهى التواشي
    كان يخشى من يراه كل راء منه خاش
    لي هنا حام كأهلي وحمى يبغي انتهاشي
    ما لهم يكسون جذعي أعينا تحسو مشاشي
    هل دروا أوطار قلبي من ضموري وانتفاشي
    ألفوا الدهشة مني وأنا طال اندهاشي
    جاوزوا دور التوقي كيف أجتاز انكماشي”. (ص208 – 209)
    وهكذا يستمر فيها بالجزالة لا الركاكة ، غير أن سهولة كلامه وتحدره وتدفقه قريبا من المتلقي ممتزجا به ، يوهم من لم يطلع على حقيقة الجزالة في الكلام العربي ، بركاكته.
    9- أما الحوار فباب البردوني إلى أنس الحرية ، الذي هرب به من وحشة أسر العمى والحزن والوحدة ، باب انفتح له بمفتاح الموروث القليل ، وبمفتاح حب التقرب من الناس ، فلما انتبه إليه أولع به ، حتى هدم الجدران كلها ليدخل إلى قصائده الحوار من كل جهة.
    لقد كان الحوار وما زال لدى غيره ، وسيلة عارضة لبناء القصيدة العمودية ، فصار لديه كالسخرية ، أساس كل قصيدة. وكان وما زال لدى غيره تقليديا ساذجا بقال فلان وتقول فلانة ، فصار لديه عجيبا غريبا خفيا متقنا لا يدرك أحيانا إلا بفضل تفكير ، حتى إنه ليرحم المتلقي عنه فينبهه إليه بالترقيم أو التحديد الصريح ، ولو لم يفعل لكان أوقع وأشد تأثيرا وإعجابا. وكان وما زال لدى غيره حوارا لمن يستطيعه أو كأنه يستطيعه ، فصار لديه حوارا لكل شيء مُدْرَك بأية حاسة من الحواس مادية أو معنوية ، وفيما سبق نماذج صالحة لحواره لنفسه ولغيره من الناس ، وللجدران ، وللريح ولموطنه ، غير أن في قوله في قصيدته ” وردة من دم المتنبي “:
    ” البراكين أمه صار أما للبراكين للإرادات عزما
    كم إلى كم تفنى الجيوش افتداء لقرود يفنون لثما وضما
    ما اسم هذا الغلام يا ابن معاذ إسمه لا من أين هذا المسمى
    إنه أخطر الصعاليك طرا إنه يعشق الخطورات جما “. (ص48 – 49)
    نموذجا ، لمدى خصب الحوار لديه وعظم طاقته فيه واقتداره عليه في القصيدة العمودية ؛ إذ تكثر الأصوات ليختلط في هذا المضيق ، صوت البردوني وصوت المتنبي وصوت راعي المتنبي وصوت صاحب راعي المتنبي.
    10- أما التصوير الذي أصابه عمى البردوني في مقتله ، فصار عنده ممتحنه الذي يجتهد له ويستنفر كل ما تسرب إليه من علم وما وُهب من فن – وكل ذي عاهة جبار – ليصنع منه ما يعلو به على غيره من المبصرين ، فإذا كان التصوير وما زال لدى غيره وسيلة من وسائل بناء القصيدة أو وسيلة الوسائل التي يمكن أن تُترك إلى غيرها ، فقد صار لديه مع السخرية والحوار ، أساس كل قصيدة ، وصار أعظم توفيقه فيه ، حين يجمع بينه وبين السخرية والحوار في وقت واحد معا – وهو الاجتماع الذي يجلو الوسائل الثلاث ويرتفع بها إلى سماء الإبداع – فإذا ما فرق بينه وبينهما ، صار إلى نمط من التشبيه أو الاستعارة أو المجاز ، لا يخلو من طرافة ، غير أنه لا يخلو أيضا من تكلفٍ مقصور.
    أما النمط الموفق فقد سبقت نماذج صالحة له ، وأما النمط الآخر فكما في مثل قوله في قصيدته ” غير كل هذا “:
    ” مثلما تهرم في الصلب الأجنه تأسن الأمطار في جوف الدُّجُنَّه
    يحبل الرعد ويحسو حمله ثم يستمني غبارا وأسنه
    تمطر الأعماق نفطا ودما يحلم الغيث بأرض مطمئنه
    يعشب الرمل رمالا وحصى يستحيل الغيم بيدا مرجحنه
    ينطوي البرق على إيماضه كتغاضي عمة عن طيش كَنَّ
    ينشد الحلم البكارات التي لا يعي النخاس من ذا باعهنه
    تأكل العفة من أثدائها يغتدي القتل على المقتول منه “. (ص179 – 180)
    لقد أراد أن يعبر عن فساد العالم الواقع وطموحه إلى غيره ، فاحتطب بعض الظواهر ، وتكلف لها بعض الصور الطريفة المقصورة العاجزة ، فتمنينا أن لو فعل (غير كل هذا) !
    رحم الله سيدنا عبدالله بن صالح البردوني ، أبا بصير اليمني ، الذي كان نسيج وحده في هذا الزمان العربي الإسلامي المتهرِّئ ، وتجاوز عن سيئاته ، ولم يحرمنا أجره ، ولم يفتنا بعده. آمين !
    الثلاثاء 01 أبريل 2003

  • 433 البردوني واليمن.. وطن يؤلّفه الكلام.. الأستاذ/ هشام علي بن علي

    >  البردوني واليمن.. وطن يؤلّفه الكلام.. الأستاذ/ هشام علي بن علي

    يقول غوته في “الديوان الشرقي” “من يود فهم شاعر ، فليذهب إلى بلاد الشاعر”.
    ولكن كيف يمكننا فهم شاعر، إذا كان هذا الشاعر متوحداً مع بلاده، لاتراه إلاّ منغرساً في طين الأرض متشحاً برائحة حقولها وأوديتها، بل انك لاترى اليمن إلاّ ووجه الشاعر عبدالله البردوني حاضر أمام عينيك، كأن مرآة اليمن لاتحمل سوى وجه البردوني. كيف نفصل بين الشاعر وبلاده، كيف نفك هذا التوحد والاتصال عند شاعر استثنى مثل هذا الفصل حين، جعل عنوان إحدى قصائده: “إلآ أنا وبلادي”..
    هل يمكن أن نخترق هذه الوحدة، وأن نبحث عن الشاعر، الصانع، الكاتب، المؤلف لهذا الوطن، شعراً وكتابة وحلما. الشاعر ينشئ الوجود أو يكتبه إنشاداً، أو أنه يصغي لأصوات الطبيعة ويعيد ترديدها شعراً. أهو الإيحاء الشعري، أم أصوات الجن في وادي عبقر، أم أنها غواية الشعر وسحره، توقظ في النفس حنينا لعنف البدايات والإبداع والتأسيس حينها تختلط الدهشة بالكلام فيسيل الشعر مثل الماء. الشعر تأسيس للوجود بالكلمات الدهشة والتأسيس هماما يجمع الشعر والفلسفة. لهذا طرد أفلاطون الشعراء من جمهوريته؟
    قد يبدو هذا التقديم مفرقاً في البعد عن الموضوع فنحن لا نبحث في قضايا الشعر المطلق، وعلاقات الشعر بالوجود أو الفلسفة أو الكينونة والتاريخ. ولكن تعمدت،اختيار هذا المدخل للولوج إلى العالم الشعري للبردوني، أو لتحقيق مقارنة عامة للبردوني تحرر القراءة، من حصار النقد الذي فرض حدوداً ضيقة لفضائه الشعري، أصبحت يوماً إثر آخر، قيداً يعيقنا عن تحقيق قراءة ديناميكية متحررة من عصا الأعمى، الذي تحول من أفق رحب محتمل إلى كومة ضيقة ضئيلة مضيئة في وسط الظلام، لقد حاصرنا البردوني بقيود الطبيعة، ثم اضفنا قيداً إلى قيد، العمى الأيديولوجي أو العشى السياسي الذي لا يملك سوى رؤية أحادية البعد، حرمتنا من لذة القراءة الشاملة لشعر البردوني، القراءة المتحررة من العمى البصري والعمى الايديولوجي أو السياسي..لقد ضاق البردوني بهذا الحصار المفروض عليه، لم يضق بالعمى الذي قدر له، بل ضاق بمحاصرته والنظر المحدود له كشاعر: أعمى، حتى أنه كان يرفض مقارنته بشعراء عظماء مثل أبي العلاء المعري، يرفض أن يكون العمى اساساً للمقارنة. فالشعر أو الإبداع بشكل عام هو اقتحام المجهول بالرؤيا والتجلي، لا بالرؤية، والإبصار. يولد الشعر في لحظة لقاء تحجب الوجود وانكشافه، في لحظة إشراق وتوهج.
    كان البردوني متصالحاً مع العمى، لم يكن يعاني منه، اعتاد عليه وتعود على العيش يحس بوجود الأشياء ولا يراها لقد سئل ذات يوم: أيهما تختار البصر أم الشعر؟
    سؤال غريب بدون شك، فالبردوني لم يكن مخيراً بين الأمرين لقد اقتحم الشعر حياته كقدر لا يرد، مثلما كان العمى مصيبة داهمته في الصغر، حتى أنه كان يسمع أباه يجمع دائماً بين مصيبتين، عمى ابنه عبدالله ومرض الجمل الوحيد الذي كان يملكه واضطر إلى نحره! ورغم هذه الذكرى المؤلمة، لم يصبح العمى عقدة أو جداراً يصده عن مساره. بل على العكس، لم يعد البردوني يقبل أن يقايض الشعر بالبصر، رغم إيمانه بنعمة البصر.
    “أنا لا أفضل شعري على رؤية البصر، ولكنني قد ألفت العمى، حتى أصبحت أخاف الإبصار، ولا أظن أنني أعاني العمى لأنني أحس التعويض (بالشعر) هذا من جهة، ومن جهة ثانية فإن الحواس ليست قيماً بشرية، فالفأر أقوى حاسة شم من الإنسان، والغراب احد بصراً من الإنسان، لأن الحواس والغرائز مشتركة (بين الإنسان والحيوان) كما أن العاهات مشتركة بين الناس والحيوانات، وربما نتذكر أن عبقرية الرؤية جعلت مني فيلسوفاً، كما أن عاهة الصمم جعلت من بتهوفن فن موسيقياً عظيماً، كما أن عاهة العمى هي التي أنبتت في المعري مئات العيون الداخلية، لأن السماع بالأذان تقليدي، والرؤية بالعيون الجارحة اعتيادي، أما الرؤية بمواطن القلب، ومواهب العقل فهو اجتياز للموروث والمعتاد، فهذا العمى قد أصبح صديقاً، وجعل من الشعر اكثر التصاقاً بنفسي(1).
    والعمى لم يمنح البردوني الحكمة وحدها، لقد أعطاه القدرة على الصبر والتآلف واعتياد الأشياء فمثلما العمى وألفه اصبحت لديه القدرة على التألق مع كثير من الأمور التي يعجز كثير من الناس على اعتيادها. ففي قصيدة “اعتيادات” نكتشف كيف اعتاد الحب واعتاد النسيان.

    لم أكن (شهريار) لكن تمادت
    عشرة صورتك لي (شهرزادا)
    كان حبي لك اعتياداً وإلفا
    وسأنساك إلفةً واعتيادا
    ليس في هذا الاعتياد أي نقصان في درجات الحب، بل أن الحب يكون في منتهى درجاته حين يغدو إلفة واعتياداً. وكذا يكون النسيان اختياراً صعباً وقاسياً، لكن الإرادة القوية تجعله أمراً مألوفاً.
    وهنا ندرك عمق الرفض عند الشاعر عبدالله البردوني فهو لا يرفض لمجرد الرفض، بل أن الرفض يكون خياراً أخيراً بعد أن تنقطع جميع أسباب التآلف والتصالح. وربما نكتشف أهمية هذه الصفة حين نقرأ قصائده السياسية والاجتماعية.
    بل أن هذا الرفض المحمول على جناح الصبر والتأني والتآلف، كان يجعل البردوني في ضيق من التأويل الأيديولوجي والسياسي المتعجل لقصائده، حيث أخذوا يحملونها معاني وإشارات لا تحتملها. وميزة الرفض في شعر البردوني الوضوح والمباشرة فالقصيدة السياسية عنده رسالة واضحة، ولعل هذا ما كان يأخذه عليه كثير من النقاد. إلا أن البردوني لم يكن يبني عالماً شعرياً بالكلمات، بل كان يؤلف وطناً، أراده شعرياً جميلاً، وشاءت قوى الطغيان والهيمنة والصراع وميراث العصور أن يكون قاسياً، منشوراً مشطزا مع ذلك، كان البردوني مسكوناً بالأمل كان يصغي دائماً، رغم الفوضى العارمة والخراب المدمر لطرقات الأمل الذي يقرع باب اليمن!

    وطن يؤلفه الكلام!
    ربما يكون ثمة وهج عبقري أو أنها لحظة إشراق وتجلٍ، كانت كامنة في مخيلة ذلك الفنان الشاب الذي عبَّر في لوحة واحدة، عن تلك الصورة المرآوية التي وحدت اليمن وشاعرها، أصبح وجهه وجه اليمن، وأصبحت صورتها هي صورة الشاعر. فقد رسم في لحظة تداخل مرآوي مدينة صنعاء يفصلها بابها السحري الشهير، باب اليمن، ووجه البردوني الذي يظهر واقفاً خارج الباب، كأنه يحرس وجود المدينة. أو كأنه الوجه الآخر للمدينة داخل المرآة.
    قد تكون هذه اللوحة التشكيلية، قراءة بصرية عميقة لشعر البردوني. فصنعاء تتشكل في قصائده واليمن تولد في كل كلمة من كلمات شعره ليس سوى الشعر ما يهب للوطن هذا ما يصرح به البردوني في قصيدة قصيرة بعنوان “لعينيك يا موطني”.

    لأني رضيع بيان وصرف
    أجوع لحرفٍ، وأقتات حرف
    لأني ولدت بباب النحاة
    أظل أواصل هرفاً بهرف
    أنوء بوجه، كأخبار كان
    بجنبين من حرف جر وظرف

    > > >
    أعندي لعينيك يا موطني
    سوى الحرف أعطيه سكباً وغرف
    أتسألني: كيف اعطيك شعراً
    وأنت تؤمَّل، دوراً وجرف
    افصل للياء وجهاً بهيجاً
    وللميم جيداً، وللنون ظرف
    أصوغ قوامك من كل حسن
    وأكسوك ضوءاً ولوناً وعرف
    يفتتح الشاعر علاقة جديدة بالوطن، أو لنقل إن شعره يصير لحمة هذا الوطن وسداه.. إن التأليف الشعري لا يقتصر على الوصف والتعبير، انه ينشئ إنشاداً؟ ليس كلاماً بل وجهاً وجيداً وجسداً، ثم يكسو هذا الجسد ويضمخه بالعطر والضوء. الكلام يؤلف الوطن ينشئ الشاعر علاقة بين الكلمات والأشياء. في حوار الفرجياس.. يضع افلاطون الكلام مقابل العنف، الفيلسوف مقابل الطاغية هذا هو الشاعر عبدالله البردوني الواقف في وجه حكم الأئمة والحادي لمسار الثورة والتغيير والحرية. إنّ زمن الحرية لا يأتي بزمن معين. الحرية فضاء مفتوح، قلم التاريخ وتؤسسه بل تعيد تشكيله في كل آوان والبردوني الذي يعيد تكوين الوطن كان يعلم علم اليقين أن الرهان الأساس هو رهان الحرية لكي نعيد بناء الوطن والحفاظ على ثورية الثورة، ينبغي أن نكون احراراً هذا هو الصبح المبين، وهذه هي البشارة:
    أفقنا على فجر يوم صبي
    فيا ضحوات المُنى: اطربي
    أتدرين يا شمس ماذا جرى؟
    سلبنا الدجى فجرنا المختبي
    لكن هذا الفجر الذي انتزعناه من فم الدجى ليس نهاية الطريق، انه البداية. وقد بقى البردوني يرقب هذا المولود بعين ناقدة حريصة وتتكرر وقفاته مع الثورة، لا احياءً للمناسبة، بل تأصيلاً لجذوة نار الثورة، واستمرارها. ففي قصيدة تقرير إلى عام 71 “حيث كنا” يكتشف البردوني أن ذلك الفجر ما يزال صبياً، وأن تسعة أعوام من عمر الثورة مرت مثل عام.
    غير أنا وبعد تسع طوال
    حيث كنا كأنما مر عام
    في هذه القصيدة يبين البردوني أن القوى المضادة للثورة، في الداخل والخارج، كانت أقوى من عزائم الثوار، أو أن هؤلاء الذين قاموا بالثورة “قعدوا قبل أن يروا كيف قاموا” لقد اشرنا سابقاً أن الشاعر يدرك أن الحرية ليس لها حدود، ومشكلة ثوار سبتمبر أنهم وقفوا عند حدود اسقاط الحكم الإمامي.
    ليس فعل الثورة وحده ما يؤلف الوطن لقد قلنا إن هذا الوطن يؤلفه الشاعر، يعيد تكوينه حرفاً فحرف. وهنا الكلام لا يعكس الواقع وحسب، بل يعيد تشكيل الوطن، يتقمص محنة الشعب، يحكي للعالم مأساته. ولا يبدو الشاعر واقفاً خارج باب اليمن، يصف ما يجري من بعيد، إنه منغرس في رحم الأرض، متوحد معها.
    نحن هذي الأرض.. فيها نلتظي
    وهي فينا عنفوان واقتتال
    من روابي لحمنا هذي الربى
    من رُبى أعظمنا هذي الجبال
    ولا يكتفي الشاعر بهذا التوحد الجسدي بالأرض، انه يستعيد تجربة التكوين والتغيير والثورة، يفقأ عينيه لكي يرى:
    لكي يستهل الصبح من آخر السُّرى
    يحن إلى الأسنى ويعمى لكي يرى
    يبحث الشاعر عن اليمن، يحمل وطنه معه في الغربة، يعيش تجربة السفر دون وداع ودون شوق إلى الرجوع ألم نقل ان الشاعر لا ينفصل عن وطنه، ليس ثمة مسافة فاصلة بين الأرض والجسد يرحل الشاعر ووطنه معاً:
    حان أن يقلع الجناحان.. طرنا
    حفنة من حصن على صدر قلعه
    مقعدي كان وشوشات بلادي
    وجه أرضي في أدمعي الف شمعه
    ووصلنا.. قطرات مأساة أهلي
    من دم القلب دمعة بعد دمعه
    يرحل البردوني حاملاً حجارة البلاد ووشوشات الأهالي ودموعهم. جناحا الطائرة يحملان وطناً كاملاً اجتمع في ذات الشاعر:
    صرت للموطن المقيم بعيداً
    وطناً راحلاً، أفي الأمر بدعه!؟
    احتسي موطني لظى، يحتسيني
    من فم النار جرعة إثر جرعه
    في هواه العظيم أفني وأفنى
    والعذاب الكبير اكبر متعه
    كل شيء في شعر البردوني مغمور بواقعيته. الكلام هو الوجود والإنشاء. تأليف القصيدة وتأليف الوطن. هذا هو التكوين الشعري ليس ثمة استعارية ولا تشبيه كلمة الوطن هي الوطن ان لفظ “كأن” غير موجود في شعر البردوني فهو يسمي الأشياء، دون أن يراها لا لأنه أعمى ولكن لأن هذا هو الشعر دون لماذا؟ فالوردة تزهر لأنها تزهر هكذا قال هيدجر حسبنا أن ننطق بأشياء الواقع حتى نمسك بها. نعرفها ونتعرف عليها والكلمات ليست صوراً للأشياء، انها جسور للعبور والوصول تحس وجود الأشياء، وليس شرطاً أن تراها أو لنقل انها تراها برؤية القلب، لا رؤية البصر.
    لا غرابة اذاً، ان يبحث صنعاني عن صنعاء. رغم هذه البنايات والأسواق والأصوات والبضائع، لا يجد الشاعر مدينته التي فارقها. لا يحس وجودها، لا يراها!
    هذي العمارات العوالي ضيعن تجوالي.. مجالي
    حولي كأضرحة مزورة بألوان اللآلي
    يلمحنني بنواظر الإسمنت. من خلف التعالي
    هذي العمارات الكبار الخرس ملأى كالخوالي
    أدنو ولا يعرفنني أبكي ولا يسألن:
    مالي وأقول من أين الطريق؟ وهن أغبى من سؤالي.
    هناك شيء ضائع في المدينة لقد فقدت قلبها. أصبحت صنعاء مدينة بلا قلب. انها لا تعرف ابنها العائد ولا تهتم لبكائه. ضاع الحب من المدينة. غابت عنها العلاقات التي تؤلف بين الناس وتجمعهم. أحقاً أن المدينة القديمة لم تتغير، من حيث بيوتها وشوارعها وأسواقها. لكن الذي تغير هو قلب المدينة وجوهرها تغير الناس وتغيرت العادات والعلاقات الدافئة بينهم. لم يكن الشاعر يسأل عن اسماء الشوارع أو عن الطريق اليها، كان يسأل عن تلك الاشياء الخفية التي تحتجب وراء ظاهر العمران. عن هذا الصمت الذي يحسّه رغم ما يزدحم في الشوارع من فوضى، عن هذا الخلاء الذي يراه في البيوت رغم أنها ملأى. يطوف الشاعر في شوارع المدينة بقلب عاشق، يرى كثيرين ولا يرى أحداً!
    هل هذه صنعاء..؟ مضت
    صنعاء سوى كسر بوالي
    خمس من السنوات أحبلت
    وجهها الحر “الأزالي”.

    من أين يا اسمنت امشي؟
    ضاعت الدنيا حيالي
    بيت ابن اختي في (معمر)
    في الفليحي بيت خالي
    أين الطريق إلى (معمر)؟ يا بناتي يا عيالي
    وإلى (الفليحي) يا زحام.. ولا يعي أو يبالي
    بالله يا أماه دليني ورقت لابتهالي
    قالت إلى (النهرين)،
    قدّامي وامضي عن شمالي والى (القزالي)
    ثم استهدي بصومعة قبالي
    من يعرف (النهرين)!.. من أين الطريق إلى (القزالي)
    من ذا هناك؟ مسافر مثلي يعاني مثل حالي
    حشد من العجلات يلهث في السباق وفي التوالي
    وهناك (نصرانية) كحصان (مسعود الهلالي)
    وهناك مرتزق بلا وجه.. على كتفيه (آلي)
    لقد أنكر الشاعر مدينته، رغم معرفته لها بيتاً بيتاً.
    انها ساكنة في الذاكرة لا تبرحها. أهو النسيان؟ لعل المشكلة أنه عاد ولم ينس شيئاً. كأنما التقط لها صورة وحفرها في الذاكرة، لم تكن صورة فوتوغرافية، إنها صورة بابعاد أربعة، البعد الرابع هو الحياة الاجتماعية المليئة بالألفة والحب، لقد كان الجميع عائلة واحدة، وحين عاد إلى المدينة بعد أعوام، كان أهالي صنعاء قد خرجوا منها..ليس هذا وحسب، لقد جاء الغرباء، ودخلت معهم عادات جديدة وغريبة. هل كان البردوني يبحث عن صنعاء المخزونة في الذاكرة، في نوع من الحنين إلى ذلك الماضي والتوق إلى عودته. ليس هذا ما يقصده، إنه يبحث عن روح المدينة، يفتش عن علاقاتها المتمزقة، يعجب لوجود المرتزقة المسلحين في شوارعها، للأجانب الذين لا نعرفهم. لا يعبر الشاعر هنا عن رفض الآخر، لكنه يقلق من وجوده لكثرة ما ارتبط وجود الغرباء بالمؤامرات والدسائس.
    اليوم (صنعاء) وهي متخمة الديار بلا أهالي
    يحتلها السمسار، والغازي، ونصف الرأسمالي
    والسائح المشبوه، والداعي وأصناف الجوالي
    من ذا هنا؟ (صنعاء) مضت واحتلها كل انحلالي.

    إن الشاعر يرفض هذه العلاقات الجديدة التي تتشكل في المدينة، مدينة مليئة بالبشر، لكن بلا أهالي هذه الكلمة أهالي تحيلنا إلى الأهل، إلى القرابات التي تتكون في المدينة، ليس قرابات عائلية بالضرورة، ولكنها قرابات تنشأ بالحب والتآلف والاجتماع. مدينة صنعاء في رأي البردوني ليس مكاناً يجتمع فيه مجموعة من الناس وهم مضطرون لذلك الاجتماع انها مدينة تأسست على عقد اجتماعي اساسه الحب والايلاف والطمأنينة. اذا غاب هذا العقد، تفقد المدينة ركنها المؤسس، تصبح مكاناً قاسياً، جدراناً صماء لا حياة فيها.. ومدينة مثل هذه ينبغي أن تثور على ساكنيها، وتنتفض على غزاتها:
    أمي! أتلقين الغزاة بوجه مضياف مثالي؟
    لم لا تعادين العداء..؟ من لا يعادي لا يوالي.
    ورغم هذا لا يعود الشاعر من حيث أتى. فالبردوني مسكون بالألم وبالأمل.
    من أين أرجع.. أو أمرُّ..؟ هنا سأبحث عن مجالي
    ستجد أيام بلا منفى وتشمس يا نضالي!
    وأحب فجر ما يهل عليك من أدجى الليالي.
    ولكن كيف يمكن للشعر أن يؤلف الوطن، وسط هذا الركام الهائل من الذكريات. هل نتذكر الوطن أم نبنيه؟
    هل يتجه الشاعر نحو الماضي أم نحو المستقبل؟
    ان الماضي ليس بيت الشاعر الذي يحن اليه، ولا هو الجنة الضائعة التي يفتش عنها. لقد لاحظنا في قصيدة “صنعاني يبحث عن صنعاء” أن ذلك البحث هو بحث عن الهوية، الهوية الوطنية بكل امتلاكها التاريخي والحضاري ليست النوستالوجيا ما يحرك الشاعر، ولكن الاستمرار والتواصل، استمرار الهوية التي تجمع وتوحد وتعيد تكوين العلاقة بين الانسان والمكان، وتمنع تحول المدينة إلى غابة من الأسمنت.
    إعادة ترتيب الذاكرة ومقاومة النسيان والبحث عن زمن ضائع أو عالم ضائع، هذه أشكال متقاربة لإعادة التأليف والتكوين..وقد كان الحلم هو صبح الشاعر الذي يتداخل مع الذاكرة..حتى حين يفتح الشاعر كتاب التاريخ، يكون المستقبل هو الباعث والدافع لمراجعة التاريخ وقراءته.

    الشعر والتاريخ:
    يقول أرسطو في “فن الشعر”: إن الشعر اكثر نزوعاً فلسفياً من التاريخ، أي أن الشاعر في رؤيته لأحداث التاريخ ووقائعه أكثر عمقاً من المؤرخ الذي يفرق في علم التاريخ وكتابة حوادثه.
    يستكنه الشاعر ما وراء الحوادث، يعيشها ويعبر عنها بمعاناة ومكابرة، يصبح ضمير أمته ولسان قومه.
    والكلام ليس عن الشاعر على الإطلاق، ولكن عن ذلك الشاعر المتوحد في هموم شعبه وقضايا مجتمعه البردوني ينتمي إلى هذه الجماعة من الشعراء الذين يعيشون التاريخ وتحدياته، ولا يكتفون بالتأمل والوقوف من بعيد. البردوني هو الضمير الجمعي لليمن، حسب وصف الباحث قادري حيدر الذي يرى أن البردوني “عاش حياته بالطول والعرض حاملاً مشعل الحرية مواجهاً لكل أشكال الطغيان والاستبداد والقمع بكل صنوفها وألوانها حتى آخر لحظة في حياته المليئة بصخب الحياة وعنفها.
    عاشها كما لم يعش أحد غيره عاشها ملتحماً بأدق تفاصيل حياة الناس البسطاء، عاش حقائقها ووقائعها كلها، إنه سيرة حياة الوطن وتاريخ شعب، وفي اسمه وكفاحه، شعره وأدبه وفكره يمكننا اختزال تاريخ أمة، إنه التاريخ الحي للوطن.
    يبين الأستاذ قادري شرط العلاقة بين الشاعر والتاريخ، هذا الشرط حين يتحقق، يصبح بالإمكان بعده أن نقول أن الشاعر لا يسجل شهادته للتاريخ أو عن التاريخ، ولكنه يحمل ذلك التاريخ على ظهره، أي أنه يحمل مسؤولية ويعبر عن موقف، يكون الحاضر والمستقبل هما الدافع للتفتيش في أوراق التاريخ وتقليبها، وتكون العبرة والاستفادة من دروس التاريخ هي الهدف.!
    كان سؤال التاريخ ملازماً للبردوني، انه سؤال الوجود والهوية والكينونة.
    وأشعار البردوني التي تمتلئ بأسماء الأماكن والمدن والقرى، تمتلئ ايضاً بذكر الوقائع التاريخية والحوادث والأزمنة. فالبردوني يرسم أطلس البلاد أو جغرافيتها، ويجعل التاريخ بعداً ثالثاً لأحداثيات المكان.. ففي قصيدة (مسافرة بلا مهمة) يظهر وجه البلاد وقد تزيّ بلباس التاريخ، ولا اقول تزين بلباس التاريخ، على نحو ما يقول الفيلسوف هيغل الذي يرى أن الفن هو أعلى أشكال الحياة، لكنه ليس هو الحياة، انه إطار تزييني للتاريخ.
    كسر البردوني الإطار التزييني للتاريخ، رمى زجاج القمرية الملون بحجر، رافضاً تلويناتها ونمنماتها التاريخية، فتح نوافذ شعره لضوء الشمس الساطع حتى يصل إلى أقبية التاريخ وسراديبه المجهولة.
    وحين جاءت ورقة من التاريخ لتسافر في ارض اليمن. رحل الشاعر قبلها ليدلها على خطوط الزمن، التي رسمت ملامحها على الأرض وعلى وجوه الرجال. تبدأ الرحلة مع تلك العروس التي.. امتطت هدهداً وطارت آسيرة، بداية غرائبية للتاريخ، وصورة معكوسة الدلالة. الطيران رمز للحرية، لكن هذه العروس اليمنية تطير لتصبح أسيرة. هذه مأساة اليمن، الداخل والخارج، السد أو المنفى. اجتراح العيش والصبر على المقام أو الهجرة في المنافي. وتمضي القصيدة في سرد للتاريخ يتجاذبه الداخل والخارج. ان تاريخ اليمن لا ينحصر في داخلها، ولكنه يمتد إلى الخارج أو أن الخارج يمتد إلى الداخل.
    ومن تغريبة الأوطان ومنافيها وحتى جحيم الغزو الذي صار رماداً في نجران، قارة، وجعل صحراء اليمن متاهة لجيوش الاسكندر تارة أخرى، وارض الموت والهلاك لجنود الأتراك، وبين هذه المصائر لا ينسى البردوني مصير الشاعر وضاح في قصر أم البنين، حيث مات حلم الشاعر ومات الشاعر بلا ثمن، في صندوق مقفل مليء بالأسرار.
    طاف الشاعر تاريخ اليمن، ملاحقاً تلك الورقة المسافرة من أول قصة الهدهد إلى أخر قصة البلاد التي غيّرت اسماءها وطوال رحلة السرد يبدو الألم سيد الأحاسيس وأميرها.
    حتى أن حكمة البردوني التي قالها في حضرة ابي تمام “إن طريق الراحة التعب”، هذه الحكمة ليست صحيحة، لكثرة ما توالى علينا من تعب، ونخشى أن يصبح هذا التعب اعتيادياً.
    ولئن كان التاريخ غالباً على هذه القصيدة، لكننا نجد البردوني يجاهد للإمساك باللحظة الشعرية، ليس لحظة الابداع وحسب، ولكن لحظة الامساك بالعالم وامتلاك التاريخ. وهذا ما يميز كتابته الشعرية عن كتاباته النثرية. فهذه الكتابات على الرغم من اهميتها، إلا أنها لا تحمل جرأة الشعر وقوة اسئلته انها كتابات مقيدة بتوجيه العقل، على ما فيها من صراحة وشفافية ونقد، وعلى ما تثيره من إزعاج للكثيرين، ممن لا يحبون فتح أعشاش الدبابير التي تملأ تاريخنا. ان البردوني الشاعر، يتحرر من قيود العقل وشروط المنطق، حين يجوس في ظلام الوجود باحثاً في ليل المعنى عن جوهر التاريخ وهذا هو سر الشعرية، حرية حرة كما قال رامبو.
    حرية الكشف والاكتشاف. ربما أن هذه الحرية لا تجعل الشاعر مؤرخاً بالمعنى المعروف، لكنها تجعله يحس احساساً عميقاً باتجاهات التاريخ، تجعله تاريخانياً، اذا أمكن القول.
    لقد بين اوكتافيو باث “أن كل قصيدة هي محاولة للمصالحة بين التاريخ والشعر لصالح الشعر. ذلك أن الشاعر، حتى عندما يندمج في المجتمع الذي يعيش فيه وعندما يشارك في ما يسمى مجرى العصر، ينشد دوماً، التملص من طغيان التاريخ”.
    والذي يظهر من قراءة قصائد البردوني التاريخية، أو بالأحرى التي تجنح لقراءة التاريخ وليس سرده، أن الحلم يفيض على الواقع فالشاعر يقدم قراءة أخرى للتاريخ، ليس القراءة الرسمية التي كتبها المؤرخون وتناولوا فيها سير الحكام واعمالهم. البردوني يقدم سيرة الشعب تاريخ الناس والبلاد. ان اهتمامه بالثقافة الشعبية وألوانها الأدبية هو بحث عن التاريخ الغائب، تاريخ الناس الذين دوّنوا تاريخهم حكمة أو شعراً عامياً أو حكايات. أصغى البردوني لأصوات اولئك العابرين السرّيين في التاريخ اليمني، الذين لم يكونوا صامتين ابداً، وكان خطابهم شفاهياً متداولاً بين الناس، هؤلاء العابرون لم تتضمن خطاباتهم الكتابات التاريخية الرسمية كتابات كاتب الدولة أو كاتب السلطان استعاد البردوني ذلك الخطاب المنغرس في ذاكرة التاريخ، والذي يتداوله الناس إلى اليوم رغم انه لم يحفظ بين دفتي كتاب، بل حفظه الناس في القلوب والسلوك. ولذلك يعود البردوني لمحاورة علي بن زايد باحثاً عن صنعاء الرؤية ووضوح الفكر، عن الحكمة الطالعة من أقواله وعن الشوق إلى رجعة ذلك الحكيم والحنين إلى زمنه، ذلك الزمن الجميل أو الزمن الذي نتخيله جميلاً:
    هل كنتُ في عصر بلا دولة
    فوضاه أرقى من نظام المدى
    كان يؤدي ما عليه بلا
    أمر، ويصبيه تمام الأدا
    ولا يصلي، إنما يبتني
    من قلبه في قلبه المسجدا
    يبدو الشاعر مثالياً في تخيله لذلك الزمن المثالي. كأن الحكمة في نظره لا تأتي في الزمن الصعب. ولذا يظل القلق والتوق إلى المستحيل في تجليه وجماله هاجس الشاعر، حتى وهو يرقب تحقق حلمه وحلم اليمنيين في إعادة وحدة الوطن.
    عن وحدة الشطرين ماذا ، وهل
    أفقت من سكرين، كي اشهدا؟
    أين أنا، نصفي انطوى في الذي
    هنا، ونصفي في الذي زغردا
    وربما أصحو على غير من
    أماتني سكراً، وما عنقدا
    لأنني كنت أُغني، فما
    دريتُ من ذا ناح، من غرَّدا
    ولا من اهتاج، وقال: التقوا
    لكي يقوي الفاسد الأفسدا
    أو من أجاب: اثنان من واحد
    أقوى، ومن ثنَّى الصدى والندى
    من صاح: عرسي وحدتي، من نعى؟
    من قال: كنا قبلها أوحدا؟
    يقال إن للشعر عالماً ضائعاً وراءه، نظام كان متضمنا فيه لا يمكن الوصول اليه حتى عند عبور الأحلام. يأخذ الشاعر هذا العالم المستحيل على عاتقه، يدرك أنه لا يمكن أن يعود من جديد، ومع ذلك يفكر فيه باعتباره مستقبلاً. إن تحقق الأحلام
    يقتطع منها اكتمالها ومثالها، حتى حين عبد اليمانيون القمر، ضاع شيء من نوره وسناه:

    وعن (معبد القمر) استخبرت
    فقيل أضاع السنا من عبد
    وحين يتجسد الحلم أو المثال في شخص حقيقي، يصطفيه الشاعر بصفات تفوق صفات البشر، يجعله متحداً وكل خوارق الطبيعة والأشياء الجميلة فيها:
    كفجأة الغيب تهمي
    وكالبراكين تزحف
    تنثال عيداً، ربيعاً
    تمتد مشتى ومصيف
    نسغا بي كل جذر
    نبضاً إلى كل معزف
    ولكن “مصطفى” يحمل ايضاً صفات بشرية، ولكنها صفات نادرة يصعب الامساك بها في هذا الزمان. انها صفات قادمة من ممالك الحلم، حيث الاشياء والكلمات واحد لا يتجزأ، وللحق لسان مبين لا يقبل المساومة أو التنازل:

    أحرجت من قال: غالي
    ومن يقول: تطرف
    إن التوسط موتٌ
    أقسى، وسموه: ألطف
    لأنهم بالتلهي
    أرض وللزيف أوصف
    وعندك الجبن جبنٌ
    ما فيه أجفى وأظرف
    وعندك العار أزرى وجها، إذا لاح أطرف
    يكسب “مصطفى” صفات خالدة، لا ينكسر ولا يضعف ولا يموت:

    قد يقتلونك، تأتي
    من آخر القتل أعصف
    لأن جذرك أنمى
    لأن مجراك أريف
    لأن موتك أحيا
    من عمر مليون مترف
    يصبح “مصطفى” بما يحمل من صفات، تجمع الكل في واحد، وتسمو فوق الأطماع والشرور، يصبح المهدي المنتظر الذي يحقق العدل ويبلغ المثال:

    يا “مصطفى”. يا كتاباً
    من كل قلب تألف
    ويا زماناً سيأتي
    يمحو الزمان المزيف
    إن قراءة البردوني للتاريخ اليمني تحاول دائماً أن تخلق توازناً بين المؤرخ والشاعر، لكنه رغم ما في شخصيته من واقعية، يظل مفتوناً بالحلم، تواقاً إلى الفجر الآتي، مسكوناً بالأمل.

    خاتمة:
    كتب البردوني في دراسة عن “عمارة اليمني” قائلاً:
    “لعل من المفيد التنويه أن الإجادة وحدها -مهما بلغت- لا تحقق شهرة مترامية. فلابد أن يصدر عن هذه الإجادة الفنية إثارة اجتماعية ومشاغل فكرية ذات خطورة”.
    إن البردوني في حديثه عن عمارة يتحدث عن مشاغله ومشاغل شعره وحياته، كان البردوني يحمل اليمن ويحلم بها في آن.
    كان يعلن حضوره الدائم في كل تاريخها وآمال ابنائها. كانت قصائده تملأ ذاكرتنا وتخترق وجودنا وتشكل وعينا وثقافتنا.
    لقد جعل البردوني الوحدة اليمنية مسألة هوية للإنسان اليمني حين حوّلها من شأن سياسي آني إلى مسألة وجود وامتداد في الزمان وفي المكان. ولهذا الانغراس العميق بالوطن والتاريخ، أصبحت هذه القصيدة “الغزو من الداخل” منشوراً سرياً حمله اليمانيون في منافي الأوطان.

    يمانيون في المنفى
    ومنفيون في اليمن
    جنوبيون في (صنعاء)
    شماليون في (عدن)
    > > >
    يمانيون يا (أروى)
    ويا (سيف بن ذي يزن)
    ولكنا بزعمكما
    بلا يُمن بلا يمن
    بلا ماضٍ بلا آتٍ
    بلا سر بلا علن
    تحولت قضية الوحدة في هذه العقيدة، من هدف سياسي إلى شرط هوية ووجود. لأن هذا الوجه المشطر للإنسان اليمني كان يحمل غربته وعوامل نفيه اينما يتوجه في أرض اليمن وخارجها.
    كشف البردوني بوهج الشاعر وتجلي الشعر هذه الحقيقة. جعلنا نبصر كم نحن مشوهون ومغتربون عن أنفسنا. هذه الرؤية/ الرؤيا كونت الوطن، أعادت تأليفه، وحدتنا شمالاً وجنوباً، يساراً ويميناً، نبهت الأذهان إلى أن التجزئة هي حصان طرواده الذي يتسلل من خلاله الغزاة إلى الداخل.
    قبل الختام، أستعيد ما كتبه الشاعر محمد مهدي الجواهري واصفاً أبا العلاء المعري:

    أحللت فيك من الميزات خالدةً
    حرية الفكر والحرمان والغضبا
    “مجموعةً” قد وجدناهن مفردة
    لدى سواك فما أغنيننا إربا
    لا أظن الأمر يختلف إذا حوّلنا هذين البيتين لتصبحا وصفاً للشاعر عبدالله البردوني، بل لا أظن الشاعر الجواهري يعارض ولو قدر لنا أن نسأله. فالمشترك بين المعري والبردوني ليس العمى، وهو ما يركز عليه كثيرون، ولكن تلك البصيرة التي نورت بنور العقل وحرية التفكير وقوة النضال، سيرة الرجلين وفكرهما.
    ان اجتماع صفات المفكر الحر العقلاني، والمناضل السياسي والفيلسوف الشاعر الذي اقتحم باصرار جمهورية افلاطون، والمثقف -المؤسسة أو المثقف العضوي الذي تفوق على جميع الأحزاب وسما فوق كل الرتب، هذه الصفات مجموعة، تجعلنا ندرك اليوم، كم كنا منشغلين عنه، مقصرين تجاهه، كم كنا أبناء عاقين لا نصغي كغاية لهذا الحكيم الذي حاول أن يقودنا إلى يقين الحق وأنوار الفكر، ربما أننا كنا نصغي لصوته الشعري والغنائي، نترنم ونفرح أو نحزن بتلك الايقاعات المنبعثة من أعماق التاريخ، إلا أننا كنا نرجئ تذكره ونؤجل قراءته بطريقة حوارية. لماذا؟
    هل كنا مطمئنين لحضوره بيننا. أم أنا كنا نخاف اقتحام محاورة هذا العملاق الواقف في مجرى النهر، نخشى أسئلته وألغازه التي تمنع عبورنا اذا عجزنا عن حل تلك الأسئلة.
    (هذا ما كنت أحسه دائماً وأنا أقرأ أسئلة المسابقات الرمضانية التي كان يعدها لصحيفة الثورة في السنوات الأخيرة من حياته!).
    كان البردوني في كتاباته وأشعاره، يحفز فينا فكر الاختلاف، يثير في وجوهنا أسئلة الواقع وتعقيدات الفكر لكننا كنا مستسلمين لراحة البال التي تفرز تنابلة كسالى، لا مثقفين فاعلين في المجتمع. ولعلنا اكتشفنا كم كان البردوني غائباً عن وعينا وفكرنا، بعد أن رحل عنا، وتركنا نعاني حرقة الاسئلة ومشقة الحضور الواعي في العصر.
    ويمثل البردوني ظاهرة فريدة ونوعية في الثقافة اليمنية، أو في الثقافة العربية بشكل عام اذا جاز لنا القول. ليس لأن شعره كان يشق مساراً استثنائىاً ومتميزاً، جمع عمود الشعر العربي القديم وأعمدة الحداثة الشعرية والفلسفية والمجتمعية، ولا لأن لغته الشعرية التي تستعيد جذور العربية دون تعقيد، وتمتلئ ببلاغة الاستعارة ووضوح العبارة، يقرأها كل الناس لأنها جمعت فصاحة القول وشعبية المعاني. فكان ذلك الشاعر الذي يغني للشعب بعمود الشعر، بعد أن جعل الفصحى لساناً يعبر عن قضايا الانسان العادي وليست برجاً للتعالي والتحذلق.
    واللغة وحدها ليست عنوان فرادة البردوني، ثمة مسألة أخرى. لقد استطاع البردوني أن يعوض بالشعر، بالكلام أدواراً عديدة، كانت للأحزاب والمؤسسات والأيديولوجيات. فاليمن عاشت عقوداً من انعدام الاستقرار والفوضى والحروب كانت المؤسسات، رسمية ومدنية، شبه غائبة، وكانت الأحزاب محظورة أو منظورة في الحزب الواحد الحاكم، وكانت الأيديولوجيا تتأرجح بين الحدود القصوى. وفي هذا المناخ المعقد أو الخانق، كان شعر البردوني وفكره قنديل هداية وسفينة نجاة، كان الكلام يعيد النظام لهذه الفوضي، كان الشعر يؤلف الوطن.
    كيف نكرم الشاعر عبدالله البردوني؟
    سؤال أضعه في ختام هذه الورقة، محاولاً أن ادفع هذه الندوة في اتجاه ابعد من الاحتفالية الواسعة أو الأكاديمية الضيقة، سؤال ليس بجديد، فهو يتكرر في كل عام، في ذكرى وفاة الشاعر، تتعدد الأفكار والاقتراحات، وتتدافع الاتهامات بالإهمال والإلغاء ويبوح كل منا بما يتمناه لتخليد ذكرى هذا الشاعر الذي حمل اليمن في قلبه، عبر عنها وامتزج بها وجداناً وشعراً، اصبح شعره قاموس اليمن، ومفتاحاً للدخول إلى بابها الشهير.
    اتمنى أن نخرج من هذه الندوة بتوصيات عملية تتوخى إمكان التطبيق ولا تشطح إلى حدود المستحيل، وهي الحدود الوحيدة التي تليق به.
    أما التكريم الحق فقد ناله البردوني في حياته، ليس تكريماً من سلطة أو حزب أو منظمة، ولكنه تكريم من الشعب.
    لقد عاش البردوني في قلوب الناس، وهو يسكن اليوم في ذاكرتهم أستعيد بهذه المناسبة ما قاله الشاعر الراحل محمد سعيد جرادة، حين دعاني مرة لشرب الشاي في مقهى صغير في شارع جانبي في التواهي، فحين اخبرته بأن هنالك مقاهي أخرى اجمل من هذا المقهى، أجاب باعتزاز يكفي أنه يحمل اسم البردوني.
    انني اشعر انني اشرب الشاي بصحبته في هذا المكان.

    مراجع:
    1) وليد مشوح… الصورة الشعرية عند البردوني ص129
    2) لوحة فنان شاب فازت بجائزة رئيس الجمهوية لإبداع الشباب في العام 1999م، قبل وفاة البردوني ببضعة أشهر.
    3) قادري أحمد حيدر البردوني (المثقف المؤسسة) ساخراً ص60
    4) عبدالله البردوني (عمارة اليمني وأسباب شهرته) مجلة الثقافية يونيو 1997م.

    – وكيل وزارة الثقافة
    – من البحوث المقدمة لمهرجان البردوني بجامعة ذمار

  • 313 يوم انفجارها الغضبان

    رجعة الحكيم بن زائد >  يوم انفجارها الغضبان

    لوس أنجلوس، لوس أنجلوس
    موت يزفه عرس

    حرائق وأعين
    يقبرن وضعاً مندرس

    يجدن لحمهن في
    جلود كل مختلس

    * * *
    لوس أنجلوس كل المدى
    بكل ومضٍ تنجنس

    وادٍ على غمامةٍ
    بحر على تل ملس

    صبيحة كي تنتقي
    شمسين عادت تغتلس

    فجاءةٌ نصت على
    باب القياس لا تقس

    * * *
    زمان وصلٍ عنده
    كل البقاع الأندلس

    ينصب أحضاناً إلى
    قعر الطيوب تنغمس

    وقبلةً فأربعاً
    ترن حتى تنهمس

    * * *
    من ذا ابتدت؟ تكاد من
    عنف الوضوح تلتبس

    لوس أنجلس تشع من
    خلف مرايا (الكنقرس)

    كأنها نبوءة
    تتلو كتاباً منطمس

    * * *
    تحصي ضلوعها: متى
    وأين ضيعت الخمس؟

    تعد كم (ددشي) هنا
    وكم هناك (توفلس)؟

    ما لي ك(روبسبير لا
    جمهور باريس الحمس

    ماذا أرى نظافةً؟
    هنا الذي لا ينكنس

    من أبأسوا واطناً
    يزهون، لا من يبتئس

    لهم محفةٌ تقي
    وأكلب عطشى تعس

    تهر حولهم وفي
    أبراجهن تلتحس

    * * *
    من يا (سبرت).. قال لا
    إلاك والكل خرس

    قالوا: عصى عبدالعصا
    من ثور الطين النجس

    يساط شهراً بعده
    يشريه أقوى مبتخس

    * * *
    لكن لماذا ما ذوى
    ولا انحنى ولا يئس؟

    كيف استطال هل درى
    نخاسه من ينتخس؟

    ما أهون الفلوس في
    شرائه يا: (ميكلس)

    أمن أتاك ثائراً
    كمن أتاك يفتلس

    * * *
    كل الولاة واحدٌ
    (فيكتوريا) أو تحتمس)

    تسقيه سكرة العلى
    غرور شيطان خنس

    من قال لا، قيل إلى..
    كي لا يشم ينتهس

    ويخنق (الديك) الذي
    يستوفز الفجر النعس

    ويبتغي حجب الضحى
    عن رؤية الشعب التعس

    * * *
    من قال غير (أحمدٍ)
    أحصة الأم السدس؟

    وما اتقى رئاسةً
    لأنه لا يرتئس

    * * *
    وحدي أشب غضبتي
    غيري له أن يحترس

    من لا يرى لونيةً
    ورأس مالٍ مفترس

    بول الحمير أبيضٌ
    وهو الخبيث ابن الدنس

    لا الأبيض اسم بيتها
    قالت: بعيداً ينفقس

    لأنه يرعى دماً
    ويبتني دماً يبس
    بلا نهى مدججٌ
    ينوب عن أعلى القسس

    لكل ذا خلعته
    من قرنه حتى الأسس

    له قوىً بعكسها
    تلهو إلى أن تنعكس

    * * *
    خلعت عسكريتي
    خلع الصباح ما لبس

    قالوا: أتت كما أتى
    من غيبه الروح القدس

    من كان أمس خصمها
    غدت تحس ما يحس

    لأن قلبها لها
    بكل قلبٍ يأتنس

    لا فرق إن قادت وإن
    أعطت قيادها السلس

    * * *
    تحن كالمعنى إلى
    شعريةٍ كي تنبجس

    كسحرةٍ تدني ضحىً
    بالياسمين مترس

    * * *
    ماذا ينث جيمها
    وأي لاميها يهس

    وأي سينيها الذي
    يروض المعنى الشرس

    * * *
    ذا يومها صف أمسها
    هل فيه غيب ينحدس؟
    كان يرمد الندى
    يحاصر القلب الهجس

    وكل برقٍ ينتوي
    وكل عصفورٍ ينس

    ألهته شهوة القوى
    عن أن يراه ينتكس

    * * *
    لوس أنجلوس متى محت
    هذا، صحت كي يرتكس

    قالت لرمسها انفلق
    لابن الأساطيل ارتمس

    * * *
    قل أي كبتٍ فجرت؟
    قل أين كان منحبس؟

    جاءت لهيباً يمتطي
    ناراً، وأخرى تقتبس

    كلجةٍ تدس في
    صبر الشطوط ما تدس

    طفولة من حبها
    تحب كسر ما تجس

    * * *
    من جمرها تبرعمت
    أجنت ولما تنغرس

    تعطي وتدني لكي
    يرقى إليها الملتمس

    أغسطس 1992م

  • 314 اليوم.. قبل الأخير

    رجعة الحكيم بن زائد >  اليوم.. قبل الأخير

    كما تبغت البشرى سرى أخضر الخطى
    على منكبي شوقٍ له أعين القطا

    تليه روابٍ من نبوءات بارقٍ
    كما ماج صيف بالخزامى تحوطا

    من العكس حتى العكس يجتاز ذاته
    إلى ذاته الأعلى، يدين التوسطا

    * * *

    يصافي كما يفضي الربيع بسره
    يعادي كما تعيي الحمامات أرقطا

    يغني نثيثاً واحتمالاً مشرداً
    من القلب ينسى أي دقاته امتطى
    * * *

    على شوقه يشوى ليرقى غمائماً
    وينصب للأطيار والنحل مهبطا

    وحيناً يرى عكس الأماني، وتارةً
    كما تعشق الشمطا الغلام المقرطا

    * * *

    وشت ليلة حيرى بدقات قلبه
    إلى البدء واستأنى يروض المخططا

    وقال انتظر يا قلب، أختار مطلعاً
    ألم كتاباً شاخ حتى تفرطا

    وأوغل في مرمى الشتات ململماً
    معيداً إلى أرقامه ما تلقطا

    وخط عليه، سوف أكسر بيضتي
    كما أنضجتني، سوف أطهو التورطا

    على أفصح الضحوات، أغدو وأنثني
    وفي الظلمة الأغشى أضيء التخبطا

    * * *

    فترنو الثواني من شروخ انتظارها
    ترى القرب ما أبداه، لا البعد أقنطا

    هل انهار ذاك الباب يا ريح؟ ربما
    نأى أو نأيتم، لا أرى الآن أشحطا

    وكان (السرى) يتلو مظن انبثاقه
    كتاباً سيحكي عنه أرضى وأسخطا

    * * *

    فقال (السهى): يا (مشتري) هل عرفته؟
    دعوه (خزاعياً) أبوه تنبطا

    وقال الفتى النجام: أسماؤه كما
    تراها، ودع للسرك أعلى وأضبطا

    فتفضيله أدعى إلى قتله به
    فتنشق عنه، ثم تدعوه أحبطا

    وقص كتاباً غامضاً عن ختانه
    وأخبار يوم اعتم حتى تسمطا

    * * *

    ومن أين تستدنيه؟ من بدء بدئه
    إليه،وماذا عنه من يوم أنفطا؟

    عليك تقحم ذلك الشوط مكرهاً
    لكي تمتطيه بعد عامين منشطا

    تسقط معي أخباره يا أخي السهى
    إليه ترفع، فهو ما اعتاد مسقطا

    ولا خاطه كالطين شيء إلى الثرى
    ومن قبله أعيا الثرى والمخيطا

    وما شأنه إن مر يستنبح الحصى
    عليه، ويستعوي الغبار المغلطا

    * * *

    ومن ذلك الساري؟ يلوح ثلاثةً:
    يغني، يجيب الصمت، يهجو المثبطا

    ومن غير باب القصد يأتيه مضحكاً
    أعرني كتاباً، لاجليداً منقطاً

    وهذا الذي ألفته نصف معربٍ
    يريد لساناً، كي ينادي ويلغطا

    * * *

    وأنت لكان واسمها تشحذ المدى
    وعند جواب الشرط تستل مشرطا

    إذا كنت تعنى بالألى أنت بعضهم
    فألف عروبياً فصيحاً مبسطا

    كهذا، وماهذا، متى كان كاتباً؟
    عرفناه أمياً إلى أن تسلطا

    صدقت، فما لاحظته مرةً على
    محيا كتابٍ مسرحياً منمطا

    * * *

    وأما الذي يذكي دم الحرف نبضه
    عليه يلاقي رهط (ياجوج) أرهطا

    ويرتاب ما للذئب لا يرتع الكلا
    ويلقى الظلام الرابط الجأش أربطا!

    يريه جهاز الجلد عشرين ناقراً
    أتدعوه يا تفصيل أقرى وأسوطا!!

    أما قال هذا عنك يا (مشتري)، متى
    رأى لي صوباً من تراثية الخطا!

    * * *

    أمن فجر عهد النفط تغدو مؤرخاً؟
    أراني بذاك العهد أحوى وأحوطا

    سأشتق منذ الآن حبراً وكاغداً
    من النفط يبدو واقعياً ممغنطا

    بمن سوف تستهدي؟ بمنطوق حكمةٍ
    توازن، وزن لا مفرطاً لا مفرطا

    * * *

    أأنت على عراف (ذيبان) منطوٍ؟
    لبست وإياه من المهد مقمطا

    أعنونت فصلاً؟ بت أستل عرقه
    من القحط، كي لا ينجب الآن أقحطا

    * * *

    سأجلوه من ظلي أبيه وأمه
    كصبحٍ شتائيٍ رأى الجو أشبطا

    وأشتف من يوم الختان زواجه
    وكم زار معتماً ولاقى ممشطا

    * * *

    هل استوقف التاريخ مشط وعمةٌ؟
    إلى الأغمض الأقصى تخطى المحنطا

    إلى الجوهر الأخفى توغل مكاشفاً
    أعصر الشظايا فوقها استنعم الوطا؟

    أفي ساحة (القصرين) صلى (ابن حوشبٍ)
    لأن (الجنابي) باسم (مرزا) تقرمطا

    أقال عن (ابن الفضل) بت العرى به
    وأي جوادٍ ليس يحتاج مربطا!!

    وهل بايعوا ذاك اختياراً كما أدعى
    وهذا اشترى العكسين، قل كيف خلطا؟!

    وما سر (فيدل) مثل ما كان ينتمي
    إلى الشعب يأبى أن يذل ويغمطا؟

    وهل قاد تيار الجماهير ثائرٌ
    لهم، لا له يجتاز سهلاً ومئقطا(6)

    وهل (هنت) بيزنطا التي لا يرونها؟
    وكم (ذي القروح) اليوم؟ دع أسفل الغطا

    * * *

    أذاك رسول الفجر؟ ما قال يا سهى؟
    لميمون وعد أن يهنى ويغبطا

    أتصغي؟ دعا (المريخ) هل ذر نجمه
    كما استخبر الأنسام ماذا تأبطا

    أجابت: أرى (المهدي) وإياه واحداً
    و(زرقاء) في عينيه تهواه أشمطا

    أكان العطا يعدو ثلاثة أحرفٍ
    ولاح، فأوحى وجهه سورة العطا

  • 315 تلك التي..

    رجعة الحكيم بن زائد >  تلك التي..

    كل يوم تأتين، ما جئت يوما
    كيف تدنينني وتنأين دوما؟

    وتقولين لي: ضعفت لماذا
    لا الحمى اعتز فيك، لا عز قوما؟

    من رآهم هانوا، وهانوا على من
    حين قالوا علو، أقالوا علوما

    * * *
    لا تخافي، بنار عينيك أقوى
    يوم ضميت (زين) من ضم (توما)؟

    من أدارت على الكباب نبيذاً
    غير من أغرقت رغيفك (زوما)

    أبداً يقتل الرغيف ويحيي
    من أطار (البونق) أو قاد (كوما)

    * * *
    من تراني في غور عينيك هر
    شم أولى هريرةٍ فتموما

    أهي أنت التي، أنا قبل عامٍ
    رجمت بي (طلحامة) (نجد ذوما)؟

    هل تطلقت مرةً، ثم أخرى
    وثلاثاً إن فاض كيس (ابن جوما)؟

    من تزوجت أنت؟ عمات (إنا)
    أخت (كانا) وقنزعاً وشلوما(3)

    لست أنتِ التي، أنا من كلانا
    خلفته أقوامه فتقوما(4)

    قلت لي نلتقي عشية أمسٍ
    مت شوقاً وبت ألقاك نوما

    أي سارٍ كالسحر هوم رأسي
    قيل شاب السهاد وانحل (هوما)

    قلت أين التي زقت باب قلبي؟
    قيل تلهو، تومي إلى غير مومى

    * * *
    وهتفت الصباح: أي خريفٍ
    أمطر الأمس كدت أغليه لوما

    أي حينٍ تفضل اليوم؟ يبدو
    ماطراً مثل أمس آتيك عوما

    ومعاً سوف (ندرج المتن) هيا
    ما ترومينه أفديه روما

    * * *
    ولماذا ما جئت والصحو أصحى
    من تسومين بعت وابتعت سوما

    بعد يومين رن صوتك: عفواً
    جئت وثباً تخيلياً وحوما

    هل حكت أي كرمةٍ عن هزارٍ
    مات في جلوة العناقيد صوما؟

    أي شكل تحب مني، زواقي
    أم أنا إذ أبيع (ورساً) و(دوما)؟

    1992م

  • 316 حلقات.. إلى فصول الحاء

    رجعة الحكيم بن زائد >  حلقات.. إلى فصول الحاء

    أغطوا عورة البنكين
    ومن سلبوهما الجلدين

    من اعتصروا عظامهما
    ولاكوا قشرة القدمين

    أتعرفهم؟ نعم وأنا
    وسل خمساً إلى خمسين

    * * *

    حسوا أخفى قروحهما
    نضاراً، من صحون لجين

    ومن غوريهما طلعوا
    حبالى وارتموا كالحين(1)

    إلى حلق الحمى أغزى
    وأرأى من غراب البين

    أحط من الذباب، وإن
    رقوا سقطوا على الفلسين

    على لمعان جنبيةٍ
    لها نسب إلى (ابن هرين)

    على كنز العجوز، على
    حلاها المقتنى والهين

    لأن القبح داخلهم
    فأحلى ما يرون الشين

    أغطوا عورة فيهم؟
    أليسوا عورة الوضعين؟!

    ومسؤولين موطنهم
    من الشدقين للفرجين

    أترجوهم وهم ألهى
    بهم من ربة النحيين

    * * *

    زمان القحط زعمهم
    لكي يدعى أبا القحطين

    وكي تعتم صلعته
    بقرني ثور ذي القرنين

    فشادوا دولة الأفعى
    ومأمورية السطوين

    ورسمياً بدوا غزواً
    ومن ياجوج ياجوجين

    * * *

    وبالوهمية انتفخوا
    فغاص الطول في العرضين

    تراءوا من كانوا
    وجاؤوا ما دروا من اين

    أجاؤوا أم تحملهم
    على سهوٍ، بساط لين؟

    غدوا أثرى من المبغى
    وهم أولاد (خف حنين)

    وحكاماً لهم، وعلى
    أبٍ يدعى حفيد (رعين)

    * * *

    لأعلى روسهم رأس
    له تاج على الفخذين

    وذيل فوق هامته كلوح
    الغول ذو فرعين

    يولي دار ثروته
    هوىً يبتاعه نصفين

    ومن كعب الغنى يصبو
    إلى الأغنى على الحالين

    ومن حب الغنى غنى
    وقبل البا تهى الغين

    يمد إلى من استعدى
    على دمه فماً ويدين

    * * *

    من استعطى ومن أعطى
    من استغشى به حربين

    من استعدى كما تحكي
    من استجداه مذ يومين

    * * *

    نفى ذا ما أدعى هذا
    وبات يجيش الردين

    لأن النفي تغطية
    تلف الوجه بالرجلين

    * * *

    (مجلي) عنده خبرٌ
    كخفق القلب، نجوى العين

    أصيخوا لحظة، تعروا
    كتيس يقتضي تيسين

    وكي يصغوا شدا أعلى
    “مراكش فين وتونس فين”

    * * *

    إليكم خير تهنية..
    نجا (المهدي) من الموتين

    أشاعوا مات في (الخفجي)
    ب(صبيا) وهو في البحرين

    وكنا هاهنا سمراً
    فأمسى حولنا شبرين

    أمات؟ وأين؟ كيف وما؟
    أتم صياغة الشرقين

    ولا أرسى الذي يرجو
    وجوداً من سنا الفجرين

    لأن هواه ضوئي
    لأن بقلبه قلبين

    وكنا في الذي يحكي
    ويوصي أول الحرفين

    يقوينا على الأقوى
    ويكفيهن ما يلقين

    رثاها (المرتضى) أرقاً
    و(طه) جاد بالبيتين

    وأضنت كل منحدرٍ
    ربى يصفعن بالسفحين

    وصاغ الدمع (ذو يزنٍ)
    قصيداً، عبقر العصرين

    ونادت أم ذي الوادي
    تلوح يداه كالبرقين

    أشم خطاه من فج..
    وفوج ضحاه من فجين

    (عدينة) باسمه اتعزت
    ومن عرقيه رف (عدين)

    فأومى فجأةً نبأ..
    كأول حمرة الشفتين

    رأى (المهدي) بأشتورا
    عليه ومض مهديين

    أذاع الأمس في (دلهي)
    بياناً في (الرباط) اثنين

    فزفت وضعها الخضرا
    من المبكى إلى العرسين

    وماذا؟ والتوى الراوي
    كطيفٍ هارب الجفنين

    * * *

    لماذا (المرتضى استخفى
    قبيل تكشف الخيطين؟

    بأقصى قلبه لهب
    يقاتل دونه الشفتين

    أما (يحيى) به أدرى
    وأخشى من بنات (القين)(2)

    يخفن البيت من فمه
    يرعن الجار بالجارين

    لهن مرتب أعلى..
    وأخفى من دجى القصرين

    * * *

    سألت الصبح عمته
    بكت واستبكت الأختين

    وكاد البيت يطفر من
    كواه يشعل الحيين

    ويذكي (كربلا) أخرى
    على من عسكر الشمرين

    ويرمي ب (الحفا) (البطحا)
    بشم (الحيمة) (النهدين)

    * * *

    أضاف (العون) يبدو لي
    أبوه أتعب الخطرين

    صباح الأمس كاشفني
    أتدري كيف مات (حسين)؟

    دعاه الأمن مشتبهاً
    وأسلمه إلى الكلبين

    * * *

    نعم، جبنا الضحى عنه
    وبحر الليل والشطين

    فأوحى الليل ما أوحى
    وأزجى الصبح برهانين

    وقال الراصد: استوفوا
    بهذا، ثلث مليونين

    لهذا زارني جاري
    وأركبني إلى بابين

    يرائي ذاك يدخلني
    وذا يفضي إلى قبوين

    * * *

    هنا باب الأفندم (خا)
    هنالك نائب الركنين

    أهذا جارنا الأجفى
    هنا يحتل كرسيين

    أصحت تهمة اللسنا
    به وشهادة الأمين

    لهجن، رمى بزوجته
    ليعطي بنته زوجين

    لهذا رأسوه على
    رئيسيه، بلا راسين

    بدون كفاءةٍ، لكن
    بشرطٍ، يحتوي شرطين

    * * *

    رمى عينيه بين فمي
    وبين سكوته شطرين

    تكلم من (حسين) من
    دعاه من أشاع المين؟؟

    سل الكلبين عن ولدي
    وعنك (جهينةً) و(جهين)؟؟

    أتقتله وتمنحني..
    بضم جحيمكم قتلين؟؟

    متى (فندمتمو) كلباً..
    يقود الليل شرطيين؟

    تعشي الكلب إنساناً
    أتستكفي بإنسانين!

    فقال: اكتب لنا قسماً
    بدفن السر في لحدين

    وكانت زوجة الوالي
    ترى السجان من ثقبين

    فنادت: يا فلان أضف
    وللنسوان أن يبكين

    * * *

    كثير منك هذا يا..
    وما أغلى حنان الزين

    أنا فيهم بأمر أبي
    ومنهم يوم نقضي الدين

    شكا في غور لهجتها
    فطيم فاقد الأبوين

    ضحايا كلنا يا.. يا..
    وقال سكوتها أمرين

    ضحايا كلكم، أما
    أنا، فضحية الثديين

    وسلت مديةً حزت
    وألقت خلفها النهدين

    * * *

    فنادق المدلج الحادي
    إلى يائية الحاءين

    يحيي عندم المنهى
    على حشدية البدأين

    يحني الحرب كي تفضي
    إلى حرية الحبين

    1994م

  • 317 مرقسيات النفط اليماني

    رجعة الحكيم بن زائد >  مرقسيات النفط اليماني

    يقال: قبيل ختان (الإمام)
    رأوك عياناً، ورؤيا منام

    وقال الألى: سمعوا شاهدوك
    ب(نيعان) ليلاً، ضحى في (شبام)

    وقال الألى: شاهدوا ما رأوا
    محياك، لكن رووا عن (حذام)

    * * *

    وقيل: أضأت الدجى فاهتدى
    إلى حصن (كحلان) من في (عرام)

    وكنت تفسر غيب المنى
    وتغدو الهوينا، وتسري اقتحام

    * * *

    وكان عليك اصفرار النضار
    بياض الصلاة، اسوداد الغمام

    وودية التين تحت الندى
    وورسية الطفل بعد الفطام

    * * *

    وقيل: بلا أي لونٍ، وقيل:
    له حمرة كاحتراق الظلام

    وذو لثغةٍ ما لغاها صبي
    وشيخوخة غير شيب الأنام

    * * *

    يكر ويعيا فيبدو كمن
    أتى وحده الآن من عهد (سام)

    له من قروح (امرىء القيس) ثوب
    وكوفية من غيوم الشآم)

    بأردانه طيف (سقط اللوى)
    ومن (شعب دمون) عرف (البشام)

    لأهدابه خفق عصفورةٍ
    رأت رازقيا بوادي (رجام)

    * * *

    وأول من كاشفته عجوز
    ب ماذا تبشرنا يا (عصام)؟

    توالي الزيارات ليلاً وما
    تلم بنا الصبح إلا لمام

    تمرقست ضوءاً، ودفئاً لكم
    فهل ذاب تبراً قبيلي همام؟

    * * *

    وقيل: خيالات بؤس هوت ورؤيا
    جراحٍ تريد التئام

    وقيل: يشق التضاريس من
    حشاها، ويعلن بدء القيام

    * * *

    من القعر يرقى عليه لثام
    فينشق نجمين ذاك اللثام

    ويمتد كالجدول الملتوي
    إلى الخلف، وهو يؤم الأمام

    * * *

    على نبض عينيه يحبو المساء
    كحس العذارى ببدء الغرام

    ويطفو على منكبيه كما
    على مرشف الكأس- تطفو المدام

    * * *

    أمن (قاع شرعة) أو مأت أم
    تصاعدت من شرق (غيل السنام)

    أفاجأت (صعفان) بعد العشاء
    وأخبرت (ضوران) قبل (الحيام)

    أأبرقت من (قاع ذي ماجدٍ)
    فدل البريق عليك الأوام

    * * *

    وعنك حكى سفر (خولان) جيماً
    فزادت (ذمار) على الجيم لام

    فأوصى الفقيه اللواتي إلى
    سواقيك يسرين بالاحتشام

    وألا يقطقطن مثل القطا
    وأن يجتنبن احتكاك الزحام

    * * *

    فباح بمن ضاع فانوسه
    بمن خلفت في المغار الحزام

    بمثرٍ سرى راكباً وانثنى
    كليلاً بكفيه ربع الخطام

    بمن عرجت والتوى فارتدت
    جذيعاً رأوه انحنى واستقام

    * * *

    “قفا نبك، أو نحك لا منزل”
    تخيم كل قطامٍ قطام

    ألي خبر كعشايا (القرود)
    أوردي كيوم انقضاء الصيام؟

    بذا بشر الرايح المغتدي
    ومن عاد أفضى إلى من أقام

    * * *

    وأخبر عنك الرداعي(تعزاً)
    فقالت: ب(صنعا) يباع الكلام

    فقال: رأته يريمية
    يزاقي مسافرةً من (مرام)

    وقالت: إذا ارتاع، فيه اختفى
    ثوان، ولاح كحدى الإكام

    وبالأمس جام الأواعي هنا
    هناك سقى الريح مليون جام

    وقال لسرب الرواعي: سلام
    وعنهن رد الغموض السلام

    ولما أتته ابنة (الدودحي (
    حكى ما حكى، فاستهامت، وهام

    وبات يباكي الربى كالتي
    تفتش عن ناهديها الركام

    * * *

    ومن ذا رأى حاملات الجرار
    عليك يفدن كأظمى الحمام

    يجئن خليطاً فلاذي، وذا
    ولا من حلال، ولا من حرام

    * * *

    ويرجعن يهمسن سراً كما
    توشوش بنت الثمان الغلام

    يقلن ويسكتن، يندى السكوت
    كلمع البكا من خلال ابتسام

    * * *

    أمن شهدوا حرضاً) شاهدوك
    فكيف انطفى في العروق الضرام؟

    أأسكرت عشراً، ولما أفقن
    قليلاً شأى المستهل الختام

    * * *

    فمن عام خمسين لا حس عنك
    حوى حس عامين قتل (الإمام)

    بتلك الدياجي دجا شاربي
    فقلن: متى بلغ الإحتلام؟

    وقيل: متى جئت عفواً وأين
    وقيل: أذاعتك (برمنغهام)

    وقيل: رآك الألى نقبوا
    رماد نجوم علاه (الجثام)

    (تمارا) نفت أي نفطٍ، وهل
    تجلت من البدء وجه التمام؟

    سمعت المدام التي ترجمت
    وكنت أود احتضان المدام

    توسمتها ثقبت خامتي
    فقال سكوتي: وهل أنت خام؟

    * * *

    لو أني عقرت لها ناقتي
    حباني (امرؤ القيس) أعلى وسام

    وقال (المراقس) في كل عصرٍ
    ولجت الحمى و(امرؤ القيس) حام

    قل اليوم: خمر وخمر غداً
    ودع للرياح الغضى والثمام

    * * *

    أكنت كما قيل: مني امتطيت
    إلى عام تسعين سبعين عام

    وكيف سبقت (أرمكو) إليك؟
    متى رف قبل البروق (الخزام)

    * * *

    إذا كنت أمس اخترقت النظام
    فهل أحرق اليوم هذا النظام؟

    “إذا نام أسمو سمو الحباب”
    إليه أريه وصال الحمام

    وأني وإن كنت أهمي سناً
    ودفئاً، على الحرق أقوى التهام

    * * *

    رماني إلى حيث أأبى المتاه
    وبيني وبيني أهاج الخصام

    لماذا لغير بيوتي أضأت
    وأطفأت أشواق أهلي الكرام

    أتدري عليهم عقدت الفؤاد
    بيوتاً، قبوراً، شراعاً، خيام

    أجس ضلوعي فذا (خارف)
    وذا (الوهط) هذا (زبيد) و(يام)

    أوهمتهم بي، وما زرتهم
    غداة وصولي، ولا الوهم دام

    أهذا هو الخير، قالوا وقلت
    كما ينفث الغمد عنه الحسام

    * * *

    أيمت داراً برغم الديار؟
    أما قلت لا وفمي في الرغام؟

    وكانت سكاكينهم لا تجف
    وكانت بنادقهم لا تنام

    ولا من يقول: مساء الردى
    ولا من يعزي (هدى) أو (سهام)

    * * *

    كأهلي ستدمغني بالسقوط؟
    وليت الذي يدعون اتهام

    رأوني وخلوا زماني فضعت
    بآبار من في يديه الزمام

    أليس الذي استاقهم مر بي
    ومني احتواني، إليه اغتنام

    ف ماذا تسمي كهذا النظام؟
    لكل أوانٍ وجوه وهام

    أهذا الأوان له أوجه
    وهام، ثوانيه، صخر عقام؟

    ذوي الأمر، من ثلة القادرين..
    أما القادرون خلاف العظام؟

    فأم العناقيد محنية
    وغير الجواني طوال القوام

    * * *

    بني وطني من درى أينا
    أحر انتماءً وأرقى التزام؟

    تنامون، أمسي لمن أمروا
    أغني وأطهو أمير الطعام

    أزف إليه ومنه أرى
    دمي ذهباً في أكف اللئام

    أنحي كؤوساً وأدني كؤوساً
    فأظمى، وأحسو شظايا الحطام

    * * *

    لكلبته كل يومٍ قطيع
    وتقتات ذقن أبيها (اليمام)

    أنا نفط أهلي، لماذا لهم
    دخاني، وضوئي لذاك المقام

    فبراير1992م

  • 318 عراف المغارتين

    رجعة الحكيم بن زائد >  عراف المغارتين

    انتخب من شئت أو لا تنتخب
    ما الذي تعطي،وماذا تكتسب؟

    من جلا من يرتجى حتى أختفى
    والذي لم ينسحب كالمنسحب

    * * *
    صوتك الأرخص من بيض الدبا

    ينتقي أو هى من (البكر) الجرب

    حزم العملات ما أقتلها
    قبل أن يدعونني قالت أجب

    عرفت قبلي سقوطي وأنا
    أدني من ميتةٍ كي أحتلب

    يا التي، بولي على رأس الذي
    منك أدناني ولي بيت سغب

    * * *
    عبثاً تعطي وتستعطي أخاً
    وعلى رأسيكما من ينتهب

    من يسمي (مارباً) بستانه
    ويرى زوجته أم (كرب)

    * * *
    في الزمان الخلو من معناه، لا
    يبغض البغض، ولا الحب يحب

    لا تسلي عادة التلفاز، لا
    يسكر السكر، ولا الطب يطب

    يلبس الخريج أميته..
    كالعجوز الهم، في الطفل يشب

    * * *
    الحصى والشهب سيان، فلا
    هذه تسري، ولاتلك تدب

    البساتين الفيافي واحد
    عنه يستفتي، وفيه يغترب

    الدوالي والسواقي والربى
    مثلما ينهزم الجيش اللجب

    كيف يا عراف أجتاز إلى
    حلم قصدي، صخرة الوضع الكلب؟

    هذه الصخرة أقوى، تدعي
    هاك من أنيابها الناب الذرب

    جئتها من صوتها ما شعرت
    هل يغني فمها.. أو يختطب

    كيف طالت ركباتها رأسها
    صار ذا قرنين، من ذا يقترب؟

    ونفذت الآن من أحنائها
    حاملاً سراً عليه تنتقب

    أقدرتها فلتة أن تشتري
    بالحمى زمراً عليه مستتب

    * * *
    ربما اختلت قليلاً، إنها
    من جدارٍ خربٍ فوق خرب

    هل تسمي رعشها رقصاً؟ أما
    ذاك أحلى في فمي، من تضطرب؟

    أي تلٍ ما نفى نسبتها
    هل تراها ربع سفحٍ منتسب؟

    * * *
    إنها كانت حصاةً من دمٍ
    فنمت ثم نمت، كي تنشعب

    لا أرى فيها انشعاباً، بل ولا
    أي شرخٍ، قل لماذا تصطخب؟

    ليس بالتصويت ينعاها اسمها
    بل على ما فات منها تنتحب

    لا يعي الوضع تداعيه، كما
    لا تقول الريح من أين تهب
    * * *
    كل ما يدعى انتخاباً خدعة
    تضع المسلوب مرقى المستلب

    والتي تدعى ديمقراطية
    باسمها يحمر، يصفر الكذب
    * * *
    خانت الألوان يا (ميمون)، ما
    كنت لونياً، تجاوزت اللعب

    قال (بدا) انظر المبنى وسر
    وأذب عينيك في المعنى أذب

    هل تشاكي عائداً أو آتياً؟
    سوف يجري ما جرى أو ينسكب

    ما الذي ينصب، هل فيه دم؟
    فر من أعواده الماء السرب

    * * *
    قل يشظي قدميه، وإلى
    أنفه من أخمصيه يلتهب

    يحتذي أسفله ذروته
    وعليه منه يدمى ويثب

    لوله رأي لبشرت ارتأى
    قبل أن يفنى عليه ينقلب

    هل سيفنى ويليه عكسه؟
    ربما يمتد أطغى في العقب

    وبذا يزداد طولاً فوق ما
    زاد، يا تطويل من ذا يقتضب؟

    * * *
    فعلى ماذا افترقنا، وعلى
    ما التقينا، أكلانا لم يصب؟

    قل لكي نقوى على حرب العدا
    تنبري منا، علينا نحترب

    كيف تحيا جرأة الحي إذا
    لم يغالب ضارباً، أو منضرب

    * * *
    ما اسم من إخترت، مر الشهر ما
    لاح مختار، ومن ذا ترتقب؟

    من ينحي خلفه ما يشتهي
    غائباً عن كله -فيما- يجب

    فإذا استعصى فيكفي (يحصباً)
    أن يرى في حبله من يحتطب

    من ينادي يا بن (ميسون) انتسب؟
    عم أمي خال (عبدالمطلب)

    من يعي عن رعد (همدان) إلى
    حلق (إرياط) انتحى سيل (العلب)؟

    عد على لوحيك مسحوباً كما
    جئت محمولاً على من تصطحب

    * * *
    هذه دائرة مثل التي..
    هذه الأخرى ترجي تكتئب

    تلك أخوى ويدلي حزنها
    مقلتيه في محياها الترب

    * * *
    قال جوال: رأت ديارها

    يشتري فوجاً، وفوجاً يغتصب
    رد صوت لا تزر دائرةً

    ما الذي يجي، إلى الدار انجذب؟

    عدت منها وجيوبي مصرف

    والتي أهت يدي كم تحتقب

    منحتني داره مثل الذي

    عنده دار لها باب طنب

    اعطها صوتاً فتعي مبلغاً

    بحوالي نصفه تبتاع (إب)

    * * *
    كلما تقوى به لا يشترى

    من يحوك الفهم من ذا يجتلب

    أين سوق الحدس تشري سلةً
    ذات لمحٍ يجتلي ما يحتجب؟

    منتهى ما ينبغي تفعله

    محتوى ما ينبغي إن يجتنب

    هل لها رأي يريها المبتدا

    وإلى أي المناحي تشرئب؟
    * * *

    من يقي (ميمون) من (ميمون)، يا
    (ذي جدن)، يا حصن (صرواح) الأشب

    هان ذب المعتدي والمنتوي
    من يذب الشعب منه من يذب؟

    1993م

  • 319 الحكيم البلدي

    رجعة الحكيم بن زائد >  الحكيم البلدي

    لا من يداويه، ولامن قتل
    لا ذا ولاهذا، دنا أو رحل

    لا للثواني الصفر، فصل يلي
    ولا طيوف من رماد الجذل

    ولا لوقع القتل طعم، ومن
    نجا قليلاً يحتسي ما تفل

    * * *

    عن ثالثٍ ما يأتلي باحثاً
    عن مستحيل سوف يحكي أطل

    وعن غمام للثرى كله
    ما مر بالظمآن، إلا هطل

    وعن أخٍ أقدره، هل له
    أخ يقويه على ما حمل؟

    * * *

    يا سؤل حتى الموت لما غدا
    سؤلاً، أبى، وافى الذي ما سأل

    إلى كتابي عنده وصفة
    أشفى، عليه واصف منتخل

    من ذا دعاني؟ قل أجاب الدعا
    يا سؤل لباك الحكيم الأجل

    هل ذا اسمه؟ سل عنك في بيته
    كيف احتفى إذ جئته واحتفل

    * * *

    كعهده ما تنثني ثلة
    عن ساحه إلا توالت ثلل

    هاتيك ما تبغي؟ وليداً بلا
    موت، تولي، وهو لما يزل

    قالت: وليدي مات في شهره
    وجد زوجي صخرة فوق تل

    * * *

    وهل له خبر بدرء الردى؟
    قالت: تلا يوماً فأحيا الجمل

    سل هذه الألواح عما اختفى؟
    كم دب في التاريخ حتى وصل؟

    الشهب في يسراه كراسة
    والبحر في يمناه إحدى القلل

    * * *

    إن قاس ضغط الليل نحاه عن
    ليلين: ذا يهذي، وهذا سعل

    أصبى إلى الأخفى، وأسرى إلى
    أقصى التناهي، بل إلى لا محل

    * * *

    يصغي بلا سماعةٍ كي يعي
    معنى التشاكي، سر خطف القبل

    شوق الروابي لو سرت أنجماً
    توق الحصى، لو طار مثل (الحجل)

    يجس نبض البرق، حدس الذي
    يأتي، وفحوى ما أجاد الأول
    * * *

    إليك من أم الندى (صعتراً)
    ومثله (يرني) وكأساً عسل

    ومد (إسطرلابه) كالذي
    يتلو كتاباً عله ما نزل

    هاك (الذفيرا) ينبغي طبخها
    بال(هيل) واشرب كل يومٍ أقل

    * * *

    أكلتها نياً وطبخاً، وكم
    قبلي حسا هذا، ومثلي أكل

    في غور عينيك اعتراض على
    عجز المداوي واقتدار العلل

    أكل موتي سريع إلى
    مرماه، والمنشود يحبو المهل

    * * *

    (إن كنت داويت الهوى بالهوى)
    فاسقي الخليلي بعض خل الزجل

    فقه الترجي من حروفٍ فخذ
    عسى بكوراً، وعشياً لعل

    عاقر عصير الثوم بعد العشا
    واستشرح النوم غموض المقل

    لأن رؤيا النوم غيب يلي
    غيباً سواقيه حريق الغلل

    * * *

    وإن أرقت الليل فارجع إلى
    أنت صبياً لا تراه اكتهل

    ينشق نصفين، وثلثين لا
    يدري لماذا انشق أين اتصل

    * * *

    كيف استحال المنحنى زورقاً
    يجتاز بحراً، كان مثوى طلل؟

    ماذا يدوي، طلقة، عاصف
    تنهدت مقبرة من وجل؟

    منذ ذا يشظي دورةً أذأبت
    ساعاتها، فالكل شاة حمل

    * * *

    وكي ترد العين عنك اجتنب
    إهراق بعض الكحل فوق الكحل

    واختر حزاماً من جلود الظبا
    كون حواشيه بلون البصل

    وذر فوق الجمر هذا إذا
    ولى (سهيل) أو تبدى (زحل)

    * * *

    كيف تراك اليوم يا (مرتضى)
    أقوى فماً من ظامئات الأسل

    أريد آتي الدهر من خلفه
    أعيد ذاك المنتهى مستهل

    أغزو ك(ذي القرنين) أرضاً بلا
    أهلٍ، وأحدو أنجماً من حول

    * * *

    قل أي مستشفى شفى واحداً
    وأينا أدرى ب ماذا اشتغل!

    يا سادة الدالات هل خلتمو
    عرفان سر السر، فن الدجل؟

    لو أنكم أجدى وأشفى يداً
    لما أمتطى الوجعى إلينا العجل

    تلك التي تدعونها حقنةً
    مكوى صغير جمره ما اشتعل

    * * *

    لا نحن، لا أنتم كما ينبغي
    فأينا أغبى وأذكى حيل؟

    أما المهارات التي ما أتت
    فندعي حتى يمل الملل

    * * *

    في كل شيءٍ خلل صايح
    من ذاهنا يجتث أصل الخلل؟

    نفخت يا دكتور (صور) المنى
    أججت خفقاً لا انجلى، لا أفل

    * * *

    أمسى وأضحى بيتهم، بيتنا
    أمسى وأمسى، ذاك جد الهزل

    من ذا رأى من أين وافى متى؟؟
    وافى على من حين طال اتكل

    قيل طوى المعتقل المزدري
    ثم انطوى في قلبه المعتقل

    * * *

    هل يشتري (ميمون) عن شعبه
    أذكى؟ أيطهو ثانياً مرتجل؟

    (ميمون) ماذا تنتوي قبل أن
    تختار ذا أو ذاك، قل ما العمل؟

    * * *

    أوغلت بعداً يا (حكيم) التفت
    ألست من هذا القطيع الأشل؟

    ما فيك شيطان، يقولون بي
    قبيل أسبوعين عنك انتقل

    لست الذي أخرجت شيطانه
    لأن شيطاني عوى إذ دخل

    أقول ما بي -ياحكيم-، اقترب
    وقل، فما عند المداوي خجل

    دخلت مستشفى (سبأ) مدةً
    فمت عشقاً بين (هيلا) و(هل)

    هذي شوتني في قميصي، وذي
    بين محياها وقلبي جدل

    وقيل لي: هذي حمينية
    وتلك فصحى من عروض الرمل

    هذي كما قالوا (شيوعية)
    وتلك حزب -وحدها- من أمل

    في قلب تلك (اليمن المدعي
    هذي مرايا (اليمن) المحتمل

    * * *

    إفتح كتاب الحي، قل لي متى
    أراهما في قبضتي؟ لا تسل

    إن كتاب الحب لا يصطفي
    للعشق إلا شاعراً أو بطل

    وأنت من تدعى؟ نبياً بلا
    قومٍ، وإعجازي سقوط الدول

    فإن نفى دعواك فاهمس له
    يبدو نبياً وجهه ما اكتمل

    ودس هذا الرقم في جيبه
    وعد بضعفيه، أشم الفشل

    * * *

    تعال يوم السبت أو بعده
    غداً: ومن يرشو أمير الكسل؟

    صدقت (فرض الفتح) أخرته
    إليك هذا المبلغ المختزل

    صار الغد اليوم، ويبقى غد
    يرجى ويخشى منذ فجر الأزل

    * * *

    إليك هذا، ما تبقى يلي
    ففيك شاهدت الضياء الأدل

    لو قال ممن أنت، قل والدي
    ذو الحصن، أخوالي وعول الجبل

    لو قال ما اسم الأم سل أمها
    بحارة ما نال منها البلل

    * * *

    اطرح هنا خمسين ألفاً وغب
    يومين واحضر كي نرى ما فعل

    ماذا تراه صانعاً؟ ربما
    ألهى (الثريا) بالثرى واعتدل

    * * *

    أتيت في الميعاد، ماذا أرتأى؟
    رأى مكان الرأس عرش (الكفل)

    العالم المقلوب ما خاله
    -كما تبدى اليوم- وحل الوحل

    * * *

    أبديت فيما أنت، قال انتقى
    هذا النبي الخام أين اغتسل؟

    ماذا؟ أيلهو باثنتين، ارتجى
    هما معاً، هل مثل هذا حصل؟

    قل كل بابٍ ضاع مفتاحه
    أتاح للنجار صنع البدل

    ماذا تبوبي، هات ألفين خذ
    نولي عن الرقمين رقماً (دبل)

    * * *

    غداً أو اليوم، ابتهج واحتفل
    بالنصر، والبس جبةً من غزل

    واخرج من الباب الموارى وخذ
    عقداً وفصاً من جحيم القبل

    1993م

  • 320 مناظرة.. في حوامة العيد

    رجعة الحكيم بن زائد >  مناظرة.. في حوامة العيد

    إن كنت العيد، فأين العيد
    اليوم المبتكر الغريد؟

    وصبايا اللحظات الملأى
    كربيعٍ كحله التسهيد

    الشمس الثانية الأصبى
    الليل الجعد بلا تجعيد

    الأفراح العليا اللاتي
    أعطت ثدييها كاس (هبيد)

    * * *

    يا عيد الآن مضت عشر
    شهدتك معاداً غير معيد

    منشقاً عما كنت كما
    ينشق من الأنس التهديد

    منفياً من فلك الذكرى
    من أودية الأحلام شريد

    * * *

    من يفضي عنك، أجئت على
    كتفي وعدٍ أو ظهر وعيد؟

    أصعدت على قرني فلقٍ
    وعلى قدميك سقطت جهيد؟

    ككتاب وافى مطبعةً
    يلج الميلاد فعاد شهيد

    وكحبلى تخرج من فمها
    ويحل عباءتها عربيد

    ك(حسينٍ) ثانٍ يحمله
    رمح أخفى من رمح (يزيد)

    من ينبي عنك أحس يدي
    تجتاح إلى الورد التوريد

    * * *

    أشلاء العام عليك كما
    يقع الرعديد على الرعديد

    الرأس على اللوحين على
    قطع الساقين شظايا الجيد

    وبرغم مآتمك الشتى
    سترى عيداً حسب التقليد

    * * *

    فستحييك الطلقات كما
    عهدت، ويقال رجعت حميد

    وتحس بيوت الشعب كما
    كانت خربى والقصر مشيد

    والنفط لقبرٍ مملكة وعلى أهليه دم وحديد
    * * *

    وتهانينا لجلالتكم
    لفخامتكم والعمر مديد

    ولأمتكم بقيادتكم
    آت إن شاء الله رغيد

    * * *

    وسيبتاع السوق الأثرى
    ويرد خفيف الجيب طريد

    وتعين المطفلة الأخرى
    وتعزي الثكلى أم قعيد

    كان المرحوم يحل إذا
    عظمت أو يستبق التعقيد

    كالبرق يمني ثم يفي
    ويريد ويدري كيف يريد

    وتجر المبكية الأبكى
    والسوق أصم عن التنهيد

    * * *

    ويقول الألف لصاحبه
    أصبحنا لا نسوى التبديد

    انظر سقطت منها مئة
    مرت ما افتقدت أي فقيد

    * * *

    يا سوق (علي عبدالمغني)
    تبدو مثلي، بلى عبد عبيد

    هذا البنك الأمي سله
    هل يدري القصد من التقصيد؟

    حسب التوجيهات الأعلى
    لا فيك ولا فيهن رشيد

    وعلى الأغنى منه يسخو
    لا تعليمات لا تشديد

    غذوا بخزيمة نشأته
    فامتد بليداً فوق بليد

    ومرور النفط به أوحى
    أن يعتبر الإفلاس رصيد

    * * *

    هذا والقصر هناك هنا
    أسواق تبتاع التأييد

    ينوي تحديد السعر غداً
    وله أن يخترق التحديد

    * * *

    فيعز (القات) على الأسعى
    والقوت عن العانين يحيد

    ويسمي اللاغون الأطغى
    والأغنى الميمون الصنديد

    ويسمي القواد الجربا
    والمسلولات أبض الغيد

    * * *

    لا أنت العيد ولا بيد
    إلا خبر وفتات نشيد

    في قلبي أغنية أخرى
    قلها صمتاً إن كنت مجيد

    أحصرت أعرني قافيةً
    فوقي أقفية من قرميد

    من أفردني عن قافلتي؟
    عن سرب ذويك رماك وحيد

    * * *

    من ذا تستهدي؟ ما أشقى
    مردوداً يستهديه رديد

    من ذا يعطيك فتعطيني
    من أستعطيه يريد مزيد

    أرجو قرشاً يعطي كرشاً
    ما دمت ترجي أنت سعيد

    أسعيد يستسقي حجراً
    ويبوح إلى أشباح البيد

    عفواً، هل أنت العيد كما
    وصفوا، أو أنت لذاك حفيد؟!

    أعلى زندي قمرٍ تأتي
    وتعود على صندوق بريد

    أرأيت على النعمى (سبأ)
    وعرفت لماذا بات بديد!!

    ما كان أكيداً ذاك ولا
    تبدو لي أنت الآن أكيد

    * * *

    أحملت عن (الحمدي) خبراً
    وكتاباً عن تأريخ (أشيد)

    أو ما شميت (عصيفرةً)
    وعبرت إلى (شمسان) (زبيد)

    حرب (الصومال) أطفت بها
    عن (مهدي) قالوا عن (عيديد)؟

    خبر (الأفغان)، له خبر
    أخبار (الصرب) لها تأكيد

    * * *

    هل بثت عن (بكرٍ) (صنعا)
    أو أفضت عن (لوركا) (مدريد)

    أأنا صحفي دهري
    أبكل خريفٍ أنت وليد

    لا من خلفي أقبلت إلى
    قدامي، لا حومت بعيد

    اليوم استثنى رحلته
    ورحلت فريداً غير فريد

    فلماذا جئت الأمس فتىً
    واليوم على عكاز (لبيد)

    * * *

    أيشيخ العيد؟ وكيف صبا؟
    إن كان يشيخ فكيف يبيد؟

    كل الأعياد أتت يوماً
    ومضت وأتى عنها التعييد

    والعيد الوطني هل يمضي؟
    يغدو وطناً ويبيت (عقيد)

    ما كان يظل؟ يكون متى
    لاقيت أنا أو أنت جديد

    1992م

  • 321 ثلاثة رؤوس.. على رأس رمح

    رجعة الحكيم بن زائد >  ثلاثة رؤوس.. على رأس رمح

    إليك، بلا أي وعدٍ أهل
    مفاجأة فوق ما أحتمل

    على أي أرمدتي أنثني؟
    وأي صباً باكراً أقتبل؟

    * * *

    وما اعتدت طارقةً كالتي
    تقولني غير ما لم أقل

    تهامسني بالذي يغتلي
    بقلبي، وفي قلبها يعتمل

    * * *

    قميصي من الطل والزعفران
    ومن ركض مستقبل يكتمل

    ومن شوق صبحٍ وعصفورةٍ
    ومن هجس دالية تنهدل

    * * *

    ألا تقرأ اللمس؟ طوف يديك
    كفيف اليدين، عليك انسدل

    فأبدي مذاقك إن كنت شاياً
    وإن كنت من ذهبٍ تنصقل

    * * *

    بودي أموت قليلاً على
    أراجيح هذا الصباح الغزل

    أما قال بستان هذا الشروق
    إليك أنا، شم وارشف وكل!

    لماذا انكسرت كمرعى الخريف
    كطفل قبيل الصبا يكتهل؟

    زعمت اقترابي حناناً عليك
    حنيناً إليك، هوىً يشتعل

    فما لي وراء إليه أعوذ..
    ولي فيك بيت إليه أصل

    سكت لماذا؟ حروف السكوت
    على باب معجزةٍ تقتتل

    هنا اندفعت ربة، قل نأت
    أحتى الربى مثلنا ترتحل؟

    رحلت عروساً إلى (ذي السفال)،
    وكنت لمن أزدري أشتغل

    يصافي -كما قيل- من يصطفي
    ولكن يعادي ككلب ختل

    تقاضيه مدحي أذىً يا هجا
    أتتفله؟ ما لساني بلل

    * * *

    تغربت عشرين فلت يدي
    ومافي يدي أي شيءٍ يفل

    ترملت شهر احتفالي أنا
    رجعت يمضيعتي أحتفل

    * * *

    على رأس رمحٍ محيا التي
    وأجفان ثكلى، ووجه ثكل

    بقلبي سؤال، أبى ينطوي
    إذا طال؟ أرجوك لا تستطل

    أقيل: لماذا ارتأت عمتي
    إلى القبر عن زوجها تنفصل؟

    أما ذا طلاق بلا رجعةٍ
    لو ان الزواج ارعوى ما حبل

    وقيل: ثوت جذع رمانةٍ
    أمالت صباه، وقالت: أمل..

    أعنها تقول بلا حرقةٍ؟
    وكنت إذا ذكرت تختبل؟

    أأنت مذيع تصب الذي
    يبولون ترقى إلى المنسفل؟

    * * *

    تذكرت ما اسمي كما يستفيق
    قتيل على خصمه يندمل

    سل السفح ذا كيف اركبتني
    إلى (ذات لوحين) ظهر (الوعل

    وقلت: دموع الفتى عاهة
    ودمع الفتاة ضحىً ينهمل

    * * *

    ترى تلك بلدتنا ربما
    أتلحظها كالعجوز الثمل؟

    فلا من يحيى ولا من يرد
    ولا مستغل يرى المستغل

    جموعاً يروحون أو يغتدون
    وكل يأوجاعه مستقل

    * * *

    يخافون سلخين فوق الذي..
    ومن يتقي بعد أن ينقتل

    أقطع الرؤوس انتهى؟ ما لهم
    رؤوس عليها سيوف تصل

    نمر ولا من يحيي، ولا
    يرينا بشاشاً، ولو يفتعل

    ننادي؟ وما اسم المنادى؟ أما
    هنا من نحبهم من نجل؟

    نغني، أقلت اعتزلت الغناء؟
    سلى خيره: أينا المعتزل

    أذب جمرة الدمع أدمت حشاك؟
    دعيه بنيرانه يغتسل

    أبيتي هناك؟ هنا بين من
    أبيت الصبا والمنى يضمحل؟

    أما كنت حول كواه رؤىً
    وبين يديه (هزار) زجل؟

    تنقر عن عمتي كل صخرٍ
    وتسأل من أي ثقب تطل؟

    وكان يهر عليك الكلاب
    غلامان من سطح (بيت العجل)

    * * *

    فتغدوا إلى بئرنا تستقي
    تشم التراب الذي تنتعل

    فتخبر أغنامك السارحات:
    هناك تغني وتقفو الإبل

    ب ماذا استدلت عليها خطاك؟
    حنين إليها، بها يستدل

    أتلمح لفتتها من بعيدٍ
    كسانحةٍ لاقت المهتبل

    تكاد لرقتها تحتسى
    ومن منقى نضجها (تأتكل)

    وكيف عرفتن فن الجمال؟
    إليها فتفصيل هذا ممل

    * * *

    تلوحين أخرى، برؤيا الكرى
    لأن الرؤى تدعي، تنتحل

    أجئت كغيري، أغيري أتت
    أراني الكرى طيف ما يشتمل

    أتتلو قميصي؟ ألم الذي
    تماهى اسمه في حروف السجل

    أقشرتني؟خلت هذا، تمس
    بكلتى يديها النطاق الخجل

    وماذا بدا؟ قلت ما ينبغي
    لماذا علينا بنا ننقفل؟

    تقشر معي في الضحى كي نرى
    حقيقتنا كلها، نبتذل

    لو أنا انقشرنا ف ماذا نكون؟
    سوى قشرةٍ ما لها منتشل

    أتذكر لماد استغرنا أباك
    وبيت أبينا بنا ينتضل

    يكر على قتل أمي تفر
    فيعدو كسرحان وادي (حمل)

    ويرمي به صوبها تلتوي
    وتنسل من قبل أن ينفتل

    ومن مدخل السطح أبرقتما
    وصاح أبوك: أفق يا نغل

    وأتبعت صيحته طلقةً
    فأقعى يرى كل شيءٍ وجل

    * * *

    وقال أبوك: على من وهى
    بمعقله طرح ما يعتقل

    سلام على (بنت قحم الخلا)
    أكلتك عنها، ولما تكل

    ولو أذعنت رتعوا عرضنا
    وغنى بنا كل راعٍ قمل

    فمن ذا استحل بهذا الحمى
    دماء الجنيبات كي تستحل

    * * *

    إليها بكسوتها يا غزال
    وليت اللحى كلها تنغزل

    سأحدو إلى أهلها رحلها..
    أجئت تعقدها أن تحل؟

    أمن خلفها خمسة واثنتان
    تلوذ ومافي بنيها وكل

    فأومأت: قم يا أبي: ما الذي
    أقل عليه اللواحي أقل

    بكى عرقاً حارقاً من رجا
    من الدمع نصرته ينخذل

    * * *

    وكنت تطول أخي قامةً
    وتدعوا أبي (مهدوياً) جدل

    ترى (مرهباً) كاذباً خائباً
    يعد انتصاراته، إن فشل

    * * *

    وتندس من تحت إبط الغموض
    إلى أي طيفٍ بها يكتحل

    وكنت بهذا وهذي أشي
    أطيل التفاصيل، أو أختزل

    فتسأل: من زارنا قاصداً
    إليها، على غفلةٍ ينتقل؟

    فأبدي على بيتنا غيرةً
    وتأسى كمعترفٍ يهتبل

    وتهمس لما طغى حسنها
    نما زائرو (بيت عيسى) الخطل

    * * *

    وتسألني: أهي تبكي إذا
    تغنت، وإن أخبرت تنفعل؟

    تغني فتىً وتعيد اسمه
    فأعيا، وكي تشتفي أرتجل

    أكاشفت عندي جموح الطفور
    وميلاً إلى تهمة المعتدل؟

    فأهويتني وقميصي ذراع
    وقلت: بأي صحيحٍ نخل؟!

    وأخبرتني: أن بنت الضحى
    تقد قميص الدجى من قبل

    وقلت: اطعمي سحر قد القميص
    أحب الصبايا التي تمتثل

    فقيل: (جعيد) بأصبي البنات
    يسلي تصابيه نخشى يسل

    فقال (ابن يحيى): دعوا لغوكم
    (جعيد) كقلب الغمام الهطل

    وقالت (لمي): من رآه صبا
    إذا زل يوماً فما يستزل

    * * *

    لعمتها البنت قالوا، فهل
    يداويه مجلى (هنا) أو يعل

    أتنسيه عمتها من رنا
    إلى الغصن شم الربيع الخضل

    وهاتيك أرض ربيعية
    هنا يجتني، هاهنا يستظل

    * * *

    وذات مساءٍ رآها تزف
    إلى بيت من لقبوه (الودل)

    أهذي (نقا) يا مصابيح، يا
    صراصير، يا منحنى، يا سبل؟

    ويبكي ويسري الدجى لا يصيخ
    ولاصحت: يا ديك (بيت العذل)

    أبوك صديق أبي قبلنا
    أسل دمعةً يا صديقي أسل

    * * *

    وقال (صلاح) -ويدعى الحكيم-
    له حالة تحتها يشمعل

    أيذوي كما خلته يا (سلى)
    وأغنامه كل يومٍ تقل

    يخال على سفرٍ حيث لا
    يرى مستعزاً، ولا مستذل

    ولما خلا الحي منك انطفا
    وشاخ وليداً صباي الجذل

    وقالت (ندى) بنت (يسعى) وما
    طوت سبعها إن هوت تنتخل

    وغنوا (جعيد) فتىً يرتوي
    وأين يرى منهلاً ينتهل

    1993م

  • 322 انتحاريون

    رجعة الحكيم بن زائد >  انتحاريون

    لم يبق في الكأس إلا الكأس يا (عمر)
    عزز بأخرى لأن الصحب ما سكروا

    كالأنجم انتظموا عقدين من فرحٍ
    يعمرون المنى، يعلون ما عمروا

    لأنهم فوق ما شادوا وما بلغوا
    وخلف ما أومأ (السعدان) وانتصروا

    على شفاه الندى كالنرجس انفتحوا
    وكالروابي على ريح الشتا كبروا

    من أخمص الوطن الأغلى، إلى فمه
    ينحون، لا غادروا، ألووا بمن غدروا

    * * *
    اللحظة انضاف عقد من حنين غدٍ
    ومن طيوف المحبين الألى غبروا

    كأنهم من قناديل المحال، ومن
    حلم البداية قبل الأعصر انهمروا

    * * *
    على شذاك يحيون الكؤوس بلا
    لمس، إلى أن تقول الحكمة ابتدروا

    على سنا وجهها تطفو عيونهموا
    يخبرن كم دوحةٍ في قلبها انعصروا

    وكم رياض كرومٍ طلن في سعةٍ
    أوموا إليهن بالجرات فاختصروا

    فأصبحت كل حدبا من تهدلها
    خوابياً، تهصر الحاسين تنهصر

    لأن أجنى الدوالي أمهاتهمو
    سادوا، فما أمروا يوماً، ولا أمروا

    ملوك أحنى قلوبٍ ما حكوا: لبست
    مصفرها (يمن) أو حمرها (مضر) (1)

    * * *
    عند اختتام الهزيع الأول ابتدأوا
    يحسون، يستخبر الوراد من صدروا

    وكنت إذ ذاك في ثاني الهزيع، على
    حالين: ذا ينطوي ثانيه ينتشر

    هذا يقول: اعتذر واخرج، وذاك يرى:
    صمم سوى (عمرٍ) يعيا فيعتذر

    ذا سائل: كيف أنت الآن؟ كيف ترى؟
    أحس بعضي ببعضي بات يأتمر

    * * *
    هنا دنا منك (نجم) مبدياً جلداً
    كي لا يرى الشهب فوق الصحب تنكدر

    إليكها، يا يدي تدرين أين فمي
    إليك عنك، تقوم الكأس والوتر

    كي يسكروا ويغيبوا عنك غنهمو
    لكي تمر، ولا يدرون ما نظروا

    * * *
    وقلت عني: أدر للصحب أشربةً
    غير التي اختبرتهم قبل واختبروا

    لا تبق بيضاً ولا حمراً منقشةً
    ولا الجرار اللواتي كنت أدخر

    وقل: وداعاً فمالي عندهن هوىً
    ولا لهن بهذا المنطفي وطر

    * * *
    من زف يا (نجم) هذي الكاعبات لنا
    نحسو فنصحوا، ونظمى حيث ننغمر

    من ذا رأى (عمراً)؟ أغفى بمقعده
    يا (زيد) شاهدت؟ حدق أنت يا (زفر)

    سرى إلى الحجرة الأخرى، أجاب هوىً
    ما اعتاد هذا، ضمير الفعل مستتر

    قل لي متى انفك عنا أي أمسية؟
    الآن أصبحت، ماذا أخبر السحر؟

    * * *
    تعال يا (نجم)، لا تطفوا سجائركم
    في البهو تسأل كأسي: من هو القدر؟

    ما لونه؟ أهو زوج؟ هل له لغة؟
    وكم تشظى ذقوناً باسمه اتزروا؟

    عنها وعنك أجابت: عندنا قدر
    نسقيه يغلي، يسقينا فنستعر

    * * *
    هل ذا أجد كتابٍ صاغه (عمر)؟
    نعم، أيوصي تعلم كيف تنتحر؟

    هل طبق الليلة العنوان؟ تسألني
    بدون أي كتابٍ طبق البشر

    * * *
    عليك يا (نجم) عبء كنت أقربنا
    منه، وأذكى الذين إن نووا قدروا

    ماذا أسر بعيد الكأس؟ قال له:
    من أطول الليل يا قلبي أو السهر؟؟

    من يقرع الباب؟ قل من ذا هناك؟ أجب
    (لميا) إلى البيت قالت: هاتف خطر

    قال (الرضا): من شروخ النوم خلتكما
    عليك يرمي قواماً كاد ينبتر

    أعرته نصف زندي خطوتين، وفي
    مدرج الباب لاقاه فتىً نضر

    * * *
    واراه باب شأى علم النبات، وما
    أومى إلى غرسه، لا باح من نجروا

    هذي طقوس اختطافٍ، مذ أجاب إلى
    هذي الدقيقة، لا عين ولا أثر

    كم مر وقت؟ تولت ساعة وتلت
    أخرى،وماذا يلي، قد تنقضي أخر؟!

    * * *
    يا (نجم) في الغرفة اليمنى مهامسة
    تدنو وتنأى، وما عن همسه خبر

    يخال نبساً أنوثياً تداخله
    هشاشة مثلما يستأنث الذكر

    أحسها صوته يمتد منحنياً
    كآخر اليوم، يعلو وهو ينحدر

    * * *
    هل نقرع الباب؟ نستقي مخارمه
    نريد ندري، ونخشى هتك ما ستروا

    هذا الغموض الذي يومي بغير يدٍ
    يكاد من وجع الكتمان ينفجر

    إلى القناني لكي يروى انتظار غدٍ
    أو ينجلي عالم بالرعب مختمر

    هل تسمعون أنيناً؟ قال (منتصر):
    يفاوض الريح هذي اللية المطر

    أظنه (عمراً) يطوي مواجعه
    السمع يكذب -يا (هزاع)- والبصر

    والخمر أكذب، لو عشرون خابيةً
    يملكن سكراً، لأنسانا اسمنا العشر

    لو جاءها صاحياً شعبان أو رجب
    لقال: خالي جمادي، عمتي صفر (2)

    * * *
    قال السقطري: جدار بيننا، وله
    نصغي كما يشرئب الطائر الحذر

    العزل أدناه منا، لا تغيبه
    عنا الكؤوس، كأنا فيه نحتضر

    وكان (سيلان) طول الوقت منطوياً
    وفجأة قال: ماذا نحن ننتظر

    غداً سنطويه، ننساه ونذكره
    ومن مدى صورتيه، تكثر الصور

    اليوم يصبح أمساً بعد أمسيةٍ
    ما أسأم العمر لو لم تحدث الغير

    * * *
    ماذا إذا مات من ثانيه يا (حسن)؟
    أحصيتهم لا بدا فرد ولانفر(3)

    قبل العصافير يخضل الربيع لمن
    أتى، لمن سوف يأتي يطلع الثمر

    وقال ذو الرأس: كنا زمرة زمناً
    بأمر أي الرياح التمت الزمر؟

    هل التقينا لكي تمتد كثرتنا؟
    أمثالنا قلة شلًى وإن كثروا

    * * *
    يا (نجم) ماذا تبدى؟ خلت زائرةً
    وزائراً، نم عنها السلم العطر

    وأعلن المدخل الغربي أهبته
    والمدلجون على أعتابه انكسروا

    ماذا زقا؟ صوت من؟ قالت شقيقيته:
    أهلوه قبل تنحي صحبه حضروا

    * * *
    وهاكمو خبراً في غير قالبه
    (:ما ألين الموت لو أن الفتى حجر)

    لا حن، لا أنً عند النزع، قل عدم
    يرج منبته من قلعه الشجر

    * * *
    سمعتها تسأل الدكتور، قال لها:
    مات انطفاءً كما يتثاءب القمر

    من مات يا..، لا تقل أخرى سنمنعه
    لا ترتحل، قم، أذبنا فيه يا سفر؟

    سلوا السكاكين غابت في مقاتلهم
    ماتوا وما شعروا، من عنف ما شعروا

    1993م

  • 323 عشرون مهدياً

    رجعة الحكيم بن زائد >  عشرون مهدياً

    باطلاً خلت وجدكم بعض وجدي
    واعتياداً دعوتكم أهل ودي

    ألأني بلا أنا في انفرادي
    كان أنتم وهن إجماع فردي

    أهربوا أهربوا، أخاف عليكم
    ولماذا لا تحتمي؟ ذاك وكدي

    * * *

    هل أغني لكم، وأبكي عليكم؟
    أم أؤدي ما ينبغي أن أؤدي؟

    في انتظاري غرابة، هل أريكم
    عن خلاف الذي أواريه أبدي؟

    * * *

    يا رفاقي برغم علمي بأني
    أغتلي عنكم، وأرمد وحدي

    من حطامي أرقى على الرعب يعيا
    هل أشوي جبينه أم أندي؟

    غير خاشٍ بأي نارٍ سأرمى
    وعلى أي تربةٍ سوف أودي!

    كل نارٍ أحر، بالنضج أسخى
    كل صقعٍ في الأرض أهلي ومهدي

    كل قبر نزلت، أصبى احتضاني
    يا قبوري متى سأبلغ رشدي؟

    * * *

    هاك يا حامل الصواريخ صدري
    عارياً كالرصيف طلق التحدي

    أي شيء تهذي، أصالحت مثلي؟
    ما أنا مثله، ولا أنت ندي

    في يدي غصن وديوان شعرٍ
    في يديك الردى وعنوان لحدي

    * * *

    أنت من دولةٍ على كل ندبٍ
    تلتظي كاحتراق تابوت هندي

    كل حكمٍ له أصول وحد
    وهي قالت: تجاوز الحد حدي

    أي عهد ترعين؟ قالت ومرت:
    قتل من شذ عن يدي عهد عهدي

    * * *

    أنت منها ترمي ب (شيراز) (دلهي)
    كل سنديةٍ بأي ابن سندي

    ترتعي (كندةً) تموراً، ويرعى
    في موانيك شلوه كل كندي

    ولهذا تقد أكتاف أهلي
    فتعشي مشايخي أو تغدي

    وتبث المدى يلوحن حولي
    والزوايا الأخفى يحاولن شدي

    فلتعسكر عليَّ أحجار بيتي
    ولتبولس نومي، سأشدو لسهدي

    * * *

    فانحنى سائلاً: أهذا وحيد
    أم ألوف؟ إن الغرابات تعدي

    غره من رأى له نصف قلبي
    مرقسي الهوى، ونصفاً معدي

    فدعا الترجمان: قل لي فصيحاً
    ألشيء يدعون هذا التصدي؟

    محرق، مورق، يقول سكوتاً:
    قف إلى أين تجتدي غير مجدي؟

    * * *

    من رأني أرديت يوماً قطاةً
    فلماذا يخافني كل مردي؟

    ألأني عجنت في جوف أمي
    بالجراحات، أعشق الموت وردي

    أو لأن الرصاص حين يحني
    بدمي، أهتدي إليَّ، وأهدي

    أو لأني أذب عند عدوي
    مصرعاً كالذي أعاصيه عندي

    أو لأني لا أكره الخصم شخصاً
    بل أعادي فيه صفات التعدي

    أو لأني أصيح: يا شيخ (هنري)
    أكرث الكارثات ما سوف تسدي

    * * *

    أنت أدهى ، تشق بعضي ببعضي
    وعلى مخنقي تشد بزندي

    في مدب النعاس تسري لتطوي
    بين نهدي مخدتي عض خدي

    حين تدنو تخيف صمتي بصوتي
    حين تنأى إليك تقتاد بعدي

    واجداً في ديارك الأمن مني
    في دياري تغشى أفاعيك جلدي

    * * *

    فلماذا عني إليك ارتحالي؟
    ولماذا إليك مني مردي؟

    كيف تخفى هناك عني وتبدو
    لي هنا، حيث أنتخي وأفدي؟
    * * *

    وبرغمي تبيت جاري وترمي
    بجراد الفلا بساتين جدي

    ألأن الألى أحبوا قصيدي
    قعديون لا يحبون قصدي

    أم لأن الذي يسمى نظامي
    سيفك المنتضى عليَّ وغمدي؟

    * * *

    حالة تلك، لا تطيق بقاءً
    لا ذهاباً، لكن تجيد التردي

    فاذا ما سألتها: وإلى كم
    اءلت، من ترى تسد مسدي؟

    هل تسدين يا ابنة القحط شيئاً؟
    والمنى في انتظار عشرين مهدي

    كيف قبلي تحيا انتظاري وأخشى
    شهوة الانتظار تجفوك بعدي

    1992م

  • 324 مقتل فصة

    رجعة الحكيم بن زائد >  مقتل فصة

    أأنفث من عتمة الغور قصة
    وكيف وفي الحلق عشرون غصة؟

    وبي (عدن) تجلس القرفصا
    و(صنعا) على ساقها مقرفصة

    * * *

    أريد أنادي ويعلو الصدى
    يعيد من المبتدا قتل (فصة)

    وكانت لموطنها موطناً
    تفدي الذي حوله شد حرصة

    * * *

    على ذكرها خلت أختاً لها
    ب(شيراز) لاقيت أخرى ب (قفصة)

    ويوماً تسمعتها إذ دعت
    مصيفة طفلها وسط (بحصة)

    ويوماً قرأت ب(موسكو) يداً
    كإحدى يديها حنوناً ورخصة

    * * *

    أأخبرها: أنكروا قتلها
    أعان (اليرابيع) أولاد (قنصة)

    وقالوا: وشت بافتراس الوحوش
    ظفيرتها ونثير المخصة(1)

    وقالوا: لأخبارها باطن
    وإلا فأين اختفى شيخ (ورصة)؟

    * * *

    أأبكي، أقوم خطيباً، وأين
    بقلبي عليه، ومني المنصة

    بكاء الفتى عورة، هل هنا
    مكن يواري؟ ولا مثل (فحصة)(2)

    لأن الزحام يكظ جمالاً
    بسلمى، يلف (سعيداً) ب (حفصة)

    * * *

    جموع كفردٍ يغم الضحى
    يلون فوق الجراحات قمصة

    يمرون، لا أي فردٍٍ يحس
    بثانٍ، ولايعرف الشخص شخصة

    عيون مبعثرة في الظهور
    كذكرى بصيصٍ كترميد بصة

    كزغب الحمام الظوامي على
    سواقٍ من الزغب أظمى لمصة

    * * *

    أتصبي يداً قرصة ذات شوقٍ؟
    وفي أي ثوب مكان لقرصة؟

    يضاهون مقتلةً لا ترى
    عدواً وتنساق كالمستقصة

    * * *

    أهذا الوجود على رحبه
    لكلٍ، ومالي أنا فيه حصة

    تئن الحصى والشظايا وما
    لشعب بقلبي إلى النطق فرصة

    * * *

    وحولي الرماد يغني الدخان
    ويدعو صهيل السراويل رقصة

    و(بق بن) تموسق أنيابها
    هنا دار كل ختولٍ ولصة

    لتمزيق أنقى صلات الشعوب
    تزوج كل مقص مقصة

    على نونها ترتخي أنة
    وتضفي على آخر الصد وصة

    * * *

    تشظي حنايا ديار (الحسين)
    خلايا (الملاوي) كأخبار برصة

    ك(باريس) تخفي خراب النفوس
    وتبدي شوارعها ذات رصة

    يحس ادعاء الكمال الكمال
    أكيداً ولايدرك النقص نقصة

    * * *

    لذا يبتغي (بوش) أن لا تدور
    على العالم الشمس إلا برخصة

    أكل المباني له والعراص؟
    أما للتصدي حصاة بعرصة؟

    أمات غريباً حنين التراب؟
    أتحت ضلوع الربى أي مغصة؟

    * * *

    لهذه المآسي خصوصية
    وما للأسى أعين مستخصة

    فأي مكان هنا أو هناك
    وليس عليه ألوف ك (فصة)

  • 325 محشر المقتضين

    رجعة الحكيم بن زائد >  محشر المقتضين

    ماتوا كما قيل أزماناً فأرمانا
    من ذا حدا يا ليالي ركب (غمدانا)

    وقال: شع (معين) وانجلى (سبأ)
    (ريدان) ألقى عليه الفجر أردانا

    أطل يعتم قرناً نصفه جمل
    ونصفه مرتع ما راع غزلانا

    يصبو ويصبي إليه كل خرعبةٍ
    يقيم بين الهوى والحسن ميزانا

    ويمنح العشق قلباً ثالثاً ليفي
    إن ذا على ذاك وارى السر أوهانا

    * * *

    قال امتطى (ذو رعينٍ) عاصفاً لبقاً
    وطار يدني من (السعدين) (كيوانا)

    وعاد يغزل وعد الرعد أوديةً
    كما يدلي رماد البرق مرجانا

    وعنه يحكي بأن (الدلو) طالعه
    فيلبس الدار يوم السبت قمصانا

    وقال (غمدان): من أقصى القرون أتى
    تهدي مسارجه (برما) و(هرانا)

    يذوي إذا جف بستان ومحبرة
    يبكي على غصن بانٍ، فارق البانا

    وإن رأى كرمة شاكته ظامئةً
    أحسه -لو يعب النيل- ظمآنا

    يخاف تربو على المرعى زرائبه
    وما ربت أمهات السحب أمزانا

    إيهٍ،وماذا؟ سجا الرواي وهاج كما
    تناوحت طلقة في سمع سكرانا

    * * *

    أبلى الجدود البلى يا أنت؟ بل رجعوا
    فوضى، كما تلمح الأغنام ذؤبانا

    من غير العالم الثاني؟ أتاح لهم
    إجازة يلتقون الصبح صبيانا

    * * *

    وقيل: كانوا هنا يرمون ملبسهم
    طيفاً، ويغشون غاباً كان شيطانا

    وقيل: كانوا بني بيتٍ تجاذبه
    أهلان، فانشق أعداء وإخوانا

    قال ابن جعدان: حامت فوق أقبرهم
    عمائهم كالقطا أمطرن ألبانا

    فأسرعوا ينظرون الأرض: كيف زهت
    كيف ارتقى حنضل الأغوال رمانا!!

    * * *

    وقيل يبدون أطفالاً بدون أبق
    وقيل: يدعون من أحفاد غسانا

    مروا فما قال (سوق الملح) من عبروا
    لا (الشيخ عثمان) يوم المحشر أزدانا

    فغردوا هم لهم، أمسوا فماً وصدىً
    ورنةً هيجت تسعين رنانا

    فكل ثانيةٍ زغرودتان، يلي
    شدو، كما هازج الفنان فنانا

    * * *

    فصاح كل طريق: من يخبئني
    من الرفات اللواتي عدن أبدانا

    (لو كنت من مازنٍ) لم ينتعل وجعي
    بنو المقابر من أجداد (عطانا)

    أسكت، لكل فتىً من خطوه طرق
    ألا تراهم يرون البحر فنجانا؟

    كانوا جدود جدودٍ، أصبحوا وطناً
    كانوا له منذ كان الحب أوطانا

    جاؤوا البيوت التي، منها أتوا ومضوا
    شوقاً إليها، وعادوا اليوم تحنانا

    * * *

    يستنسبون بلاداً لا يبش بها
    وجه، ولا أي جذرٍ قام جذلانا

    لأن بيتهم المعهود مذلبسوا
    عنه البلى، بات أبياتاً وجيرانا

    يا حميريون يستغشون كاظمةً
    يا مكرميات يستغشين (ضورانا)

    * * *

    لأي موتين جئنا، ذاك أطلقنا
    منا، وهذا إلينا انشد سجانا

    من بيت موتى أتينا فارهين، هنا
    نأتي من السجن مشلولين عميانا

    * * *

    قال أبن جعدان: صارت جرن (مقولةٍ)
    صنعا)، فأين يرى (شمسان) شمسانا؟

    فما يلاقي (معيناً) من بنيه فتىً
    ولا يلبي بنو (كهلان)، كهلانا

    ينابذ الأهل أهليهم بموطنهم
    هل أصبح اليمن الميمون، أيمانا؟

    تأبى السعيدة يا صنعاء أن ترثي
    بكراً، فتدعى (تعز) العز ذبيانا
    * * *

    يا ذلك الربع كنت الأمس منبتنا
    نهوى، وأنت بما نختار أعنانا

    أخشاب سقفك من أغراسنا، أوما
    يذكرن إذ كن أعشاشاً وأفنانا؟

    أيام كن يلاقين الأحن هوىً
    دعجاً يرقصن أردافاً وأحضانا

    * * *

    أما تنث الزوايا عن مسامرنا
    رؤىً يحلن قناديلاً وديوانا

    مؤقتاً عنك غبنا ذارئين صباً
    هل خلته جاوز الإيناع أودانى

    * * *

    هذي السهول، أما نمت سنابلها
    عنا، وقصت أساطيراً وألحانا!

    هنا رعت (زبنة) مليون ثاغيةٍ
    وما نرى إبلاً ترعى ولا ضانا

    هذا الحمى تؤنس الأحزان وحشته
    وكالورى تنجب الأحزان أحزانا

    * * *

    يا أهلنا نجتديكم نصف ثروتنا
    ندني بها (مالكاً) منا و(رضوانا)

    هاتوا أسانيدكم أنساب أولكم
    إليكمو نحن أنساباً وبرهانا

    تدرون من ورثوا (سعداً) و(حلزةً)
    و(يثعمر) و(شرحبيل بن عفانا)

    * * *

    هذي أسامي علاجات معلبةٍ
    متى وصلتم هنا من سوق (تيوانا)؟

    هاتوا الجوازات، جرن الواديين إلى
    (همدان زيدٍ)، إلى (همدان همدانا)

    * * *

    فقال (عمرو بن معدٍ): هل لنا لغة
    أخرى تزلزل في (عيبان) عيبانا؟

    من ذا بأشباحنا العزلى رمى وطناً
    يحتث كل ذراعٍ فيه بركانا؟

    إستن محشرنا -ياغر- (صعصة)
    كي نقتضي الدين، أو نوليه ديانا

    ما قال (ذو الراس) نغزوا من نمر به
    لكن نغازي الداءً وأقرانا

    * * *

    لو شم عشرون قرناً بدء نضجكمو
    ما ثناكم إلى الأرحام فتيانا

    لو أمكم أكلتكم يوم مولدكم
    وأبقت (الديك) كان اليوم سلطانا

    * * *

    قال ابن جعدان: لو أرجعت عهد أبي
    لضاع (جعدان) فيه وابن جعدانا

    يا من تنادون، ما يبكي عليه مضى
    ما سوف نبي عليه قبل يلقانا

    من يا رواعي رأت منكن (عبهلةً)
    أمن هنا مر (صوحان) بن كيسانا؟

    أما هناك ممر، هل أجاب؟ هنا
    لاقى السؤال مكاناً قل: وإمكانا

    لعلكم بعض أهل الكهف، قيل كذا
    وقيل إنا بنو (أخدود نجرانا)

    وكيف ما استرخت الألواح خلفكمو
    ولا ضربتم على الأقدام أذقانا

    لأننا ما جبلنا حجم قامتنا
    ولا اقترحنا على اللوان ألوانا

    لذا اشبتم قذال الموت كي تثبوا
    كنا رماد ربيعٍ عاد نيرانا

    * * *

    راعتك يا (عمرو)، من (قس بن ساعدةٍ)
    أهدى وأخطب من عشرين (سحبانا)

    فقال (همدان): مهلاً لا الرجال كما
    كانوا رجالاً، ولا النسوان نسوانا

    أعادني لاعباً صبا، صبا امرأةٍ
    تبكي، أما خلق الإنسان حنانا؟

    * * *

    ما اسم (الصمحمح) هذي، هل أقول (شذى)؟
    ويا (خدلج) من تدعين (أشجانا)؟

    (شذى) و(أشجان) معنى صار تسميةً
    في سن (أشجان) ماتت بنت زبانا
    وغص فابتدر الحادي ليقلعه
    من دمعه، فبكى صمتاً وكتمانا

    وغمغمت مقلتاها: آه يا أبتي
    من ذا يلاقي على الأشواق أعوانا؟

    * * *

    أين الثلاث اللواتي كن سربكما؟
    هربن خيلنكم (سعداً) و(سلمانا)

    يبدو تزوجن، طلقن الثلاث معاً
    خليفة، وامبراطوراً، وخاقانا

    سبحان من أفقر الأغنى، وعلقنا
    بين ابن (حادي الفيافي)، وابن (كنعانا)

    * * *

    من ذا تريدون نرتاد المعاد على
    بنات نعشٍ) إلى (حي بن يقظانا)

    يجيب عما سألناه، ونسأله
    أكل منفى يحيل الشك إيمانا؟

    هل يذكر الظبيات المرضعات، وهل
    من مرضعات صباه أم ظبيانا؟؟

    هل أصل تسمية الماضين معرفة
    أقال (سسان) من سماه ساسانا؟

    وأين شاهد (درمان) ارتبى وزكاً
    لكي ترى من أبوها (أم درمانا)

    قالت (شذى): لو (أبو درمان) كنيتها
    قالوا: لسن (عمان) صرف (عمانا)

    فذاك أحوط للإعراب قاعدةً
    وقيل أنجى لأقصانا وأدنانا

    قالت: وهل عصم الحاءآن أي دمٍ
    من حب (عشتار) حتى حرب (لبنانا)

    * * *

    (أشجان)، قالت: هنا حطوا حمائلكم
    ينسي الأصيل دجاه، صبح لقيانا

    إليكمو ما احتلبنا اليوم وأنتخبوا
    عشاءكم سبعةً سخلاً وخرفانا

    * * *

    (شذى)، متى روح الرعيان؟ لا أحد
    نادى الرواح، لأن الركب ألهانا

    هذي صديقاتنا الأغنام جئن
    على شميمنا دون راعٍ، هن أرعانا

    يردن يخلطن كلتينا كوالدةٍ
    وكل واحدةٍ أحنى كإحدانا

    نادي الرواح، وسوقيهن راوحةً
    وأنبري أجمع الأشتات قطعانا

    * * *

    قال (ابن بدا): لماذا جادتا؟ عجباً
    لو زادتانا إلى الخرفات أسنانا

    كم ترعيان ألوفاً؟ تسعة عدداً
    هذا المزيد الذي يحتاج نقصانا

    فقال (غمدان): من يغنى يكد إلى
    أغنى وأكثر أغناماً ورعيانا

    * * *

    (شذى)، اقتربن، لماذا أنت خائفة؟
    أحسهم أخبروا أمي و(حسانا)

    عماتنا يتخذن الزوج من (كسلا)
    ويتخذن من (الأهواز) خلانا

    هل خلت أضيافنا الأشياخ ذا خطرٍ
    منا ومن ذكر الأطياف أنسانا؟؟

    * * *

    من ذا دنا، لحظة، هل شمتما نفراً
    يمشون شيباً وأنصافاً وشبانا؟

    نعم، رأينا دماً غطته شاحنة
    وما رأينا لشيءٍ غيرها شانا

    قالوا: هم الأرض والأهل الأصول أتوا
    كما أتى (سبأ) داعي (سليمانا)

    واليوم يدعون عرافين، ما عرفوا
    أمثالهم يقرؤون الغيب تبيانا

    يرتبون تواريخ الطيور كما
    يصنفون الربى جنا وكهانا

    يقال: كانوا من الأموات فانبعثوا
    سرا وحالوا أعاصيراً وكثبانا

    * * *

    (أشجان)، بعد هجوع الأهل نقصدهم
    -سيسقط السر لو ينبت إعلانا

    أواخر الليل أدجى يا (شذى) اتئدي
    أموت ألفاً لكي أزداد عرفانا

    ماذا إذا أرجفوا، بتنا بمضربهم
    إلى ابنة (الدودحي) ينضاف صيتانا

    لو يسألون الذي تطهوك جمرته
    أندى، وأغزو (أثينا) من (خراسانا)

    كيف اصطفونا وأفضوا، قال مطلع
    : فروا وكان أبو الأجداث وسنانا

    وأرهق البحث عنهم كل مشتبهٍ
    وقيل: شقوا عصافيراً وجرذانا

    فأعلن الحظر والي كل مقبرةٍ
    واستوفدوا قبر (نابليون) دفانا

    وأرسل ال (توت عانخامون) مفرزةً
    من الأفاعي ومن أشباح (هامانا)

    * * *

    هل تلك آثار خطوٍ؟ كان يتبعها
    أبي من (الوهط) حتى باب (عمرانا)

    أقدامهم فوق سبرٍ، بل تزيدعلى
    شبرين، فهي إذن أقدام (باذانا)

    طريقنا الصاعد الملوي سيخبرنا
    جئناه لاهس، لا كالأمس حيانا

    يا تل يا تل، قولي: مات منتحراً
    بل مات مرتشياً، بالأمر جافانا

    أفديكما من رأت مليونه بيدي
    وقال: مما حباه الله أعطانا

    وزاد: شرح لنا من مر من خطرت
    وأينا أكد الرعيان أحلانا

    قالت ثريا: علينا انقض حارسه
    فاحتازنا، وإلى مولاه أهدانا

    هل صرت يا قمري الهام؟ صرت لمن؟
    لآكل الناس طحاناً وعجانا

    * * *

    الآن أين الذين ها هنا سمروا؟
    أطارهم هاتف سموه (نبهانا)

    ناموا عليه جذوعاً أورقت فصبا
    مروا كما اعتمت الأشجار غدرانا

    وكان يتلو الندى مرعى السفوح كما
    تتلو السما، في فم الصوفي قرآنا

    متى سروا؟ هل حكوا يا شهب؟ حن فتىً
    وباثنين كحقل (الخوخ) أوصان

    باتوا يقدون للأحجار ذاكرةً
    وللربى أعيناً للسهل أذهانا

    الآن أخبارهم من كل ثانية
    تهمي كما تنفش الأنسام ريحانا

    جاؤوا يموتون أو يحيون ثانيةً
    لميتةٍ تدفع العمرين أثمانا

    ما اسم الكتاب الذي منهم بكل يدٍ؟
    قالوا: وصايا (حمورابي) و(لقمانا)

    وخلته (الجفر) من مغزى دوائره
    من نقش (حاميم)، من إعجام (حرانا)

    (شذى)، أتدرين فحواه؟ لمحت به
    سيف بدون كتابٍ سوط (غيلانا)

    * * *

    يقال لما اغتنت بالموت خبرتهم
    أتوا يحامون، أو يشرون أكفانا

    وقيل: يستأصلون القتل أجمعه
    فتمتطي أي شاةٍ ظهر (سرحانا)

    أو يسألون عن الإبحار أولهم
    من ذا اعتلى الفلك، من ذا اجتاز طوفانا

    فيفقهون شروط البحر من فمه
    يدرون: من تنتقي الأمواج ربانا

    قد يعقدون إلى (الإسكندر بن جلا)
    أو يحملون إلى (بيبرس) تيجانا

    * * *

    كانوا يصوغون من جمر العيون غداً
    ينأى ويبعث عنه البرق هتانا

    ولي الزمانان قالوا: حان بعدهما
    ما اسم الذي حان؟ أعلنا اسمه (حانا)

    * * *

    وقيل: مذ دخلوه مثقلين به
    أمسوا بلا اسمٍ واخباراً بلا كانا

    ونثَّ هذا لذا، كنا نرى (عدناً)
    أخرى، ب ماذا تفوق اليوم (سيانا)

    داراً بدارٍ، وبستاناً بمزرعةٍ
    حتى التي والتي، كيلاً وأوزانا!!

    * * *

    قال ابن جعدان: من (زنوبيا) اقتربوا
    وزوجوا بنت (إخناتوت) (قحطانا)

    عنهم كتاب دعاه البحر منهجهم
    وناول الغاب، كي يشتق عنوانا

    ويطبع الخاتم السري على فمه
    كي لا يفدي به (يحيى بن حيانا)(6)

    واليوم، مثنى، ثلاثاً ينزفون على
    (أيار) كي يبحثوا عن أصل (نيسانا)

    عن احمرار (سهيلٍ)، هل له عدة
    عن (الحقيني) يرى كم سن (ردفانا)(7)

    وعن (سمارة هل قالت: أرى شجراً
    يعدو عليكم يلف العود عيدانا؟

    هل تنفرون إليه قبل سطوته
    أو تركبون إلى الربان غربانا؟

    قال ابن جعدان: ماذا خلت يا وطني؟
    خلطاً كما تكحل الأحلام أجفانا

    خذ موعد الزمن الكذاب تسليةً
    واشحذ لما سوف يأتي بعد حسبانا

    * * *

    تم اختيار الذي أبدى الوضوح ومن
    وضوحه صار أخفى، قل: متى بانا

    إلتمت الأرؤس الأشتات جمجمةً
    كطوبةٍ فرعت قصراً ودكانا

    قالوا أعادوا لكم هذا وذاك لنا
    تشكلوا هم، لهم سقفاً وأركانا

    وتيرخوا، تيجروا، هذي وتلك غدت
    دار التواريخ للتقتيل، غيرانا

    وتلك زادت إلى القربى تحملها
    ورميها ببنيها النار قربانا

    روت أشد اغتيالٍ، وهي دافقة
    حتى ارتخى أشهراً، شبعان ريانا

    هل تلك حكمتها، أو عجزها سألوا؟
    هل دللت قبل هذا الغدر عدوانا؟

    وكيف ما انتقمت وهي الأمد يداً؟
    سبحان من يعلم النيات سبحانا

    * * *

    لو السياسة قتل يا (أبا رجبٍ)
    أضحى (ابن لولوةٍ) سلطان) (أفغانا)

    القتل جبن، وقتل القتل مطلب
    أردى زعانفةً، أو غال فرسانا

    قالت (منى): يمعن التقتيل محتمياً
    ولا يزيد قتال القتل إمعانا

    يمزقون ببعض الشعب أكثره
    فأينا يا طبيب القلب أغبانا؟

    قال الطبيب: من اغتالوا؟ هدى، مطراً،
    يحيى الرجا، مدرماً، دبوان، سفيانا

    فيمن ترى مغمزاً لو كنت مدعياً
    فيمن ترى مطعناً لو كنت طعانا؟

    * * *

    ماذا ترى يا (حسام) انطق، نطقت دماً
    ومامحا قتل (سامي) خطف (نشوانا)

    من عام سبعين لا تسعين ما نعست
    أم الشظايا، ولا من بات نعسانا

    * * *

    من ذا يصفون؟ من تدري الأهم ومن
    يضفي على كل ما يجريه إتقانا؟

    وأي شهمٍ نفي من كفاءته
    رقى، لكي يرفعوا أفعى وديدانا

    ومن يقول بلادي فوق حاكمها
    برغمه من يرى الطغيان طغيانا

    * * *

    من عام تسعين خصوا من يلي (عدنا)
    بما هرين يرون الوحل شطآنا

    يردون في السوق (طربوشاً)، بمنزله
    سيفاً، لكي يزعوا (ملهي) ب (دحانا (

    * * *

    كم من أبق كر من أشواق صبيته
    لشغله، عاد شيئاً كان إنسانا

    كم عاشقين صبايا الداليات إلى
    جذورهن ارتموا كالورد عرسانا

    يهدي الذين انطفوا بالأمس فوج غدٍ
    كما يحث المنادون (ابن علوانا)

    لأن من قال: هيا، صار باب إلى
    ومن على من يحيل الحبل ثعبانا

    لذاك يغدون من حنا الزفاف إلى
    حيث الربى تنبت الأعشاب شجعانا

    لأن هذا الثرى الميمون لقنهم
    من لم يمت عنه قتلاً، مات مجانا

    * * *

    قال ابن جعدان: هذي الخمس عشرة من
    عمري أشبن غرابيباً وأعكانا

    أخشى على الشعب منهم، إذ أخاف على
    (سنحان) من نفسه من بعض سنحانا

    * * *

    يريد ما قام، يستفتي مشكله
    من ذا يقيم على البركان بنيانا؟

    مقاتلون أجابوا قاتلين إلى
    ضيافةٍ صار فيها القتل إدمانا
    يقال: ما تركوا للموت ثانيةً
    ولالأم الطيور الزغب أغصانا

    * * *

    قالوا لحادي (بني جعفٍ): وقعت هنا
    فاتبع إذا شئت، أو مت، لست خوانا

    وهل قلعت جداراً كان يحجزني
    عن الروابي لكي أختار جدرانا

    فقال أزعمهم: هل كنت عاشرنا
    يوم استبقت وحيداً صلح (دعانا)

    وأين كنت غداة استحسن (ابن سبا)
    رحلاً ل (حيدرةٍ) أعطاه (مروانا)

    يوم اشتريت (ماتليدا) من حلى (كندا)
    عقداً ل(بيجن) وقالت: هبه (جيهانا

    * * *

    عليك تقتاد (إباً) مغلقاً فمه
    محملاً (باب موسى) متن (بيحانا)

    * * *

    إن كنت إخترت لي عني (مسيلمةً)
    فابعث (سجاحاً) ليلقى الذنب غفرانا

    * * *

    قال (ابن جعدان): أوهى السوط حامله
    ومات من قبل الإذعان إذعانا

    من ذا يبيع ذكاءً لابن من يمنٍ
    يعطيه بالومض (قحطاناً) و(عدنانا)

    * * *

    شكت إلى أمها أم، أرى (حسناً)
    يعود حيناً، وينسى البيت أحيانا

    أخاف تزويجه يا أم ثانيةً
    خافي إذا زوجوه الجب عريانا

    أخوك (مران) كم قلنا: يعود غداً
    وبعد عشرين شهراً، عاد جثمانا

    لأن من أم (صنعا) حاملاً قبساً
    حسته واستمطرت للأهل سلونا

    * * *

    بالأمس أردى أبو (هيلكس) أربعةً
    ألقوا عليهم، وفر المجرم الآنا

    رأوه يبتاع قاتاً حسب عادته
    ويشتري خنجراً من إرث (عثمانا)

    * * *

    هذي البلاد التي تصفر متخمةً
    بالرمل والقش، هل تبتاع سكانا

    يقال: ترجو الذين من مغايبهم
    جاؤوا كما يدفع البستان بستانا

    من ذا ستعطي غداً منهم سفينتها؟
    من كان قبل احتلام البحر سفانا

    وأين ذاك الذي، يا أنت أين أنا؟
    والآن يا أين، ما بعد الذي آنا؟؟!

    صيف 1992م

  • 326 قافلة النقاء

    رجعة الحكيم بن زائد >  قافلة النقاء

    أم المرجى، وهذي الصحبة الفطنا
    غمامة زوجت فيها الدم اللبنا

    نارية أينعت، ثم انثنت زاهراً
    مائية لا تحابي جوف أي إنا

    تلقي الشوادي على الوادي ملاحنها
    كما تناغي صبايا الضحوة الغصنا

    يحس أخبارها ذوق الرياح، كما
    يذوق شيخ الطريق الوجد والحزنا

    * * *

    تألفت من رؤى قبل الديار ومن
    شوق الديار إلى من فات أو ظعنا

    كانون (أيلول) فيها شوق أجنحة
    فيها أساميهموا تعلو ضمير أنا

    لأن يخضورها من نجمتين رأى
    عرافةً قرأته وانحنت فحنى

    دلته رعدية النهدية، أوديةً
    تزكو وتربو، ويستغشي الذي كمنا

    * * *

    منهم بهم صعدت، قالوا كما ارتحلت
    منى) إلى (شميرا) من تحت جلد (منى

    قال القياس: عيون اليم بعض حصىً
    فمن أجال حصاةً، قيل عنه: رنا

    يقيس بالصحبة الأتقى نقيض نقاً
    أما اجتلى سرهم؟ هل ميز العلنا؟

    من ذا لة أعين أخرى ترى شفقاً
    من فجر ظاهرهم يوحي بما اختزنا

    أعطوا جنين الخضيري قبل مولده
    وصف المرجى، فمن يدعى إذا ختنا؟

    توامضوا فوق أحزاب الإمام رقوا
    من تحت عشرين سجناً تطبخ السجنا

    الكل للكل فيهم قبل كم؟ ومتى؟
    وإن بدوا نصف أهل الكهف، أو قرنا

    * * *

    أفضى (هنا) ل (سنا) من أمر والدها
    كان (الأنوق) يخاف (الرخ) إن سكنا

    وقال: بيضته ذات اللمى انكسرت
    فأشرقت من ستدعى بعد أم (سنا)

    لو خال هذا أبو زوجي لصاح به
    أصهرت من بيضةٍ أوضحت ما بطنا

    أصبحت أول (ديكٍ) يكتسي ولدي
    أنا جنيت عليه، أم عليّ جنى”؟

    يا (سندباد): متى كان (الأنوق) أباً؟
    وكان أما وغلاباً سبى وزنى

    قال الثنى: سكن (اليونان) واحدةً
    من بيضه فدنت منه السما ودنا

    أم الجنين استثارت: من رآه، ومن
    سماه قبل الأسامي، وانتقى الخشنا؟!

    * * *

    (هنا) ادعى: جدتي قبل (الأنوق) جرت
    بل كانت البحر والملاح والسفنا

    قالت للقمان: خذ من جانحي (لبداً)
    ويا (كليب): إلى كم ترتع الدمنا؟

    أم الجنين استعادت صوت (عبهلةٍ)
    كما رواه (سهيل) عن رعاة (بنا)

    وكان عم (سهيلٍ) بالفؤاد يرى
    ريح العشية روحاً تجتدي بدنا

    * * *

    عزا إلى أم جدي: أنها عشقت
    (ريا) وقالت: أنا ويحي عشقت أنا

    وأنها صافحت في باب (أنقرةٍ)
    (سيف بن ذي يزنٍ) مسترجعاً يزنا

    يا (سيف) من تبتغي؟ نصراً خلقت له
    وقبل أن أشتريه، أشتري الثمنا

    لي في (سمر قند) ركن لو ألوذ به
    أحال كل شجاع أجبن الجبنا

    وكاد ينشق من إغضائها، فرأى
    في خدها دمعةً حيرى عنت وعنى

    * * *

    وأغسقت تقتل المجهول معرفةً
    قبيل حمل الثرى المحراب والوثنا

    كانت تقول لأمي: حققي وصفي
    من يجهل القبح لا يستحسن الحسنا

    لذاك مدت من المجهول نصف يدٍ
    إلى ظفيرة (صنعا) علقت (عدنا)

    * * *

    قانت ثنىً وفرداى طولت شبحاً
    من الحصى ذا أسام جمةٍ وكنى

    عهد الموازين ما استدعى له خلفاً
    أولم تقم قامة، تدري من اتزنا

    * * *

    هل ذاك الجذع (بشر)؟ كان والده
    يحسو ويحسو، إلى أن يلبس الوسنا

    يرتاد ديوان (يشعى) لا يفارقه
    إلا وقد أغلق الخمار ما ارتهنا

    هناك يحصي حصى هذا الممر، وذا
    مردداً: “أم دفرٍ بنت أم خنا”

    ويا (أمانة صنعا): من يؤمنني؟
    قالت: متى عهد هذي الدور بالأمنا؟

    * * *

    هل هذه دار (بشر) يا هنا؟ سنةً
    وحال عصفورة كسلى كبنت غنا

    هاتيك؟ أو هذه؟ تلك التي لبست
    رمانةً، شم قلبي ذلك الفننا
    * * *

    قال (الثنى) آية أم الجنين ترى
    فريدةً، وهي إذ تمشي تلوح ثنا

    هل آن أن تضعيه؟ من أضاف ترىً
    يلقى الوليد به، مهداً محتضنا

    * * *

    يا بنت من ضيعت في القفر واحدها
    وأرضعت طفل أخرى، فامتطى الزمنا

    هذا الجنين الذي تطوين، شاب وما
    ناغى صباه، وشبنا في انتظار هنا

    أريد إنضاجه عامين، أربعةً
    ألا ترون الشظايا، تعصر اللدنا

    لكل نضج أوان، إن تجاوزه
    فيه انطوى ميتاً، واستخلف العفنا

    قال الجنين: اقبريني فيك وانتطقي
    كي لا يفيق الذي في نصفه اندفنا

    * * *

    الساعة الآن كم؟ مليون جمجمةٍ
    كالأنجم اقتضموها: هاهنا، وهنا

    من ذا دنا؟ وردة في كف أمنيةٍ
    تضنى إليها، إلينا تستزيد ضنى

    يبدو وصلنا، أصيخوا: من يهامسنا؟
    لا تنطقوا قبل أن تستنطقوا الشجنا

    قلتم كثيراً، وما قلتم، أكاشفكم
    لا يعرف الله من لم يعشق الوطنا

    1993م

  • 327 قبل متى

    ديوان جواب العصور >  قبل متى

    قيل الأُلى تكامنوا
    قبل متى تهادنوا

    هل غبّرت وجوههم
    مطّالةٌ وضامِنُ؟

    أو جاوزوْا أزمانهم
    أو أنهم ما زامنوا

    الآن عن أسبوعهم
    ينوب يومٌ ثامنُ

    لأنهم تزوَّجوا
    أمَّ اللواتي لاعنوا

    وفجأةً تآمنوا
    مِن طول ما تخاونوا

    * * *
    اليوم يحكون كما
    تثّاءب المدافنُ

    لكي يقال: إنهم
    غير الأولى تلاسنوا

    * * *
    يمشون مثل غابةٍ
    غاصت بها البراثنُ

    مثل الحصى يفشي الذي
    يخشى الجدارُ الطاعنُ

    كما يعيد الصمتُ ما
    قال الحديد الساخنُ

    * * *
    كأنَّ ما ضجّوا، ولا
    عجّوا، ولا تشاحنوا

    لا أهَّبوا حرباً، ولا
    وَشَتْ بها المداخنُ

    لا أحرقوا (حَميدةً)
    حُبلى لتسْلى (فاتنُ)

    كأنهم ما أحزنوا
    شعباً، له تحازنوا

    ولا انتوْوا، ولا على
    كل جوادٍ راهنوا

    * * *
    أضحى كرؤيا نوَّم
    ما أضمروا، أو عالنوا

    وما اسمهُ، تعايشٌ
    وما اسمهُ، توازنُ

    قيل هناك عانقوا
    قيل هنا تحاضنوا

    قل هل تخاصَوْا، جائزٌ
    وجائزٌ، تخاتنوا

    كيف تهانَوْا، مَن درى
    لعلهم تآبنوا

    لا زغزدت (ميمونة)ٌ
    ولا نَعت (محاسنُ)

    * * *
    قيل التقوا على هوىً
    قيل ادّعوا وداجنوا

    توافقوا بدءاً، على
    مَن يبتدي تضاغنوا

    قيل مَحَوْا ما أثبتوا
    قيل وغاص الكامنُ

    قل ربما تعاقلوا
    لا فرق، أو تماجَنوا

    قيل نفَوا واستبدلوا
    قيل وكان الكائنُ

    * * *
    تنازلوا بغيرهم
    لأنهم تحاصَنوا

    وأصبحوا كلاًّ، ولو
    هانوا لما تهاونوا

    همُ الكتاب واسُمهُ
    والأهل والمساكنُ

    همُ المدار والفضا
    والبيعُ والزبائنُ

    كيف التقوا مِن بعدما
    قل لي متى تباينوا..؟

    * * *
    تظاهروا حتى انحنتْ
    ظهورهم تباطنوا

    قرون رأسٍ واحدٍ
    وصنَّفوا وقارنوا

    يوم اغتَدوا كي يطحنوا
    (برلين) هل تطاحنوا؟

    معاً تعشَّوْا واحتسَوْا
    معاً هناك واطَنوا

    أتوْا إليهم، مثلما
    لاقى الطحينً العاجنُ

    مَنْ قال ذاك عكس ذا
    هل تكذب المعادنُ؟

    * * *
    تكاثروا واستكثروا
    فيسَّروا ويامنوا

    وشرَّقوا وغرّبوا
    واستلينوا ولاينوا

    وأفرقوا، فرافقوا
    (افريقيا) وقاطنوا

    ناءتْ بهم كما مشى
    بالتلِّ غصنٌ واهنُ

    فاسودَّ بيتٌ أبيضٌ
    وابيَضَّ بيتٌ داكنُ

    هل كان في انتظارهم
    ذاك الشحوب الراينُ

    * * *

    تناصفوا في (القدس) في
    كمبوديا) تغابنوا

    وأهْنَدوا وأرْيَنوا
    فأصهروا وساكنوا

    * * *
    وأنجدوا، فاستعربوا
    واخشوشنوا وخاشنوا

    حيَّوْا رسوم (خولةٍ)
    واستخبروا وعاينوا

    * * *
    هنا ثَغتْ زرائبٌ
    هنا رغَتْ (معاطنُ

    هنا امّحت أوثانهم
    وقام عنها الواثنُ

    * * *
    وفي الرمال أبحروا
    كي تلحق السفائنُ

    واستقرؤوا غيب الفلا
    فباحت القرائنُ

    واستحلبوها فارتخت
    كما يدرُّ الحاقنُ

    فسمّنوا أشباحها
    وقايضوا وداينوا

    * * *
    مِن أين يرقى نابهٌ
    إذا ترقّى الخامنُ

    للدّافنين يا ثرى
    أفاقت الدفائنُ

    هل فيك أخفى؟ ما الذي
    يا غور أنت طابنُ؟

    لمن أتَوا فقه اللغى
    وإن حكوْا تلاحنوا

    جاؤوا وفي جيوبهم
    لكل أمرٍ وازنُ

    * * *
    فأرَّخوا (قُضاعة)
    وكي يرقوا داهنوا

    أَرَوْا حفيد (مازنٍ)
    مِن أين جاءت (مازنُ)

    وَمنْ أبو (تُبالةٍ)
    وكم غزت (هوازنُ)

    وأسمعوا (عنيزةًٌ)
    ما شمِّت الكواهنُ

    وكيف كانت ترتعي
    مثل (الظبا) المآذنُ

    كيف رأوْا ما لا يرَى
    مودِّعً أو ظاعنُ

    لهم رؤىً إذا رنت
    فكل ناءٍ حائنُ

    لأن كلَّ بقعةٍ
    لهم طريقٌ آمنُ

    لهم هناك قارةٌ
    لها هنا مدائنُ

    ودار كل ثروةٍ
    لدُورهم خزائنُ

    * * *
    إلى متى، حتى يلي
    أقوى، ويجري الآسنُ

    كم حرَّكوا وسكَّنوا
    وما الزمان ساكنُ

    مَن يشرح المتْن الذي
    يدنو وينأى الماتنُ

    1991م

  • 328 ابن ناقيه

    ديوان جواب العصور >  ابن ناقيه

    لأنَّ له بُغيهً راقيَهْ
    تناديه: كن غيثَ إبْراقِيَهْ

    لأني لمحتُ عذارى مُناكَ
    وريّاكَ أوَّل طُرَّاقِيهْ

    * * *
    فيهتف: يا كل شوق الرحيل
    إليها، ولاتلتمسْ واقِيَهْ

    إليها، ويا نفس لا تحفلي
    بما أنتِ في وصلها لاقيَهْ

    إلى كم أُقاوي إليها الحنين
    !وأكتبُ للرّيح أوراقِيَهْ؟

    * * *
    فيعدو على النار، يبدو كمن
    يُغسِّلُ رجليه في ساقِيَهْ

    فتستغرب النار: هذا احتذى
    غروري، وهمَّ بإغراقِيَهْ

    وقال: ادخليني لكي تُورقي
    وتذكي مشاريع إبراقيَهْ

    أما الحرق، بَدءُ الرمادِ
    فلوذي بأفلاك إشراقِيَهْ

    * * **
    أأنشدُ فجر ربيعي هناك
    وأبكي هنا فَقْدَ إحراقِيَهْ؟

    لهذا الفتى وطَرٌ لا يشيخُ
    وقلبٌ كأيام إغداقِيَهْ

    بعينيه ماضي غصوني، يُعيد
    حطامي إلى نبض أعراقِيَهْ

    * * **
    أمِن ألْفِ ألْفٍ هداني إلى
    صبايَ، وأعلنَ إطلاقِيَهْ؟

    أكادُ أَميسُ على ساعديه
    أُراقي عصافيريَ الزّاقِيَهْ

    * * **
    إليه انتهيتُ، ومني ابتدا
    أأشواقهُ بعض أشواقِيَهْ؟

    أساطيرُ تهيامه مولدي
    من الموت، إعجاز انطاقيَهْ

    أذا منبتي؟ أم إليه انتمى؟
    !وعنّي يُغنّي لآفاقيه

    * * **
    تذكرته، كان يهوى الرباب
    وكان اسم بكرته (ذاقيه)

    وكان يقولُ: أموت قتالاً
    وقتلاً، لتسْلَمَ أخلاقِيَهْ

    * * **
    يمرُّ فيرمي الطريقُ السكونَ
    وتحكي الربى: مَدَ أعناقيهْ

    وتُومي الثريّا: أغتصب مَقْطَفي
    سأدعوك: أجملَ سُرّاقيه

    * * **
    وكان اسمه (العنبري)في العدين
    ب(ضوران يكنى (أبا حاقية)

    ويدعونهُ (الخِضْرَ) في (دار سعد)
    فيهمس: جاوزتُ أطواقيهٍ) ْ

    * * **
    أنا ابن الفقيرةِ وابن الغريب
    مِن الصخر استلُّ أرزاقيهْ

    على الأهل أُشفقُ مِن ظنّهم
    بمثلي، وأعيا بإشفاقيهْ

    * * **
    وكانت تُهنّي الصبايا التي
    ستخطبها لابنها (ماقيَه)

    ويخشينْ أن يكتريه الخليجُ
    فُيثري، وتغويه (بولاقيهْ)

    * * **
    فحال كروماً وورداً وقمحاً
    وقال: أتَّحدْتُ بعشّاقيَهْ

    تشبَّثَ حتى غدا موطناً
    وقال: اتّسقتُ بأنساقيهْ

    * * **
    وقيل: تشكِّلَ في كل غصنٍ
    وقال: هنا سِفْرُ مصداقيَهْ

    وقيل: رقى وانتقى بغيةً
    أشارت إلى قلبه (ناقيَهْ)

    يراهاً ألَذَّ اكتشاف الحنين
    وأبقى مِن الحكمة الباقيَهْ

    لهذا يُعنّي إليها العَنا
    ويُشقي المغامرةَ الشاقيَهْ

    1990

  • 329 أقاليم ذلك الجبين

    ديوان جواب العصور >  أقاليم ذلك الجبين

    هذا الأوانُ الأخطبوطْ
    كوجوم أقبية القنوطْ

    كمحنّطٍ لأمَ الحطامَ
    وقام ينتظر الحنوطْ

    كسفينةٍ تجترُّ بحراً
    أبحرتْ فيه الشطوطْ

    كولوغ فيران المهامه
    في أنابيب النُّفوطْ

    * * **
    لغموضه وكران في
    إبطيه آلافُ الأُبوط

    فمه كباب جهنمٍ
    ويداه مِن شتى الخيوطْ

    * * **
    يا خابط الفوضى مَن
    المخبطُ فيك مَن الخَبوطْ؟

    في أيّكَ الأغلوطةُ الكبرى،
    وأيُّكما الغَلوطْ؟

    * * **
    يا كلَّ مغموطٍ لماذا
    أنت بعض قوى الغَموطْ؟

    يا، يا، وأعيا، ما اسم مَنْ
    أدعوه: قل يا عَظْرفوطْ

    أتريدُ (إفلاطون) بلْ
    إيماضةً مِن (مَنفلوط)

    تروي لك الهمساتُ عن
    قلب (السَّيوطي) عن سَيوطْ

    * * **
    يا ضجّةٌ عصريةٌ
    كقتال أعراب وقوطْ

    ذا القحط يُحسبُ واحداً
    وعليه تَشْتبك القُحوطْ

    يعوي كقول (تنومةٍ)
    ويضر كالنسر اللقوط

    يعدو وينزف وَهْوَ لا
    يدري أيخبرُ أم يغوطْ

    * * **
    يمتد حيناً عارياً
    حيناً غريقاً في المُروطْ

    آناً كنوقِ (فزارة)
    آناً كنسوةِ قوم لوطْ

    * * **
    طوراً يُحلِّق عالياً
    طوراً على دمه حَطوطْ

    قلْ تارةً رهطُ الجراد
    وتارةً جثثُ الرهوطْ

    وبمقتضى نزواته
    يبدو قَبوضاً أو بَسوطْ

    * * **
    بيديه يختطُّ المدى
    وبرجله يمحو الخطوطْ

    يُدمي بقرنيه السَّنا
    ويذيله النَّوويْ يسوطْ

    يرقى فَيُعدي المرتقى
    ما فيه مِن طين الهبوطْ

    * * **
    عيناهُ مِن أرق السُّهى
    قدماهُ مِن وحَلِ الثبوطْ

    قِلقُ الجبين وقلبهُ
    في عشب سرَّته غَطوطْ

    * * **
    يعتَمُّ عورته ويقتادُ
    السقوط إلى السقوطْ

    فيمرِّغ الأمل الذي
    بعرى تَحَوُّلهِ منوطْ

    لا يستدرُّ شجى المرَثِّي
    لا التفاتات الغَبوطْ

    ويُعدُّ ولاّجاً وخرّاجاً
    وحلاّلاً ربوطْ

    * * *
    يلهو وأوردة الشعوب
    عليه تخفق كالقروطْ

    ويحوط أخبثَ ما يرى
    وعليه يسطو ما يحوطْ

    يحيا بلاشرط الحياة
    كما يموت بلا شروطْ

  • 330 رفاق..الليلة الأخرى

    ديوان جواب العصور >  رفاق..الليلة الأخرى

    أدلَجوا يهوَوْن ما تهوى
    هذه الأمسةُ السَّجْوى

    أشْبَهتهم في الهوى وسمَتْ
    مثلهمْ عن ذلِّة الشكوى

    مثلهمْ يقتادها وطنٌ
    مِن وراء الريح والأجوا

    فاستوى العكسان مِن بَشَرٍ
    وزمان جلَّ مَن سوَّى

    * * *
    إن أشارت، بالسنى ائتلقوا
    يوقدون الأفق بالعدوى

    وإذا ما غامت اقتبسوا
    مِن بروق الغيمة الشدوا

    * * *
    تهتدي إن (أتْعزتْ) وإذا
    جانَبَتْها تَخْبطُ العشوا

    إن سَرَتْ كالغاب (مُتْهمةً)
    ذكَّرْتهم ذلك (الغزوا)

    * * *
    إن تبدّى (المَهْجَمُ) اصْطَرختْ
    أيُّ يومٍ مِن هنا دوّى؟

    إن بكت نجماً هوى ثكَلوا
    مَن هوى مذ أنجبت (حَوّا)

    وإذا حاذت بهم جبلاً
    ساءلوا (عيبال) عن (فدوى)

    وإذا طافت بهم (حَرَضَاً)
    قبّلوا (دَبْوانَ) عن (علوى)

    إن شكت صمتاً رأوْا ورووْا
    حزنها المحروقَ والشجوى

    إن أتت (حَزْوى) دعَوْا
    خبراً عن (تمام الحجِّ) يا (حزوى)
    * * *
    إن أرَتْهمْ كرمةً سكروا
    من بزوغ الأغْصن الجلوى

    مِن كؤوسٍ – سوف تملؤها-
    تغتذي التَّقبيلَ والحسْوا

    * * *
    يحملون البِيدَ تحملهمْ
    لحظةٌ غيبيّةٌ نشوى

    جاوزوا ظن الظُّنون وما
    غادروا (المحْويت) و(الصِّلْوا)

    * * *
    ما اسْمُ هذا النجم؟ أحسبهُ
    نجمةً علَّ اسمها (سلوى)

    تحتوي قلباً، لذا ألِفتْ
    أن تمنّي العاشق النُّضوى

    تسرد الأزمانَ مُحْصِيةً
    كم سَخَتْ، كم ألوتً اللأوى

    ساءلتْ مرعى ثمود متى
    كذّبت هاتيك بالطّغوى؟

    * * *
    علَّ مَنْ – يا عمرو – أنّثها
    ذكّر (الميزانَ) و(الدَّلوا)

    ما اسْمُ المُحْمَرِّ؟ أزْعُمهُ
    بَدوياً ينشد البدوا

    يرتدي وجه (السُّلَيْكِ) سوى
    أنَّه ما جرَّب السطوا

    * * *
    ذلك المغرورُ رأَسَهُ
    منزلٌ ما اختاره عضوا

    وبه يشدون، داخلهُ
    كلبةٌ تَسْتنتج (الجروا)

    إن نوى التغييرَ مُسْتبقاً
    غيَّر (الطربوشَ) والفروا

    * * *
    كلُّ نجمٍ – يا (حسين) – له
    زوجٌة مِن زوجها أقوى

    كيف يا (مسعودُ) ليلتُنا؟
    مثلُنا جَوْعى بلا مأوى

    علَّقتنا يا (حَمُودُ) كما
    علَّقوا للهرِّة الشِّلوا

    لو تدير الشُّهْبَ أرغفةً
    قُلْ: وأطباقاً من الحلوى

    سوف تُدعى خير خابزةٍ
    ونُسمَّى خيرَ مَنْ قهوى

    قلْ: لو (المفتاحُ) علَّمنا
    كيف نطهو الفقه والنحوا

    مَن يعي فحوى النجوم؟ على
    وجهها تسري بلا فحوى

    كالحصى ما عندها خيرٌ
    لا لها خفْقٌ ولا نجوى

    إن طوى الأدجى إشارتَهُ
    نثَّ ما في قلبه الأضوى

    * * *
    ذاك من يدعو، أُجيب كما
    يستعيد الألكْن الوأوا

    إن حكى، قال السعالُ: صهِ
    تَطْعَمُ الشيخوخةُ الربوا

    * * *
    هل تشبُّ الحرب يا (زُحَلٌ)؟
    عند (سعد الذّابح) الفتوى

    قيل: لا يُبدي نبوءتَهُ
    قبل بدء الغارة الشَّعْوا

    راقبوها طالما انتبهتْ
    تنبري مِن قبل أن تُنوى

    والسكارى خلفها تَبَع
    يقتدي الغاوون بالأغوى

    ترتئي في الكيِّ عافيةً
    قلْ: متى في صلبها تكُوى؟

    تنطوي عشطى فإن بدأتْ
    رشفةً لا ترتضي الصحوا

    كم أتتْ مِن نبتةٍ صرخَتْ
    ترتعُ المخضرَّ و(الأحوى)

    تحتذي (صيدا) إلى (رفَحٍ)
    ترتدي أكتافها (رُضوى)

    كهُف (إسرائيل) أعينُها
    (كَمْبُ ديفدْ) كلبها الأعوى

    هل أُسمَّى يا بني (يمنٍ)
    راوياً عن أمِّكمْ (أروى)؟

    مالقت هولاً، – ومِن عجَبٍ –
    أرضعَت أعقابها التقوى

    * * *
    يا (مثنّى) مَن نؤمُّ وهلْ
    كاشفتْ أهواؤنا المهوى؟

    وإلى كم نكتسي غسقاً
    يشتوينا، وهْو لا يُشوى؟

    هل تركنا قبل صُحبتهِ
    صحبةً أرضتْكَ أو مثوى؟

    لا أرى – يا (زيدُ) – شقوتنا
    غِرّةً تُشقي بنا الصفوا

    إن خوى مِنّا النهار، فهل
    نَعْمرُ الأمسيّةَ الأخوى؟

    * * *
    يا رفاقي لستُ أمْسِيَةً
    كالأماسي شئتكمْ لهوا

    ما امتطيتم منكبي ترَفاً
    لا ولا حُمِّلتكم سهوا

    عندكم أعلى الهموم، أنا
    ليلةٌ أخرى بلا دعوى

    * * *
    لا أرابي بالنعاس ولا
    حبركُمْ يستنطق اللغوا

    لا يرى (الفستانَ) مرتعشاً
    مادحاً يستنعِبُ الهجوا

    لا يَغرُّ المُستَعِزَّ ولا…
    يجتدي الأعذارَ والعفوا

    سِرُّنا الأخفى قدرتِ على
    نَشْرهِ مِن قبل أن نُطوى

    – كلُّ (أيّوبٍ) يساهرني
    يجتني النُّعمى مِن البلوى

    * * *
    يا رفاقي سوف أُوْدعكم
    بابَ تلك الغاية القصوى

    حيث للأشواقِ وجُ ضحىً
    ولأحلامِ الكرى جدوى

    ديسمبر 199م

  • 331 لأنك موطني

    ديوان جواب العصور >  لأنك موطني

    يُقالُ عيونُك النّعسى
    لأول نجمةٍ مرسى

    لأمِّ الشمس مُضطجعٌ
    إليه تَنسُبُ المشمسا

    لشوق الحرف محبرةٌ
    تعير المأتمَ العرسا

    وعاصمةٌ لها طربٌ
    وكلُّ مدينةٍ خرْسا

    لأنكَ حسب ما زعموا
    سبقتَ الروم والفُرسا

    أأنت أبو(سبرتاكوسَ)
    أُمُّ شرارة (الأحسا)

    بريقُ حسام (عنترةٍ)
    وسرُّ فصاحة (الخنسا)

    لهذا عنك يا وطني
    نعبُّ الأخطرَ الأقسى

    إليكَ ومنك غايتُنا
    أقصراً كنتَ أم رمْسا

    أكنتَ عشيّةَ الماضي
    أم الأمسَ الذي أمسى

    قلوبُ القلب أنتَ ودع
    أيُمناً كنتَ أم نَحْسا

    وما التاريخ كيف هذى
    وخطّ حجاركَ الملْسا؟

    ووشّى دودَ مقبرةٍ
    وعنها استقبل الدرْسا

    فسمّى (أسعد) الأسبى
    ولقَّب (مَذْحجاً) (عنْسا)

    ويروي ما روى سلَفاً
    وينسى أنه ينسى

    لأنك موطني أفنى
    حريقاً فيك لا يغسى

    ولا أدعو مجازفةً
    ضياعي فيك أو أَأْسى

    ألستَ المفتدى الأغلى
    بلا سبئيَّةٍ قعسا؟

    بلا (ذُبيان) مُنتسبي
    وعن (ذُبيانَ) سلْ (عبسا)

    لأنك قلت لي بَشرٌ
    ودع مَن صنّفوا الجنسا

    لأنك بيت متّقدي
    أُجَمِّرُ باسمك الحسَّا

    وأحمل أنفساً شتّى
    أُلمُّ شَتاتها نفسا

    أحبكَ ناقداً خطِراٌ
    مغنّي البلدة التّعْسا

    عيوفاً ما حسا عسلاً
    أتى مِن شُبهة المحسى

    نبيّاً إن رأى شبحاً
    رمى ب(سُمارةَ) (الرَسّا)

    وقيل استلَّ (وائلة) ً
    وقيل تأبّط (الكِبْسا)

    وطمَّ ب(كربلا) (صفَدا”
    وب(المهديّة) (القدسا)

    ونادى: يا (مذيحرة)ٌُ
    أتنسى الشعلةُ القَبْسا؟

    أياأخذ جزيةً ملكٌ
    ويقبض باسمكَ المكْسا؟

    ويشري (مريماً) ب(لمى)
    كما يستبدل اللبسا

    رضعتَ الطهر يا وطني
    فدعْ مَنْ يَغتذي الرِّجسا

    أحسُّك في شذى المرعى
    غناءً، فيالندى هَجْسا

    أضمُّك خضرةً كحلى
    أشمُّك فكرةً لعْسا

    وشوقاً حادساً ومُنىً
    وودعاً يسبق الحدْسا

    جمالاً لا يطيق فمي
    أمام جلاله النَّبْسا

    أُحُّبكَ هامةً صَلْعا
    فتىً مِن صره أجْسى

    ومِن أجوائه أصفى
    ومن أجباله أرسى

    يعي السرّا، يُرى أقوى
    على البأسا مِن البأسا

    وأهواك ابنةً وأباً
    يرى ما لا يُرى لمسا

    وكبرى تحسب الصغرى
    تبيع سريرها بخسا

    أُحِبُّكَ ثائراً أبداً
    غصوناً تنهمي أُنْسا

    عصافيرا وأودية
    كتاباً غابةً مَيْسا

    ومحراباً ومدرسةً
    وبيتاً، ملعباً، حبسا

    وجوّاباً على أمل
    وسُوقاً يسكن الفِلسا

    وإنصاتاً، وأغنيةً
    وهمساً يحتسي الهمسا

    ونافذةً ترى (حَسنا) ً
    يغازل تحتها (حَسَّا)

    أحبُّكَ غير مُحتجبٍ
    لأنك عارياً أكسى

    صريحاً، ما ارتدى أحداً
    ولا في غيره اندسّا

    أتبغي عطر (هولندا)
    أعنك تشكِّل العكسا؟

    وهل (فُرويد) أيُّ فتىً
    يجاري (موظة) (النمسا)

    أُريدُك تلبس (الكاذي)
    وترعى (الخَمْطَ) و(الوَرْسا)

    وتسري مِن (جعار) إلى
    دوالي (صعدة) خمسا

    أواناً راكباً (جَملاً)
    وحيناً (ناقةً) وَعْسا

    وطوراً حافياً يصبوا
    ربو كلما جّسا

    أليس براءةُ المرْبى
    تنقّي البذرَ والغرسا

    1991م

  • 332 القطاة.. والصقر العجوز

    ديوان جواب العصور >  القطاة.. والصقر العجوز

    مَنْ أعادتْ إليك منكَ الرضيعا
    مثلَ سرٍّ خفى وأضحى المُشيعا

    أيَّ شيء رأتك ذكرى طيورٍ
    وادياً كان قبل عامٍ ينيعا؟

    ربما أطْلَعَتك منك نبيا
    وغدتْ وحدها النصيرَ التَّبيعا ً..

    علَّموني أعي وصايا (وكيع) ٍ
    أتراني غداً سأوصي (وكيعا)

    ***
    ما تخيّلتَ أنَّ أصبى قطاةٍ
    سوف تُصبي صقراً إلى الموت بيعا

    وعلى ساعديه سوف تغنيّ
    ويغنيِّ لها شجياً مُطيعا

    وعليها الطراوةُ البكرُ تطفو
    وله الحيةُ تَشُوكُ الضَّجيعا

    ***
    مثلُ بنتِ ابنهِ، وعنه أزاحت
    نصفَ قرنٍ، فكيف نالَ المنيعا؟

    بيدٍ وهّجتْ مَصِيفَ صياهُ
    وبأخرى حنّتْ هناك الصّقيعا

    لا أتته خديعةً، لا تَلَقّى
    هذه الفُجأة الألوفَ حديعا

    ***
    أي إلف من الغرابات هذا
    فيه معنى يثني السؤال صديعا؟

    كيف لاقى حلاوة ما ارتجاها
    أهي راعته، من درى كيف ريعا؟

    ***
    أنصت فاقتنصت جئت وجاءت
    أهي نادتك أم أجبت سميعا؟

    واضح ما اتزرت حسناء يوماً
    هل إلى هذه انتخب الشفيعا؟

    أتراني أصبت؟ كلا، لماذا؟
    إن كنه الوضوح يعي الضليعا

    ***
    أي سكرين تحتسي؟ أي أم
    ضعت فيها مخافة أن تضيعا؟

    بعد ستين ما نسيت ارتضاعاَ
    أحليباً طعمته، أم تجيعا؟

    لست تدري كان الزمان مكاناً
    يشتهي في قميصها أن يميعا

    ***
    طفلة أطفلتك، أهي استطاعت
    وحدها، أم أردت أن تستطيعا

    لست تدري، ما زلت سكران تنأى
    عنك، لن تستفيق إلا صريعا

    ***
    هل أحالت فيك الشتاء ربيعاً
    ذا امتلاء، أم ألبستك الربيعا؟

    ربما رقعت حواشي شبابي
    ثم نحت ذاك القميص الرقيعا

    وسقتني من غصنها فإذا بي
    روضة تحتوي الغصون جميعا

    خلت غرسي يميد تحت جناه
    كزمان يلغي الزمان المجيعا

    للعصافير بالعناقيد يومي
    ويلاقي إلى الدروب القطيعا

    وإلى الجائعين يزجي حصاداً
    وإلى العانسات عطراً مذيعا

    وإلى الثائرين عزماً بصيراً
    وإلى القامعين محقاً سريعا

    وإلى اللاجئين منهم دياراً
    من قلوب، للرعب حرقاً فظيعا

    وإلى كل فاجر ذي نفود
    – تشتري المعدمات- بؤساً شنيعا

    وإلى ذي الطموح يهدي كتاباً
    بالعوافي يدنو يلف الوجيعا

    وإلى كل نبتة مد نبضاً
    مطراً هانئاً وسهلاً مريعا

    وإلى ما كان واقعاً قبل يوم؟
    غير الوقع، أم أجد الوقيعا؟

    قيل لاقت من تصطفي فأجادت
    آية الحسن أن يجيد الصنيعا

    ***
    منذ غذت هاتيك أعراق غرسي
    صغت حتى الخراب فنا رفيعا

    واكتشفت الدميم غير دميم
    وخليع الأمير ليس خليعا

    ودخلتُ النهار أجلو مناهُ
    وقميصَ الدجى هزيعاً هزيعا

    مِن أفانينها ابتدأتُ انتصافي
    فانثنى أوّلي طليقاً وديعا

    كان سرّي قصيدةً لم أقلها
    قلتها الآن فابتدعتُ البديعا

    ***
    1991

  • 333 المحتربون

    ديوان جواب العصور >  المحتربون

    بلا أي داع، أو بداع تناهشوا فلا
    الميت في الموتى، ولا الحي عائش

    لأن المدمي باحث عنه في الدما
    وكل قتيل عنه في الرمل رافش

    إذا اعتل ماء الجسم واحتث نازفاً
    فما قيمة الرامي إذا انقض خامش؟

    ***
    كمالية حرب الخليج وغيرها
    وحول الضروريات كاو وكامش

    هنا قبل تشع كان إن شع(يفرس)
    نضا (السر)(وادي ظهر)واغبر(عافش)

    تلتها حروب مالغا باسمها فم
    ولا دق مرش الكر والفر مارش

    أفتشت عن وجه لهذا؟ لو أنه
    – كما خلت- ذو وجه لما اهتم فاتش

    أكل ربيع خالف النهج، لا الندى
    يندي، ولا لمس النسيمات راعش

    ولا تشتكي هذي البساتين عريها
    ولا تنتوي حمل النهود العرائش

    ألا تلحظ التفاح في الطين ينطوي
    وتنزو كأسراب الجراد المشامش

    وما بين أحزان المواسم والربى
    تشاك، ولا بين المراعي وشاوش

    ولا للمسمى النصر وجه من الضحى
    ولا ظهر من تدعى الهزيمة غاطش

    إذا ما نجا القتال، حال قتيله
    بباطنه نعساً يناديه ناعش

    لأن القوى بالضعف أغرى أذالها
    مرسا فأعيا طيشها منه طائش

    لماذا الأنام اثنان نفي كل بقعة
    على الأرض مبطوش به ثم باطش؟

    لأن الزمان اثنان: حرب وهدنة
    وسر الوفاق اثنان: ماح وراقش

    وما هذه الأثداء إلا مشاجب
    ولا هذه الأذقان إلا حشائش

    وتلك التي تحمر تصفر دور من؟
    تحاول أن تنفض عنها الزراكش

    ***
    نثير الحصى أمسى ضجيع قنابل
    ولا قر مفروش ولا احتاز فارش

    فلا فرق بين الحرب والحب لا اللقا
    يسلي- كما قالوا- ولا البعد واحش

    لأن التعادي اليوم حمال أوجه
    إذا نام فيه فاحش قام فاحش

    إذا اصفر من رضته أنياب طلقة
    تنحى الذي ما مس كفيه خادش

    ***
    فمن ذا يسمي الأرض أنثى بسيطة
    وما فوقها إلا الجيوش الجوائش؟

    ضجيج الصواريخ المبينات نطقهم
    وعنهم تغني القاذفات العواطش

    إذا شق جنزير فما، شق مدفع
    فما، والثرى المنبوش عن فيه نابش

    ***
    وبين الروامي والروامي تنابح
    وبين الضحايا والضحايا تناقش

    وبين الشظايا والمنايا تسابق
    وبين الثواني والثواني تناوش

    لأن (السلوقيات) في كل معتد
    على عهدها حمر المآقي هوارش

    أيا ناقشاً أخبار (كهلان) في الصفا
    قوى العصر (بالنابلم) فينا نواقش

    ويا غاز كل الساح عندك مقتل
    وفيك إذا قصرت عام وعامش

    من القصف حتى القصف تعدو خرائب
    وتستاق أخرى العاصفات النوافش

    أهذا الرماد المقشعر كتائب
    بيوت، أذاك الفحم (سعدى) و(طارش)؟

    أهذا الحصى المحمر أطفال روضة؟
    أهذا الرصيف الرطب (عفرا)و(داحش)

    ومن ذلك الدخان المشرئب قوافل
    من الحقد يرعاها دم الريح (طاهش)

    ومن ذلك المصلوب ساقاه (جدة)
    و(صنعا) وأعلى منكبيه (مراكش)؟

    عروق (الذفيرى) يا (إبقراط) أحرقت
    وحالت سموماً- يا (بن سينا)- (الجوارش)

    إذا أدام الثاني رأى بالكون مدهشاً
    فمن أي شيء آدم الالف داهش؟

    ترى أي عش – يا رصاص- بمأمن؟
    وأي عروش للردى أنت عارش؟

    ويا زوجة الشطرين ذبت على العصا
    وما ذاب في تجميش خديك جامش

    ويا زاحمين الأرض والجو بالقوى
    أما للقلوب الأدميات هامش؟

    ففي أي ركن يهدأ العشب والندى؟
    وفي أي غصن تطمئن الروائش؟

    وفي أي ثقب يجهش الحب باكياً؟
    وهل يسكت الفولاذ والطين جاهش؟

    ألا لا رأت يوماً ككانون (دجلة)
    ولا أصبحت يوماً تطير (الدشادش)

    مارس 1991م

  • 334 توابيت الهزيع الثالث

    ديوان جواب العصور >  توابيت الهزيع الثالث

    هناك رأوْهُ (نقيل يَسْلِحْ)
    طريحاً مِن وراء الصمت يُفصِحْ

    يكاد يقوم يحتضن المحيِّي
    ويخترق الكوابح والمكبِّحْ

    ويطلع كرمةً مِن كل صخرٍ
    تضاحكها النسائم أو تؤرجْح

    يقول ولايقول، يشي ويُشجي
    يصرِّح بالأهمِّ، ولايُصرِّحْ

    * * **
    يَنُثُّ تهاجسُ الأعشاب عنهُ
    ويخفق مثل أخيلةٍ تلِّوحْ

    تُحدِّثُ عنه رابيةُ نسيماً
    مَشَمُّ الورد أزكى إذ يصوِّحْ

    أريدُ أطيرُ أخْبرُ عنهُ مَن ذا
    يريِّش قامتي أو مَن يُجنحْ

    * * **
    تمدُّ إليه أمُّ الصبحِ كفّاً
    لتقرأ كفَّه ويداً توشِّحْ

    تسرَّح فيه عينيها وتغضي
    فيهتف قلبها فيمن تسرِّحْ

    * * **
    تغوص كناقد يتلو كتاباً
    ربيعيًّ المؤلِّف والمنقِّحْ

    وتسأل: يا أنا أأرى فلاناً
    قتيلاً، لا تبتُّ ولا ترجِّحْ

    ومَن هذان حوليه أقتْلى
    ثلاثتهم؟ لماذا؟ مَن يوضِّحْ؟

    لهم أرًجٌ كأفراح الصبايا
    وسرٌّ ربما يُعيي المشرِّحْ

    * * **
    تكلم يا غموضُ، هنا رَموْهُمْ
    وعادوا قبل حَوْقلةِ المُسَبِّحْ

    لهم أيدٍ كأدغال البغايا
    وجوهٌ مثل مزبلةٍ تفُوِّحْ

    توابيتٌ لها شبقٌ، تأنّى
    بها النّجار وانخدع المُصَفِّحْ

    ضحايا غيرهمْ يسطون عنهُ
    فكيف يحسُّ مذبوح يذِّبحْ؟

    * * **
    ترى غطَّوْا ملامحه ليخفى؟
    فكيف إلى أكُفِّهُمُ يُلِّمحْ

    أظنّوا الخنق لا تلطيخ فيه
    فمن يمحو الجريمة أو يُمسِّحْ؟

    فقال بلا فمٍ، أدراجُ قلبي
    خوافٍ أيَّ أغْلَفَها أفتِّحْ

    وحكَّ جبينه ودنا ليفضي
    فهدَّج خمسَه الوجعُ المُبَرِّحْ

    * * **
    أيا (وِعْلانُ) قلْ أمسوْا بصنعا؟
    أمَنْ يمسي بصنعا ليس يُصبحْ

    أتوا من قبل أسبوع أمامي
    كحقل سفرجلٍ يُشذي ويُفْرِحْ

    فقال صدىً أحطَّ القتل وجهاً
    وكفّاً مقتلُ السِّرب المروِّحْ

    أنادي يا (خِدارُ) يجيب عنها
    نواحٌ صامتٌ وشجىً يُنوِّحْ

    أأشهد كل أمسيةٍ طريحاً
    بلا روح، ولاأضعُ المُطَرِّحْ؟

    * * **
    أما انتهت الحروب تقول هذا
    مؤامرة المزعَّم والمسَلِّحْ؟

    بغير يديه داعي السِّلم يردي
    ويدعو مَنْ أناب أجلَّ مُصْلحْ

    رأى الثوراتِ غلطةَ كلِّ شعبٍ
    فنصَّب كل قتّالٍ يصحِّحْ

    إذا سكتوا زَقا الإسكات عنهمْ
    وإن نبحوا فقلْ أَمَرَ المنَبّحْ

    * * **
    يصوغ المسرحيَّةً كل يومٍ
    ويبدو شاهداً وهو المسرِحْ

    يرى اليوم التعدُّدَ بدء شوطٍ
    فهل سوقُ التَّفرُّدِ غيرُ مُرْبِحْ

    ويدعو الانتخابَ الحرَّ أراضي
    ويعطي الأغلبية مَن يرشِّحْ

    أليس هو المثلَّثُ والمثنِّي
    وملعبهُ المشِّلُ والمنجِّحْ

    لهذا ينثني الأنقى هزيماً
    ومتَّسخُ اليدين عليه يُفلحْ

    وأنت عليك أن ترضاه حُراً
    وإلا لست حُرَّاً أن تصيِّحْ

    لأن أبا القوى يختار حكْماً
    يُطَبِّقُ لا يحسِّن أو يُقَبِّحْ

    * * **
    أخَمَّنُ بعد هذا الوقت وقتاً
    أرومُ قياده يأبى ويُسمِحْ

    تعلَّلْ لست وحدك كم تلاقي
    قريحاً لا يكُفُّ يدَ المقرِّحْ؟

    ومَن ذا يقتدي بالعجز لِم لا
    أزحزحُ منه عني ما أزحزِحْ؟

    أعِنِّي أو أشحْ عني أيأبي
    كسيحُ النفسِ إلاّ أن يكسِّحْ

    حماقةُ ذو القوى أقوى عليهِ
    وأقْتلُ للتبجُّحِ والمُبجِّحْ

    ترى ما في بلادي في سواها
    أترضى الجرح إن عَظُمَ المجرِّحْ؟

    أيجدي الشعبَ أنَّ له شبيهاً
    وأن هناك مثلُ (نقيل يَسْلِحْ)

  • 335 بين القلب والقلب

    ديوان جواب العصور >  بين القلب والقلب

    ما لونُ صوتِ الصلبِ حين يخفقُ؟
    وهل يشمُّ الوردُ ماذا يَعْبِقُ؟

    حروف نجوى القلب ماست قبلهُ
    قبل الذين إن حكوا تَحَذْلَقوا

    لِلْيا قوامُ الشوقِ، للميمِ هوىً
    أصبى، لوجه النْون وجهٌ أنْزقُ

    السِّين بنيٌّ ولِلْبا حمرٌة
    الرّا كما يدعو الفَرَاشَ الزنبقُ

    واليوم للقلب لُغىً فوق التي
    وأعينٌ مثل (القطا) تُشَقْشقُ

    مدائنٌ مِن الحنين يمتري
    أقاطنوها الجنُّ أم تسوَّقوا؟

    كأنما الموتى إليه أطفلوا
    وغُيَّبُ الأصلاب فيه أشرقوا

    * * **
    طقوسُ هذا القلب أطفالاٌ بلا
    أهلٍ، وأهلوهُ كرامٌ أمْلقوا

    مواعدٌ تكاد تفجأ المنى
    وتنثني هذا بذاك يُمْذَقُ

    * * **
    حيناً يحول واحةً، وتارةً
    جَوْعى على شريحةٍ تحلَّقوا

    آناً فتىً يلهو، عجوزاً ينكفي
    يلمُّ أطياف الصِبا وينشَقُ

    * * **
    ينوي كما يَفْتَرُ طفلٌ حالمٌ
    الصحو في عينيه فَرْحٌ موثَقُ

    أو مثل رؤيا نائمين خُيِّلتْ
    لهم حريقاً حوله تَشَقّقوا

    * * **
    دقّاتُ قانيهِ، رؤى مخضرِّه
    أشواقُ خلاّقين لمّا يُخلقوا

    ديمومةُ الشوق الذي يذيبهُ
    في عين عينيه هو التّألُّقُ

    يكنُّ هذا القلبُ عالَماً كما
    ينوح سربٌ ريشهُ مُموْسَقُ

    يشاهق الريح فتنسى حولهُ
    هبوبها، وكيف كانت تَشْهقُ

    * * **
    في ذلك المأوى يغنّى وحدهُ
    ووحدَهُ منه عليه يقلقُ

    كعانسٍ في يوم عرس أختها
    كعاشقٍ لم يدرِ مَن ذا يعشقُ

    * * **
    وبينهُ وبينهُ تجادلٌ
    فنصفهُ فِقهٌ، ونصفٌ منطقُ

    وبين نصفيه قلوبٌ تمتطي
    إيماضها، بالمستحيل تَعْلَقُ

    * * **
    إن قال نصفٌ ما ارتآه (مالكٌ)
    أجاب نصفٌ، جوَّدَ (الفرزدقُ

    إذا اقتفى (جبران) هذا، مالَ ذا
    إلى الذين قبله تزندقوا

    إذا أخٌ صاح: الفساد مطلقٌ
    لبّى أخٌ: وأيُّ شيءٍ مُطْلقُ

    * * **
    إذا ارتضي (مارِكْسَ) هذا، قال ذا
    أجاد (إخوان الصَّفا) وأغْدقوا

    لمّا اجتلَوْا أنَّ الولاةَ أفسدوا
    ما كان، أبدوا غيره وطبَّقوا

    * * **
    ألَّفت في أخلاقهم أطروحة
    فيها تساوى الخُلق والتَّخَلُّق

    وقلتَ مِن (زينون) كانوا نسخةً
    أخرى، أعادوا نسخها ونمَّقوا

    فدكتروكَ إذ رأيتَ ما رأوْا
    ولو بعينيك رنوْت، عَوّقوا

    * * **
    إذا بكى هذا (الحسين) قال ذا:
    أعشى مِن (الأعشى) هو (المحلِّقُ)

    يا صاحبي حتى التواريخ الألى
    سقُّوا غليل (كربلا) وما سُقوا

    يستغرب الإغرابُ كيف أوغلوا
    في البُعْدِ حتى أقْمروا وأبْرَقوا

    * * **
    إن قال ذا: ما أحسنَتْ (ولاّدة
    ٌ أشاد هذا بالألى تَعَشَّقوا

    أتزدري بنتُ الذين مَدْشقوا
    غرناطةً مِن بعد ما تَمَدْشقوا؟

    يقال: كانت كاثنتين إن مشت:
    بل إنها من (نفرتيتي) أرشق

    يرى: أخافت (آل جهور) بلا
    سيف.. ومن أسيافهم لا تفرق

    أسيافها أمضى، ولكنَّ الأسى
    أيام بَيْعِ الحِذْق منها أحْذقُ

    * * **
    إذا ادَّعى ثوريةً هذا، دعا
    ذاك (المماليكَ) ارقصوا وصفّقوا

    مَن امتطى منكم قَذالَ ثورةٍ
    وأيُّكم بالثورتين استْرزَقوا؟

    أما كتبتَ عن ولاةِ أمركمْ؟
    أحصيتَ كم تزوّجوا وطلّقوا

    إذا شدا هذا: أبي ضحّى هنا
    ناداه ذا: نبكي الألِى لم يُشْنقوا

    تمثالُ كلِّ ثائرٍ أهاجني
    يسرُّهم أن تَهْرِقوا ما أهْرَقوا

    لا تهدروا وحلَ البنوك باسمهمْ
    لأنهم مِن القلوب أنْفقوا

    وشاهَدوا ما بعدْ يومِ غيرهمْ
    فَقَرْمَطوهم تارةٍ وهَرْطقوا

    * * **
    الناسُ أمثال الدجاج إن رأت
    أختاً تبيض بَقْبَقَتْ وبَقْبَقوا

    أما يزالون على العهد إذا
    تطوَّر الأجدى تقوّى الموبِقُ

    * * **
    أنحن جئنا قبلَ، بعدَ وقتنا
    مَن بكّروا مثل الذين أعْسقوا

    كان (الدُّمٌسْتُق في (الإمام) وحدُه
    واليوم قالوا: جَمْهَرَ الدُّمُسْتُفُ

    * * **
    اليوم غير الأمس تلك سُنَّة
    قالوا: وكالقُوّال عنهم أخْفقوا

    ألله فردٌ والنبيُّ واحدٌ
    والحاكم (المهدي) أو (الموفَّقُ

    (لا غمد للسيفين) خذْ دبّابةً
    ها أنت يا هذا بها مُطَوّقُ

    إن ذاك غنّى (السُّليكِ) صاح ذا
    أفتى مِن (القَيْني) (عليُّ الزَّيْبَقُ)

    مَن صَعْلك (الشطّارَ)؟ قيل: كلُّهمْ
    بلون كثبان الفلا تأنَّقوا

    سل (عروة بن الورد) من أحفاده من
    أدلجوا وكالنجوم حلقوا؟

    واستأنسوا بالوحش وهْوَ كاسرٌ
    واستصحبوا العفريتَ وهو مُحْنَقُ

    * * **
    إن هشَّ هذا للغصون، قال ذا
    خيرُ امتحان العُود حين يُحرق

    أحسُّنا نخضرُّ باخضرارها
    وعندما تصفرُّ هل سنورقُ؟

    يا صاحبي كالشمس ضوء حُجّتي
    ما الشمس؟ لَوْحٌ في الهوا مُغَلَّقُ

    * * **
    إن ذاك قال البِكر أشهى،ردّ إذا
    للأربعينيات نُضْجٌ أفْسَقُ

    لكلِّ عِشْرينيّةٍ أحلى صبىً
    لكل خمسينيَّةٍ صباً مُعتٍُّ

    هل أنت أدرى مِن شيوخ بابلٍ؟
    هضمت ما شّموا وما تذوَّقوا

    * * **
    كم أشبقْتكَ – يا فقيهُ – أعينٌ
    يُشبقْنَ مَن أشغاله التشَبُّقُ؟

    يا منطقي ما كل (زنّارية)ٍ
    نطاقها بحسنها مُنَطَّقُ

    قلّ للتي شقَّتْكَ عنها استرجعي
    الأرضُ مما كنتِ فيه أضْيقُ

    كنتَ بلا ثانٍ، فجئتَ زائداً
    على الذين ثقَّبوا وعمّقوا

    مِن حفرةٍ تُرمي تسدُّ حفرةً
    وأنتَ بين الحفرتين خَنْدَقُ

    * * **
    يا خَفْقُ، هذا القلب وَهْوَ واحدٌ
    خصمان: ذا موجٌ، وهذا زورقُ

    لو قال ذاك: البحر سِرَّةُ الثرى
    لقال ذا: بل جرحَهُ المرَقرَقُ

    لو قال ذاك: انظر هنا (مُكَيْرسٌ)
    لقال هذا: بل هناك (المفْرَق)ُ

    أليس غَرْبُ القلب مثلُ شرقهِ
    في القلب غير قلبه يا أحمقُ

    ماذا ترى؟ أحسُّ كل نبتةٍ
    كانت يداً تومي ووجهاً يعْرَقُ

    هل هذه الأطلال كانت نسوةً؟
    لا، بل رجالاً كالجمال اسْتنوَقوا

    أمَا (الكُموناتُ) افتتاحُ عصرنا؟
    بل استهلَّ العالمَ (الخوَرْنَق)

    * * **
    هل نصفُ هذا القلب عكسُ أصفةِ؟
    ذا بالورى أحفى، وهذا أرْفَقُ

    كلُّ بقاع الأرض في حنينه
    هذي عناقيدٌ، وتلك فُسْتقُ

    بيوت أحبابٍ يفتِّق الندى
    أهدابَها، فيفرح التفتُّقُ

    لأنَّ هذا القلب رغم حجمهِ
    بسيطةٌ للكل، عنها يأرَقُ

    * * **
    مستخبرٌ عما مضى، وهل مضى
    عما سيتلوهُ، وهل سيلحق

    عن الذين غرّروا، هل غرّروا
    عن الذين حقّقوا، هل حقّقوا

    عن الذين يلبسون غيرهمْ
    فإن وهى بغيره تلفّقوا

    * * **
    عن الربيع الطّلق، أهْوَ واحدٌ؟
    أم أنّهُ في كل روضٍ فَيْلقُ؟

    عن النِّمال هل لجدِّ جدِّها
    – قُبيْلَ عادٍ – مركبٌ وبيرَقُ

    * * **
    عن الورى، مَن ذا وراء حشدهمْ؟
    إذا التقوْا ومَن إذا تفرَّقوا؟

    عن مُشْعلي حرب العدى إذا انتشوْا
    فإن رأوْا في الصحو حاءً أطْرقوا

    وإن دعا يوم الحمى تحجَّروا
    وإن أشار دِرْهَمٌ تدفَّقوا

    * * **
    أعن (أزالٍ) ما وقفتَ سائلاً؟
    ناديتَ أحياءً عسى أن يُرزْقُوا

    كيف انثنى الحُجاج؟ قالت لي صَهٍِ
    ما كل ساعٍ (شاهرٌ) أو (شَوْلَقُ)

    وأمْعن القلبُ يقلِّب الألى
    رقَوْا مِن الأبواب أو تسلَّقوا

    يروي البطولاتِ التي أنفاسُها
    كما يفوح الجوربُ الممزَّقُ

    * * **
    يُنهي السؤالَ بالسؤال، داخلاً
    غياهباً، سرادباً، لا تُطْرَقُ

    مُكاشفاً مِن تحت كلِّ زِينةٍ
    مقابراً، يزفُّها التَّزوُّقُ

    ملابساً أوصى بها الذي مضى
    لمن أتى وللذين نسّقوا

    كأنه مُوكّلٌ بما ثوى
    خلف الحُلى وزوّرَ التملُّقُ

    يشمُ ما سوف يلي هذا، كما
    يُقرمز المعنى الخيالُ الأبلقُ

    * * **
    مستنبئاً عن الذين أخفقوا
    هل أخفقوا لأنهم تفوّقوا؟

    عن الذين أُبعدوا لأنهم
    كما حكى الراوي – أبَوْا أن يسرقوا

    عن سيد الأمر الذي رأى بهم
    غرابةً تغزي، وأخرى تَصْعّقُ

    * * **
    عن السما كيف ارتقى ازرقاقُها
    وما تَرَقّى البحرُ وَهْوَ أزرقُ

    عن الذرى، هل تستحيل أنجماً؟
    هل يستقيم المنحنى ويَسمُقُ؟

    عن الذين وحدهم توحّدوا
    قبل الطريق باسمه تطرّقوا

    عن الذين أكْوَتوا مِن ههنا
    عن الذين مِن هناك أعرقوا

    * * **
    من يعربٍ، هل اسمهُ من نُطقهِ؟
    وهل روى الإغريقُ ماذا أغْرقوا؟

    عن التواريخ التي كانت لها
    نقاوةٌ، وللحروف رَوْنقُ

    * * **
    تساؤلٌ يرمي بنفسه إلى
    تساؤلٍ مِن مقلتيه يأْبَقُ

    يُراحل اليومَ إلى أن ينحني
    يُساجل الليلَ السُّرى ويسْبَقُ

    لأنَّ بدْءَ المبتدا ماذا يلي
    فآخر المسعى السؤال الأعْتقُ

    * * **
    هل اشتفى هذا وذا أو انطفا
    بَرْقُ المنادى، أم خبا التشوُّقُ؟

    لأنَّ (كَم) أرخى الحزام عن (متى)
    مِن أين يَسْتحكي، ولا مَن ينطُقُ؟

    * * **
    قُلْ أين عرّافوك يا (الأشمور) قل
    من ذا درى، هل غرَّبوا أو شرّفوا

    وأين (هل) كان أخي قيل لهُ
    هناك بستانٌ يليه فندقُ

    يا(هل) على (مِن أين) يعبر الذي
    أجْفَلْتَ عنه، أو ذووك أشفقوا

    ومرَّ (مِن أين) يحسُّ أنهُ
    إجابةٌ، مِن السؤال ألْبَقُ

    يرى الزحامَ في الزحام ينطوي
    سقفُ الغبار بالغبار يُخْنَقُ

    * * **
    يصيح: (يا ( ماذا ) أُريد نَبْأَةً
    تشي بأمرٍ، تفتري، أو تصْدقُ

    يَسْاَنْشِدُ العصفورَ، يعيا ينثني
    يلقى غراباً شايخاً لا ينْعَقُ

    * * **
    صَمتُ الضجيج ههنا، وههنا
    يا ريح قولي: يا حزانى حدِّقوا

    يصغي، ينادي، لا يظن أنهُ
    نادى، ولاأصغى السميعُ المُرْهَقُ

    لأنَّ بين الصوت والمصغي دماً
    بين القوى، وبينه تشدُّقُ

    * * **
    الساعة اصفرَّت على مُغْبَرَّها
    لأنَّ وجه الوقت بابُ مُغْلقُ

    يا قلبُ مَنْ يُفتي خفوقك الذي
    غموضهُ أدرى ب ماذا تخفُقُ

    1990م

  • 336 جلالة الفئران

    ديوان جواب العصور >  جلالة الفئران

    أيُها الكاتبُ مَن تعطي الكتابَهْ
    مديةُ الجزّار في أيدي الرَّقابَهْ

    تحسنُ القولَ لقصّابينَ ما
    حاولوا أنْ يحسنوا حتى القِصابَهْ

    تبعثُ البحثَ قويماً، ينثني
    فاقدَ الساقين محروق الذؤابَهْ

    دافعاً قرّاءَهُ أن يعرفوا
    موضع التقتيل فيه والإِصابَهْ

    ذلك الفن الذي تعمرهُ
    مِن حنايا القلب تلقاه خرابَهْ

    جئتَ مِن مطبعةٍ؟ قل صادقاً
    جئتُ مِن مسبعةٍ يا للغرابَهْ

    سايسوها ما لهم لبٌّ لذا
    يحسبون الشعبَ معدومَ اللّبابَهْ

    * * **
    أين منك الصوتُ؟ دسّوا مِن فمي
    غيرَ حلقي، حطَّموا تلك الرَّبابَهْ

    أين كفاك؟ أتدري ما شووْا
    إصبعاً إلا وظنّوها كبابَهْ؟

    أين خدّاك؟ نأى ماؤهما
    عنهمو، والتمَّ في قلبي سحابَهْ

    أين جنباكَ؟ تعشَّوْا واحداً
    واحداً أجروا له غَسْلَ الجنابَهْ

    كنتَ ذا رأسٍ نجوميِّ المدى
    حوَّلوهُ جرّةً نصف مُذابَهْ

    أين عيناكَ؟ رموا واحدةً
    قلعوا الأخرى وردُّوها مصابَه

    * * **
    سادةُ التحرير مَن حمَّلهمْ
    مهنةَ الحرفِ؟ وهم أضرى عصابَهْ

    قَضَموني مِن هنا مِن ههنا
    أيُّ فئرانٍ أرى؟ من أيِّ غابَهْ؟

    إنهم نعلُ الذي يعلوهُمُ
    وعلى مَن دونهم أبطالُ (بابَهْ)

    قال أعلاهُم مقاماً: هشَّموا
    أيَّ حرفٍ يحتوي أيَّ ثَقابَهْ

    وانحنى فوقَ الوريقات، كما
    تفتح الحلوى حشاها للذُّبابَهْ

    * * **
    هذه الزاوية الأولى بها
    نكهة أخرى، دعوا ذات الذَّرابَهْ

    تلك لا بأسَ، تُرى طيِّبةً
    عند من تدرون ليست مستطابَهْ

    قصةٌ ماذا حكت؟ غمغمةً
    لافتٌ عنوانُها (قتلُ شهابَهْ)

    * * **
    انظروا أيَّ مقالٍ جاءنا؟
    قال إنّا دودةٌ تجترُ (دابَهْ)

    وبأنّا نشرب النِّفط دماً
    ونبيع (الجوْفَ) كي نُشقي (رُصابَه)

    وادّعى أن الروابي أصبحت
    دورنا مِن (دمنةٍ) حتى (ثَوابه)

    بلِّغوا عنه، ولكن ما اسمهُ؟
    سوف يدي (القُحْطُمي) بيت الإِنابَهْ

    * * **
    اللقيطاتُ السّياسيّاتُ كم
    علَّمتْنا خِبرةً ذاتَ إثابَهْ

    فسبقنا الكلب في النهش عسى
    أن تُرى عَيّابةُ الوضْعِ المُعابَهْ

    شُغْلُنا وليغضب الكلُّ، فما
    بين هذا الشُّغْلِ والشعب قرابَهْ

    هكذا قالوا وحَدّوا نابَهم
    مستلذّين عَلى الفنِّ الكَلابَهْ

    * * **
    هذه الصفخةُ ما أخطرها
    شذِّبوا قامتها أخفى شِذابَهْ

    أنزلتْ فلسفةً الحكم إلى
    شارع الجوْعى وأعداء الرَّتابَهْ

    نزّلوا جبهتَها سرَّتَها
    وازرعوا في صُلْبها عقمَ الصَّلابَهْ

    * * **
    وضعُ هذا السين يُذكي أعيناً
    زحزحوه وضعوا جيمَ الإجابَهْ

    قلب ذاك الدال يُسني وجههُ
    رمِّدوا في لَمْحه نبضَ النَّجابَهْ

    واجموا الميم تروا داخلَهُ
    طلِّقوا مِن جَدِّه زوجَ الدَّعابَهْ

    ذلك الواو احذروا مِن مكرهِ
    إنّهُ كالموت غيبيُّ المَهابَهْ

    شارب الشين اصبغوهُ زُرقةً
    وإلى باقرِّبوا نونَ النِّيابَهْ

    * * **
    قطِّعوا شريان باب المبتدا
    واقتلوا في همزة الوصل الصَّبابَهْ

    حجّروا رؤيا نبيِّ الحرف في
    حَرْفهِ، واستقبلوهُ كالصَّحابَهْ

    وَأْسَفوا مِنْ غلطةِ الطَّبعِ لهُ
    وابحثوا الأوراق مبدين الكآبَهْ

    نفّذوا أمر الذي أمَّرهم
    والذي أرْكَبهم ظهرَ النَّقابَهْ

    فغدوا جيشاً مدادياً إلى
    فيلق الفوضى، وللغازي مثابَهْ

    يناير 1990

  • 337 اختطاف الشيخ عبدالكريم عبيد

    ديوان جواب العصور >  اختطاف الشيخ عبدالكريم عبيد

    ليلٌ وسربٌ مِن كلاب الجحيمْ ظامٍ

    حديدُّ الحشا والأديمْ

    يشوي تجاعيد الليالي التي
    يجري عليها يحتوي أو يُضيمْ

    أفَظ مِن فوضى سباع الغلا
    وَهْوَ يباهي بالنظام النظيمْ

    ومِن ذباب الصيف أظمى فماً
    إلى دم الجرحى وجَرح السَّليمْ

    للسلب أرأى مِن غرابٍ، وعن
    ذي الحق أعمى مِن ركام السِّديمْ

    * * **
    يكفي الحبالى الوضعَ مِن حَسْوهِ
    كلَّ جنينٍ قبلَ أكْل الفطيمْ

    بعتِّق الأضغان فيهِ كما
    تعتِّق الدودَ العظامُ الرَّميمْ

    * * **
    هذا القطيع النابح النارِ، يا
    (صيدا) يهيم الآن، فيم يهيمْ؟

    يقيم في نيَّته مأتماً
    في أي بيتٍ لا يعي ما يقيمْ

    يحمرُّ كالسَّفّود يسودُّ، ولا
    ينام فيه المعتدي لا يُنيمْ

    يقاسم الليل رؤاه، لا
    يرضى له في أي نعمى قسيمْ

    تقيَّأتْهُ خطةٌ مثلما
    يتقيأ الفيرانَ جبٌّ وخيمْ

    * * **
    تحتثُّه يا (صور) طيارةٌ
    كجدَّة الشيطان في شكلِ ريمْ

    تُموِّه التّنينَ فيها، تُرى
    زُرافةً حيناً وحيناً ظَليمْ

    تحوم تبغي (لَرْنكا) تارةً
    وتارةً ترتد صوب (القصيمْ)

    طيف دم الإنسان أنّا مضتْ
    لمقلتيها ويديها لزيمْ

    كأنها تحت مهماتها
    ساقٌ دقيق تحت جسمِ جسيمْ

    * * **
    ترتابُ مِن أين، أما حدَّدوا
    جدران بيت الشيخ عبدالكريم؟

    قُدّامُهُ مئذنةٌ، خلفهُ
    حديقةٌ جرحى، ومقهى قديمْ

    سفرجليٌ، ليس ذا لونُه
    مقوسٌّ كالجسر، ذا مستقيمْ

    كلُّ مكانٍ مشبهٌ جارَهُ
    أصحُّ قلباً، وهو يبدو سقيمْ

    * * **
    (عزرا) أهذا بيتهُ؟ مثلهُ
    (موشى) تأكَّدْ، أكَّدتْ (أورشليمْ)

    هل أخطأتْ خارطتي، أو أنا؟
    الرَّسمُ قُدَّامي خلافُ الرَّسيمْ

    (ناحوم) أَطلِقْ نصف ضوءٍ، سدىً
    سيختفي قبل الهبوط الغريمْ

    وربما تحرقهُ شعلةٌ
    أو يحرق الشيخُ الضياءَ الرجيم

    له كراماتٌ حكوا أنها
    تحوِّل (النّابلْمَ) بعضَ الهشيمْ

    دع عنك هذا نبتغي خطفهُ
    بالرِّفقِ، أو تحت العذاب الأليمْ

    * * **
    يا نجم هذا بيته أين مِن
    هذا المصلَّى دارُ ذاك الزعيمْ؟

    هذا (كدار الأرقم) انظر أما
    عنوانه باسم العزيز الرحيمْ؟

    على محيّا بابه همزةٌ
    وفي قَذال السّور حاءٌ وجيمْ

    * * **
    هل مرشد النجمُ الكلابَ التي
    تعوَّدتْ أن تهتدي بالشَّميمْ؟

    مَن ينتمي منكم بعرقٍ إلى
    قِطْمير أهل الكهف حامي الرَّقيمْ؟

    لا خير ما في الكلب فيكم ولا
    ما في ابن حوّا من نقاء الصَّميمْ

    أسكتْ أنا ما قلت هذا وشى
    بقبحكمْ هذا الرداءُ الوسيمْ

    فهل أُسمّي عضَّ أنيابكم
    مكرَ السياسي أو دهاءَ الحليمْ

    * * **
    يا تلُّ، بيت الشيخ هذا؟ أما
    دلّتْ عليه وشوشاتُ النسيمْ

    له هنا أو ها ههنا منزلٌ
    مِن طيب آيات الكتاب الحكيمْ

    خدّاهُ ذا يصبي مشيب (السُّهى)
    هذا بمنديل الثريا لَطيمْ

    * * **
    تريد قتل الشيخ يا ابن الخنا
    هل مقتل الأزكى ينجِّي الأثيمْ؟

    تودُّ أن تدعى عظيماً، متى
    عادى عظيمٌ أيَّ شيء عظيمْ؟

    * * **
    وفجأةً لفَّ الدخانُ القُرى
    وانصبَّ فوجٌ كالظلام البهيمْ

    مِن أين جاؤوا مثل مستنقعٍ
    يرمي بكفيه حشاه الكتيمْ؟

    يراطنون الليلَ يحشونهُ
    لغواً كما يهجو القبيحُ الدميمْ
    * * **
    مَن بلّغ الإظلامَ أوجَ الضحى؟
    مَن ذا هدى كلَّ عُتُلٍّ زنيمْ؟

    مَن دلَّهم، هل مثل (كعبٍ) هنا؟
    ومَن هنا مِن طينة (ابن الخطيمْ)؟

    * * **
    كوجه إسرائيل هذا الدجى
    كغدرها هذا الدُّخان الكظيمْ

    فلا سوى الأنقاض كأسٌ لها
    ولا لها غير الأفاعي نديمْ

    ولاسوى الأطفال أشهى إلى
    حلوقها، هذا لديها النعيمْ

    من دأبها قتلُ البراءات عن
    توارثٍ في طبعها مستديمْ

    لأنها أضرى خصوم النَّقا
    كان لها كلُّ نبيٍ خصيمْ

    * * **
    بالخطف أضحتْ دولةً، قل متى
    تدوَّلَ السرحانُ يا (بن العَديمْ)؟

    مَن ذا سيثنيها؟ حماةُ الحمى
    أدنى زنابير الزمان السَّئيمْ

    * * **
    يا(بن عبيدٍ) ما الذي ترتئي
    فوق احتمال الأرض نصرُ اللئيمْ

    كيف استباحوا بيتك ابن الهدى
    وأهدروا فيه جلالَ (الحَطيمْ)

    هل كنت إذ جاؤوا بلاأُهبةٍ؟
    مَن ذا ينام اليوم أو يستنيمْ؟

    وأين كان الغرُّ أهلُ التقى
    وسادةُ الرمي السَّديد الفهيمْ؟

    ما أهرقوا مِن واغل قطرةً
    ماذا أما في الحيِّ عينٌ تَشيمْ؟

    * * **
    لعلهم كانوا يخوضون في
    مَشْطِ اللحى أو تركها كالجميم

    أو في دم البِّق وجَلْدِ الزِّنى
    أو حَجْب مَن يدعونهنَّ الحريمْ

    ما بالُ مَن يُردي أخاه هنا
    يُرى أمام الغزو جَحْشاً لجيمْ

    ماذا غريبٌ، طفلُ شتّى القوى
    مِن كثرة الأحضان أغبى يتيمُ

    * * **
    هل كنتَ تخشى ما جرى؟ هكذا
    يلقى الأذى أهل الطريق القويمْ

    قيل لقوم الخطف أعلى العلى
    في العلم، هل يحتاج علمَ العليمُ

    هل تحمل الحدْأَةُ دكتورةً فيهِ
    أأعطى الذيبَ ملكاً فخيمْ؟

    دعهم يَروْهُ وهْمَ نَصْرٍ، فما
    أنت الذي في الأسْر تُعدى الهزيمْ

    * * **
    يا شَبَّرَ الثاني دعتْ (كربلا)
    أخرى (وشمْرٌ) غير ذاك الشتيمْ

    جئت الألى جاؤوك قل صائحاً
    يا (خيبر) الثاني ستمسي هديمْ

    نصفُ نبيٍ مِن وليٍّ أتى
    رقى مِن الترخيم داعٍ رخيمْ

    ستخطف الخطفَ على رغمهِ
    ورغمَ مَن أزروا بموسى الكليمْ

    ومَن تبنَّوْا (سيَبنوزا) ومَن
    عن وجهه أعطوه وجهاً ذميمْ

    * * *
    يا شيخْ أنت اليوم أبقى هنا
    يا راحلاً لبنانُ فيه مقيمْ

    يثني – كما تدري – وثوب الردى
    يقتاد مِن أعلى البروج العصيمْ
    * * **
    لبنان للحرية ابنٌ، لهُ
    منه زمان غير هذا العقيمْ

    لأنه يختار لا فوقهُ
    فرعونُ لا مشيخةٌ مِن تميمْ

    لو كان يعلوه نظام كما
    يعلو سواه بات قشّاً هضيم

    غامت – بلا برق – ديار الضحى
    ووجهُ لبنان الذي لا يغيمْ

    لأنه ذو الأمر في أمرهِ
    فهو المرجَّى والرجاءُ العميمْ

    هذا إلى الخلف انثنى، ذا انحنى
    لبنان عن نهج الفدا لا يريمْ

    أمام إسرائيل أعدى العدا
    للسِّلمِ عن نصرٍ صديقٌ حميمْ

    أغسطس 1989م

  • 338 عرّافة الكهف

    ديوان جواب العصور >  عرّافة الكهف

    يا آخرَ الليل، يا بَدْء الذي ياتي
    هل سوف تصحو التي، أم تهجع اللاتي؟

    أسْحَرتَ في منكبَي سهلٍ يُساكنني
    عظمي، أتُصغي إلى أسمار جدّاتي؟

    رفقاً بلمس حصاُه، إنها حُرَقي
    وتلك أعشابه الكحلى بُنَياتي

    أما بخديكَ من أنفاسه قُبَلٌ
    كنبْسِ أمّي، تحاكي بدءَ لثغاتي؟

    في غور عينيك بدءٌ لا ابتداء لهُ
    خذني أمُتْ فيه، بحثاً عن براءاتي

    عن ريشِ أولِ عصفورٍ هناك زقا
    وشمَّ منقارُه مولاةَ مولاتي

    عليكَ عِمّةُ قنّاتٍ تهشُّ بها
    وفي ردائك ضاحٍ غيرُ قنّاتِ
    ***
    هذا الهشيم الذي قيل اسمهُ شبحي
    تدري لماذا يمنِّيني بإنباتي؟

    وبامبلاج شروقي خالعاً زمني
    وتحت إبطي كتاب عن بداياتي

    ناديت صبحاً هنا وهنا….
    ظلتْ تُلبّى نداءاتي، نداءاتي

    يا آخرَ الليل لو ناديتُ مقبرةً
    قالت: هناكَ انتبذْ أقلقتَ أمواتي

    لأنَّ أحبائي يُقوِّلُني
    القحط يمتد مِن قوتي إلى قاتي

    هذي يدي أوشكتْ تنسى طريق فمي
    أصيحُ يصخبُ شيءٌ غيرُ أصواتي

    ***
    ألستَ يا الشفق الثاني تحسُّ معي
    طفولةَ ابن الندى، إحدى حبيباتي

    تلوح غير الذي بالأمس مرَّ وما
    قال السَّنى: مَرَّ صبحٌ أو دُجىً شاتي

    ***
    كان المكان زمانياً بلا زمن
    قال الفراغُ: هنا أهلي وأبياتي

    مَن ذا هنا يا (سهيلُ)؟ قال: أين أنا
    مَن يا ضحى؟ قال: من ذا احتاز مرآتي؟

    أما تلمَّحت حيناً ما لمستُ أنا؟
    بل ضعتُ بين التفاتاتي ولفّاتي

    ***
    هل أنتَ منك ستأتي؟ لو ملكتُ يدي
    لكي أصوغَ قُبَيلَ البدء ميقاتي

    أحلى الثواني التي تحدوك حمرتُها
    لها احمراري، وللأخرى صباباتي

    ***
    تَرى أيعييك مثلي حَمْلُ جمجمتي؟
    هل في طواياك نيّاتٌ كنيّاتي؟

    يقال: بيتاك في إبطي دجىً وضحىً
    بيتي الذي سوف أبني هادمٌ ذاتي

    وأين تبني؟ وهل في الأرض زاويةٌ
    إلاّ وأصبى خباياها صديقاتي

    ***
    ماذا تُغمغم كالنهر الجريح؟ متى
    ستنفث الكبتَ؟ كي أجتاز كٌباتي

    قلْ أيَّ شيءٍ، ولكن لا تقلْ كأبي:
    دعني فلا ناقتي فيها ولاشاتي:

    هل في لسانك أم في مسمعي حجرٌ
    أم تَرْجَمَ الصمتُ إنصاتي لإنصاتي؟

    كم قيل أفْصَحَ صبح وانجلتْ شُبَهٌ
    يكفيكَ عصيان قلبي أمْرَ إسكاتي

    ***
    عرّافةُ الكهف قالت: لي مفاجأةٌ
    قلتُ: اهبطي، وخذيني الآن أو هاتي

    على اسمها بتُّ أطهو نجمةً لغدي
    ماذا سأفعلُ لو أنهيتُ مأساتي؟

    ***
    اليوم يا ابْني تُوافي كلُّ ثانيةٍ
    بعكس ما بشَّرت قلبي نبوءاتي

    قبل التوقُّع ينصبُّ الوقوع، ولا
    تحسُّ أَهْوَ رذاذٌ أم لظًى عاتي؟

    يا أولَ الصبح، لي عند الضحى خبرٌ
    وأخرياتُ الدجى برهانُ إثباتي

    عرَّافةُ الكهف قالت: كلُّ آتيةُ
    تمضي، وتأتي ولا تمضي خرافاتي

    كالبحر يأتي إليه منه مُرتحلاً
    فيه،كذا تحمل السبّاح موجاتي

    والآنَ ماذا؟ تزوَّجْ أمَّ والدتي
    جدَّاتُ جدّاتِها الخمسون زوجاتي

    والآن يا يومُ، هأنت انتصفتَ فهلْ
    خَّمْنتَ مما مضى،مامطلعُ الآتي؟

    1991م

  • 339 فتوى إلى غير مالك

    ديوان جواب العصور >  فتوى إلى غير مالك

    لن ترحم الثّوار والهُتافا
    هلاّ رحمت السيفَ والسيّافا؟

    أوَمَا على المقدام يوم النصر أن
    يرعى الشجاع، ويرحم الخَوَّافا؟

    أيكون ما أحرزته نصراً، إذا
    قاتلت أجبنَ، أو قتلتَ ضعافا؟

    أسَمعتَ عن شرف العداوة، كي ترى
    لخضمِّ تقطيع الرؤوس ضفافا؟

    ***
    سأحثُّ أسئلتي إليك، وإنني
    أرمي بهنَّ وبي إليك جزافا

    هاك القصيدة والمُقصِّدَ سلهما
    إن تبتغي، أو دعهما استخفافا

    سأظل أسأل (أحمداً) لا (مالكاً)
    كيف استطبتَ بأهلك الإجحافا؟

    فدخلتَ (صنعا) فاتحاً، وقطوفُها
    أشهى إلى مَن جاءها مصطافا

    ***
    هل قال قَتْلُ أبيك: ترقى بعدهُ
    تُفني وتسجن بإسمه الآلافا؟

    أتَركْتَهُ بالأمس يلقى قتلهُ
    كي لا ترى للأمر فيك خلافا؟

    ***
    أسرفتَ في التقتيل، يهزمُ نصرَهُ
    مَن يستلذُّ القتلَ والإسرافا

    حتى قطعتَ مع الرؤوس ذيولها
    هل سوف تقطع بعدها الأردافا؟

    ماذا ستصنع حين تصعدُ أرؤساً
    تلك التي لمّا تزل أكتافا؟

    ***
    أضنى دمُ الأعناق سيفَكَ هل روى
    كيف اقشعرَّ مِن النجيع وخافا؟

    لو كنتَ لاستعطاف أيِّ مؤمِّلٍ
    أهلاً، لذاب حسامك استعطافا

    أُيقال: عفَّ ابنُ الحديد عن الدِّما
    وابن الأئمة لا يُطيق عفافا

    ويقال: أمسى (نافع) مستخبراً
    أأجعته كي يأكل الأضيافا؟
    ***
    أخْجلت عهد أبيك، والأسياد مِن
    أسلافه، وستُخرجُ الأخلافا

    لا يبلغ الأشراف، إلاّ مَن غدتْ
    أعمالهُ، كجدوده أشرافا

    ***
    سل وقع رميتك التي ما أخطأت
    أهدافها، كم أخطأت أهدافا؟

    هل وافت المرمى الذي نَفَرتْ لهُ
    أمْ ذلك المرمى، إليها وافى؟

    ***
    قالوا: شهرتَ على العِدى
    فاقعد وقل: للريح تُعَمِّمُ الإرجافا

    الآن لا حلمٌ هناك، ولا هنا
    يرنو، ولاطيفٌ يُرى طوّافا

    حاربتَ حتى ما تركتَ مُحارباً
    وأمَتَّ في أغمادها الأسيافا

    ***
    بلظى (الجرامل) و(السريع) أحلْتَ في
    (بيت الفقيه) وجوههم أظلافا

    ورؤوس (نجران) العواصي أينَعتْ
    لمّا رأتك القاطفَ الخظّافا

    واليوم أضحى (ابن الوزير) وحزبهُ
    خبراً، على أردانه رعّافا

    قَوّلْتَهُمْ هذا، فقالوا: أحْسَنوا
    طَرَبُ الملُقِّنِ يخدع العزّافا

    ***
    أنْصَفْتَ نفسك خالقاً مَن يبتغي
    لضميرهِ مِن نفسك الإنصافا

    أحدثْت ما لا يستشفُّ منجِّمٌ
    لترى غداً ما يفجأُ العرّافا

    قال المنجِّم: ما عليك خطورةٌ
    فعلامَ تخشى الحُلمَ والأطيافا؟

    أأقول عنه: عليك خصمٌ منك لا
    يغفو، ولو صافيْته ما صافى

    ***
    سنقول: مَن هذا اللعين يقول ما
    أخفي، أما سرٌّ عليه تخافي؟

    لا يستحق الذِّكْرَ مَن ألبسْتَهُ
    صفةَ اللعين ولا اتردى أوصافا

    عريان إلاّ من قميص وِلادهِ
    عانٍ، وقلب الشعر فيه معافى

    أعمى، و(زرقاء اليمامة) حيّةٌ
    فيه ترى من (سربةَ الأحقافا)

    ما قال: إلا ما اقترفتَ وما اجتلى
    مِن سرِّه ما يُعجز الكشّافا

    ما جاء بابكَ راجياً. لكن أتى
    عما سيأتي سائلاً ملحافا

    ديسمبر 1984م

  • 340 وريقة من كشكول الريح

    ديوان جواب العصور >  وريقة من كشكول الريح

    قيل عن (صدَامْ):(بوش) اليوم صرَحْ
    قال(غوربتشوف):(هلمت كول) وضَّحْ

    تاه (بيكر)، ما الذي يعملهُ
    مُستقَرُّ النفط يهتاج ويَرْمَحْ

    صَبَّحَتْهُ غزوةٌ ما نَفَثَتْ
    عطْسَةً واحدةً حتى ترنَّحْ

    سقط الوقتُ كسيحاً فوقهُ
    وهْو مِن قبل سقوط الوقت أكْسَحْ

    لا الذي مات هنا، أغفى ولا
    أصبح الغازي مِن المغزوِّ أنْجحْ

    ***
    لا يعي الهارب هل يرمي به
    مأمناً أو مَخْوَفاً أو أيَّ مَطْرحْ

    يدخل السوق حشاه مثلما
    يلبس المقتول جثمان المجرَّحْ

    فرّت الكثبان منها والحصى
    مِن حصاه لاذت البطحا بأَبْطحْ

    مات برميل بأولي سكتةٍ
    ونجا ثانٍ له قلبٌ مُصَفَّحْ

    فتحت كشْكولها الريحُ: اكتبي
    ما جرى، لا تنعتي أطْغى وأصْفَحْ

    دوّني الساعاتِ، لا تَسْتكحلي
    ربما تلقين بعد الآن أكْلَحْ

    في فمي حادثةٌ آبيَّةٌ
    ذقتها، لا ماع وصفي، لا تبجَّحْ

    ***
    قال (جفري هاو): تبدو صفقةً
    لَبِسَتْ حادثةً أوهى وأوقحْ

    وقعتْ، فاتت: ف ماذا بعدها؟
    لفحت جاراً: أتاليها سيلْفحْ؟

    قال (فهدٌ) تلك أدهى، واحتمى
    بالذي يدري متى يُرخي ويكْبحْ

    ***
    شبَّت الحادثةُ امتدَّتْ، غدتْ
    أمَّ أحداثٍ، لها ستون منكحْ

    ولها (كابن سَدوسٍ) عَشْرةٌ
    وثمانون فتىً مِن (آل أفلحْ)

    ***
    قيل (تَتْشَرْ) قرأت طالعها
    قبل أن يشتطَّ مغزاها وتَشْطَحْ

    قال (ميتران): ماذا تبتغي
    رأينا؟ أم ترتئي فينا وتَنْصَحْ؟

    أيَّ شيءٍ في الخليج استحدثت؟
    ما أطاحت فيه إلاّ بالمطوَّحْ

    صرّحوا، قاموا، أشاروا، وضّحوا
    أمراء القبح مِن مَرآهُ أقْبحْ

    ***
    فتحت (برلين) طرْفاً ثالثاً
    سكت (العتريف) و(التنّين) صيَّحْ

    كان بالعينين وجهي ناقصاً
    زُدْتُهُ ثالثةً فاختال أمْلحْ

    وإلي الريح أسرَّتْ خبراً
    كذَّبتْهُ عينها والسَّمع رّجحْ

    ***
    قال (هافل) راوياً عن خمسةٍ
    شاهدوا (لينين) يختطُّ ويشْرحْ

    يقرأ السوق، يغنّي، يحتسي
    كأسَ (بوشكين) وكالأطفال يمرحْ

    ***
    هل تجسَّسْتم عليه؟ سنةً
    ننثني إن عاد، نغدو حين يسرحْ

    لامْترى في أمرنا، لا قال: مِن
    أين أنتم، كل يوم كان أسْمحْ

    وعلى إرهاف حدّيهِ تشي
    مقلتاهُ، إنه ما اعتاد يجرحْ

    ***
    غير أنا ما استبنّا بيتهُ
    لا أرانا، لا اهتدينا كيف يجنحْ

    كيف ينسلُّ إلى منعطفٍ
    يحتويهِ، لا يرينا منح ملمحْ

    الحب الأرض يغفو تحتها
    وعليها ينحني، يجني ويفلحْ

    ***
    ما الذي يلبس؟ مثلي، إنما
    قلبهُ أذكى، ومن عينيه أطْمحْ

    قلتُ: هل أخلجتَ؟ كُتبي أخلَجتْ
    وعليها استنْبحوا ما ليس ينبحْ

    قلت: يا عمُّ أوصنا، قال: أما
    كثرة التغليف للأسرار أفضحْ!

    ***
    ما الذي نخبر عنه؟ إنهُ
    كضحى نيسان، بل أبهى وأنْفحْ

    عندهم عنهُ، سوى ما عندنا
    صَدَّقوا ما قيل، لمّا كان أرْوحْ

    ***
    كان ذاك الوقت في (كاظمةٍ)
    طلقةً تقتاد إعصاراً مسلَّحْ

    يُغرقون الآن (موسكو) لبناً
    (الكويت) الآن في نارين يسْبحْ

    امنحيهِ يا “تميمٌ” نجدةً
    مثلما كان – إذا استمنحتِ – يَمْنحْ

    قيل (موسكو) تشتهي مرضعةً
    مِن (أثينا) قيل بالألبان تَطفح

    قيل ماتت عطشاً، قيل فما
    بالها تستحلب الرمل فينْضَحْ

    ***
    كم تظن الوقت يا (ميخا)؟ أرى
    ضفَّةً تدنو، وعنها النهر يَنْزَحْ

    ارتوت (باريس)، (نّيورك) ابتدت
    كأسَها (صَدَّام) في (المرقاب) أصْبحْ

    في (براغ) الأزمة السّكرى صحَتْ
    (السليمانيةُ) اعتمَّت بمذبحْ

    في (بروكْسل) عقدوا مؤتمراً
    في (الشويخ) الصَّمتُ من (سَحْبانَ) أفْصَحْ

    في (ميوِنخْ) للثواني دهشةٌ
    فوق (حفر الباطن) الحشر المجنَّحْ

    ***
    أعلنت (بِغْبِنْ): تنادت جثثٌ
    في (حَوَلّي) أجمع الحيُّ المُقرَّحْ

    مِن هنا نسري، وكانت ترتدي
    دمها (الجهرا) وتحت القصف تَجْمحْ

    أسفْرتْ وقفتُها الأولى كما
    هتكتْ (ليلى) بهتك (ابن الملوَّحْ)

    ***
    قال (غمدان): (الكويت) ابن أبي
    مثل طفلٍ تحت خيل النار يرزحْ

    قالت (النقرة): يا عمُّ اطمئن
    هأنا والطارئُ الغاشي سيبرحْ

    يا ابنتي كلُّ بلادٍ تلتظي
    في حناياها بلادٌ سوف تفرحْ

    ***
    عربَبتْ (عمّانُ)، قال (الأحمدي):
    خنجر ابن العم لابن العمِّ أذْبحْ

    قالت الريح: كأهل الأرض يا
    (أحمد) لابد أن تهنا وتَتْرحْ

    لو ل(وَرْسو) ربع ما تملكهُ
    بادرتك الصبح، كي تبتاع مَشْلحْ

    قل: لماذا جانبتْ منتصَفاً
    نحو بدءٍ، صار مما كان أفدحْ

    ألديمقراطية اليوم بلا
    ثورةٍ كوميديا مَنْ غير مسرْحْ

    ***
    قبل عشرين ابتدا ما لم يكنْ
    أسنحَ الشعب الذي ما كان يَسْنَحْ

    ما الذي تسأل(واشنطن) أصخْ
    (الكويت) اليوم بالأمس أربحْ؟

    حسناً أرمي إليه قوةً
    أعلن الحرب وأدعو الصلح أصلحْ

    ***
    قالت الحرب: كثيراً ما انثنتْ
    أُهبتي سلماً، وبعض الجِدِّ أمْزحْ

    إنني ذاتُ وجوه بعضها
    عكسُ بعضٍ، ولذا أهجى وأُمدحْ

    هل لديك اليوم وجهٌ؟ سكتت
    قالت الريح: عروس الشرِّ ألْقحْ

    ***
    حاولت (روما) ترى الأمس غداً
    قبل أن يبتهل (البابا) تنحنحْ

    ونهى (الأزهر) عن حلق اللحى
    يوم (نابليون) في بابيه ينطحْ

    ***
    هل خليجُ اليوم مَن هذا وذا؟
    أعَلى مَن ردَّ بابيه يَفتحْ؟

    دخلتْ قامتهُ الريحُ التي
    يشتهي، ما تشتهي تندى فيسفحْ

    ***
    ليسَ للتغيير نهج واحدٌ
    قيل يستدعي ويستبقي ويمسَحْ

    راضهُ للدأب سبعون أباً
    علّمتهُ ألْفُ أمٍّ كيف يكْدَحْ

    كان قبل الشمس يستدفي به
    وإلى عينيه من إبطيه يلمحْ

    عن خليج اليوم قل لي، إنهُ
    مِن كتاب الأرض فصلٌ لم يُنقّحْ

    الخليج الأول انْهدَ، فهل
    يحمل الثاني علامات المرشَّحْ؟

    نوفمبر 1990م

  • 341 آخر السؤال

    ديوان جواب العصور >  آخر السؤال

    الليل ينحلُّ بَرْدا
    والطيف ينهلُّ وَرْدا

    وبين ذاك وهذا
    جمعٌ تلخَّص فردا

    يمتصُّ حبرَ دجاهُ
    يضني شظاياه زَرْدا

    يستقرئ الطيف عنها
    يَهمي حواراً وسَرْدا

    ***
    قالت: غدا الكلُّ جُوفاً
    مثل التوابيت جُرْدا

    ترى الزمان عجوزاً
    غِرّاً يضاحك قْرِدا

    لا فرق بالنار يلهو
    أو أن يلاعب نَرْدا

    قالت ويُدني صباها
    يُصبي الذي فيه أرْدى

    كالفجر جاءت توشّي
    حديثةً فيه غرْدا

    فينتشي كسؤالٍ
    مضنىً توهّج ردَّا

    ويسمع الرّيحَ تشدو
    وَهْيَ مِن السُّكْر دَرْدا

    يدعو النجومَ رفاقاً
    عُرْباً وروماً وكُرْدا

    تحولُ فيه الثواني
    غِيداً يغازلن مُرْدا

    1991م

  • 342 زفة الحرائق

    ديوان جواب العصور >  زفة الحرائق

    شوقُ (واشنطنْ) إلى (بَنَما)
    يستحثُّ (الإدْزَ) والصمَّما

    ويوصّي ما سينقدُها
    كيف يجني ربحَ ما غَرِما

    كيف يشويها على (وضَمٍ)
    ويذيب العظمَ والوضَما

    ***
    شمّها أشهى، أيتركها
    وهو أضرى مخلباً، وفما

    وبأغلى اللحم ذو ولعٍ
    مذ غَذتْهُ أمُّهُ القَرَما

    ***
    موّه السكّينَ داخلهُ
    مَنّ برى إحساسه (جَلَما)

    فهو ذبّاحان مفترقاً
    وهو مزّاقٌ إذا التأما

    ***
    (بَنَما): مَنْ أين يقضمها
    أيها ما غصَ مقتضِما

    هل (غرينادا) شبيهتها؟
    عمَّهتْ أوصافُها الكلما

    ما الذي يخفى عليه بها؟
    حزمُها لو شدّت الحُزما

    ربما تبدو مواجهةً
    غيرها أو عكْسَ ما زعما

    هل قواه الراكضات على
    صدرها لم تدر ما كظما؟

    ***
    مَنْ هنا، أو ثمَّ يقصفها
    غير مبدٍ وجه مَن هجما

    أو يماسيها مفاجأة
    مطعماً ساحاتها الحمما

    كإنساً فيها البيوت إلى
    حيث لا شعبٌ ولازُعما

    ***
    مِن يديه التفَّ معتكراً
    مِن حشاه انشقَّ ملتهما

    سوف يرمي الشهب عاويةً
    يحرق الأشجار مبتسماً

    وتمادى راسماً خططاً
    وبأقسى الفتك منسجما

    راكباً أدغال هامتهِ
    راكزاً عرقوبه عَلَما

    طالعاً مَنْ ساقه عنقاً
    نازلاً من أنفه قدما

    داخلاً مَنْ حلقه شبقاً
    خارجاً من ظهره سأما

    ***
    لا مجيباً سائليه ولا
    سائلاً ماذا انتواه وما

    يأكل الأثداء لا شعَرتْ
    يده لا شمَّ لا طَعِما

    ذاهلاً عما طهاهُ وعن
    نيىءٍ مَن لمسه انهضما

    ساحباً تاريخه جثثاً
    ناصباً دولاره صنما

    ***
    تارة مستهوناً خطراً
    تارةً مستسمناً ورَما

    دافناً كل حمّى
    باعثاً من دفنها الرِّمما

    ***
    قلبهُ جنزير كاسحةٍ
    وجههُ نفعيةُ اللؤما

    هجسهُ ترسانةٌ دمُه
    يُرضع الصاروخ والقلما

    كي يربيّ العلم مفترساً
    كالمواسي يرهف العُلَما

    ولكي يردي بلاسببٍ
    بالديمقراطيِّة التثما

    ***
    مقلتاه نبض حاسبةٍ
    يخطف الشرقين لمحهما

    يدخل الظلماء من يدها
    كي يقود الصبح متهما

    ***
    بيتُه مرمى قذيفته
    والشطايا أهله الوُسًما

    مِزَقُ الأنقاض زوجتهُ
    والسكرتيرات والنُّدَما

    ***
    كل صاروخ له وطنٌ
    (بَنَما) بعض الذي اغتنما

    كيف يغشي النائيات ومِن
    هذه ما جاوز اللَّما

    وهْي أدنى من يديه إلى
    فمه، لِمْ لا يغوصُ، لِمَا؟؟

    وإليها اقتاد، هبَّ، وكم
    هبَّ مجّاناً منتقما

    (بنما)، (واشنطن) اقتحمت
    – تلك في حلقي، مَنْ اقتحما

    ومتى غابت؟ وهل حسمَت
    غير تعقيد الذي انحسما؟

    وحضور الموت يفقدهُ
    رصْدَه إذ مات مُذْ قَدِما

    مَن أتتْ؟ نفسُ التي انزرعَت
    أيُها الأخرى؟ وأيُّهما؟

    ***
    إنها تُصْلي هنا وهنا
    تحجبُ الأضواء والظُّلَما

    تلبس الآفاقَ تخلعُها
    – كالمواشي – تسلخ الدِّيَما

    تحرق الساعات دائرةً
    حولها تستنشق الدّسَما

    سوف تُفْني كلَّ ما لمست
    – غير عزم الفتية العُظُما

    ***
    كم أحالت تلك عامرةً
    عدماً يستوطن العَدما

    سل (هروشيما) وصنوتها
    – صديقي – مَن أبادهما؟

    لو رآها سدُّكمْ لأبى
    أن يسمّي سيله العَرِما

    ناوشتْ (كوبا) لتأكلها
    فاستجاشتْ همّها همما

    و(الخليج) اليوم يذكرها
    ما الذي ألقت وكيف طمى

    في (غرينادا) همت لهباً
    يعرف الشيطان كيف هَمى

    هشمَتْ في (ليبيا) قمراً
    يحتذي مولى الذي هشما

    ولها في (كوريا) خبرٌ
    قلت: هل أرويكَ؟ فاحتشما!

    ***
    هذه أخبار مَسْبعةٍ
    لتهم الغربان والرَّخما

    كيف عني الآن أدفعها؟
    هل ترى إيضاحها انْبَهما؟

    ***
    السماء الآن قنبلةٌ
    ترتعي أرضاً بدون سما

    ترتمي، ترقى، يكسِّرها
    نصفُها الأعلى بما التقما

    مثلُ بحرٍ قام مجتمعاً
    يعصر الغيماتِ فانقسما

    تلك لا تَروى وإن جرعَت
    بالتهام المؤلم الألما

    تلحس الممسوحَ باذرةً
    في احتمال الصيحةِ البَكَما

    وتزفُّ الموتَ تعجمهُ
    تنتحي تستعرب العَجما

    ***
    ما الذي ينقضّ منتعلاً
    عالَماً انفصما

    كابن خمسٍ جدُّ جدَّتهِ
    فيه أصبى مقلةً ولّمى

    يمتطي إن قام لحيتَهُ
    يرتدي فخذيه إن جثما

    يلعن الأعلام، مَنْ غدروا
    باسمها الأخلاق والذِّمما

    والألى أثروا بما حرموا
    والذين استوهبوا النعما

    وتماثيل الألى ذهبوا
    ومجيء الصِّبية الحُلَما

    أَغشَمُ الآتين مَظْلَمةٌ
    مَن أطاعوا كلَّ مَن ظلما

    كل تنظيماتهم فقدت نهجها
    مذ أصبحت نُظُما

    ***
    يا طواحين الحريق متى
    يهجع القصف الذي بَشما؟

    الربى تنبو بأظهرها
    كخيولٍ تَعْلِكُ اللجما

    والحواري في اسمها غَرَبت
    بلدٌ مِن خَصره انقصما

    ***
    (بنما)، (واشنطن) امتشقت
    مَن قواها الأحدث النّهمِا

    – إنها بالقتل عالمةٌ
    إنما لا تعرف الندما

    (فَتْنمِي) كفَّيكِ تلك بنَتْ
    مِن شظايا هذه هَرَما

    ***
    انظري كيف اعتلت ودنت
    تطحن الأوهاد والقمما

    هاهنا تجتاح مَزْدَحَماً
    وهنا تجتثُّ مُزدحما

    تمضغ الجدران تنفثها
    خلفها ترمي بها قُدما

    ***
    ليس تدري ما الذي حَطَمَتْ
    ما الذي مَن عظمها انحطما؟

    ما الذي مَن تحتها هدمت
    ما الذي من فوقها انهدما؟

    هل رمت سوقيْنِ أم شبحاً؟
    هل رمت جيشاً وكيف رمى؟

    هل شوت تسعين مدرسةً؟
    أحم حَماماً لم تجد حَرما؟

    ما تسميه الذي رسمت
    ما الذي مِن عكسه ارتسما؟

    أهي جاءت تستبيح دماً؟
    قل وجاءت كي تصبَّ دما

    مثل كسر الطفل صيِنيَةً
    كَسّرتْ كي تسمع النغما

    (كيف تصبو دولةٌ نَصَفٌ
    خير نصفيها الذي انصرما)

    ذئبة ناريّضةٌ سترى
    أنها ما باغتت غنما

    ***
    حاربت للحرب عبَّأني
    وطني كي أحرس الشَّمما

    نبتغي داري وقُطر أبي
    وأنا أحمي أعزَّ حمى

    لبَّت الشيطان في دمها
    وأجبتُ البذلَ والقيما

    القوى في كفِّ زوبعةٍ
    غيرها في قبضة الفُهما

    ***
    قيل لي: غامرت، قال أبي:
    يغلب الأقوى من اعتزما

    مِن دمي غُصَّتْ بأفسده
    وأنا خفَّيت مُحْتجما

    ***
    قيل مَن كانوا هنا عسساً
    عندها أضحوا لها خُصَما

    هل تراها حاربت وطناً
    كي تقاضي خمسةً غُرَما

    ***
    مرَّ (أتْسوعٌ) وما لمحَتْ
    ما الذي ولّى وما نجما؟

    وقتُهما إسقاط حاميةٍ
    موقعٍ ما زال محتدما

    خَتْلُ حيٍّ لا وجومَ به
    مِن حشا الحيِّ الذي وجما

    مدفعٌ يهتاج أربعةً
    ورجيمٌ يسرد الرُّجُما

    ***
    كلُّ آنٍ خلفها مدَدٌ..
    خلفه ثانٍ إذا انثلما

    إن أشابت ذا الحِمام وذا
    زفَّت الموتَ الذي اغتلما

    أصبحت حرباً يُشيْطنها
    ماردٌ يعتاد ما اجترما

    خِلتُها تلويحَ ذي بصرٍ
    رؤيةُ الغازي أشدُّ عمى

    ***
    ليتني (عَوْجٌ) أحطُّ هنا
    (كَنِناً) يحميك أو (نُقُما)

    من هما؟ أعتى الجبال على
    كلِّ عاتٍ ذاك دأبهما

    لو رآكِ الأطلسي وأنا
    قال: حُلْ يا (جورج) بينهما

    مَن له قلبٌ فليس لهُ
    قدرةٌ ما أغرب الرُّحَما

    مَن تسمّى؟ عيدُ معركتي
    أن ألاقي الآن ملتزما

    ما تزال الأرض عامرةً
    بالرفاق الثُّقَّب الكرما

    ولماذا لا أشاهدهم
    أعظم الأخطار ما انكتما؟

    كل لاتينيَّةٍ جمعَتْ
    أمرها مِن أمرنا أَمَما

    ***
    بعد هذي الحرب ثالثةٌ
    قل: ورابعةٌ وزدْ رقما

    قيل لي: (واشنطن) اتِّحدتْ
    بالردى، شاخ اتحادهما

    قد أراها في هجوم غدٍ
    للردى الثاني غدتْ خَدَما

    فهي أرمى بالحتوف إلى
    كلِّ شعبٍ ثار أو حَلُما

    ما أنا الأولى بدفترها
    لا (مَنَجْوا) آخرُ القدما

    ***
    أيُّ قطرٍ فيه ما اضطرمَت
    أو بعدوى نارها اضطرما

    فإذا ما داهمت فلها
    مَن دهى عنها ومن دهما

    ***
    لو لها ماضٍ لشاهدها
    تستحلُّ الأشهرَ الحُرما

    والذي شاد (الخليل) ومَن
    طاف بالأركان واستلما

    لو رآها المُعْرقون لما
    شيّدوا (الأهرامَ) أو (إِرَما)

    فهْي تأتي اليوم قاتلةً
    ثم تأتي ضيف مَن سلما

    تثبت الأولى إدانتها
    ترتضي الأخرى بها حكَما

    تكتري زوجاً كشكل فتىً
    زوجةً لا تملك الرَّحِما

    ***
    سوف تلقاني أجَدَّ قوىً
    وألاقيها أحرَّ ظما

    لا انتهى غاذي مقاومتي
    لا ولا عدوانها اختتما

    ***
    قلْ لواشنطن متى اقتدرت
    أمَّةٌ أن تبلع الأمما

    إنها الأقوى بدون حِجىً
    ولها حُكْمٌ بلا حُكَما

    إن تبعْ باعتْ منىً بمنىً
    إن شرت تشري دُمىً بِدُمى

    إن رأتها بالقوى انتصرتْ
    هل رأت إنساني انهزما

    شذَّبتْ فوضى زوائده
    تحت نار الهجمة انتظما

    والذي أدمتْ ثراه به
    شمَّ حِنّا أرضه فنما

    إن أدارتْ فيه ملحمةً
    فعلى إصراره التحما

    ***
    عبثاً جاءت فما قتلتْ
    غير مقتولٍ بها اعتصما

    وانثنتْ مفنوخةً وأنا
    غيرَ مَن ظنّت أنا (بنما)

    1990م

  • 343 سباحة على ريشة البرق

    ديوان جواب العصور >  سباحة على ريشة البرق

    ليس لي فوق ما أضأْتَ زيادهْ
    كلُّ عيبٍ كاشفْتَ أضحى شهادَهْ

    وتراءى الذي رأيتَ، لماذا؟
    ماسها الموت أو أجاب الوسادَهْ

    ألهذا يجيء كل أوانٍ
    فاجئاً، وَهْوَ كالتحياتِ، عادَهْ

    ولماذا لا تملك الآن ردّاً
    يا وريث البيان يا ابن الإجادَهْ؟

    يا الذي دارت الثريا دواةً
    في يديه وألهمته النضادَهْ

    يا لعشيق الذي رأى مهد عادٍ
    غادةً في قميصها كلُّ غادَهْ

    * * *
    هل أقصُّ الذي جرى؟ أنت أدرى
    فليكن، ولأَقلْ حكايا معادَهْ

    بعدما غصتَ في حشى الأرض أمست
    بالربيع الذي بذرت جوادهْ

    لو تأنّيتَ شِمتَ ما خِلتَ يجري
    مودَعاً سيد الأوان السيّادَهْ

    * * *
    كنتَ في مقلتي (شباط) اشتياقاً
    في محيّا (آذار) ومض انتقادهْ

    شمسُ أيلولُ كنت نبضَ سناها
    والكتابَ الذي يقود القيادَهْ

    * * *
    ثورةٌ تلو ثورة بعد أخرى
    والمُرجى يلم شعثَ الإرادةْ

    كنت في هذه وتيك وتلك
    شوقَ آتٍ وخيرَ ما في المُبادهْ

    * * *
    هكذا دمتَ حاضراً من غيابٍ
    يا غياباً له حضورُ الفرادهْ

    يا حساماً من السيوف اللواتي
    لُحْنَ برقاً من قبل بدء الحدادهْ

    يا أخا الفقار جرّبت حرباً
    قبل أن تَعْرُكَ اليد المستجادهْ

    يا قريباً نأى وحال طيوفاً
    حُلْنَ في جيد كلِّ زاهٍ قلادَهْ
    * * *
    آخر الشوط يستهلُّ ابتداً
    غير ما يعهدون فوق العهادهْ

    من فم الطحن يصعد الحَبُّ خبزاً
    كيف يدمى في الورد نسغُ الوِرادَهْ

    هل أجاد التناسخُ الشكلَ حتى
    تبتدي يا (وريث) عمر الإعادهْ

    لو تنقّى الذي ستغدو عليهِ
    وافداً منك، هل سترضى الوفادَهْ

    ذاك أرقى مِنْ تربةٍ، مَنْ تسامى
    أهبطته منها إليها ازدرادَهْ

    * * *
    ما أرى تسعة وعشرين إلاّ
    كادّكار المسيح (يوم العمادَهْ)

    والأمَرَّ الأَمرَّ فقدانُ غصنٍ
    قامةَ الدَّوْح قبل فَقد الملادَهْ

    * * *
    الحياةُ التي عَبرْتَ كحلم
    ثم طالت عريضةً مستفادهْ

    عنك نابت رسولةً أنت منها
    وَهْيَ منك التفاتةٌ وامتدادهْ

    * * *
    إنَّ مَنْ لا يُحيي مَنْ العمر دهراً
    مَنْ معانٍ، لا يستحق الولادَهْ

    خير زُوّادِ كلِّ قومٍ عظيمٌ
    مات موت الندى لتبقى الرّيادَهْ

    إيه يا أحمد الوريث أتحكي
    كيف صافى الجموحُ فيك الزَّهادَهْ؟

    كنتَ تدعو إلى القنوت وتغزي
    باقتحام الردى وحرقَ الهوادَهْ

    وترى الخانعين بعض قبورٍ
    نصف يقظي والصمت حزم البلادَهْ

    وعلى القاعدين تنصبُّ لوماً
    وعلى الصاعدين تضفي الإشادَهْ

    منشداً (حيَّ في الربوع شباباً
    سُبَّقاً للعلى عن الحق ذادَهْ)

    بيدٍ تدفع (الإمامَ) أماماً
    وبأخرى تريه عام الرَّمادَهْ

    ساءلنهُ أيسكن الشحُّ داراً
    قيل عنها دار ابن شيخ الرفادَهْ

    * * *
    كنبي تتلو العيونَ قلوباً
    تلمح القلبَ ناظراً ذا سدادَهْ

    وتخوض الجدال صفواً وتثني
    لغطاً تمتطي هواه اللدادهْ

    فأواناً مفلِسفاً كابن سينا
    وأواناً محدِّثاً عن قتادهْ

    (وسماعاً أهل البصائر) ترقى
    بالمصلّى وترتقي كالعبادةْ

    * * *
    كنتَ في كلّما تخطُ وتملي
    سيداً في ضميره الشعب سادِهْ

    ولذا صنّفوك غير موال
    ولأهل الطُّفور سهل المقادهْ

    مَنْ يريهم للنابغين مزاداً
    بينهم جفوةٌ، رأَوْها مزادَهْ

    * * *
    يا أبا (الحكمة) البتول، بقلبي
    نفثةٌ ليس لي عليها جلادَه

    أتُراني في جانح البرق أسري
    ريشةً من هواك ذات اتقادَهْ

    وعلى جمرتي ترى وجه صنعا
    كي تؤدي زيارةً أو عيادَهْ

    خذ حريقي فكلُ ما في بلادي
    مَن بلادي حتى الأسى والنكادَهْ

    إنها لا تزال كالأمس تغد
    شبه صيّادةٍ وتمسي مُصادَهْ

    أينما سافرتْ تلاها لظاها
    لا هنا، لا هناك تلقى ابترادَهْ

    قل لدهريَّةِ الرحيل أضيفي
    خبرةَ السِّندباد، يا سندبادَهْ

    قل لها أين كان أحفاد (أروى)
    يوم صاغت لها الأقاليم قادَهْ

    * * *
    هل أعيد الذي عَلِمْتَ وأدري
    ربما نستشفُّ أشقى إفادَهْ

    خلتَ (يحيى) على العصافير صقراً
    فتلاه مَن صيرَّوهُ جرادَهْ

    لو ترى اليوم دُورهم صحتَ فوراً
    عِمْ مساءً يا فقرَ (دار السعادَهْ)

    * * *
    قل لصنعا ماذا تودّينَ؟ قولي
    توشك اليوم أن تفيد الوَدادَهْ

    هل أقول اقتضامُ أطراف ذاتي
    شبهةُ السِّلم أو غموضُ الإبادةْ

    أي أزواج أمِّيَ الآن عمي
    كم ستقضي يا ابْني ديون الحفادَهْ

    هل أعيدُ الذي يقول المغني؟
    عن تناجي (عز الهدى) و(زبادهْ)؟

    أو أغني قَتْلَ (اليدومي) ينادي
    وعلى بنته تنوح (القَعادَهْ)

    قلتُ جهراً (سلمان أدرى بسعدٍ
    َمثلاً من طرافهٍ وتلادهْ

    وأبتْ أن تزيد حرفاً، لماذا؟
    طمعاً في نقاوة الإستزادَهْ

    * * *
    سيدي رمتَ للحمى أمسِ رغْداً
    هل ترى اليوم للجميع الرغادَهْ؟

    كلُّ أمرٍ كما شهدت، ولكن
    ألبسوا بنطلونَ (إبسن) عُبادَهْ

    جمهروا ضحوة الخميس وبأتوا
    ليلة السبت بعض خصيان (بادَهْ)

    هل يسمِّي الفراغُ ما يرتديه
    موضةً – حسب ما أدّعوا – أوضِمادَهْ

    * * *
    ولماذا أبنتُ أيلول كادتْ
    كلَّ زوج أم اكتروها مُكادَهْ؟

    ما بنوا غير دُورهم، من سيبني
    كلَّ هذا الحمى قصوراً مُشادَهْ؟

  • 344 الديار الوافدة إليها

    ديوان جواب العصور >  الديار الوافدة إليها

    كما يقرأ الفجرُ الربيعَ المضمَّخا
    تجيء يارُ الحلم أسخى مَنْ السَّخا

    يقال مَنْ (الّلا أينَ) تستفتح المدى
    كما تَرْعَشُ الأنسامُ خِدْراً مُشرَّخا

    كما تصعد الحبّاتُ مَنْ وطْأة الرحى
    رغيفاً، زكتْ في القحط كي تَبْسط الرَّخا

    وأغربُ مَنْ أمِّ الأساطير وثبها
    إلى كلِّ بيتٍ فوق أبصار ميمِ خا

    بكل مكان تغزل الصخرَ أعيناً
    وتهمي لتخضرَّ الصحاري وتَنْضَخا

    توشّي بساتيناً، تطيلُ سنابلاً
    تغنّى الربى شعراً مَنْ الشعر أبْذخا

    وتتلو تواريخ الهشائم مذ صبتْ
    غصوناً وإذ صارت نثيراً مُشدَّخا

    ***
    تحييّ حقولاً يسردُ الفرنُ عَرفُها
    وتُصبي هزاراً للمراعي مؤرِّخا

    وتهتف يا ميمون هاأنت إنما
    تخيّرتَ أن تخفى قليلاً وترضخا

    ***
    يرى (البقع) فيها وجهه سرب أنجم
    وينسى (المخا) في ضوئها أنه المخا

    وتغضي لها (صنعا) كإشفاق طيِّعٍ
    تلقّى خطاباً مَنْ أبيه موبِّخا

    ويحسبها (هِران) ليلةَ قدرهِ
    و(ميدي) يُغني تلك جادت لأشمخا

    ***
    يقولُ أحلمٌ هبَّ ينفخ روحها
    أأبقى غرورُ الطين للحلم مَنْفخا

    أأبقتْ نعال الجند قبل انبلاجها
    لعين امرىءٍ مرأىً لشكواه مَصْرَخا

    ***
    سأخبرها ما دلَّها حلمُ حالمٍ
    لأنَّ الذي ما مات في عجزه ارتخى

    فكم سُلِّخَ الإنسانُ في كلِّ بقعةٍ
    ولا مَنْ رأى يوماً سليخاً ومَسْلخا

    ***
    أأنشر يا أمسي غسيِلكَ كلَّهُ
    لديها، ولاتبخل بما كان أوسخا

    سأشكرها إذْ أقبلتْ في أوانها
    وسوف ترى وجهي بخلفي مُلَطَّخا

    فتحنو كأمٍّ ثم تفصح أنها
    تسمِّي الذي يقوى على المسخ أمسخا

    وتسأل: مَنْ ذا اليوم يدعوك شاطئاً
    وقد صار هذا البحر كوزاً مُزَرْنَخا

    ***
    أجاءت تزفُّ الطهرَ من بدء بدئه
    على الأرض أم تمحو الركامَ المفخَّخا؟

    يقولون تجري كالسواقي لتنتمي
    إلى الأرض كي تبقى مَنْ الأرض أرسخا

    ويحكون أن النسغَ يتلو جبينها
    كتاباً لتأريخ الكواليس أنْسخا

    وأن لها من سادة الجنِّ حارساً
    يُسمى (هَبيدا) ً وهْي تدعوه كَرْبخا

    وأن لها زوجاً رزتْ فسخَ عقده
    فقال: لماذا تفسخين المفَسَّخا؟
    * * *
    على عكس مَنْ جاؤوا أتتْ مَنْ أمامها
    فما خلفها دهرٌ صبا ضم شيَّخا

    ولا في طواياها رمادُ أبوَّةٍ
    إذا لامستْهُ ريشةُ البارق انتخى

    لأنَّ اسمها ما دار في بال دفترٍ
    ولاقيل كم أعطى ولاكيف دوّخا

    ***
    تكرُّ إلى قُدّامها مَنْ قُدومها
    فتجتاز في نصف الدقيقة فرسخا

    وكي تبلغ الأفكارغايةَ نضجها
    ترى أن تشوّيها الرؤوسُ وتطبخا

    وكالصبح تغدو لا يرى الصبحُ بينها
    وبين إرادات الجماهير برزخا

    ***
    محباتُها لا القول كالتي
    دعوْها – اعتياداً – بالعلاقات والإخا

    فلا قبلها منها ولا البَعْدُ ناسبٌ
    إلى منتماها ما تتالى وأفرخا

    أكتوبر 1989م

  • 345 مراسيم الليلة الخامسة

    ديوان جواب العصور >  مراسيم الليلة الخامسة

    ماذا اعتراها فانبرت صاخبَهْ
    وهي الصَّموتُ الصلبةُ الصالبَهْ

    كم أَغضبَتْ ناسيةً مَنْ شوَتْ؟
    والآن تطفو وحدها غاضبَهْ

    أيُّ زمانٍ جرَّها خلفهُ
    وأيُّ عصرٍ خلفها ساحَبهْ؟

    أشباحها تنشقُّ عن ظلها
    أدغالها في ظلها ساربهْ

    تحسو جرار السهد مقلوبةً
    وتمتطي أكتافها قالَبهْ

    ***
    ما بال هذي الليلة استبحرت
    كأنها من وضعها هاربَهْ

    تدور في أسواق آباطها
    كمستغيث الغيمة الناضبَهْ

    كأنها تبتاع أكذبوةً
    تزيل عنها وصمة الكاذبَهْ

    ***
    تصيح: إظلامي أصولُ الثرى
    والضوء فيه حالةٌ غاربَهْ

    ما زال رغم النِّفطِ والكهربا
    أدجى حشاً مَنْ أمِّهِ الحاطبَهْ

    ***
    قررت أن أرفع سعر الكرى
    وأن أنيم الأنجم الثاقبَهْ

    أن تدفع الريح رسوماً على
    مرورها راحلةً آيبًهْ

    وأن تؤدي كلُّ إيماضهٍ
    ضريبةً للطلقةِ الضاربًهُ

    وأن تراعي كلُّ كُلِّيِّةٍ
    تَحًجُّبَ الأستاذ والطالبَهْ

    وأن يجول المنحنى لابساً
    عمامةً كالربوة اللاهبَهْ

    وأن تمر الساعةُ العشْرُ مَنْ
    وجه الضحى، كالخالة العاتبَهْ

    أن تخرج الأجداثُ تمشي غداً
    وتنثني بعد غدٍ راكبَهْ

    وأن يسمى شاحكٌ كَشْحةً
    وأن يسمى المَعْمَرْ الخاربَهْ

    ***
    تقول هذا ثم تصغي إلى
    أنفاسها الجوَّالة اللائبَهْ

    وترتخي سائلةً نفسها
    هل أنتِ مثلي هشّةٌ ناصبَهْ؟

    هل كان يحري كلُّ ما شئتهُ
    لولم تكن خَزّانتي واهبَهْ؟

    لو لم تكن لي عصبةٌ تحتذي
    جباهم كالغزوة الغاصبَهْ

    رقّعتُ بالعُمْلات أمري كمن
    يرقّع الأميَّ بالكاتبَهْ

    هذي الدنانير الزَّواني لها
    غوايةٌ طاعتها واجبَهْ

    تُمْري أكفُّ السوق أمعاءها
    وتنحني أفواهُها شاربَهْ

    أنَبْتُها عني فكانت على
    كلِّ أموري – كاسمها – نايبَهْ

    ***
    والآن يا ليّالُ ما قرَّرتْ؟
    أن تطبخ الصرّاف والحاسبَهْ

    أن تحفظ الأموال مَنْ بعدما
    أمست أواعي دورها ساغبَهْ

    ومنذ وقتٍ أصبحتْ وحدها
    حقائبُ الأتباعِ والحاقبَهْ

    ***
    كيف تراها بعد طول السرُّى؟
    صبيةً في كهلة راسبَهْ

    تصفرُّ حيناً مثل مغلوبةٍ
    وتارةً تحمرُّ كالغالبَهْ

    ***
    شرقيةٌ غربيةٌ أهْيَ مَنْ
    قُدّامها أم خلفها واثبَهْ؟

    عن الجهات الأربع استحدثت
    ريحاً كإيجابيَّةٍ سالبَهْ

    ***
    أليلةٌ هاتيك أم أَعْصُرٌ؟
    أظنها في مثلها واقبَهْ

    لشكلها زهو امبراطورةٍ
    لمحتواها فطرةُ الحالبَهْ

    ***
    تعدُّ أهداب مناها ترى
    أحلامها عن طيفها راغبَهْ

    بظهرها من وجهها تحتمي
    كما تشيخ الدولةُ الخائبَهْ

    لا كفها اليمنى بمأمونةٍ
    ولا اليد اليسرى لها صاحبَهْ

    ***
    تقول لو إخترتُ كفَّيَّ مَنْ
    بدايتي ما ساءت العاقبَهْ

    أحين أمسى خطئي سُلْطَةً
    فوقي رأيت الفكرةَ الصائبَهْ

    لاقيتُ مَنْ حولي سنىً شاحباً
    جانسْتهُ بالأعين الشاحبَهْ

    كان بودي أن أحيل الذُّرى
    غمائماً وسْميَّةً ساكبَهْ

    لا الليلُ أرضى كلَّ سارٍ ولا
    صافى الضحى أجواءه قاطبَهْ

    ***
    تظنُّ يا ليّال أخبارها؟
    ثقافةً مكسوبةً كاسبَهْ

    هل بالُها عمّا به غائبٌ
    أو أنها عن بالها غائبَهْ؟

    أفلاكُها ما نتخبتْ غيرها
    لأنها كانت هي الناخبَهْ

    والآن تستهوي كما تنثني
    إلى صباها المومس التائبَهْ

    تقول يا صبحُ اتَّئدْ ريثما
    ألقِّن البوَّابَ والحاجبَهْ

    ولا تقلْ شاهدتني أمتطي
    ولا إلى أين أنا ذاهبَهْ

    لأن من يطلبني زوجة
    يريد أن آتيه خاطبه

    لكي يسمى زوج كل النساء
    وما اقتفى في عشقه (والبه)

    ***
    عرفت يا ليال من زوجها
    لعلها المجلوبة الجالبه

    قالت أرادت طعم تذويبه
    فأصبحت في كفه الذائبه

    كيف أشابت كل زوج ولم
    تشب حميا كأسها شائبه

    الآن تحكي: من أنا ههنا
    أنا العروس الآن والنادبه

    وما ستحكي بعد؟ من مخبري؟
    ما سر هذي اللعبة الاعبه؟
    ***

  • 346 تميمية.. تبحث عن بني تميم

    ديوان جواب العصور >  تميمية.. تبحث عن بني تميم

    يا مُندّى، لي واحةٌ في (حولِّي)
    قل لها: ما الذي، وكيف؛ وقل لي

    لا تُنفِّضْ من ريح صنعا جناحاً
    فَهْيَ أحفى بكل طيب محلْي

    وإذا اسَنسَبتْك، قل خير قاتي
    يافعيٌ، وأفضل البُنِّ فضلي

    وإذا استغْمضتْكَ، قلْ هاكِ قلبي
    فهو جنسيّتي، وكُتْبي ورُسلي

    قلْ لمن أْنجبتكَ عني غلاماً
    في اكتهالي، خذي غلامي وكهلي

    * * *
    لستَ ضيفاً ريِّضْ جناحيك منها
    في ربيع يصبو، وصيفٍ يدَلِّي

    واتَّحدْ بالشذى، ورفرفْ كقلبي
    وتَلِّقطْ عنها التفاصيل مثلي

    * * *
    وإذا باهدتْكَ: لم جئتَ عني
    سائلاً، قل لها: لأنَّكِ سُؤْلي

    ولأني ضحيةٌ فالضحايا
    – أين كانت – شغلُ ارتحالي وحِلِّي

    * * *
    كلُّ قلبٍ في أي أرضٍ جوازي
    وبأدراج كل قسمٍ سِجلِّي

    أو تستكثرين هذا ارتياباً
    في احتمالي، أرجو؛ أن تستقليْ

    * * *
    هل تشِّمينَ سَحْرةَ ودَّعتني
    ونداها يَرشُّ ريشي ويُطْلي؟

    قلت إذ ذاك وشوشي يا خوافي
    باسمها يا قوادمي لا تكلْي

    * * *
    ما أحنَّ الذي رمى بكَ حزني
    يوم فصلُ العُرى حَدَا فجر وصْلي

    مَنْ تُسلِّيه؟ ميلهُ زئبقيٌ
    (شاهليٌ) يوماً، ويومين (جِبْلي)

    عن (هدى)، عن (منى) بأن هواهُ
    سنويٌ، وعن (سُميّةَ) فصْلي

    كان نقلي موّالهُ فوق جُهدي
    وأراني هنا بدأتُ أُمَوْلي

    * * *
    فإذا قالت اقترب، فهي قالت:
    الزوايا تخط ما سوف أُمْلي

    فارتعشْ يا هَزاز بين يديها
    كنبي ناداه سرُّ التجلِّي

    وتَلقّ المفاجآت صموتاً
    لامحاً ما تكنُّ مما ستُدلي

    مستزيداً مِنْ بوحها مستعيداً
    مبدياً ما يثير فيما يُسلِّي

    * * *
    قلْ لها: هل رأيت في أي يومٍ
    مثل هذا الذي طمى اليوم يَغلي

    يدفن السمعَ في الجنازير يُجْثي
    كلَّ سقفٍ في أخمصيه ويُُعلي

    يحرق النوم في العيون، ويطهو
    في الشظايا، مسرى النجوم ويقْلي

    * * *
    هل سمعت الصباحَ مثلي ينادي:
    يا(حَوَلِّي) أراكَ أصبحت قبلي

    قال: بكَّرت أنتَ طبت مساءً
    فرأى ما رأى وقال: لعلّي

    أيُّ ريحٍ مَنْ خِدْرِ أُمِّي رمتني
    وَنَفَتْني من انبلاجي وطلّي؟

    * * *
    وهنا سوف تستهلُّ وتشكو:
    ضاع في آخر الصّدى مُسْتَهلِّي

    بعد نصف الدجى أتوا، ولخوفي
    غاب خوفي وكنت أرهبُ ظِلِّي

    جاء مني – يا ذا الجناحين – غيري
    أو أنا جئتُ منهُ، في بعض شَكْلي

    حُلْتُ دبّابةً كإحدى اللواتي
    جْئن ليلاً يَقلَعْنَ داري وأهلي

    * * *
    قلتُ: لابدَّ أن أراهم، تبدّوا
    كابن عمي، كزوج أختي، كبعلي

    الأسامي طبقُ الأسامي: عليُّ
    ناصرٌ، خزعلٌ، سليمانُ عدلي

    كلهم ينطقون (ماكو) كنُطقي
    هل غُزاتي أنا، دمي ذوبُ نَصلي؟

    * * *
    قيلَ قِدماً: جارُ العزيز عزيزٌ
    أيُّ أمر أغرى العزيزَ بذُلِّي؟

    في يديه مُدرعاتٌ: لماذا
    لا يواري هذي البيوتَ ويُخلي؟

    ربما يبتني حواريك أرقى
    قل: يوشي بقمله حُسن قملي

    عنده تُخمةٌ وجوعٌ وعندي
    نَسلُهُ هذه المآسي ونسْلي

    * * *
    قلت: يا جيشَهُ إذا كان وضعي
    فاسداً، فَلأثُرْ أنا، لا تَثُرْ لي

    أيُّ شعبٍ ينوب عنهُ سواهُ
    فهو طيفٌ من الزمان المُولِّي

    إنْ تُرد موردي فسلْ هل سيرضى
    دجلهٌ غَمْسَ إصبعيهِ بضحْلي

    أنْ تكن فارساً ف(حيفا) تنادى
    لا يُسمَّى شجاعةً طحنُ سهْلي

    ألأني جًمام كفَّين ترمي
    بخضمِّ الحديد حفنةَ رملي

    لا ألاقيك بالقتال فهذا
    فوق حجمي، دون حجمكَ قتلي

    (إنما لن أقول للبيت ربٌ
    أنا بيتي وربُّ بيتي وإبْلي

    تملك الآن عجن أمري، ولكن
    سوف يُعييكَ آخرَ الأمر أكْلي

    * * *
    هل تراني أفحمتُهُ؟ كنت أذكى
    وَهوَ أعتى، يعتو فلن تضمحلِِّي

    لم تُذبِّل منك الصواريخ غصناً
    لا أمالت هذا القوامَ الهِرقْلي

    كيف تذوي ريحانةٌ من تميمٍ
    ذوَّبتْ كلما يُذيبُ ويُصلي

    * * *
    فانحنَتْ تشمَّ ريشي وقالت
    : أَهْوَ أزجاكَ لي فقلت استدلِّي

    تحت ريشي قصيدةٌ لم يقلها
    وشذاها يُنيكِ عن أن تُفَلِّي

    ولهذا عرفتُ روضكِ وحدي
    مثلُ عرفانِ رنجبيلي ونخلي

    * * *
    كمْ أشاعت هذي وذاك: تخلَّى
    أو تخلَّت، حتى تلاشى التّخلِّي

    إنه الآن مثل نسغ غصوني
    من قراري يرقى، ويدمى كفِّلِّي

    * * *
    يا مُنَدّى الجناح أسقيك ماذا
    جفَّ مائي في نار خالي وخِلّي

    قل لمن جئتَ عنه، أو فيك وافي
    صار كلُّ الكويت زوجي وطفلي

    ذات ذاتيّتي، أُحِسُّك تتلو
    وجهه في غموض لحظي وكُحلي

    * * *
    كان يُدعى (الشُّويخُ) (ودّان) قبلاً
    قيل كان المطار بالأمس (ذُهْلي)

    ههنا أوثقوا سُحَيْماً وقالوا:
    أيُّ ذُهليّةٍ بها أنتَ مَبْلي؟

    قال: عني اذهبوا، ويخطرْنَ دوني
    وانظروا أيّهنَّ تحتزُّ حبلي

    سوف تدرون يا أُتاتَ النواجي
    هل أنا شغلهنَّ أو هُنَّ شُغلي

    * * *
    أين دار (الفرزدق) الآن؟ أمستْ
    نصفَ ديوانِ مستشارٍ مَظلِّيم

    ستشارون عسكريُّون أغبى
    يوم غزو البلاد من ظِلْفِ بغلِ

    أين كانت قواذفي ودفاعي
    فجر يوم الخميس؟ كانت تُصلِّي

    لا تغالطْ قلْ: كان سُرّاقُ وجهي
    في مخابي الهوى يبيعون أصلي

    أين كان الذين يشرون عنهم
    أحدث الرادعاتِ، قلْ ضاع بذلي؟

    كنتُ أقوى إذْ كان سيفي بكفِّي
    وعلى ظهر (شَذْقَمٍ) كان رحلي

    كانت الشمس ساعتي وردائي
    وقميصي شميم ريحي وبقْلي
    * * *
    ألبس النفطُ قامتي غيرَ جلدي
    فامتطى الرأْسُمالُ رأسي ورجِلي

    أشتري (لَرْنَكا) و(دلهي) و(روما)
    أين مُلك الرشيد مَنْ رُبعْ دخلي

    ويريني النِّفاقُ نُبلي فأنسى
    أنني أشتري مَنْ السوق نُبلي

    * * *
    كنتِ تعطين باليدين جُزافاً
    ولأمرين رحتُ أُعطي بنعلي

    كيف هذا؟ أدوس كلَّ وجاءٍ
    وأمَنِّي ولايفي غيرُ مَطْلي

    لم أضعْ في مكانه أيَّ قرشٍ
    كان جُودي تآمرياً كبخْلي

    * * *
    قال خوفي: أريح ما لي، إذا بي
    لِسِمانِ القوى أُسَمِّن عجلي

    قل لمن يزعم النقودَ سلاحاً
    ولساناً باتت جَباني ونذلي

    فاستباح القريب رَبْعي ولبَّى
    كلُّ ناءٍ مَنْ أجلهِ، لا لأجْلِي

    * * *
    أيَّ الاثنين – يا أبا الرِّيش – أخشى
    الغريب المجيبَ، أم خالَ نجلي؟

    هزكَ الخوفُ، إنه آدميٌ
    وضمير المُخيف وحشٌ عُتُلِّي

    قعِّدي موقفاً مَنْ الشعب يرقى
    وعلى ذا وذاك منه أَطِلِّي

    * * *
    انتظرني إني أودِّع قَشّاً
    كان شملي وأنتقى اليوم شملي

    أخلع القاتل الذي يرتديني
    والقتيلَ الذي ينوءُ بحملي

    فليكنْ قاومي، ومُوتي وقومي
    واطعَمي كلما يجدُّ ويُبلي

    جرّبي أخطر الحوادث عنفاً
    كي تقولي: أجَدْنَ حَدْي وصَقْلي

    وادخلي اليوم مَنْ غدِ واستبيني
    آخرَ الأمسِ من زمان (الفَطَحْلي)

    * * *
    يا صديقي الهَزارُ سل ذاك عني
    كيف أضحى جنونُهُ عقلَ عقلي

    قل له: قالت المحبةُ أكسى
    بالتعري أعرى بكثر التِّحلِّي

    * * *
    خذْ إليه هذي الغصون – وقالت –
    هُنَّ بعضي أودعْتُ فيهنَّ كُلِّي

    وهنا أُبْتُ مثلَ سِرْب الصبايا
    في ضحى العيد مُنشداً يا (هزَلِّي)

    حسناً كان ذا، فما بعد هذا
    كيف أولي الحنين ما ليس تُولي

    عن (حَوَلِّي) عرفت ما كدتُ أدري
    مَنْ يريني ما زاد علمي بجهلي؟

    أغسطس 1990م

  • 347 على باب المهدي المنتظر

    ديوان جواب العصور >  على باب المهدي المنتظر

    مَنْ يدعو هل زمني أوْمضْ؟
    نهض (الدجّالُ)، سُدى تنهضْ

    روّضتُ الريحَ لأسبقهُ
    وغدا السبّاق، فما روّضْ

    أمِن اليوم اجتاز الماضي
    واحتاز الآتي، أو أجْهضْ؟

    ***
    نادتك (الكعبةُ) وانتظرت
    ودعاكَ (الأقصى)، بل حرِّضْ

    صحنا: يا مهدي يا وتراً
    قلبياً، أنتَ له المنبضْ

    كم قيل: ستملؤها رَغداً
    فامتدّ من الرمضا الأرمضْ

    ***
    عبثاً، أن تدعوَ يا ولدي
    مرضوضاً مثلي، أن أرْتضْ

    مَنْ سمّى عصري ذهبياً؟
    مَنْ ذهَّبه، مَنْ ذا فضّضْ

    ***
    مَنْ يعطي العانين (الجرضا)
    أملاً حتى أعنى، أجرضْ؟

    عُد وعداً غيبياً يدنو
    من قبض الكفِّ، ولا يُقبضْ

    كم لاذاَ مهيضٌ بالمهدي
    واليوم يلاقيهِ أمهضْ

    يكفي أن تمخَضَنَا نُصحاً
    مسعاكمْ أصدقُ مَنْ يمحضْ

    يا قانون التعويض أفقْ
    لا ردَّ الحُلم، ولا عوّضْ

    وإلى كم يعرض من ندعو
    مَنْ لا ندعوهُ، متى أعرضْ؟

    ما أقسى أن تبغي أمراً
    وترى ما لا تبغي يفُرضْ

    ***
    مَنْ وإلى (الدجّالَ) الأطغى؟
    مَنْ ذا يُثني الأقوى الأبغضْ؟

    تدري، حيّوهُ فانتفخت
    جبّتُهُ أشبقَ من (عَرهضْ)

    غنّوْهُ، قالوا الشمس به
    أسنى، والأرض به أرأضْ

    مخَضَ الفلكُ الأزمانَ لهُ
    فتجلّى، زُبدةَ ما مخّضّ

    والله لأمر قيّضهُ
    ذخراً، فتعالى مَنْ قيّضْ

    مثل المرحاض إذاعتهُ
    مَنْ قال: الحمد لمن مَرْحضْ؟

    ***
    قلْ: أغضي الفادي آنيًّا
    وتوقّى الرّاجي، أو فوّضْ

    واعتاد الشارع ما يَلقى
    لا قال: أمرّ، ولا أحمضْ

    فتوارى الهاجي في فمه
    ورقى من فمه مَنْ قرّضْ

    جمهور العيش، كعادته
    لا يبدي الرأي، ولايدحضْ

    ***
    أبذاك الشيطان احتفلوا
    ورأوا تشرين به أرْيضْ؟

    فطغى، وأرى الجبل الأعلى
    كيف اقتضم السَّلَ الأخفضْ

    ***
    أعَلَى كلّ الأرض استولى؟
    لم يُبْقِ سريراً، أو مربضْ

    لا يلقى موطِأةُ قَدَمٌ
    لا ابن (الجَيْدى) يجد المركضْ

    كانت غامضة قوّتُهُ
    والآن بدت أزرى أغمضْ

    حيناً (كالإدْزِ) وآونةً
    مَنْ طول الكون، وقُلْ أعرضْ؟
    أأطاع العالمُ قبضَتهُ
    بيديه أمسى كالمقبضْ

    حتى (موسكو) قالوا: أضحَتْ
    مَنْ بستان (البيت الأبيضْ)

    ***
    هل قام عياناً، أو هرَفَتْ
    أخبار المقهى والمعرضْ؟

    أمسيخاً يبدو؟ لا يدري
    ألسِّلمُ، أم الهيجا أحيضْ

    ألهُ عينان؟ جوارُحهُ
    مُقَلٌ شتًّى، لا تتبعّضْ

    لو نفّض عصفورٌ بللاً
    عنهُ، لدرى ماذا نفَّضْ

    وهنا وهناك مسامِره
    ينفضُّ الليل، ولا تَنْغَضْ

    فزَعٌ بملايين الأيدي
    يستلُّ القلب، يُحيدُ العَضْ

    أرَكينَ الرُّكنِ؟ كعاصمةٍ
    تنوى تنقضُّ، ولا تنقضْ

    قالوا: لو صوّب من (بَنَما)
    لأصاب ب(سينا) ما استغرضْ

    ماذا قوالوا عن مُدّته؟
    قالوا: سيموت ولايمرضْ

    قد يحكم قرناً، أو سنةً
    أخرى، يستوفي ما أقرضْ

    ويليه أمرٌ مأمورٌ
    بالشعب، وللجُلّى أنهضْ

    أحرى بالقمِّةِ مَنْ يدري
    ماذا يُختار، وما يُرفضْ

  • 348 ربيعية الشتاء

    ديوان جواب العصور >  ربيعية الشتاء

    هذا الذي سمَّيتُه منزلي
    كان انتظاراً قبل أن تدخلي

    كان سؤالَ القلب عن قلبه
    يشتاق عن قلبيْه أن تسألي

    أن ترجعي مثل الربيع الذي
    يغيب في الأعواد كي ينجلي

    أن تصبحي مثل نثيث الندى
    مثل نجوم الصيف أن تُلْيلي

    أن تومئي واعدةً ليلةً
    وليلةً تنسين كي تبتلي

    كيما تنادي الأرض: أجنيتِ يا
    حدائقي أينعت يا سُنْبلي

    ***
    أَقَبْلَ سُكْرِ الوعد، قالوا صحت؟
    أيُّ هوىً أرغى بها: عجِّلي؟

    هذا زمانٌ مذهلٌ ذاهلٌ
    عنه فمن حاولتِ أن تُذهلي؟

    ذاجمر صنعا خُفْتُ إذ أحرقوا
    فيه (بخور الشيخ) أن تسعلي

    أن تصرخي: هل رامني موئلاً
    مَنْ غاب عن حسبانه موئلي

    أظنُّ ما أسرعتِ كي تُدهِشي
    هل قال داعي القلب أن تُقْبلي؟

    أقول ماذا؟ صاح من لا أرى
    : عليك من نصفيْكِ أن ترحلي

    من مكتب التأجيل قالوا: ثبِي
    أنهي كتابَ الأمس؟ لا، أجِّلي

    لاتحملي أيُّ كتاب ولا
    دواةِ (جيفارا) ولا (الزِّركلي)

    رحلتُ منْ ساقي، إلى سُرَّتي
    منْ أعْرَضي أعدو إلى أطوَلي

    مفاصلي كانت طريقي وما
    درتْ حصاةٌ أنها مِفْصلي

    ***
    أَقرأتُ كفِّي البرقَ حنّى فمي
    قرأتُ كفَّ المشمش الحوملي

    هل مرَّ يا ابْني مَنْ هنا أو هنا
    أيُّ جوادٍ جَدُّه (مَوْكَلي)؟

    هل خلتَ موّالاً كسرب القطا
    يزقو ويدعو: يا ربى موِّلي

    ***
    أسمعتُه (الجرّاش) و(القَعْطَبي)
    بكى على (بستان) و(الموصلي)

    ومدَّ نحوي سلّةً لم يقل
    صِلي بها مهواك أوْ وصِّلي

    ***
    ناديتُ: ياذا الورد ضمِّخْ يدي
    فقال: أهلي قطَّعوا أكْحلي

    وقال (قاعُ الوطْية) استخبري
    (عيشانَ) عن قمحي وعن خردلي

    ***
    ماذا ألاقي يا (بن علوان) قلْ
    يا(عيدروسُ) احْمِلْ معي مُثْقِلي

    أيٌي، أنا، بيني وبيني، على
    أيِّ الشطايا وجهيَ الجرْولي

    ***
    سألتُ ذاتَ الودْعِ ما طالعي؟
    أفضتْ بردَّيْنِ: عليَّ ولي

    لأيِّ أزواجي جنى عِشرتي
    خذي سواهم قبل أن تحملي

    جمالُ هذي الحقْبة استْنوقَتْ
    والآن يا إنسانة استرجلي

    وغيِّري (يحيى بيفنى) وكي
    تُبدِّلي عن جوفكِ استبدلي

    ***
    واحتثَّني مُسْتقبلي قبل أن
    أعدَّ رمّاني ولا حنظلي

    قولي: أيبدو منزلي غير ما
    عَهِدْتهِ مَنْ قبل أن تنزلي

    تنحنحتْ مثل الخطيب الذي
    أنساه شيءٌ، صوتَه المحفلي

    ***
    كان كوجْر الضبِّ ذا البيت لو
    أتيتِ قبلاً خفتُ أن تجفلي

    والآن مَنْ بعد التصابي صَبا
    وقام بعد العري كي يحتلي

    أحضانه امتدت وجدرانهُ
    سكرى على قاماتها تعتلي؟

    لكل قنديل وكأسٍ صِباً
    ولليالي فرحٌ مشتلي

    وذكرياتٌ ضاحكات كما
    حكى (الخُفَنْجي) عن (علي عَيْطَلي)(6)

    قال (الشبيبي): نجمكِ الثور يا
    (قرنا) وأبدى شكَّه (العَنْدَلي)

    قال اجتلى هاءً ودالاً بلا
    حاء وواوٍ، فاقطعي، أو صِلي

    ***
    يُقال أخبرت الشذى أنني
    رسولةٌ لم أنتخب مُرْسَلي

    فقال: باسمي ضلَّلوني وبي
    حيناً، وقالوا: باسمهم ضللي

    ***
    يبدو لسمعي (هَبَليّاً) فهلْ
    تحسُّني ألحاظُهُ (المَقْبَلي)

    بُولي على جبهته، فادّنى
    وقال: شدِّي لحيتي واتفلي

    أراكِ غيري آخر المنتهى
    بدءاً، ونادى مَنْ هنا بسملي

    قل: أصبح الشطران بي شطرةً
    لا بأس في جرحيك أن تَرْفُلي

    ***
    هل تسمعين الزفَّةَ الآن؟ لا
    أصمَّني يا (دامُ يا بَلْبلي)

    تسعون طبّالاً وطبّالةً
    شهراً وقالوا: مثلُهم طبِّلي

    ***
    هناك من يأبى: أقيلَ انظمي
    للكل داراً، أم بها كبِّلي؟

    أأنت من غنيتُ: جودي لنا
    بالوصل، هل أبكي لكي تبخلي؟

    ومَنْ ينادي كالشعاع اهبطي
    ومن يفادي عن هنا حوّلي؟

    ومن يرى فرديّة الجمع في
    كفيك عهداً نصف مُتوكِّلي؟

    وقائلٍ كم قيل ما دّللوا
    عنها، ولاقالوا لها دلِّلي

    عشرين عاماً: سوف تأتي غداً
    ما اسم الذي كان بها مُختلي؟

    وسائلٍ: ماذا سيجري؟ لمن
    جاءت، أيا خضراء لا تأْمُلي

    فما أفادت علم شيءٍ سوى
    ما ينبغي يا أُمُّ – أن تجهلي

    صوغي على كفيك أخرى تريْ
    صباك في مجلى صباها الجلي

    هل ذاك – يا أولى – الذي يحتفي
    إذ جئتِ يخشى الآن أن تأفُلي؟

    ***
    هناك مَنْ يسلوك من يجتوي
    هنا الذي يدعوك يا معقلي

    ويفرش الخدّين كي تخطري
    ويملأ الكأسين كي تثملي

    كلي تحلمي حلم النواسي، صحا
    من سكرة (الكرخي) بقُطرُبُّلي

    وواقف يفديك فهّامةٌ
    ترقين مثل الشمس كي تعدلي

    يجلو بعينيك الرؤى تالياً
    نصف كتابٍ كلُّهُ ما تُلي

    مُعوّذاً كفيك أن تأخدي
    وُرَيْقَةً من قبل أن تبذلي

    ***
    وقالت الربْوات: أعطي فمي
    ثدييك أربو قبل أن توغلي

    وقالت الأرهار: لا تعبري
    فوقي فيلهو الشوك في مقتلي

    ***
    وللمقاهي عنك صوتٌ لهُ
    أيدٍ، وصوتٌ فاقع بُلبُلي

    وصائح يدعوك أن تقفزي
    وهامس يوصيك أن تكسلي

    محاذراً أن تأكل الجمر عن
    أنياب مقتاديك أو تؤُكلي

    تدرين؟ كم قالوا ولم يفعلوا
    قولي: تنحّوا جانباً وافعلي

    ***
    يرتاب هاذ الحيُّ أن تنجزي
    يودُّ ذاك الربع أن تمطلي

    ذا يرتئي: تلك التي أهجعت
    قلاقلي ما أقلقت عُدّلي

    أشمها مائدتي سائلاً:
    متى انتهى من طبخها مرجلي؟

    ***
    وقال شادٍ: ما شدت مثلها
    أسمار أعراسي ولا مَقيلي

    أنسى الدجى والصبحَ وقتيهُما
    صوتان: عَوديٌ يلي كُعدُلي

    كيف التقى نصفي بنصفي ضحىً
    في نضج مكرِ العصرِ يا مأملي

    ***
    وقال مضنٍ يا لعقيم التي
    شاءت مواني (هنتُ) أن تحبلي

    يا بنتَ أُمَّ (الضهضمدِ) قولي لنا
    : أيٌّ عليٍّ سوف يخصي علي

    قولي لماذا كنت أمثولةً
    سحريةً من قبل أن تَمثُلي

    ***
    فقال هَجسُ الأرض: مني رقت
    تعيد تشكيلي، ألا شكِّلي

    منْ بعضها انصبهضتْ إلى كلِّها
    أكلُّ وادٍ قال ذي منهلي

    شغلت أعراق الثواني فهلْ
    يرضي سُهيلاً عنه أن تشغلي؟

    في طعم ريق القات تَحمينَ عن
    ما قال تُفشين الصّدى المخملي

    تسرين في الكاذي فتدنين من
    عينيه وجه البارق الأحول

    تَنديْنَ في (ياظبي صنعاء) هوى
    تَشجينَ في أنفاس (ياصيدلي)

    في الحبر تحمرّين أنشودةً
    في الكأس تبيضِّين كي تُشعلي

    في الجمع تذكين الجدال الذي
    يميز الأبقى من المرحلي

    هل أنت من تُحيينَ كي تعظُمي
    أو أنت من تُحيينَ كي تَقتُلي؟

    هل خاتمي قانٍ؟ ألي خاتمٌ
    يكفي يدي أن سَلمتْ أنملي؟

    يا صاحب الصاروخ قلبي على
    كفِّي كتابٌ خلفهُ منجلي

    ***
    لا بدَّ من أن تُنْبهي خاملاً
    وكي يُرى لابدَّ أن تخملي

    لا بدَّ من أن تحتفي بالتي
    وبالذي لابد أن تحفلي

    مَنْ ذا سيعطيك لتعطي ومَنْ
    قال خذي، قال الحسي مَغْسَلي

    مادَام ذاتُ الأمر مأمورةً
    به، دعيه قبل أن تُعزلي

    – مني ابتدا نهجي، ألا فليكنْ
    صعباً ولايخشاكِ أن تَسُهلي

    ***
    يا طلعةً ماأذبلت مطلعاً
    تقدَّمي هيهات أن تذبلي

    ويا ربيعاً شق عمر الشَّتا
    تهدّلي للصيف واخضوضلي

    إن زيّن الإكليلُ مَنّ قبلهُ
    فكلِّلي مَنْ بعده كلِّلي

    ***
    مذ جئت جاء البدءُ مَنْ بدئِه
    وعاد من آخره أوّلي

    واجتاز ومضاً كان مُستدفئاً
    به إلى الوهج الذي يصطلي

    فأنكر التأريخ تأريخهُ
    لمّا استبان الأمسُ مستقبلي

    : لا رأسمالياً أرى ذا الفتى
    ولا اشتراكياً ولا هيجلي

    لا في (بني عبد المدان) اسمه
    لا من (بني باذان) لا (عَبْهلي)

    وعنده زائرة مثلهُ..
    تزف (عنِّيناً) إلى (المُشكِل)

    ردّي على التأريخ يا بنتَهُ
    لا تخجلي يؤذيه أن تخجلي

    قالوا: إلى نصف الطريق التقوْا
    سجِّل بلا حيفٍ وقلْ: حلِّلي

    زادوا على رأسي رؤوساً فهلْ
    تزيدني رِجلاً إلى أرجلي

    ضع نصفيَ الأعلى على الركن أو
    حوِّل أعالي قامتي أسفلي

    ما اقتاد تغييرٌ خطاي التي
    صيَّرن ما لا ينطلي ينطلي

    ***
    وأنت يا هذا؟ يقال الذي
    سوف يلي يومي أبى أن يلي

    لا هذه (سَيّان) لا غيرها
    لا (العبدلي) ثانٍ ولا العبدلي

    مَنْ غيّر التشكيلَ عن شكله؟
    قوّى على (الصِّلْوي) يَدَ (المقْولي)

    ***
    فاستضحكت قائلةً: أيُّنا
    أراد هذا، قلتُ لا رأي لي

    أمّا أنا ما جئت كهفي أنا
    وأنتِ كهفٌ بالمنى تغتلي

    تهوى سعاداً، ليدياً، غادةً
    وأختَ (هنري) وابنة العوذلي

    كان ابن جدي زوجَ عشر إلى
    أن طلّقتهُ (هَيْدبُ الحوْقلي)

    ***
    نبغي وتخشى نصف ما تبتغي
    فتنثني مثل الشَّجيِّ الخلي

    ترجو ولياً نائياً خيرةً
    فاختار لقيانا مزارُ الولي

    ***
    تمثال هذا هيكلي، أنتَ بي
    كصورة فيما اسمه هيكلي

    أعطاكِ طنبوراً، أنا مصحفاً
    فاعزفْ، ويا أميّتي رتّلي

    ***
    عزفتُ غازلت التي والتي
    حتى أتتْ مَنْ كسّرت مغزلي

    فالتمّ بحر القلب في كفّها
    كوباً بنهديْ كرمةٍ يمتلي

    ***
    إلى رضاعي جئتِ مني ومنْ
    تخرُّجي فيكِ ابتدأ مدخلي

    كي يرتدي عينيك معنى الضحى
    كي تبتدي الأنهار من جدولي

    ***
    أما تساقينا البروقَ المِدى
    وآنَ أنْ أغلي وأنْ تهطلي

    أن ينشر (المهديُّ) منك اللوا
    أو يركض (الدجّال) من منزلي

    مايو-يونيو 1990م.

  • 349 ثُوّار.. والذين كانوا

    ديوان جواب العصور >  ثُوّار.. والذين كانوا

    أحين أنْضَجَ هذا العصرُ أَعْصارا
    قُدْتُمْ إليه عن الثُوّار (أثْوارا)!

    كيف انتخبتم لهُ – إن رام – تنقيهٌ
    مَنْ كان يحتاج حَرّاثاً وجزّارا!

    أُبغيةُ الشعب في التغيير أن تضعوا
    مكان أعلى رؤوس العصر أحجارا!

    أو أن تولُّوا عصافير النّقار على
    هذا الذي قلَّب التسعين أطوارا!

    وارتاد فاعتصر الأزمانَ مكتبةْ
    واستجمع الشُّهبَ في كفّيه منظارا

    وقدَّس العَرَق المهدورَ معتزماً
    أن لا يُبقّي بظهر الأرض هدّارا

    ***
    أعندما أينعت أجنى تجاربِهِ
    وصَّيتُمُ بحكيم الحُكم قُصَّارا!

    إن كنتُمُ بعض من ربّى فكيف يرى
    كرومَ كفَّيه (يَنبوتاً) و(صُبَّارا)؟

    ***
    لأنكمْ غيرُ أكفاءٍ لثورته..
    أجْهدتُمُ فيه أنياباً وأظفارا

    تحسونَ أنخابه في كل مأدبة
    وعن نواظره تطوون أسرارا

    لأنكم ما بنيتم، قام باسمكمُ
    مَنْ يهدم الدار ينفي مَنْ بنى الدارا

    وكلما اختار شعبٌ وجهَ غايته
    أرْكبتُمُ كتفيه عكس ما اختارا

    وافقتمُ اليوم أن لا يدّعي أحدٌ
    تعاكساً بين (باتستا) و(جيفارا)

    هل مَنْ تعرّى لنار العابثين كمنْ
    أبدى عداوَتَهُ للشعب أو وارى؟

    ***
    هل اتّفقتم تجيئون الشعوب معاً
    تُزعِّمون عليها الكلبَ والفارا؟

    على لحاكمْ يبول العارُ مبتهجاً
    إذ عاش حتى رأى مَنْ يعشق العارا

    أليس علميَّة التَّسْييس عندكمُ
    كمن يتوِّج بالمخمور خمَّارا؟

    هل الشيوعيْ أتى المالي كما قصدتْ
    محنيَّةُ الظَّهر والثديين عطّارا؟

    كِلا النقيضين كالأنقاض فارتجلي
    يا سرّة الأرض زلزالاً وإعصارا

    واستفتحي عالماً أنقى يرفُّ صباً
    ويثمر الثَّوَرات الخضر أبكارا

    ***
    لن تمنعوا يا أساطين الوفاق غداً
    من أن يثور وأن ينصبَّ أنهارا

    مهما اقتدرتم، فما عَطَّلْتمُ فَلَكاً
    ولا أحلتمْ محيّا الشمس دينارا

    ***
    يا مَنْ هدمتم بناءً داس هادمَهُ
    هلاّ أضفتم إلى الإعمار إعمارا؟

    يا مَنْ تحررتمُ مِنْ نضجِ تجربةٍ
    هل تلك حريَّةٌ تحتاج أحرارا؟

    وياالذين دعوناكم على ثقةٍ
    رفاقَنَا نصفُ قرنٍ أيُّنا انهارا؟

    ***
    معاً بدأنا وردّدنا (الشِّعار) معاً
    يموت مَنْ خان أو والاه أو جارى

    كنّا كعقدٍ ولكن لم يجدْ عُنُقاً
    صرنا جناحين، لكن أيُّنا طارا؟

    ***
    ثرتمُ وثُرنا، فلمَّا نلتُمُ وطَراً
    هدأتمُ، وسهرنا نحن ثوّارا

    أردتمُ أن تناموا مرتوين كما
    شئنا نبيت عَطاشى نرضع النارا

    ***
    حكمتمُ الشعبَ، نحن الشعب يحكمنا
    حُبًّا، ونعليه فوق الأمر أمتارا

    ولا نُداجيه كي يختار سلطتنا
    بل نبتغي أن يكون الشعبُ مختارا

    تمسون شبه سلاطين، نبيت على
    نصل الطوى، كي نلاقي الصبح أطهارا

    ***
    أعن تقدمكم تبتم؟ نطمئنكم
    بأنك ما قطعتم فيه أشبارا

    بل قيل لم تدخلوه أو رأى لكمُ
    على الطريق إلى مجراه آثارا

    ناموا سنمضي بلارُجْعى وسوف نرى
    عنكمْ، أتستغفرون اليوم غفّارا؟

    وعندما أصبح الشطران عاصمةً
    مشطورة، هل رأت في الدور ديّارا؟

    ختمتمُ الشوط في بدء المسير، وما
    نزال نجتاز مضماراً فمضمارا

    ***
    نرمي بأشباحنا الأخطار نلبسها
    ليلاً ونخلعها في الصبح (أطمارا)

    نصيح: يا شوق رشقْنا ودُقَّ بنا
    في كل عرقٍ من التَّمويت مسمارا

    ***
    في كل سجنٍ نفني، في منازلنا
    نستقبل المخبرين الجُوفَ زُوارا

    أهلاً وسهلاً تشرَّفنا” وكيف جرى
    هذا التجافي، لماذا ، ما الذي صارا؟!!

    ***
    نسقيهُمُ أي شيء غير أدمعنا
    يسقوننا في بريق الودِّ إنذارا!

    : مرَّت ثمانون شهراً مِنْ تخرُّجنا
    معاً، أما زلتمُ – كالأمس – أغمارا!؟

    تردِّدون الأناشيد التي منعوا
    ولا تكنُّون للأستاذ إكبارا

    كُنا نفضِّلُ بشّاراً على (عُمَرٍ)
    فتنسبون إلى (إنْجلزَ) بشّارا

    كنا نعاكس بعضاً دون معرفةٍ
    كنتمْ وكُنّا بذاك الوقت أغرارا

    أضحى (الغويْدي) وزيراً و(إبن عائشة)
    محافظاً، وعيال (البوش) تجّارا

    تزوّج الشيخ نابُ الدين ثامنةً
    أنتم تزوجتمو (صنعا) و(عمّارا)

    زوّجتمو (بنت سُعدى) نجل (ذي يزنٍ)
    وزوَّجوا أُمَّهم عشرين عَهارا

    ***
    يستقرئون خفايانا، دفاترنا
    سرّاً، ونقرؤهم في الجهر أسفارا

    وقد نصادق في مكنون أكثرهم
    نقاوةً ترتدي شوكاً وأوضارا

    ولا نقاوَم سمساراً لمهنتهِ
    بل الذي سخَّر ابن الشعب سمسارا

    ***
    وإن أجاد لنا الخُوَّان مقتلةً
    مُتنا كما داعب التهويمُ سُمَّارا

    وإن أعدّوا لنا جاراً يحاصرنا
    قلنا: كبرنا ملأنا البيت والجارا

    وكلما أبحرت فينا عيونهمو
    أحسَّت البحر فيها صار بحّارا

    ***
    يا كل شوطٍ تطاولْ، لن نقول متى
    ننهي، ولاكم قطعنا منك أمتارا

    تمتد نمتد، نُصبي كل رابيةٍ
    وندخل المنحنى والسَّفحَ أفكارا

    نحيل كل حصاة شهوةً وصبيً
    نعبِّئُ الرّيحَ أشواقاً وأشعارا

    نَنْصبُّ في كل تلٍّ أعيناً ومُنىً
    نخضرُّ أوديةً ننهلُّ أمطارا

    نغور في الغور كي ترقى مناكُبهُ
    تحتلُّنا الأرضُ أوطاناً وأوطارا

    نجيش فيها قلوباً كي تقلِّبَنا
    سِفْراً، وتكتبَنا دُوراً وأشجارا

    تزكو بنا، وبها نزكو، تصوِّبنا
    للغيم برقاً، وللأمواج تيّارا

    ***
    مِنْ هجسنا تبدأ التأريخ نبدؤها
    نُؤسْطِرُ السَّفحَ والبستان والغارا

    نصوغ للعدم الموجود خاتمةً
    نأتي من الغائب المنشود أخبارا

    ***
    وقد يمزِّقنا غدرُ الرّصاص هنا
    أو ههنا، فنروع القتلَ إصرارا

    لأننا ما ولدنا كي نموت سُدىً
    بل كي نجمِّلَ بعد العمرِ أعمارا

    ***
    نَصفر كالخوخ، كي نندى جنىً وشذىً
    كالبذر نُدفن، كي نمتد إثمارا

    لكي نعي أننا نحيا، نموت كما
    تفنى الأهلَّةُ، كي تنساب أقمارا

    مِنْ البكارات نأتي رافعين على
    جباهنا الشعبَ أعلاماً وأقدارا

  • 350 ليلة في صحبة الموت

    ديوان جواب العصور >  ليلة في صحبة الموت

    ساعةَ يا ردى أُتمُّ القصيدةْ
    هاكَ قاتاً وجرَّةً وجريدَهْ

    النَّبيذي هذا يُسمَّى (البخاري)
    ذا المثنّى من غرس (وادي عَبيدهْ)

    كل غضنٍ له مذاق جديدٌ
    كالمليحات، كل أخرى جديدهْ

    كل قيليِّة الثرى بين فيها
    وشفاه الندى عهودُ عهيدَهْ

    أتَراها تدعوك ميساً وتغضي
    مثلما تخطف المرايا الخريدهْ(1)

    * * *
    عجبي كيف لان لمّا تثنّتْ
    في يديه غصونُ أشهى مكيدهْ

    كيف حال الذين قابلتَ قبلي؟
    قيل أعجلتَ (سعد يحيى) و(عيدَهْ)

    كيف لست الذي قصفْتَ صباها
    وصباه! إن المنايا عديدهْ

    تَسْبِقُ القتلَ أو تليه، وآناً
    تمتطي صهوةَ الحروب المبيدَهْ

    * * *
    يا مميتي مَنْ ذا يميت المنايا
    كالقوى تأكل الأُشدُّ الشديدَهْ؟

    قيل عنها نقّادةٌ أهي تُدعى
    في ذويها نقّادةً أو نقيدَهْ؟

    أنت تُسمى منيَّةً أو حمِاماً
    قيل أنثى الحديد تُدعى حديدهْ

    لو (زَبيدٌ) حقيبةٌ أو فتاةٌ
    لدعاه أبو الأسامي زبيدَهْ

    لو حكى (سيبوبه) عن أمِّ (ميدى)
    قال: ممنوعة من الصرف ميدَهْ

    * * *
    حين تغشى البيوتَ من أين تأتي؟
    من رياحٍ كما تروغ الطَّريدهْ

    فأراني حيناً بروقاً، وحيناً
    أنثني غيمةً خطاها وئيدَهْ

    وأوانا أُحسُّني فيضاناً
    يمضغ الرملَ والشطايا البديدهْ

    وعلى ساعديه ألفا دفينٍ
    وعلى منكبيه ألفا قعيدهْ

    قلُبُه شرقُ ظهرهِ وَهوَ غربٌ
    رأسهُ خوذةُ الرؤوس البليدَهْ

    * * *
    في (دُرامى) الخليج كنتَ (عُطيلاً)
    يده وحدها عليه الشهيدَهْ

    كنتُ فيها بلا ذراعين فوقي
    قوةٌ فوق ما أُريد مريدَهْ

    * * *
    ولماذا يدعوك شيخٌ فتأبى
    وتلبّي – ومادعتك – الوليده

    يوم كدتْ (لمى) لتشري طحيناً
    حُلتَ بين ابنها وبين العصيدَهْ

    المنى تبتدي، وينهي سواها
    والمآسي مثل الأماسي أبيدهْ

    * * *
    قل أتى مقتضيك خَقَّينِ مهلاً
    لم أقل جملةً تُسمّى مفيدهْ

    يا صديقي في القلب تسعون قلباً
    وقوافي الوداع – تدري – عنيدهْ

    انتظرني أفضي ل(زيد) بسر
    ببقايا حكايتي ل(سعيدهْ)

    لبلادي بهمسةٍ قبل تُمسي
    – وأنا تحت أخمصيها – بعيدهْ

    لا ترى غير فوقها، كل دارٍ
    عامروها الغواة ليست رشيدَهْ

    * * *
    عجّلي الآن، هاكَ صيّاد قفر
    يبتغي ظبية وتبغيه سيدَهْ

    في ثوانٍ تجتثُّني، لا عروقي
    غائرات، ولاقناتي عتيدهْ

    قلت أخّرتني، تبقَّت حروفٌ
    شئتُ مقصورةً فجاءت مديدهْ

    كلُّ فعلٍ (مجرِّدٍ) نثَّ شيئاً
    زاد شوقي إلى اختبار (المزيدَهْ)

    مستدرِّاً براءة البيد منها
    في صباها مستنشداً هيد، هيدَهْ

    لا تضق بي دنوتُ من شط صوتي
    والمعاني التي أُنادي فقيدهْ

    لست موتى الوحيد جرَّبتُ ألفاً
    كلها ما رأت حياتي أكيدهْ

    قل لقبري سأغتدي من قبورٍ
    فوق أكتافها القصور المشيدهْ

    * * *
    قل تريد الهروبَ متُّ مراراً
    ونجتْ لي إرادتي والعقيدَهْ

    كم مضتْ بي أغبى المنون المواضي
    وانثنت بي أصبى المنايا المُعيدَهْ

    * * *
    المُعيداتُ، هل طرأنَ مَرَدَاً؟
    ما علاماتُها الوجوه الرديدَهْ

    هل سيرجعن ما بَعثتُ، وكم لي
    بَعثاتٍ طريفةٍ وتليدَهْ؟

    هل سيأوي الردى هنا أيُّ لحدٍ
    حين تنفضُّ من هناك اللحيدةْ؟

    * * *
    أيُّ شيء يقول هذا ثناني
    عنه، يا عودتي تَسمَّيْ حميدة

    يا مضيف الحتوف هبْ تلك مني
    زورةً واحتفل بأخرى مجيدَهْ

    ولماذا احتزمتَ؟ وماأنت قصدي
    حسناً جئتَ كي تجيء القصيدَهْ

    مايو 1991م

  • 351 منزغ الشياطين

    ديوان جواب العصور >  منزغ الشياطين

    كما ينفش البوليس مقصورة البغا
    تكب الندى والعشب طاحونة الوغى

    كما يطبخ البحر المدمى شطوطه
    تشوي حراشيف الوجوه التمرغا

    كما وحد اثنين، الذي كان ثالثاً
    أقام الذي ألغى، وقام الذي التغى

    كما ابيض حنا العرس، لاح الذي انتقى
    عن اللون والوجهين، لوحاً مصبغا

    ***
    أمن دغدغ الأحلام، شظى عيونها
    وأصبح احلاماً، تنادي المدغدغا؟

    وهل تلدغ الحيات، إلا لأنها
    تلاقي -كما لاقت من البدء- ملدغا

    لأن بني (قايين) أضحوا عوالماً
    على الارض أمست للشياطين منزغا

    فلا ها هنا الراعي المغني، ولا هنا
    تناجي الشذى والطير، لابحة الثغا

    * * *
    يشيخ زمان الغاز عيا ويدعي
    بأن صباه الغض ما زال ألثغا

    يصوغ من التنقيط، (إلياذة) بلا
    حروفٍ، ليلقى (الدامغات) بأدمغا

    لماذا ينافي آخر الشوق بدأه؟
    لأن الذي لا ينبغي، عنده ابتغى

    * * *
    تجيء على أعقابها الريح، ترتدي
    رمداَ محيطٍ، جفَّ من طول ما طغى

    فتستفرغ الحيَّ الفتى من أديمه
    وتكسو عجوزين الأديمَ المفرّغا

    وتَعتُّم ساقيها، وتجترُّ وجهها
    وترمي الذي أوشى بجذع الذي لغا

    ومن ذا تُثني الريحُ؟ هل غير واحدٍ؟
    وكان هو اللاغي، وسمعُ الذي صغى

    * * *
    هناك صدى صوتين، من غير لهجة
    أمِنْ غير تلقين، هذى كلُّ ببَّغا؟

    أأضحى الصدى المشقوقُ صوتاً مشقّقاً؟
    بحلق الذي يوحي، يدسُّ المُبلَّغا

    * * *
    فأيُّ مكانٍ ليس يصلح مسلخاً
    وكل مكانٍ، ربما بات مدبغا؟

    لأن الثرى وارى البراءات، لا الكَلا
    يفوحُ، ولا يزقو صهيلٌ، ولا رُغا

    لياليه أعلتْ سوأتيها بيارقاً
    أزاغت؟ أكان الرَّصدُ من قبل أزيغا؟

    وتلك الدِّيار الغائصات إلى اللِّحى
    بأطلالها، هل تبتغي أيَّ مُبتغى؟

    إلى صوتها، من موتها تَدخل اسمها
    تُسائل هل تلقى لهذا مُسوَّغا؟

    * * *
    إلى كمْ إلى كمْ يا لظى، حمحم الصدى؟
    إلى أين يا نهر الشظايا، تبغبغا؟

    لأن حنايا والدي من خرائبٍ
    فمن ما به أعطاكِ هذا وأسبغا؟

    يقولون مزموراتُه مِن دم الثرى
    وإنصاتُه في كل غصنٍ تَنسَّغا

    * * *
    تقول بأعلى الصمت: هل جثَّتي أنا؟
    أهذا الهَبا (سُعدى) أتلك الحصى (أغا)؟

    أهذا الحطامُ المرتمي كان قامتي؟
    أما كنتُ قبل الهدم، هدماً مصمَّغا؟

    * * *
    أيُجدي بُعيدَ القتل علمي بقاتلي
    وأن الذي راوغتهُ كان أروغا؟

    وهذا الذي فيه وَلغتُ أخلْتُني
    سأشهده مني إلى القعر أولغا؟

    * * *
    هناك صدىً – غير الذي انشقَّ – ينتمي
    إلى لغةٍ، تمحو التواريخ واللُّغى

    يحسُّ نبوغَ الحزن، من كلِّ حفرةٍ
    يُشيرُ: سيرقى آخرُ الدَّفن أنبغا

    وهذا الفُتاتُ المنطوي شمَّهُ الندى
    يُقاوي تلاشيه، ويقوى ليبزُغا

    1991م

  • 352 جوّاب العصور

    ديوان جواب العصور >  جوّاب العصور

    ما الذي تبتاعُ يا (زيد الوصابي)
    هل هنا سوقٌ سوى هذا المرابي؟

    يدخل السوقان سوقاً، يمتطي
    (باب موسى) ركبتيْ (سوق الجنابي)

    ورق العملات يعدو مثلما
    تهرب الحيّات من ضيق المخابي

    يسقط المُغْرى على المغري كما
    يستحمُّ الطين في الطين المذاب

    لا أرى (الشرشفَ والعِقدَ) على قامة
    (العُسبان) مدعاةَ اعتجابي

    هكذا قُلْ، إنما لا تقترح
    عن هُدى التمييز أن أُبدي متابي

    سوف تلقى سبَّهُم، يا ليتهم
    أحسنوا أحدوثةً حتى سِبابي

    كلَّ يومٍ لا تَرى ما ترتضي
    ثمَّ تغضي آبياً أو غير آبي

    * * *
    ذاك يا أُمي يناجي ثانياً
    وَهْوَ يمشي وحدهُ، يُدعى اكتئابي

    لا تَلُفُّ امرأةً نظرتُهُ
    مثلَهمْ، يبدو نبيّاً أو دُعابي

    هاأنا أسمعتُ حيَّين فلو
    صحتُ هل يستوقف السوق اصطخابي؟

    قل لماذا جئتَ يا زيدُ إلى
    هذه الأنقاض؟ أجتُّر خرابي

    * * *
    الريالاتُ التي تملِكُها
    لا تفي قرصاً وإبريقاً (رُصابي)

    عدّها، عَدَّيتُها الآن هنا
    عند هذا السوق مَنْ يُحصي رَغابي؟

    أعْلِنُ الحربَ عليه في الذي
    كان أحنى منه، كسَّرتُ حِرابي

    * * *
    كنتُ في عصر البراءات بلا
    درهم أهنى طعامي وشرابي

    في متاه (الشنفرى) أذهلني
    عن نداء الجوف دفعي وانجذابي

    قلت: يا صحرا خذي جمجتي
    فأجابت: هاك ليلي وذئابي
    ***
    تحت بند الفتح أرضعت المنى
    أرخت الريح يديها لاحتلابي

    صرت عند (اليعفري) منتدباً
    للمهمات التي فوق انتدابي
    ***
    همت في أيام (فيضي) مفلساً
    وبفلس أشتري ملء وطابي

    جئت هذا العصر أحدو جثتي
    لا أرى لوني، ولا شم ملابي
    ***
    أين يا أرض الذي تطوينه
    تحت نهديك؟ أشميت اضطرابي؟

    في ثمانينات هذا القرن لا
    أنضجت شمسي، ولا جادت سحابي

    إن تكن بعض حنيني فاحتمل
    ساعة عن ساعدي بعض قبابي

    ما الذي يا زيد قالت؟ أوثقت
    سرها الباكي إلى قعر انتحابي

    أشتهي الآن غداء موجزاً
    حزمة صغرى من (القات الرحابي)

    بعض تبغ، ومقيلاً لا أرى
    فيه وجهاً بين وجهي وصحابي

    هل لديك الآن ما يكفي،
    ولا نصف ما يكفي، ولا كف لعابي

    إستدن من (مرتضى)، لاحظتهُ
    لامني حين تقاضاني (الحَبابي)

    قيل بالأمس قضيْتَ (المَقْطري)
    بالذي أقْرضني (يحيى المَذابي)

    جرِّب اليوم (هُدى) عندي لها
    خمسةٌ أخرى ومخطوط (العِنابي)

    قلتُ زيدي خَمسةً، قالت أبي
    كان أيام (الصليحييِّن) جابي

    قلتُ هل هذا تراثي؟ ضحكَت
    وأضافت وتُراثي واكتسابي

    * * *
    يا (وصابي) والدي يحتلُّني
    وجهُهُ مِن داخلي يُرخي حجابي

    كلّما مرّيتُ قالوا: بنتُ مَنْ
    مَنْ أبوها؟ عنْبَسيٌّ، بل شَوابي

    يا طريق البيت، هذا اسمي هدى
    مَنْ هدى؟ يا بنت شعسان الرَّبابي

    أنت يا زيد الذي أشكيتَها
    بل شَكَتْ مأساة أختي واغترابي

    * * *
    ذاك بنكٌ، كلُّ بنكٍ قال لي:
    في أكُفِّ المصرف الدولي رِقابي

    ربح دَيني وحدَهُ يربو على
    دِيَتي، مَنْ سيبتاع استلابي؟

    * * *
    كم تريد اليوم، يا زيد اقتصدْ
    عِشْرُ ألفٍ بعض ما يُطفي التهابي

    بع كتاباً، خمسةً، من يشتري
    أضحت البيضة أغلى من كتابي

    خُطَّ عنواناً، وعد (قطباً) به…
    من يحبُّ الشعب يأبى أن يحابي

    مثل (كُتَّاب الزوايا) قُل وكلْ
    لزواياهم جفان كالجوابي

    كلهم متربة مثلي، سوى
    أنني متربة غير ترابي

    * * *
    إنني أبدع مني عالماً
    لا تُلاقي فيه محبوّاً وحابي

    ليس فيه أيُّ محكومٍ، ولا
    أيُّ حكمٍ عسكري أو نيابي

    انتبه يا زيد قفْ، سيارةٌ
    المنايا والمُنى أحلى كعابي

    خُنتني يا زيد كم أضعفتني
    مذُّ تخيرت من المهد اصطحابي

    * * *
    إصعد السيارة، اقعدْ، ههنا
    لا تخف، ما أنت موضوعَ ارتيابي

    أي زيد يا فتى تدعو، متى
    لا تسل أنت، أجب، هذا جوابي

    أنت زيد، فمن الثاني، أنا
    أنت تدعو أنت، دع عنك التغابي

    رامَ إنسانُ قميصي مُسعداً
    فانتضى إنسان قلبي من إهابي

    أكما الطفل يناغي نفسهُ
    كنتَ تحكي؟ كالصِّبا وهم التصابي

    لا تخف، من زيدٌ الثاني، أفذ
    ضدّ هذا المختفي حكم غيابي

    أيُّ زيد كنت من أصحابه؟
    أو حكوا عنه؟ تكلَّم يا انقلابي

    أي زيد أخبروا عنه؟ ولو
    قبل عشرٍ، ليت إلماحي شهابي

    يا أخي، أذكر زيداً ثالثاً
    فاستمع صدقي، وفكّر في كذابي

    * * *
    جاء في “الأحزاب” من أخباره
    خيرُ توضيح وتلميح خطابي؟

    كان حزبياً، صدقت الآن، قل
    أين ألقاه، فقد أعيي طلابي

    هاك ألفين وحدد بيته
    من ربى التاريخ في أعلى الروابي

    في (فتوح الشام) يثوي قائلاً:
    ردّ لي أزكي أب أصل انتسابي

    إنه من (شام همدان) وما
    في رباه صعبة تثني ركابي

    حسناً نوّرتني، فاذهب وكن
    ألف مجنون، فقد هدأت ما بي

    * * *
    ما الذي أعثرني اليوم عليّ
    ذلك العاتي، تبدّى في ارتقابي

    من زحام المشترى والمشتري
    جاءني مني ومن فوق احتسابي

    قلت يا زيد إليه، شاهراً
    قلب قلبي، رامياً خلفي قرابي

    قُربه اركبني، أركبته
    منكب التأريخ، واختار انتخابي

    علّه اليوم يمسِّي حميراً
    أو يبغِّي سبأ، من أنت، سابي؟

    أو على (عمرو بن معد) يعتدي
    فيلاقيه بسيفٍ غير ناب

    أو يحثُّ (الأشتر): الآن اعترف
    أنت زيد يا أخا الجُرد الكوابي

    ربما يسطو على (موسى الرضا)
    أو إلى الإعدام يقتاد (عُرابي)

    أو على (الصابي) يوشي تهمة
    أنت زيد في سجل الحزب صابي

    وسيعزو كل ما يعتاده
    من حماقات إلى مرمى صوابي

    * * *
    ولعلي واهمٌ أحسبه
    ينبش التأريخ عن خصم سرابي

    هل ذرعت الدهر عنه يا أنا
    وهو في مكتبه يطهو عقابي؟

    يوم لاقاني دنا مُستنطقاً
    لونَ نبعي، وإلى أين انصبابي

    * * *
    قد ألاقيه غداً أو بعده
    مستعيراً مذهبي، وجه ذهابي

    واقفاً بين ضميري وفمي
    قائلاً ما لم يقل ريقي لنابي

    * * *
    عله في داره الآن على
    حضن أختين، كشيطان غرابي

    يحتسي من كف باريسية
    أو فلبينية أو بنت (فابي)

    * * *
    عله في السجن يشوي كاتباً
    أو يعشي كلبه أي نقابي

    أو بذاك الركن، يحصي دخله:
    ذا حساب المرتجى، هذا حسابي

    * * *
    كيف أعطي نصف كسبي آمري
    وهو ما كان قسيمي في عذابي

    باسم أمن الأمر، أحوي ثروتي
    باسم ماذا ، ينهب الأمر انتهابي؟

    * * *
    لست يا زيد الوصابي كفؤة
    بل أقاويه لكي يقوى غلابي

    ابتعد عنه قليلاً، نصفه
    ظهر بعدي، نصفه وجه اقترابي

    لا أغطي عنه وجهي، إن يكن
    غسقياً، فأنا ليت ضبابي

    لا أعادي شخصه بل وصفه
    فهو من أرضي كأشواك شعابي
    * * *
    كيف زاد الشوك يا أرض على
    حجمه: غذته من لحمي هضابي

    علميني: قل لمن لا تجتني
    من نباتي سوف يجنيك احتطابي

    * * *
    من أرى، من قلت غررت به
    لست أخشى ذلك الوجه الذبابي

    إنني من قلبه أقرأه
    وهو يتلو عن فمي صمت عتابي

    * * *
    كم أصابتك قواه؟ قل وكم
    علمتني كيف اجتاز مصابي

    قيل عنه، قال من أمنت من
    جانبي أنبحت حوليه كلابي

    فليكن، يبتز عني قشرتي
    أين من أيدي ضواريه لبابي

    * * *
    لست تدري مكره، أحمله
    مثلما احمل تبغي وثقابي

    إنه يقدر أن ينزعني
    من مباتي، وله علم إيابي

    إنه يعرف زواري، وكم
    طوب بيتي، ومتى أغلق بابي

    عنده كل بيوت الناس، بل
    عنده عنوان قبري من شبابي

    * * *
    لا أماري أنه أقوى، فما
    باله يخشى وقوفي وانسيابي

    إنه والٍ بلا شعبية
    وأنا داعية غير مجاب

    فلماذا يتقي صوتي، كما
    يتقي صمتي وإمكان انسرابي

    ألأني عفت رأسي مالئاً
    من رؤوس الفيلق التركي جرابي

    أو لأني حين مادت (صيرة)
    من عباب البحر أطلقت عبابي

    أو لأن الخائرين انسحبوا
    يوم (نجران) وقاتلت انسحابي

    * * *
    لا تخف يا زيد شيئاً، ومتى
    خفت، أو قيل رأى الهول اجتنابي

    جبت عصراً بعد عصر وأنا
    أنت، ما زلت أنا ذاك الوصابي

    ديسمبر 1989م

  • 353 إلى أين؟

    ديوان جواب العصور >  إلى أين؟

    أما زلتَ؟ شابت عيالُ العيالْ
    وأنت تلاحق وعد المِطالْ

    فلا أمكن الممكن المشتهى
    إليكَ ولا المستحيلُ استحالْ

    * * *
    تبيتُ على باب سينٍ وراءٍ
    وتغدو على باب واوٍ ودالْ

    وكالفجر فوق اخضرار المروج
    تُسمِّي قوافيك (رياً) (نوالْ)

    * * *
    فيخطرن مثل ربىً من كرومٍ
    كعشق أمال الصبا واستمال

    ويخترن نهجاً ويلبسن من
    شفافية الغيب عِقداً وشالْ

    * * *
    وأنت ترى منذ أمسٍ غداً
    وتلمس بالكف ما لا يُخال

    وتلهث خلف الذي ما ابتدا
    وراء الذي جاوز الإكتمال

    * * *
    تُنقِّبُ عن طيف عادٍ تشمُّ
    صدى كل مئذنة عن (بلالْ)

    وتروي عن الرمل مسرى (قصيرٍ)
    وماجدعه الأنف (ماللجمالْ)

    تُنقي المناسِبَ والنّاسبين
    فتلقى الحقيقة كالإنتحالْ

    * * *
    تُجيب (الحدا) أيٍّ ركب حدتْ
    و(خولانُ) من ذا دعاه (الطِّيالْ)

    ومَنْ حلَّ قبل (زًبيدٍ) زبيداً
    ومَنْ قال (عَمْران) ضاهت (كُهالْ)

    * * *
    تفوتُ الذي عقل السير فيكَ
    تلاقي الذي لا يحلُّ العِقالْ

    وعن ذا، وذاك تميل قليلاً
    وتنهي رحيلاً ببدء ارتحالْ

    أُيقمرُ أيُّ مساءٍ وما
    أتى من أواخر سُقم الهلالْ؟

    * * *
    تحمّلت ستين لهفى وجئتَ
    كطفلٍ يسابقه الإكتهالْ

    ألستُ شقيق الروابي التي
    كساها الندى وارتعال الهُزالْ

    كلانا كنبت ربيع الرمال
    نرفُّ ارتجالاً ونذوي ارتجالْ

    * * *
    لماذا أتيتَ؟ لأني أتيتُ
    وتعليلُ هذا أمضُّ اعتلالْ

    لأن بقلبي بلاداً تجولُ
    ومنها إليها أُعنِّي المجالْ

    أفيها تُتِّش عنها وعنك؟
    لأطلالِ (ميسونَ) يبكي (طلالْ)

    * * *
    يقولون: أدمنت جوب العصور
    ورافقت أخطار أعلى الجبالْ

    نعم كان ذاك، وهذا، وكان
    شرابي وقوتي غباراً و(آلْ)

    وكنتُ أموتُ غراماً وجوعاً
    وأدعو المماتيْنِ أعلى مثالْ

    وأستنطق الريحَ ماذا رأت
    وأستخبر السّيلَ من أين سالْ؟
    * * *
    ويسألني البرقُ: مَن أنت، هل
    قرأتَ كتابَ انتظارِ الغِلالْ

    ومن ذا رمى بكَ قلبَ الزّحام
    وأطفأ في مقلتيك (الذُّبالْ)؟

    * * *
    وكنت أُدندن كالمبحرين
    وأكسو الأسى جُبة الاعتزال

    أشاكي الربى، وأُفدّي غديراً
    يحنُّ ويُعطي سواه الزُّلالْ

    فتهمسُ لي تينةٌ: هل أُريكَ
    فقيهاً يلقِّيك بنت الحلالْ؟

    * * *
    وكنتُ أُمنطق (بيع الحرام)
    وباب الذي (يوجب الاغتسالْ)

    أُداجي الصِّحاب فأدع (حُسيناً)
    (جريراً)، وأدعو (مثنى) (الجلال)

    و(شيخ البخاري) ينادي بنا:
    إلى الفقه ما الشعر إلاّ الضَّلالْ

    وكانت تسلِّفني الخابزات
    رياليْنِ، حتى ألاقي الرِّيالْ

    وكنتُ مع البدو، أحدو هناك
    أُغنِّي معَ حاملات السلالْ

    * * *
    أُشُبُّ القصيدة َ في (حالمين)
    فتُمسي بوارقها في (عُبالْ)

    يقولون: تُضني (ل ماذا ) بكيف)؟
    لأنَّ سؤالي جوابُ السؤالْ

    * * *
    يقولون: إن قلت أسمْعتَ، إنْ
    سكتَّ، ففي البال عشرون بالْ

    أهذي ذنوبٌ أجازي بها؟
    لأنك أدنيت بُعد المحالْ

    أتمنح كلَّ صَموتٍ فماً
    إذا باح أسقى الرياح الصِّيالْ

    * * *
    يقولون: هذا التظى ثورةً
    ومن عيبه أنه ما يزالْ!

    أما تلك دعوى غبيٍ نوى؟
    ومن قبل أن يستهلَّ استقالْ

    تنقُّ الدَّجاجُ التي لا تبيض
    لتهدي إليها (ذوات الحجالْ)

    * * *
    تثور وحيداً؟ رفاقي أُلوفٌ
    رضعنا صغاراً حليب النِّضالْ

    أما قال: إنطاقُ عش (القطا)
    قتال، وإسكاتُ (بومٍ) قتالْ؟

    * * *
    تحامى قصائدك الناقدون
    وأيُّ يدٍ تلمس الإشتعالْ

    أليس (الدكاتير) يخشون مَنْ
    يقول الذي ينبغي أن يُقالْ؟

    لهم أن يصونوا دماء الدواة
    وللشعب أن لا يراهم رجالْ

    بذا صنتَ فنّك منهم، كما
    يصون الجميلة عنفُ الجَمالْ

    * * *
    علينا أمورٌ نَضتنا لها
    أُتلهي عن الفعل بالإفتعالْ؟

    أمانيك تبدو كماليةً
    أتسكر والخبز أعصى منالْ

    تريد الصدى قبل قرع الطريق؟
    دليلُ الإرادات ومضُ الخيالْ

    أبريل 1991م

  • 354 صديق الريح

    ديوان مدينة الغد >  صديق الريح

    على اسم الجنيهات والأسلحة
    يتاجر بالموت كي يربحه

    ويشتم كفي مرابي الحروب
    فيزرع في رمله مطمحه

    ذوائبه الحاضنات النجوم
    بأيدي المرابين كالممسحه

    يمنيه طاغ حساه الفجور
    وجلمد في حلقه النحنحه

    فيدمي وتغدو جراحاته
    مناديل.. في كف من جرحه

    وتومي له حربة،(الهرمزان)
    بقرآن (عثمان) والمسبحه

    فيهوي له جبة من رماد
    ومن داميات الحصى أوشحه

    على وجهه ترسب الحشرجات
    وتطفو قبور بلا أضرحه

    ويجتره من وراء السراب
    أسى يرتدي صبغة مفرحه

    فيجتاح تلاً شواه الحريق
    وتلآ دخان اللظى لوحه

    ويغتال رابية ممسياً
    وتأكله ربوة مضبحه

    وكالسل يمتص زيت(الرياض)
    ويرضع من دمه المذبحه

    ويسقط حيث تلوح النقود
    هنا أوهنا لا يعي مطرحه

    طيوف الحياة على مقلتيه
    عصافير دامية الأجنحه

    تعب أساريره الأمسيات
    وتنسى الصبيحات أن تلمحه

    وغاياته أن يدير الحروب
    ويبتز أسواقها المربحه

    ومادام فيه بقايا دم
    فمن صالح الجيب أن يسفحه

    يجود بأشلائه ولتكن
    (لإبليس) أو(آدم) المصلحه

    * * *
    وتلك عوائده الخالدات
    يجوع ومن لحمه يأكل

    بلا درهم كان يدمي فكيف؟
    وكنز (المعز) له يبذل

    أينسى عراقته أنه:
    أبو الحرب أو طفلها الأول

    ومازال تنجبه كل يوم
    (بسوس) وأخرى به تحبل

    إلى أين يسري؟ وردّ الصدى:
    إلى حيث لا يثنى الرحل

    وكان هناك سراج حزين
    يئن ونافذة تسعل

    فأصغى الطريق إلى مسمر
    كنعش ينوء بما يحمل

    وقال عجوز سها الموت عنه
    على من ننوح ومن نشكل؟

    رمى أمس (يحيى) أخاه(سعيداً)
    وأردى أبن أختي أخي (مقبل)

    فرد له جاره: لو رأيت
    متاريسنا كيف تستقيل

    تمور فتغشى الجبال الجبال
    ويبتلع الجندل الجندل

    ويهوي الجدار على ظله
    ويجتر أسواره المعقل

    وقالت عروس صباح الزفاف
    سعى قبل أن يبرد ( المحمل)

    ويوماً حكوا أنه في (حريب)
    ويوماً أتى الخبر المذهل

    وصاح فتى: أخبروا عن أبي
    وأجهش حتى بكى المنزل

    وولى ربيع مرير وعاد
    ربيع بمأساته مثقل

    وضاع المدى وصديق الرياح
    يحوم..وعن وجهه يسأل

    ويمضي به عاصف قلّب
    ويأتي به عاصف حول

    ***
    أما آن يا ريح أن تهدئي
    ويا راكب الريح أن تتعبا

    و أين ترى شاطئ الموج يا
    (براش) ويا نسمات الصبا

    ويا آخر الشوط: أين اللقاء؟
    ويا جدب أرجوك أن تخصبا

    ويا حلم،هل تجتلي معجزاً
    تحيل خطاه الحصى كهربا

    يبيد بكف، نيوب الرياح
    ويمحو بكف، حلوق الربى

    ويغرس في الذئب رفق النعاج
    ويمنح بعض القوى الأرنبا

    أيأتي؟ ويحتشد الانتظار
    يمدُ له المهد والملعبا

    ويبحث عن قدميه الشروق
    ويحفر عن ثغرة المغربا

    وعادت كما بدأت غيمة
    توشي بوارقها الخلبا

    وتفرغ أثداءها في الرمال
    وتهوي تحاول أن تشرباً

    و(صنعاء) ترتقب المعجزات
    وتحلم بالمعجزات المُجتبى

    وكالصيف شع انتظار جديد
    على الأفق وامتد واعشوشبا

    وحدق من كل بيتٍ هوى
    يراقب عملاقه الأغلبا

    ويختار أحلى الأسامي له
    ويتنخب اللقب الأعجبا

    ويخلقه فارساً يمتطي
    هلالاً ويتشح الكوكبا

    سيدنو فقد آن للسهد أن
    ينام وللنوح أن يطربا

    فعمر الرصاص كعمر سواه
    وإن طال جاء لكي يذهبا

    وقد يقمر الجو بعد اعتكار
    وقد ينجل الأحمق الأنجبا

    مارس 1966م

    ** ** **

  • 355 ابن سبيل

    ديوان مدينة الغد >  ابن سبيل

    سار والدرب ركام من غباء
    كلٌ شبرٍ فيه شيطان بدائي

    كان يرتد ويمضي مثلما
    تخبط الريح مضيقاً من عناء

    بين جنبيه جريح هارب
    من يد الموت ومسلول فدائي

    يصلب الخطو على ذعر الحصى
    وعلى جذع مدير من شقاء

    وعلى منعطف أو شارع
    من دم الذكرى وأنقاض الرجاء

    من يعي يسأله:إلى أين؟
    ضاع قدامي كما ضاع ورائي

    وإلى لا منتهى هذا السرى
    في المتاهات ومن غير ابتداء

    إنني أخطو على شلوي وفي
    وهوهات الريح أشتم دمائي

    من يؤاويني؟ أيصغي منزل
    لو أنادي أو يعي أي خباء؟

    الممرات مغارات لها
    وثبة الجن وإجفال الظباء

    وهناك الشهب غربان بلا
    أعين تجتاز غيماً لا نهائي

    وهنا الشمس عجوز تحتسي
    ظلها تصبو إلى تحديق رائي

    من دنا مني؟ وكالطيف التوي
    ونأى خلف خيالات التنائي

    من وراء التل عنت غابه
    من أفاع؟ وكهوف من عوام

    وعيون كالمرايا لمعت
    في وجوه من رماد وانحناء

    إنه حشد بلا اسم وجهه
    خلفه مرآة تزوير الطلاء

    من يرى؟ أي زحام ودرى
    إنه يرنو إلى زيف الخواء؟

    * * *
    وبلا زاد ولا درب مضى
    كالخيالات الكسيحات الظماء

    تخفق الأحزان في أهدابه
    وتناغي كعصافير الشتاء

    ينحني يستفسر الإطراق عن
    وجهه الذاوي وعن باب مضاء

    عن يد صيفية اللمس وعن
    شرفة جذلى وعن نبض غناء

    وتأنت نجمه أرسى على
    جفنها طيف خريفي الرداء

    فتملاها ملياً وارتدى
    جو عينيه أصيلاً من صفاء

    والتظى برق تضنى خلفه
    ألف دنيا من ينابيع السخاء

    وبلا وعي دنا من كوخه
    كغريق عاد من حلق الفناء

    فأحس الباب يلوي حوله
    ساعدي شوق وحضناً من بكاء

    أين من يسأله يخبره
    عن مآسيه فيحنو أو يرائي؟

    وجثا يحنو عليه منزل
    سقفه الثلج وجدران المساء

    وكما تنجر أم ضيعت
    طفلها يبحث عن أدنى غذاء

    يجتدي الصمت نداء أو يداً
    أو فماً يفتر أو رجع نداء

    ويداري الشهداء أو يرنو إلى
    ظله يختال في ثوب نسائي

    فتعاطيه مناه أكؤسا
    من دخان؟ واحتضاناً من هباء

    تحتسي أنفاسه أمسية
    عاقر تمتص ألوان الهواء

    هل هنا لابن السبيل الريح من
    موعد؟ أو هُهُنا دفء لقاء؟

    عاد من قفر دخاني إلى
    عامر؟ أقفر من ليل الغراء

    وغدا يبتدئ الأشواط من
    حيث أنهاها إلى غير انتهاء

    يقطع التيه إلى التيه بلا
    شوق أسفار ولا وعد انثناء

    وبلا ذكرى ولا سلوى رؤى
    وبلا أرض ولا ظل سماء

    عمره دوّامة من زئبق
    وسهاد وطريق من غباء

    ** ** **

    16يوليو1965م

  • 356 الشهيدة

    ديوان مدينة الغد >  الشهيدة

    كرجوع السنى لعيني كفيف
    بغتة كاخضرار نعش جفيف

    وكما مدت الحياة يديها
    لغريق على المنية موفي

    وكما ينثني إلى خفق شيخ
    عنفوان الصبا الطليق الخفيف

    رجعت فجأة رجوع وحيد
    بعد شك إلى أبيه اللهيف

    كابدت دربها إلى العودة الجذلى
    وأدمت شوط الصراع الشريف

    حدقت من ترى ومن ذا تنادي؟
    أين تمضي: إلى الفراغ المخيف؟

    وأرتها خوالج الذعر وجهاً
    بربرياً كباب سجن كثيف

    وجذوعاً له وجوه وأذقان
    وإطراقة الحمار العليف

    فتنادت فيها الظنون وأصغت
    لخفيف الصدى ووهم الخفيف

    وكما يرتمي على قلق السمع
    هدوء بعد الضجيج العنيف

    سرحت لمحة فطالعها شيء
    كإيماءة السراج الضعيف

    كان يعطي حياته للحيارى
    وعلى وجهه اعتذار الأسيف

    فأحست هناك حياً مهيضاً
    يتلوى تحت الشتاء الشفيف

    قرى بعن عمرهن على أدنى
    الخصومات والهراء السخيف

    واشرأبت ثقوبهن إلى الريح
    يسائلن: عن شميم الرغيف

    فدنت تنظر الحياة عليهن
    بقايا من الغثاء الطفيف

    والدوالي هناك أشلاء قتلى
    جمدت حولها بقايا النزيف

    وتجلت أماً تجعد فيها
    عرق الصيف وارتعاش الخريف

    سألتها عن أسمها فتبدى
    من أخاديدها حنان الأليف

    واستدارت تقص: إن أباها
    من (زبيد) وأمها من (ثقيف)

    فأعادت لها الربيع فماست
    في شبابين تالد وطريف

    نزلت ضيفة الحنان فكلنت
    لديار الضياع أسخى مضيف

    نزلت في مواكب من شروق
    وحشود من اخضرار الرفيف

    في إطار من انتظار العصافير
    ومن لهفة الصباح الكفيف

    وتهادت على الربى فتلظى
    في عروق الثلوج دفء المصيف

    وأجادت من الفراغ وجوهاً
    وجباهاً من الشموخ المنيف

    رجعت فانثنى اصفرار التوابيت
    إلى خضرة الشباب الو ريف

    ** ** **

  • 357 شعب على سفينة

    ديوان مدينة الغد >  شعب على سفينة

    كهودج من الضباب
    من الطيوف والسراب

    تزفه سفينة
    من الضياع والتراب

    ومن تخيل الغنى ومن تلهف الرغاب

    ومن حكايا العائد
    ين بالحقائب العجاب

    المتخمات بالحلى
    وبالعطور والثياب

    وبالجيوب تحتوي
    دراهماً بلاحساب

    لما أتوا تلفتت
    حتى القصور والقباب

    حتى السهوب والقرى
    حتى الكهوف والشعاب

    وكل صخر عندنا
    وكل شارع وباب

    ***
    ورغم خوفه مضى
    من غربة إلى اغتراب

    حشاه ملجأ الطوى
    عيناه مرفأ الذباب

    على الفراغ يبتدي
    وينتهي دجى العذاب

    و(مأرب) تساؤل
    متى يعود؟ وارتقاب

    و(حدة) مخاوف
    وموعد على ارتياب

    اينثني؟ فينثني
    إلى المزارع الشباب

    ومقلتا (سمارة)
    جوى (وميتم) عتاب

    يعي لهاث ربوة
    تعد أشهر الغياب

    وتشرئب ربوة
    إلى محاجر الشهاب

    تهز نهدها إلى
    مسافر بلا إياب

    تحطه جزيرة
    ويرتمي به عباب

    مسافر أضنى السرى
    وراع غيهب الذئاب

    وأقلق الحصى بلا
    مدى وأجهد الهضاب

    * * *
    من قارة لقارة
    يجوب أرحب الرحاب

    وهو على عيونها
    تساؤل بلا جواب

    فينحني ويبتني
    لها نواطح السحاب

    يضيئها ولا يرى
    يشيدها وهو الخراب

    يعيش عمره على
    أرجوحة من الحراب

    أيامه سفينة
    جنائزية الذهاب

    تزفه إلى النوى
    كهودج من الضباب

    ** ** **

  • 358 أسمار القرية

    ديوان مدينة الغد >  أسمار القرية

    من صدى البيد، والشعاب الحواشد
    بالمهاوي والضاريات السواهد

    من مدى الموت حين تحمر فيها
    شهوة الدود والقبور الزوارد

    من لياليه حين مس (عليّا)
    ليلة العرس أنه شر وافد

    أو أتى مرشداً فأوما إليه
    صاحباه أن الضحية راشد

    من صخور جلودهن حراب
    وكهوف عيونهن مواقد

    حيث للريح والتلال عروق
    من أفاع، وغابة من سواعد

    وعلى المنحنى تمدّ “صياد”
    للأذلاء حائطاً من أساود

    ولها حافرا حمار وتبدو
    مرأة، قد تزوجت ألف مارد

    من ركوب السرى على كل قفر
    لم ترده حتى خيالات رائد

    والليالي على أكف العفاريت
    نعوش، ذواهب، وعوائد

    من قوى البأس قصة تلو أخرى
    تصرع الوحش قبل نهضة قاعد

    من سؤال عن الحجاز ورد
    عن غلاء الكساء، و: التبن: كاسد

    من خصام بين الأقارب في الوا
    دي، وحرب في التل بين الأباعد

    من تثني المراتع الخضر تومي
    بالأغاني للراعيات النواهد

    من متاه الظنون تستجمع الأسما ر
    ، شعث الرؤى، وفوضى المشاهد

    بين جدرانها ركام الحكايا
    من جديد القرى وأكفان تالد

    وتجاعيد الشعوذات عليها
    كرفات تقيأتها المراقد

    وعلى كل بوحها وصداها
    تتنادى زواحف ورواكد

    تجمع القرية الشتات فتحوي
    أمسيات من عاصفات الفدافد

    وسيولاً من الفراغ المدوي
    أسهلت فوقها بطون الروافد

    وغناء كخفق بيت من القش
    تعاوت فيه الرياح الشدائد

    وبخوراً وشادياً من جليد
    ونداء: كم في الصلاة فوائد

    يحشر السمر الضجيج عليها
    من شظايا نعش السنين البوائد

    يتلاقيان كلما حشرج الطبل
    وأعلى الدخان ريح الموائد

    فيقصون كيف طار (ابن علوان)؟
    وماذا حكى (علي بن زائد)؟

    عن مدار النجوم وهي عيد
    عن فم الغيب أو برق المواعد

    عندما تسبل الثريا عشاء
    عقدها تحبل السحاب الخرائد

    وإذا الغرب واجه الصيف بالأر
    ياح باعت عيالها (أم قالد)

    ويعودون يغزلون من الرمل
    ودود البلى، عروق المحامد

    فيلوكون معجزات (فقيه)
    يحشد الجن والظلام يشاهد

    ومزايا قوم يصلون في الظهر
    وفي الليل يسرقون المساجد

    وحكايا تطول عن بائعات الخبز
    كم في حديثهن مكايد

    عن بنات القصور يقطرن طيباً
    كرواب من الورود الفرايد

    أو كصيف أجاد نضج العطايا
    أو ربيع في البرعم الطفل واعد

    شعرهن انثيال فجر خجول
    ظله في عيونهن مراود

    كلهن استمحنهم فتأبت
    حكمة الطين فيهم أن تساعد

    ويتوبون يستعيذون بالله
    لأن الإناث نبع المفاسد

    ويودون لو يعود زمان
    كان ثر الجنى عميم الموارد

    ويسبون حجة طوت الزاد
    فلاك الفراغ جوع المزاود

    وتناءت أسمارهم وتدانت
    مثلما تختفي الرؤى وتعاود

    والتقوا ليلة عجوزاً توارت
    في أخاديدها النجوم الخوامد

    فابتدوا ثرثراتهم وأعادوا
    ما ابتدوا من رواسب وزوائد

    وعلى صمتهم تهيأ شيخ
    مثلما تخفق الطيوف الشوارد

    فحكى قصة تململ فيها
    كل حرف، كأنه قلب حاقد

    وتعالى فيها التبجح بالثأر
    فهاجت مستنقعات العوائد

    وتنادوا.. لبيك يا عم هيا
    كلنا سائرون لا عاد واحد

    إنها ساعة إليهم فكروا
    عميت عنكمو العيون الحواسد

    واشرأبت بيوتهم تلمح الشهب
    دما في ملامح الأفق جامد

    وتعايا فيها النعاس تعايي
    طائر موثق الجناحين بارد

    ومع الفجر ساءل السفح عنهم
    جدولاً، في ترقب الفجر ساهد

    فرآه يهفو، يمد ذراعيه
    ويومي لها بأهداب عابد

    وارتمى يحتسي عبير خطاها
    ويعاني وخز الحصى ويكابد

    ودنت فالتوى على صبح ساقيها
    يناغي ويجتدي ويراود

    من أتته؟ فلاحة مشطها الشمس
    عليها من الشروق قلائد

    وقميص من الندى ماج فيه
    موسم، نابض الأفانين مائد

    وانثنت مثلما يميس عمود
    زنبقي تشتم أخبار (قائد)

    وعلى فجأة تلقت خطاها
    من غبار الصدى، غيوم رواعد

    أي شيء جرى؟ وتصغي وتعدو
    وتداري، نشيجها فيعاند

    وترامت مناحة القرية الثكلى
    كما يزخر انفجار الجلامد

    ودنت من ترى؟ أبا طفلتيها
    وهو جذع من الجراحات هامد

    وعجوزاً تبكي وحيداً وأطفالاً
    كزغب الحمام يبكون والد

    وجريحاً يصيح أين يداي
    أين رجلاي؟ هن ما كنت واجد

    وشقيقاته يمتن التياعا
    ويهبن له القلوب ضمائد

    يرتمي يرتمين يجثو فينصبن
    له من صدورهن وسائد

    وعواء النجيع في الساح يدوي
    يذهب الحاقدون والحقد خالد

    أحمق الحمق أن تصير الكراها
    ت تراثاً، أو يستحلن عقائد

    وعلى إثر من مضوا عادت الأسما
    ر تحيا على أصول القواعد

    وتباهي: أردوا صغيرين منا
    وقتلنا منهم ثلاثين ماجد

    وتعيد الذي أعادت دهوراً
    من صدى البيد والشعاب الحواشد

    يوليو 1964م

  • 359 اليوم الجنين

    ديوان مدينة الغد >  اليوم الجنين

    على الدرب والمرتع
    يجود، ولايدعي

    يوشي غناء الحقول
    وأنشودة المصنع

    ويعطي حياة.. بلا
    نيوب ولا مصرع

    يشد أبض الخصور
    إلى أعطش الأذرع

    ويسخو سخاء المصيف
    على الطير والضفدع

    على السفح والمنحنى
    على السهل والأرفع

    أتشتم أنفاسه
    طيوف الربى الهجع

    هناك رؤى مهده
    نبيذية المنبع

    حمام من الأغنيات
    على جدول ممرع

    مرايا هوائية
    سرابية المخدع

    وغيب وراء القناع
    ووعد بلا برقع

    هناك انتظار يحسّ
    خطاه وحلم يعي

    ودفءٌ صريع يحن
    إلى لمسه المبدع

    وواد يصيخ إلى
    تباشيره اللمع

    فأحلم أن الجنين
    وليد بلا مرضع

    فألوي زنود الحنان
    على خصره الطيع

    ويحبو على ساعدي
    فأرضعه أدمعي

    وينأى، فترنو الكوى
    يفتشن عنه معي

    ويرتد، حلم مضى
    ويمضي، بلا مرجع

    وتحتشد الأمسيات
    على العامر البلقع

    فأرجوه أن يشرئب
    إلى شرفة المطلع

    أمد له سلماً
    إلى النور من أضلعي

    وأشدو لميلاده
    ويصغي بلا مسمع

    فأبكيه في مقطع
    وألقاه في مقطع

    مايو1965م

  • 360 امرأة الفقيد

    ديوان مدينة الغد >  امرأة الفقيد

    لم لا تعود؟ وعاد كل مجاهد
    بحلى (النقيب) أو انتفاخ (الرائد)

    ورجعت أنت، توقعاً لملمته
    من نبض طيفك واخضرار مواعدي

    وعلى التصاقك باحتمالي أقلقت
    عيناي مضطجع الطريق الهامدِ

    وامتد فصل في انتظارك وابتدا
    فصل، تلفح بالدخان الحاقد

    وتمطت الربوات تبصق عمرها
    دمها وتحفر عن شتاء بائد

    وغداة يوم، عاد آخر موكب
    فشممت خطوك في الزحام الراعد

    وجمعت شخصك بنية وملامحاً
    من كل وجه في اللقاء الحاشد

    حتى اقتربت وأم كل بيته
    فتشت عنك بلا احتمال واعد

    **
    من ذا رآك وأين أنت؟ ولا صدى
    أومي إليك، ولا إجابة عائد

    وإلى انتظار البيت، عدتُ كطائر
    قلق ينوء على جناح واحد

    **
    لا تنطفي يا شمس: غابات الدجى
    يأكلن وجهي يبتلعن مراقدي

    وسهدت والجدران تصغي مثلما
    أصغي، وتسعل كالجريح الساهد

    والسقف يسأل وجنتي لمن هما؟
    ولمن فمي؟وغرور صدري الناهد؟

    ومغازل الأمطار تعجن شارعاً
    لزجاً حصاه من النجيع الجامد

    وأنا أصيخ إلى خطاك أحسها
    تدنو، وتبعد، كالخيال الشارد

    ويقول لي شيء، بأنك لم تعد
    فأعوذ من همس الرجيم المارد

    **
    أتعود لي؟ من لي؟ أتدري أنني
    أدعوك، أنك مقلتاي وساعدي

    إني هنا أحكي لطيفك قصتي
    فيعي، ويلهث كالذبال النافد

    خلفتني وحدي، وخلفني أبي
    وشقيقتي، للمأتم المتزايد

    وفقدت أمي: آه يا أم افتحي
    عينيك، والتفتي إلي وشاهدي

    وقبرت أهلي، فالمقابر وحدها
    أهلي، ووالدتي الحنون ووالدي

    وذهلت أنت أو ارتميت ضحية
    وبقيت وحدي، للفراغ البارد

    **
    أتعود لي؟ فيعب ليلي ظله
    ويصيح في الآفاق أين فراقدي؟

    أكتوبر1964م

  • 361 عائد

    ديوان مدينة الغد >  عائد

    من أنتَ، واستبقت جوابي
    لهب، يحن إلى التهاب

    من أنت، عزاف الأسى
    والنار قيثار العذاب

    وعلى جبينك، قصة
    حيرى، كديجور اليباب

    وخواطر، كهواجس الافلا
    س، في قلق المرابي

    وانا اتدري: من أنا؟
    قل لي،وأسكرها اضطرابي

    سل تمتمات العطر: هل
    (نيسان) يمرح في ثيابي؟

    من هذه؟ أسطورة الـ
    أحلام، أخيلة الشهاب

    همساتها، الخضر الرقاق
    أشف من ومض السراب

    إني عرفتك كيف أفرح؟
    كيف أذهل عن رغابي؟

    من أين أبتدىء الحديث…؟
    وغبت في صمت ارتيابي

    ماذا أقول، وهل أفتش
    عن فمي، أو عن صوابي

    من أنت، أشواق الضحى
    قبل الأصيل، على الهضاب

    حلم المواسم، والبلابل
    والنسيمات الرطاب

    أغرودة الوادي، نبوغ العنـ
    دليب… شذى الروابي

    وذهول فنان الهوى
    ورؤى الصبا وهوى التصابي

    وهج الأغاني، والصدى
    حرق المعازف، والرباب

    لا تبعدي: أرست على شطآ
    نك النعسى، ركابي

    فدنت تسائل من رفاقي
    في الضياع؟ ومن صحابي؟

    هل سآءلتك مدينة
    عني؟ وسهدها مصابي

    كانت ترى نكبات أهلي
    في شحوبي واكتئابي

    فتقول لي: من أين أنت؟
    وتزدريني، بالتغابي

    أنا من مغاني شهرزاد
    إلى ربى، الصحو انتسابي

    بي من ذوائب (حدة)
    عبق السماحة والغلاب

    وهنا أصخت ووشوشا
    ت (القات) تنبي باقترابي

    وأظلنا جبل ذراه
    كالعمالقة الغضاب

    عيناه متكأ النجوم
    وذيله، طرق الذئاب

    فهفت إلي مزارع
    كمباسم الغيد الكعاب

    وحنت نهود الكرم
    فاسترخت للمسي واحتلابي

    وسألت (ريا) والسكو
    ن ينث وهوهة الكلاب

    ماذا؟ أينكر حينا
    خفقات خطوي وانسيابي؟

    انا تلاقينا… هنا،
    قبل انتظارك… واغترابي

    هل تلمحين الذكريات
    تهز أضلاع التراب؟

    وطيوف مأساة الفراق
    تعيد نوحك وانتحابي

    والأمس يرمقنا وفي،
    نظراته خجل المتاب

    كيف اعتنقنا للوداع
    وبي من اللهفات ما بي؟

    وهتفت: لا تتوجعي
    سأعود، فارتقبي… إيابي

    ورحلت وحدي، والطر
    يق دم، وغاب، من حراب

    فنزلت حيث دم الهوى
    يجتر، أجنحة الذئاب

    حيث البهارج والحلي
    سلوى القشور عن اللباب

    فترين ألوان الطلاء
    على الصدوع، على الخراب

    والتسليات، بلا حساب
    والملال، بلا حساب

    والجو محموم، يئن
    وراء جدران الضباب

    كم كنت أبحث عن طلابي
    حيث ضيعني طلابي

    واليوم عدت، وعاد لي
    مرح الحكايات العذاب

    ما زلت أذكر كيف كنا
    لا ننافق، أو نحابي

    نفضي بأسرار الغرام
    إلى المهبات الرحاب

    والريح تغزل من زهو
    ر (البن)، أغنية العتاب

    فتهزنا أرجوحة
    من خمرة الشفق المذاب

    وكما تناءينا التقينا
    نبتدي صفو الشباب

    ونعيد تاريخ الصبا
    والحب، من بدء الكتاب

    أترين: كيف اخضوضرت
    للقائنا مقل الشعاب؟

    وتلفت الوادي إليك
    وهش، يسأل عن غيابي

    ما دمت لي فكويخنا
    قصر، يعوم على السحاب

    والشهب بعض نوافذي
    والشمس، شباكي وبابي

    صنعاء سبتمبر 1963م

  • 362 مدينة الغد

    ديوان مدينة الغد >  مدينة الغد

    صنعاء 30يونيو سنة 1967م
    من دهور… وأنت سحر’ العبارة
    وانتظار المنى وحلم’ الاشارة

    كنت بنتَ الغيوب دهراً فنمَّت
    عن تجليّك حشرجات’ الحضارة

    وتداعي عصر يموت ليحيا
    أو ليفنى، ولا يحسَّ انتحاره

    جانحاه في منتهى كل نجم
    وهواه’، في كل سوق: تجاره

    باع فيه تأله الأرض دعواه
    وباعت فيه الصلاة’ الطهاره

    أو ما تلمحينه كيف يعدو
    يطحن الريح والشظايا المُثاره

    نم عن فجرك الحنون ضجيج
    ذاهل يلتظي ويمتص ناره

    عالم كالدجاج، يعلو ويهوي
    يلقط الحب، من بطون القذاره

    ضيع القلب، واستحال جذوعاً
    ترتدي آدميةً… مستعاره

    ***
    كل شيء وشى بميلادك الموعود
    واشتم دفئه واخضراره

    بشرت قرية بلقياك أخرى
    وحكت عنك نجمة لمناره

    وهذت باسمك الرؤى فتنادت
    صيحات الديوك من كل قاره

    المدى يستحم في وعد عينيك
    وينسى في شاطئيه انتظاره

    وجباه الذرى مرايا تجلت
    من ثريات مقلتيك شراره

    ***
    ذات يوم، ستشرقين بلا وعد
    تعيدين للهشيم النضاره

    تزرعين الحنان في كل واد
    وطريق، في كل سوق وحاره

    في مدى كل شرفة، في تمني
    كل جار، وفي هوى كل جاره

    في الروابي حتى يعي كل تل
    ضجر الكهف واصطبار المغاره

    ***
    سوف تأتين كالنبوءات، كالأمطار
    كالصيف، كانثيال الغضاره

    تملئين الوجود عدلاً رخياً
    بعد جور مدجج بالحقاره

    تحشدين الصفاء في كل لمس
    وعلى كل نظره وافتراره

    تلمسين المجندلين فيعدون
    تعيدين للبغايا البكاره

    وتصوغين عالماً تثمر الكثبان فـ
    يه، ترف حتى الحجاره

    وتعف الذئاب فيه، وينسى
    جبروت السلاح، فيه المهاره

    العشايا فيه، عيون كسالى
    واعدات، والشمس أشهى حراره

    لخطاه عبير (نيسان) أوأشـ
    ذى لتحديقه، أجد‘ اناره

    ولالحانه، شفاه صبايا
    وعيون، تخضر فيها الاثاره

    أي دنيا ستبدعين جناها
    وصباها فوق احتمال العباره؟

  • 363 لليلة نعي.. محمد الحيمي رئيس مؤسسة الطيران اليمني

    رجعة الحكيم بن زائد >  لليلة نعي.. محمد الحيمي رئيس مؤسسة الطيران اليمني

    من نعوا؟ من ذا أباكي أو أدامي؟
    بت وحدي اثنين: مرمياً ورامي

    وقتيلين كلانا، لاهنا
    خفقة تهمس: يا أشباح نامي

    أينا الأقتل؟ هل تشتف من
    عود الأطياف تدخين حطامي؟

    أينا أعرى؟ ولو قال الكسا
    خذ، لقال انسج بديلاً عن قوامي

    * * *

    هل ترى ليلتنا عيدية؟
    ما لها تسمية، “قلت حذامي”

    يا سلام اليوم، من حنى الثرى؟
    كسرة أغرت حمامي بحمامي

    أصبحت كل بلادٍ مسلخاً..
    هكذا بوابة العصر السلامي

    كالذي يطفو على (كرواتيا)
    أو على (الصومال) قد يدعى (شبامي)

    لا ترى هذا، أر ى الحرب ابتدت
    وابتدا يطبخني سيف انقسامي

    * * *

    أينا استغمض صوت النعي، قل:
    كان رعب الليل في السمعين طامي

    لا تعي أنت، ولا أصغي أنا
    والثواني استنقعت أمست هوامي

    * * *

    الإذاعات تنادي: سادتي
    سيداتي، قل أضيفي يا غلامي

    أم كلثوم تشاجينا، أصخ
    مذهب (الأخوان) فيهن قطامي

    أنت من أي؟ أنا أرجو غداً
    أنتمى فيه إلى أي الأنام

    أينا أأسى وأعيى رنة؟
    يا شجى هذي المزامير عظامي

    * * *

    أي حيمي نعوا؟ هم كثرة
    من يقوينا على عد الأسامي؟

    إنه من كنت أخشى فقده
    والتلات تمني وتظامي

    هل حكى المذياع من أخباره
    ما يفي؟ هل قال من أي الحيام؟

    حينما قال اسمه أومى إلى
    فيلقٍ، هذا عمىً، يبدون تعامي

    كاد يدعوه: رئيس ال.. فانطوى
    صوته، أو غاب سمعي في احتدامي

    * * *

    أخر العهد به أمس الضحى
    كان أعدى أمس من ظبي الموامي

    أين تقرير الأفندي؟ قلت: خذ
    حققوا بين المضيفات، و(سامي)

    وإلى (المستقبل) استفتحتها
    بالوفيات، فأحسست إنهدامي

    كان يفضي، خلته قال لهم:
    احجزوا لي، عندكم يحلو مقامي

    كدت استفتيه، لبى هاتفاً:
    مرحباً، أهلاً، نعم كل اهتمامي

    ربما قال: إلينا فمضى،
    تاركاً للحيرة الشعثا زمامي

    * * *

    إنه من قلت هل جربت ما
    أصدق القلب، ومن قلبي كلامي

    كلما قال: (هنا صنعا)، جرى
    أو سيجري.. يضحك العكس أمامي

    أتصل، غير عليم بيت من…
    تلك اخلاق (العراجيف) (الغطامي)

    هل أتى من حيه جار، وفي
    أي حي بيته؟ في كل نامي

    قل: لماذا اليوم أودى، ونجا
    بين موتين: مرابٍ، وانهزامي

    ما اسم رمز السر؟ (حرف الحا) أفق
    كنت قبل الآن ألتاث حزامي

    * * *

    قربنا تل يوشي خبراً:
    مر سارٍ، قال شيئاً عن سنامي

    أي شيء قال؟ أصبى قامتي
    فاستحالت أعيناً خضراً مسامي

    لاح طفلي يوم كنت امرأة..
    وربيعي، إذا أنا إحدى الإكام

    يسبق الدرب، وكي أتبعه
    كالنشايا، أسبق الآن اقتحامي

    هل أحيي عنك ذاك المنحى:
    أعين الغربان، كي يخفى التزامي

    * * *

    كان تفسير هوى الشعب، يرى
    حيث يومي عنبيا أو غمامي

    صادراً عنه، ومنه رامياً
    بيديه رأسه أقصى المرامي

    صاعداً عن أمره هام الذرا
    متهماً عنه، كموالٍ تهامي

    حاملاً من قلبه محبرةً..
    ما جرى في بالها: ميمي ولامي

    * * *

    من هنا يسري، ويغدو ها هنا
    والمنايا حوم جوعي دوامي

    والعصا والذبح ليلاً وضحىً
    سيد الأحكام والشرط الزعامي

    يصبح القبر ملاذاً عندما
    ترتدي فوضى الفلا، شكلاً نظامي

    * * *

    من دعا (الحيمي) إلى أن ينطفي
    والدجى كالقحط، محمي وحامي؟

    يا صديق الناس قلباً ويداً
    مأتم الأنقى هوىً، عرس حرامي

    فلماذا مت، كم أحرقني
    بارق أرضعه الشوق غرامي؟

    * * *

    أينا أرثى؟ ومن يسألنا
    عن جمال الحرب في السلم الدرامي؟

    “عن مدير الجام، هل جام لنا؟
    فتآوي أنجم الستين جامي”

    عن أبي ذر أنفشي؟ ندعي
    قل: (سنوسي)، أنا (أدعوه يامي)

    * * *

    هل سها (العيوق)، أو غام السرى؟
    قال(سعد الذابح): الثور أمامي

    ما ترى يا (ديك) بيت (المهتدي)؟
    هل عفا الحراس يا كلب (المشامي)

    * * *

    ساعة أخرى، ونغدو من دجىً
    ما له بعد، إلى صبحٍ ظلامي

    مسبق النعش إلى غرفته..
    نسأل الأخبار، تمزيق اللثام

    غائصاً أنت، بفحوى لمحها..
    وأنا شاك إليها حمل هامي
    * * *

    أين بيت العزي الحيمي، رنا
    ذلك المصغي كعرافٍ يمامي

    مات هذا الأمس، أورى للحشا
    مخرم ابن السبع، والكهل العصامي

    بيته ليس شهيراً كاسمه
    قلبه قصران: وردي، خزامي

    * * *

    ربع قرنٍ صحبه، ما زرتما..
    داره، لا زار، هذا بحث عام

    هل أقول ارتاب؟ لا أعرفه
    فعلى أيكما أذكي ملامي

    ذلك استوفى مداه (نصفاً)
    وأنا الشيخ هنا، بعد تمامي

    بيته خلف سبا، قدامه
    شبه نادٍ، خلفه بيت (النعامي)

    * * *

    كاد يلقانا اسمه الموشى على
    مدخل المبنى، كتوقيعٍ هشامي

    تلك سيارته، قالت لمن
    آل ملكي، ليس لي غير انحطامي

    هل ترى ذا بيته، خمنته..
    بدوياً، يكتسي جلد رخامي

    حجمه ما امتد شبراً، هل
    أبى أن يجاري أي جار، أو يسامي؟

    * * *

    ما الذي يا بيت تروي بعده؟
    بعده جفت دموعي، وابتسامي

    خلته قال: دخلت المبتدا
    باكياً، والان مبكيا ختامي

    1992م

  • 364 فاتحة

    ديوان مدينة الغد >  فاتحة

    18/3/1968م
    يا صمت ما أحناك لو تستطيع
    تلفّني، أو أنني أستطيع

    لكن شيئاً داخلي يلتظي
    فيخفق الثلج، ويظمى الربيع

    يبكي، يغني، يجتدي سامعاً
    وهو المغنّي والصدى والسميع

    يهذي فيجثو الليل في أضلعي
    يشوي هزيعاً، أو يدميَّ هزيع

    وتطبخُ الشهبُ رماد الضحى
    وتطحن الريحُ عشايا الصقيع

    ويلهث الصبحُ كمهجورة
    يجتاح نهديها خيالُ الضجيع

    ***
    شيء يناغي، داخلي يشتهي
    يزقو، يدوًّي، كالزحام الفظيع

    يدعو، كما يدعو نبي، بلا
    وعي، وينجر انجرار الخليع

    فيغتلي خلف ذبولي فتى
    ويجتدي شيخ، ويبكي رضيع

    يجوع حتى الصيف ينسى الندى
    ميعاده، يهمي شهيق النجيع

    ويركض الوادي، وتحبو الربى
    ويهرب المرعى، ويعيا القطيع

    ما ذلك الحمل الذي يحتسي
    خفقي، ويعصي ذاهلاً أو يطيع

    يشدو فترتد ليالي الصبا
    فجراً عنيداً، أو أصيلاً وديع

    وتحبل الأطياف تجني الرؤى
    ويولد الآتي ويحيا الصريع

    فتبتدي الأشتات في أحرفي
    ولادة فرحى، وحملا وجيع

    ***
    هذه الحروف الضائعات المدى
    ضيعت فيها العمر، كي لا تضيع

    ولست فيما جئته تاجراً
    أُحسُّ ما أشريوماذا أبيع

    إليكما يا قارئي انها،
    على مآسيها: عَذاب بديع

  • 365 من ذا بقي

    رجعة الحكيم بن زائد >  من ذا بقي

    لأن الذين طفوا كالزبد
    أحلوا الشظايا محل البلد

    سروا يستبث القناع القناع
    نقي أوجهاً، أم فروج النكد

    أعني على ذلك المنحني
    إليه التصق، بل على (ابن القمد)

    لماذا أهي، هل تهي أنت يا؟
    تقاويت أجهد حتى الجهد

    ومن نستمد، وأقدام من
    شوونا على أعين المستمد؟

    لماذا تغطوا؟ ولاناظر
    أدر أيها الطيف جمر السهد

    * * *

    ألاهل أشاكيك يا (مشتري)
    لياليك بعن النجوم الرصد؟

    وكنت أدير الكرى عن أبي
    ويسرقن من حمله من هجد

    * * *

    بدأن يوردن إيماءهن
    يغازلن في الجذع شوق الملد

    زقت -نصف خمسين- أمسية
    لدي يا قبور، انكسر يا زرد

    وعن (معبد القمر) استخبرت
    فقيل: أضاع السنا من عبد

    * * *

    دعت ليلة عام سبعين: يا
    (سهيل) اروعني إلى أم غد

    وكيف؟ كما أومأت جدتي
    إلى (ليلة الفيل) قولي: نفد

    وعن (ليلة الغار) أزجت أسى
    إلى (ليلة الدار) قبل الأمد

    * * *

    وقال: حنت قامتي (كربلاً)
    فمي في يد (الشمر)، نهجي شرد

    يدامي حسام أبيه (الحسين)
    ولا ذاك أغضى ولا ارتعد

    عليك تمردت يا (ذا الفقار)
    وشذ (ابن سعدٍ) على ما مرد

    * * *

    فقال (سهيل): أنيبي (السهى)
    ألست اليماني؟ عليها أحتقد

    غد قال: يا أم أودى (سهيل)
    بحب (الثريا) ليبقى الكمد

    * * *

    سأخبرها في رؤى النوم كي
    تدوس الفحيح الذي ما رقد

    أخاف عليها من اللا تخاف
    فتغفو دماً فوق دامٍ جمد

    أتصغين؟ إصغاء صدري إليه
    حنين القلوب إليها أمد

    لأن مسافة نقر الجوى
    من (الصين) تنقر قلب (الجند)

    * * *

    عشاياك فوج كصفر الربى
    فريق يعد، وثانٍ يعد

    تلي كل قافلة أربعاً
    من الرازقيات ذات الغيد

    فكوني من البدء معدودةً
    وكيف- وماقال غصني نهد؟

    بدراعتي طفلة حامل
    فهزي صبياً بقلبي التحد

    ألست يمانية أعشقت
    ثقيفاً) غريبات (وادي ثمد)؟

    * * *

    خذي يا بنتي الآن ذاك الكتاب
    وماذا يسمى؟ مطايا معد

    وأين أراه؟ يسار الدخول
    عجوزاً على دفترين استند

    لجيه من البدء حتى الختام
    وسوف تلمين شتى الأبد

    وتعطين (لقمان) عكازه
    ولاتفزعي إن دعا: قم (لبد)

    ستلقين أخباره صفحةً
    وفصلاً يقول: عليها انعقد

    خذيه إليك بقلب الحنين
    تري كيف يصبو وقار الجلد

    * * *

    سيشدو قميصك: ماذا امتلأت
    ويستسئل البيت: ماذا وجد

    كلي كل حرفٍ، لكي تقرئي
    ب(شملان) وجه الرؤوس المشد؟

    ومن ذا دعا مدداً باسمه
    وأمسى وصي امتداد المدد؟

    وكيف وشي بالغموض الغموض؟
    بسرية النار يلقى بدد

    * * *

    وفي عمر حمل يلي ذاك، ذا
    أما القبر كالبيت يهوى الرغد؟

    آفاق الضحى قبل سكر الدجى
    أقبل الأبوة يأتي الولد؟

    لأن الذي يقع الآن ما
    له واقع، وادعى وانتقد

    زمان البلستيك لا يقتدي
    ولا يهتدي، يشتهي لا يود

    وماذا؟ أعيدي عليك السؤال
    وقولي: من اليوم عنك الأجد

    * * *

    سمعت وصيتها يا صلاح؟
    لبعض الليالي نبوغ الرأد

    أجاب (رجا): ألفت أمها
    كتاباً بفتح الغيوب انفرد

    وقالت: قبيل ضياء النيون
    أضأنا من القلب والمعتقد

    * * *

    تلهى (مجلي) كبا كاشف
    بلا أي صوتٍ؟ لغا وازدرد

    -أذي رجة؟ مدفع من هناك
    هنا مسجد جربوه سجد

    بناه مرابٍ، غدا صالحاً
    على موجة الشيخ عبد الصمد!

    نوى (مصطفى) أن يرى: أوشكوا
    وقيل: اتئد يا عقيد التأد

    لأن هنالك سريةً
    سكوت الطواري غموض (الحرد)

    سل الباب من؟ عاد (ناجي) أجب
    نجا (حامد) واستقادوا (حمد)

    مدير الإذاعة؟ أنبوبة
    بسيارة الضابط المعتمد

    و(طه) أتم الكتاب الجديد
    وماعنده؟ قال لما يكد

    (أزال) صفيحية، لا لقد
    بها (لبد)، لا لسوف (سبد)

    * * *

    أكر الألى أبدوا كالدخان
    ولا من يرى زبداً أو زبد!

    تشظوا رصوصاً أمات الأزيز
    تهجى عناوين من وارتمد

    * * *

    ومرت ثوانٍ كإعصار (عادٍ)
    ثوانٍ كحيات صحراً (أسد)

    أقلت الذي ما استهل انتهى
    – إذا أخبروا قام، قيل اتسد

    وما أثبت (الآنسي)، لا نفى
    لأن النشيد استحر، ابترد

    وقال النواح: رموا لفني
    رماد الصدى سائلاًً ما انخمد

    * * *

    قبيل الضحى أقبلوا استقبلوا
    من استوفدا؟ أين؟ من ذا وفد؟

    تبينتهم كمنوا للحمى
    بآباطه لصق نبض الجسد

    وسلوه من جلده ما دروا
    من استلبوا، ما درى ما افتقد

    لأن الفراغ انتقى واحداً
    له نصف رايٍ وعشرون يد

    أروه الرياح انحنت فامتطى
    وأعلى حشاه، قفاه احتشد

    كموءودةٍ زفت الدود من
    فقاها إلى أنفها من وأد

    لأن الرؤوس تهاوت رقىً
    وما اجتاز وهدته إذ صعد

    أتعرف من ذاك يا (بيت بوس)؟
    كما يعرف الذئب راعي (النقد)

    أعني ستكتب أمثاله؟
    فلان، فلان، وينسى العدد

    تقيس على (الحمدي) من يرى
    بكل بياضٍ نقاء البرد

    فكم نشد النهج حتى ارتمى
    إلى قدميه الذي ما نشد

    * * *

    وكان (حضور) إلى (الحيمتين)
    ينث حكايات (وادي ضمد)

    و(علوان مهدي) يصفي يضيف
    إلى ما سيسرد فصلاً سرد

    ونهراً يسمى (خليل الوزير)
    تلوى، ومن ربوتين اطرد

    وأمسى (شبام) يريب الدجى
    أ (طابا) دنت و(الخليل) ابتعد؟

    أما نفثت (صفد) أهلها
    وفي (الأحمدي) نبحتهم (صفد)!

    * * *

    لماذا تشتم الرياح الرياح
    كما قيل عن زوج ذات المسد؟

    أمن بعد سبع نوى (سالمين)
    ينافي -ضحى اليوم- نهج الرشد؟

    وعن ما قريبٍ يليه (الأمين)
    لها ناظم العقد عن ما عقد

    هنا شم (سعد) (مريساً) يصيخ
    إلى هاتفٍ: أي غيب ورد!

    فأصغى (مجلي) حكى (اليافعي):
    هناك الذي لا نراه استعد

    أغير الذي كان أمس انثنى؟
    علينا انتضانا، وفينا انغمد

    * * *

    فنادى (مريس): ألا تسمعون؟
    أطلتم على السفسفات اللدد

    (حميد بن منصور) يتلو الربى
    أقلتن كل هلالٍ همد؟

    فما أنضجت دورة دورها
    كأهلي، أغص المدار الكبد

    إليه ستلقون أفتى فتىً
    وأهدى إلى حرق أدجى العقد

    ضمير الحمى منتمى غرسه
    وفيه صبا، والتحى، واتقد

    لمن فيه ما فيه، لا فرق، لا
    تقل يا (حميد) ارتأى واجتهد

    وقل قال: أيام حصد الجراد
    لحوماً بدون عظامٍ حصد

    * * *

    أتاكم (حميد): عموا ضحوةً
    تعايون أمراً، ف ماذا استجد؟

    تلظى (المعلا) و(نجد)، و(قم)
    ومن قال: سوق التعادي كسد!

    متى ضرجت ليلة أختها؟
    إذا وسوس الود ضج الحسد

    أعام ثمانين أطغى السنين؟
    يغطي الجديد القديم الأشد

    غشى قبل عامين (شملان) من
    قحازة) حتى جبين (العند)

    تبصر ثمانين ماذا يلف
    وعيداً وفى، أم بشيراً وعد؟

    لماذا تعاوى، وأعوى، متى
    وكيف ارتمى، لا يلاقي مرد؟

    أيدعى غداً ثورةً؟ ربما
    أعاد (الجنابي) كما قيل: قد

    * * *

    تهاجى بمكة شعر الحريق؟
    ومن ذا أجاب؟ نرى بعد غد؟

    وهل ليلة (الحمدي) أنشدت؟
    جلت قصدها، أنطقت ما قصد

    * * *

    إذا المستبد على المستبد
    نرقى، بعدوى المكان استبد

    فخط (حميد) على قلبه
    مقولتها، وحباً وارتفد

    وقال: برامكة اليوم ما
    بهم (جعفر)، لا ألب ذو أيد

    عيالي، هنا يمن واحد
    وكي لا يرى، من يسمى اتحد!

    * * *

    أقتل الثلاث القيادات من
    غبار السنين الثلاث انجرد؟

    لذي البعد قبل، سلوا ما انتوى
    ومن جمر الغيم من ذا رعد؟

    أتى لي* الهدى صاح: أين القصاص؟
    هل (الأحنف) اقتاد ركب (القود)

    أليس الذي بالجباه الثلاث
    سخا بيدٍ، بيدين استرد؟

    وقالوا: انتخاب، فمن ذا على
    مواقفه، أو هداه اعتمد؟

    شروا خيباً، أعلنوا فوزهم
    ومن فاز لم ينتخبه أحد

    فما غاب من عاد، حتى يعود
    إليه، وقام الذي ما قعد

    * * *

    أقبر (حميدٍ) كتاب يجود
    على الحي ما لم يدر في خلد؟

    ومن ذا بقي غير أذكى القبور
    يرى راكداً، قلبه ما ركد

    1993م

  • 366 وردة المستهل

    رجعة الحكيم بن زائد >  وردة المستهل

    أتى قالوا: أتى من أين؟
    أكان مسافراً يا (زين)؟

    وعاد أباً بلا ولدٍ
    حسينياً بدون (حسين)

    * * *

    ومن يدعى؟ خزامياً
    وأحياناً أبا النجمين

    له شعبية أخرى
    كأن الصدق فيها المين

    * * *

    سمعت الصبح جارتنا
    تغنت باسمه صوتين

    وقالت لابن ضرتها:
    ألسنا اليوم في عيدين؟

    فلبى منيةً ظلت
    تناغي قلبه عامين

    * * *

    وقال فتىً: أتى أقوى
    وحان على عداه الحين

    أأنت رأيت طلعته؟
    ونزلته إلى (النهرين)

    وبسمته التي انصبت
    على جيد الضحى عقدين

    وكيف رأيته؟ قمراً
    وكدت أشمه فجرين

    * * *

    أمن صنعا مضى؟ ومتى؟
    ثواني قتل (يحيى الرين)

    صبيحة أرخت الليل
    ذوائبها على (النهدين)

    وألقت أم سنبلة
    عباءتها على الريحين

    * * *

    وقالت لي (أزال): قل
    كعادتها شدت لحنين

    وللرامي وللمرمي
    أضاءت ساحة البابين

    تمد ولاترد يداً
    أليست بنت ذي القرنين؟

    * * *

    وعني خط (وضاح)
    عناويناً وياءً غين

    هدى المعنى إلى المعنى
    فصولاً، فاصلاً، فصلين

    ومصباحاً فإصباحاً
    وعنقودين عنقوديم
    * * *

    ووشى شبه خاتمة
    تشي عن رمز عنوانين

    وقال الخا: ألي تاء
    تبرعم وردة البدأين

    1993م

  • 367 رجعة الحكيم بن زائد

    رجعة الحكيم بن زائد >  رجعة الحكيم بن زائد

    من أين؟ من باب الذي ما ابتدا
    أزمعت أرمي بي دماً، أو ندى

    بداية من آخر المنتهى
    شبيبة من خلف شيب الردى

    براءةً ما ولدت تربة
    لها، وتنوي الآن أن تولدا

    كسرة التفاحة اخضوضرت
    تأهبت من قبل أن تنهدا

    * * *

    طلعت مما كان قبري الذي
    أمسى قبوراً نوماً سهداً

    أقتاد جنا، من حليب السهى
    يبيضون (العنسي الأسودا)

    أعرى من الصحرا، فإن عضهم
    برد، ترى هذا بذاك ارتدى
    * * *

    أهفوا إلى من لست أدري، وهل
    أجيب صوتاً أو انادي الصدى؟

    أختار نهجاً، ما مشت خوذة
    عليه، لا والٍ إليه اغتدى

    يرى القوى قبض الرياح التي
    شاخت، ومازال اسمها أمردا

    من حيث تنهي تبتدي مثلما
    تحدد الأكذوبة الموعدا

    * * *

    هل كنت في عصرٍ بلا دولةٍ؟
    فوضاه أرقى من نظام المدى

    كان يؤدي ما عليه بلا
    أمرٍ، ويصبيه تمام الأدا

    ولا يصلي، إنما يبتني
    من قلبه في قلبه المسجدا

    * * *

    كالأرض كنا نستدر السما
    لكي ترى شهب الثرى صعدا

    كالدوح يعطي الوحل أعراقه
    وهامه يستحلب الفرقدا

    * * *

    مائة أصوات مأتاك يا
    شوقاً إليه، منه فيه اهتدى

    الآن، هذا عالم غير ما
    عهدته، أغشاه كي أعهدا

    يا صاحبي، ما عنونت دهشة
    وجهاً، ولا من مد نحوي يدا

    كي يخفقوا حوليك، جسم لهم
    ما يفجأ الأموات ما هددا

    يدرون مثلي، أن من أودعوا
    تحت الحصى، أمسوا حصىً ركدا

    * * *

    ذكرت عن (عادٍ)، أفض قيل لي:
    في النحو ضنوا (ماخلا ما عدا)

    يدعون (عاداً) بائداً، ما ثنت
    ذات العماد) العاصف الأربدا

    عن (ذي نواس) قل، ومن قال لي:
    من نصر (الأخدود) أو هودا

    صف (أسعد) الأغنى أما شاهدوا
    يوماً (سناناً)، كي يروا (أسعدا)

    (ياذيه) اسمع من تقاليدنا
    كل (عسيب)، وهو من قلدا

    لبدئه قبل، ومن شده
    عوداً، سوى من شده عسجدا

    * * *

    أين دليلي، ما اسمه؟ ربما
    كنت أنا المصغي، ومن رددا

    ألا فتيً يسألني من أنا
    فقد يراني (الشيخ) مستوردا

    * * *

    يا قلب ما أدناك منهم، وما
    أخفاهم عنك، وما أبعدا

    خلعت قبراً كنت أحتله
    فاحتلني، أمشي به مجهدا

    * * *

    أنا (علي) وأبي (زايد)
    خفض لنا الأعلى، خذ الأزيدا

    أولاد من؟ سلنا بأسمائنا
    إن كنت يوماً علماً مفردا

    * * *

    هل حلت (السبع) هنا أو هنا؟
    سل وردةً عنهن، أو سل (هدى)

    أو ما يسمى سجنهن الذي
    يزوج القوادة الأقودا

    وكان (بيت الزوقبي) فارتقى
    للمركزي الآن، وارقب غدا

    هل جاد (حيكان) الربيع؟ إنه
    مخرب، كان اسمه المفسدا

    (حيكان) واد، في الجهاز) اسمه
    هذا، وخطوا تحته ملحدا

    وقيل: ما زال بأجفانهم
    ناراً، على أضلاعهم جلمدا

    * * *

    (أقاع صنعأ) ذاك؟ ذا معرض،
    هذا طريق، هاهنا منتدى

    دور الذين، قبل أن يختنو
    ـه تزوجوا أم العصا سرمدا

    وثم سجن -قيل- ذو مدخلٍ
    فقط، بهذي الميزة استفردا

    و(معهد) ينصب أميةً..
    أخرى، تساوي من بنى المعهد

    * * *

    من ها هنا اركب أي (باص) إلى
    ما شئت، لست الآن مسترشدا

    أصبحت تتلو الأرض، لكن كما..
    تستجوب الأم الفتى الأدردا

    * * *

    (عياصر) اليوم عليها الدجى
    صبح كحيل، لا يرى من هدى

    أحجارها اليوم، قصور على
    صنعا) توشي كبر من شيدا

    ما أنكرتني، قيل: عاد الذي
    كان يبيع (الكاز) و(الإثمدا)

    وقيل: مر (الخضر) مستخفياً
    في (كاهنٍ) يدعونه (مرعدا)

    * * *

    سكعت جلدي في عظامي، إلى
    وادٍ أرجيه، ومني اجتدى

    يا عم هذا (القات) هل ذقته؟
    كنا شيوخاً، قبل أن يوجدا

    لوكان، هل كنتم ستهوونه؟
    وربما نومي به المذودا

    لو في يدي ألف لعاقرت من
    أغصانه الريان والأملدا

    في الجدب يندى؟ من مبال الثرى
    يسقى، وتلقى غيره فدفدا

    أ(منكث) هذا؟ أرى دوره
    ولاأشم الزرع والحصدا

    يا (منكث) اصفر (سهيل) وما
    أعشبت، من ذا أسكت (الهدهدا)؟

    يا منكثيات ابنتي (بدرة)
    عادت، وسموا عودها أحمدا

    قلتن عنها: مرغت لحيتي،
    و(ماعدا إذ ذاك مما بدا)

    أما تأكدتن من ذبحها؟
    من ذا نفى هذا، ومن أكدا؟؟

    من لا يرجي وهو حي، فما
    من حقه إن مات، أن يفقدا

    ذا (الثور) من ثوري، أذرية
    لمن تعاطى ذبح ما استولدا

    تقلن لي هذا، أقلن أذىً
    (ثور) رأى ثواره فاقتدى

    سواك أوصى: من رأى اثنين ذا
    في تلك أغضى، أو أهال الردا

    صرتن بعدي، (مالكاً) ثانياً!
    ونرفض التزويج إن قيدا

    من عددت منكن أزواجها؟
    قل: عددت زوجات من عددا

    كم كان في دار أبي (بدرةٍ)؟
    جاوزت من ثنى، ومن وحدا

    ماذا سيخبرن؟ لقين الذي
    حيكمتموا، من ثوره أبلدا

    * * *

    أيا (بني بدا) أما عندكم
    بيتي، أباد اليوم أم أنجدا؟؟!

    من أنت يا.. من؟ جد أجدادكم
    يقال: غابوا سيداً سيدا!

    من ذا دعا؟ من بردت كفه
    سيدفىء (التنور) والمرقدا

    ومن شدا صبحاً لأقوراه
    قال: احمرار القمح ماذا شدا؟

    من قال: رهن المال لا بيعه؟
    جثمان ذا الموصي غدا (موقدا(

    وربما صار ابنه (جرةً)..
    وابن ابنه في مركبٍ مقودا

    هل باد من كل البيوت انتمت
    إليه، وائتمت بما أنشدا؟

    ما زال حتى اليوم، ما قلته
    فقهاً لكم، أو خبراً مسندا

    ما قيل يوماً: كنت بيتاً
    ولا بيتين، كنت الموطن المفتدى

    * * *

    قلت (جعار): كم ظروفٍ دجت
    وما استبناك بها المرشدا

    لوجئت لما أعدن اللندني
    أطفاته فوراً، بما استوقدا

    كانت قواه قاذفات، كما
    كانت رواسينا قوىً أجلدا

    قيل: اشترى من أهلنا (مسعداً)،
    من باعكم يوم اشترى (مسعدا)؟

    ما القول فيمن بالعدو احتمى؟
    كما يقود الأعمش الأرمدا

    * * *

    قال (رداع): قلت في ليلةٍ:
    أمسيت لصاً حالفاً مكمدا

    بمن تغرزلت؟ بمن أنبتت
    للأرض حراثاً، ولي أكبدا

    شببت عن (ولادةٍ) بالتي
    دامت هي الأصبى، بل الأولدا

    فمن تغل القمح، ناديتها:
    غيدا)، وأم (المشمش) الأغيدا

    من تقمر (البيضا) (مهاً)، من همت
    دخناً) (غزالاً) فاقت الخردا

    * * *

    هل سن قتل الأم (قحم) الخلا
    إن طلقت فرداً، لكي تضمدا؟

    بأمه ضحى جزاءً، وما
    أوصى بذا (سلعاً) ولا (سرددا)

    هل قلت عنه؟ كل قلبٍ له
    كالبحر قعر قلما أزبدا..

    * * *

    وقال (ميدي): جئت مستخبراً
    أو مخبراً، أوطفت مسترفدا

    إلي مني جئت لا سائحاً
    لا زائراً، لا أشبه العودا

    يا شيخ (ميدي) إنني راجع
    أزجي سراجاً قبل أن ينفدا

    من عارك الأمس اعتراكي به
    أتى من الآتي، وحث المدى

    قل ما اقتداري، تحت دراعتي
    دراية تستكثر الحسدا

    أسمد البرق، لتصغي إلى
    أعلى جدال حول من سمدا

    * * *

    لو كنت عام الإنسحاب، الذي
    تقودنا، حتمت سحب العدى

    مدرعات القوم أحثو لها
    حفائراً يبلعنهم سجدا

    ما كل أقوى، كان أذكى، ولا
    يخشى سليل الحرب من أرعدا

    * * *

    لو كنت في (عام الطوى) حاضراً،
    صابرت معتادي كما عودا

    في كل عام كان يعتادنا..
    شهرين، نذوي قبل أن نحصدا

    * * *

    كنا إذا ما حلنا موجع
    نحل ذوب الأعين (المهيدا)

    لكي نصون الوجه، نثني البكا
    إلى الحشا، يدمي بما عقدا

    * * *

    قال (المعلا): لمت من جمهروا
    سيان من عادى، ومن أيدا

    لو جئت (صنعا) مشبطاً، قلتها:
    أخبار مولاتي بلا مبتدا

    يا (قصر غمدان) أيدري الذي
    أشهرته ماذا ، ومن أغمدا؟

    قل للشباطيين: من ضرجوا
    كان (إماماً)، كاد أن يعبدا

    * * *

    أقلتم مات، وأوصاكم
    وقال يوم الصيحة: استشهدا

    ماذا جرى تحيون أعراسكم
    على دم، ما حان أن يبردا؟

    * * *

    أقل ما أبقاه (يحيى) يقي
    صنعا)، أمنكم ضاع فيكم سدى؟

    جراية الشهر استحالت بكم
    عشرية، أشقى الذي أسعدا

    أغريتمونا بالنقود التي
    أغرت بنا الجيران والوفدا

    وقلت: أين (الورتلاني) يرى
    من ذا استباح السوق والمعبدا؟

    حصار (صنعا) يا (زبيري) رمى
    إلى البيوت الأقبر الزردا

    تريد خبزاً وشراباً، فهل
    تحسو (عكاظاً) تخبز (المربدا)؟

    تختار أسواقاً وأمناً، ولا
    تفضل الدستور، أو (أحمدا)

    بالمذود اهتموا، لكي يعلفوا
    بقيرة) ما غادرت (عردا)

    * * *

    (شوكان) أفضى: أي باب هنا
    خلعت كان الأغمض الموصدا؟

    أمن (بني صنعا) غدوا نهباً؟
    كانوا باخفى كنزها أرصدا

    * * *

    لو كنت يوم (المصقري) في (بني
    ضبيان) يبغي أن يروا عبدا

    أسرعت أعطي (سورة الثور)، بل
    و(آل ضبيان) فقيه (الحدا

    لو كنت والي أمر (ذي ناعم)
    جانبت من أذكى ومن أخمد

    فما ابتغى (الرصاص) محمية
    لا (الكوكباني) راود السؤددا

    لو كنت يوم (الجوبة) استنمرت
    فيها، دعوت استنصحوا (مرثدا)

    وقلت: سل يا (قردعي) (شبوة)
    هل تعذبين اليوم لي موردا؟

    عاكست (يحيى) أمس في شانها
    واليوم تستدعيه مستنجداً

    من أحقد الأقوى عليه، درى
    كيف يقاوي ذلك الأحقدا

    هل سود (البيحاني) (القردعي)
    مكراً؟ متى ساد الذي سودا؟

    * * *

    لو كنت في (الحوبان) ذا رتبةٍ
    عاقبت قبل الجند، من جندا

    وقلت: يا جيش الحمى من له
    إذا ابنه قبل العدو اعتدى؟

    رآى ل(عبدالله) أعمى الحجا
    أو ما انتقى الأخبار من زودا

    * * *

    قالت (تعز): ذاك ما كان، لا
    أساله مجرى، ولاجمدا

    لو كنت في (أيلول) دبابة
    أطلقت من فكر السنا مسردا

    كي أملك البعد، أعي قبله
    بطناً وظهراً، مشهداً مشهدا

    ولا أولي قائداً، ما أنا
    رقيبه الأعتى إذا عربدا

    لو يصبح الأعلى صغير الظبا
    على نمور الغابة استأسدا

    لا تسألي (النمرود) من غره
    سلي غرور الأمر كم نمردا

    * * *

    لو كنت في (ردفان) أعلنتها
    أزرى براميه كما سددا
    وشبها خمساً، ويوم اكتست
    حدادها (إنكلترا) عيدا

    وقلت: يا ثوار أخشى لكم
    منكم، وأرجو الآتي الأرغدا

    بعيد الاستقلال من قلبه
    تدرون كم أردى، وكم شردا

    كم رغد الحكم الفتى المنتقى
    فكيف يطفي سكره الأوغدا؟

    مذ قال: تحتي مصر (فرعونها)
    طاش انفراد الأمر واستعبدا

    * * *

    لو كنت في (السبعين) سألت عن ماهية
    الجدوى، ومرمى الجدا

    وقلت (إدريسية) لو بدت
    أخرى، لأبدى فرعها المحتدا

    * * *

    تقاتل الشطرين هل خفته؟
    قلت الذي أذكاهما رمدا

    هل قلت: لما لجنوا أحسنوا؟
    قلت غراب يلتقي بالحدا

    لأن من سموا لجاناً، كمن
    يختار من بين الحصى الأجودا

    * * *

    قالت (ذمار): كيف صغت البلى
    جسراً، وذقت الأنس والمردا؟

    هل عدت؟ قل ما غبت راقبت ما
    جرى ويجري منهضاً مقعدا

    مكاشفاً ما جد، هل سوؤه
    في أصله، أم في الذي جددا؟

    * * *

    عن وحدة الشطرين ماذا ، وهل
    أفقت من سكرين، كي أشهدا؟؟

    أين أنا؟ نصفي انطوى في الذي
    هنا، ونصفي في الذي زغردا

    وربما أصحو على غير من
    أماتني سكراً، وما عنقدا

    لأنني كنت أغني، فما
    دريت من ذا ناح، من غردا

    ولامن اهتاج، وقال: التقوا
    لكي يقوي الفاسد الأفسدا

    أو من أجاب: اثنان من واحد
    أقوى، ومن ثنى الصدى والندى

    من صاح: عرسي وحدتي، من نعى؟
    من قال: كنا قبلها أوحدا؟

    * * *

    الناس: منقود ونقادة
    وقد يكون الصامت الأنقد

    1992م

  • 368 حضان المآتم

    رجعة الحكيم بن زائد >  حضان المآتم

    كان يبدو، كصائم ما تعشى
    الملايين فيه، جوعى وعطشى

    أثث القلب للعراة، ويحكي
    أنه ما أذاق جنبيه فرشا

    * * *

    بين جنبيه تشرئب الشظايا
    أنجماً من دمٍ، صباحاً مغشى

    كل مثوىً نبا بها فوعاها
    منه قلب أحلها فيه عرشا

    في حناياه ترتعي، ثم تصبو
    وهو ذاو، يكاد ينحل قشا

    كل (أفغان) فيه تنهار تعلو
    كل (صيدا) تنهد فيه لتنشا

    * * *

    أي سر عن كل شلو سيبدي
    أي أخبارها إلى الريح أفشى

    إنه يحمل الضحايا، ويضني
    عن خبيئاتها المجاهيل نبشا

    ما الذي باح للسوافي، دعاها
    لا تنامي، صبى على الوحش وحشا

    مصرع الباطشين ما شئت منه
    مقتل اثنين، بل تزيلين بطشا

    هل أجابته، هل درى من يباكي
    أهل صرعى (جنين) أو أهل (موشى)؟!

    * * *

    عنه ساهٍ، لاهٍ بكل صريع
    وعلى المنظرين، أحنى وأخشى

    ذاك أقوى فتىً، وأبكى إذا ما
    أن شيخ أو اشتكى الطفل خدشا

    أو تعاطى فن الكتابة ناءٍ
    عن حماها، يدمي الوريقات خمشا

    * * *

    كل آن تغشاه أخفى المآسي
    وعليها يقيس ما ليس يغشى

    جاره من يعول عشراً، رماه
    جاره جثة، على أي ممشى

    فامتطى من رماه أصبى طرازٍ
    وارتجى المرتمي، ومانال نعشا

    واقتضى قاتل الفقير ألوفاً
    والبواكي عليه، ما نلن قرشا

    * * *

    هكذا حكمنا، علينا ومنا
    في زمان أعمى، يقسيه أعشى

    واللغى فيه باع، وابتاع، أردى
    احتوى واستزاد، رشى، ترشى

    ما تلقى عير (الكوميشان) درساً
    فالتمسه إن شئت، في باب (كمشا)

    * * *

    ونرانا بالهجو نرميه بحراً
    مثل من يستلذ في الحلم فحشا

    قال ذاك النموذج الفرد يؤذي
    أوبش الناس، حين تدعوه وبشا

    وإلى القاذفات أومى، لماذا
    كنت أقسى؟ وكنت ليناً وهشا

    ليس من يدفن البيوت الحزانى
    مثل من ينطوي على قتل (رقشا)

    من عظامي هذي الخرابات تبدو
    كشؤوني: لهفى، وغرثى، وعمشا

    تلك تشتف حزن عاتيك، هذي
    مثل أمية تترجم نقشا

    تلك محشوة، بيتم الصبايا
    ذي بأدمى القلوب والخوف، أحشى

    * * *

    ذلك التل كان أضلاع فوجٍ
    الردى فيه، للردى الغير بشا

    كل قصفٍ ما هز صنعاء فيه
    كل شعوى ما استطلعت منه رعشا

    ذاد حتى انطفائه، قام تلا
    يعتلي الناهشين، رجماً ونهشا

    قال: لو في التلال جذر قتال
    كجذوري، لأصبح الذئب كبشا

    * * *

    قص هذا للقاذفات، ونادى:
    ارجعي محرثاً فؤوساً ورفشا

    كل بيت رشيت بالنار يعيا
    كيف ترقين، كي تصيري مرشا

    الرفات التي قذفت يميناً
    وشمالاً كانت ربيعاً موشى

    * * *

    قال هذا، وغاص يبحث عنه
    فيه يمشي، وسائلاً من تمشى

    نافشاً قلبه على الليل (عهناً)
    يبتدي غزله، فيرتد نفشا

    واجتلى المبتدا، فشم كتاباً
    مد أبكى الفصول فيه، وحشى

    كان يذوي كي يسمن الفن فيه
    ويعري، كي يظهر الغش غشا

    1994

  • 369 رسالة إلى صديق في قبره

    ديوان ترجمة رملية لأعراس الغبار >  رسالة إلى صديق في قبره

    ههنا عندي غريبات العوادي
    عندك الإنصات والهجس الرمادي

    كيف أروي يا صديقي؟ هل ترى
    أنني أزجي إلى الموتى كسادي؟

    هاهنا مسراك يلغي وحشتي
    وصدى نجواك، يَغلي في اعتقادي

    مِن هنا أشتف ماذا تنتوي؟
    أسأل القبر: أينسيكَ افتقادي

    إنني يا بن أبي متّحدٌ
    بثرى مثواك، هل ترضى اتّحادي؟

    * * *

    أين أنت الآن؟ ها أنت معي
    نمضغ (السوطي) وأقوال الروادي؟

    ونرى سرّية الآتي كما
    تقرأ البرق نبوءات البوادي

    نبحث (الإكليل، زربا، رندلى)
    نقتفي كل رحيلٍ سندبادي

    نغتذي شعر (الشحاري) تارةً
    تارةً نحسو خطابات (الربادي)

    * * *

    يابن أرضي لم تغب عن صدرها
    بل تحوّلت جذوراً لامتدادي

    بيتك الثاني ذراع مِن دمي
    وأنا بيتي دم الطيف القتادي

    عندك النوم الطفولي، وأنا
    لي زغاريد الصواريخ الشوادي

    لنثيث الصمت تصغي، وأنا
    في زحام النار أُصغي لا تِّقادي

    * * *

    أدَّعي الحشد أمام المعتدي
    ثم يعدو فوق أنقاض احتشادي

    وبرغمي يصبح الغازي أخي
    بعدما أضحى أخي أعدى الأعادي

    * * *

    كيف أمحو كل هذا؟ دلِّني
    لا تقل – أرجوك – دعني وانفرادي

    يا صديقي أنت أدنى مِن فمي
    فلماذا أنت أنأى مِن مُرادي؟

    أجتدي رأيا سديداً، لا تقل:
    مثلما مِبُّ أنا أودى سدادي

    مِن أسارير الحِمى سرتَ إلى
    قلبهِ كي تنجلي يوم اسودادي

    * * *

    أنت في البعد قريب، وأنا
    في غياب القرب مثلي في ابتعادي

    أنت في شبرين مِن وادٍ، أنا
    خلف حتفي هائمٌ في غير وادي

    * * *

    يا صديقي لبِّني أو نادني
    لم يعد لي مَن أُلبِّي أو أُنادي

    كنت تأبى الصمت بل سمَّيتَهُ
    غير مجدٍ: فهل الإفصاح جادي؟

    * * *

    آخر الأخبار: قالت زحلةٌ
    أغصنت نار التحدي في زنادي

    أخذت (بيروت) رقم القبر مِن
    (صفدٍ) قالت: على هذا اعتمادي

    قال (حاوي) وهو يردي نفسهُ:
    يا رفاقي هذه أخرى جيادي

    شاعرٌ ثانٍ تحدّى قائلاً:
    الدم اليوم حروفي ومدادي

    قلتَ لي يوماً كهذا إنما
    كنت توصيني بتثقيف اجتهادي

    ذلك الودّ الذي أوليتني
    مثله عندي: فمن أولي وِدادي؟

    * * *

    موطني ينأى ويدنو غيرَهُ
    زمناً هنا حام وفادي

    لانثنى الماضي، ولا الآتي دنا
    مَن ترى بينهما أُعطي قيادي؟

    قال لي ذاك ارتضى إخلادهُ
    قال لي هذا: أرى الآن اتئادي

    هل ترى أرتد، أوأمضي إلى
    أين أمضي، وإلى أين ارتدادي؟

    * * *

    يا صديقي أسفر اليوم الذي
    كان يخفى، وتراه نصف بادي

    كنت تنبي عن حشا الغيب كما
    كان ينبي ذلك (القَس الإيادي)

    * * *

    ربما تبغي جديداً، حجمهُ
    ندّ عن وصفي كما أعيا ازدرادي

    بعد أن متَّ، مضى الموت الذي
    كان عادياً ووافى غيرُ عادي..

    صار سوقاً، عملةً، مأدبةً
    مكتباً، مسعى يسمى بالحيادي

    في التراثيات دكتوراً، وفي
    غرف التعذيب نفسياً ريادي

    * * *

    ويسمى فترةٌ ضيف الحمى
    فترةٌ يدعى: الخبير الاقتصادي

    يدخل القهوة مِن فنجانها
    مِن غصون القات يغشى كل صادي

    يحرس الأثرى، يباكي مَن بكى
    يرتدي أجفان “عيسى” وهو “سادي”

    يا صديقي لا تقل: زعزعتني
    قم وقل: يا قبر فلتصبح جوادي

    ذلك الموت الذي لاقيتَهُ
    مات يوماً، وابتدى القتل الإبادي

    ومدى الرعب الذي تذكرهُ
    عدّد الأشواط، غالى في التمادي

    ذلك السهل الذي تعرفهُ
    بات سجناً لصقه سجنٌ ونادي

    * * *

    مجلس الشعب ارتقت جدرانهُ
    قال للجيران: ضيقوا مِن عنادي

    فأجابوا: ما كهذا يبتني
    بيته، بل يبتني أقوى المبادي

    * * *

    ربما تسألني عن (مأربٍ)
    وانبعاث (السد) و(الشيك الزيادي)

    ذكريات (السد) آلت طبخةٌ
    ثم عادت ناقة مِن غير حادي

    كل مشروعِ على عادته
    عنده التأجيل كالقات اعتيادي

    * * *

    و(أبي هادي) أتدري لم يعد
    أعزباً، قد زوَّجوهُ (أُم هادي)

    فارتقب ذريَّةٌ ميمونةً
    قبل أن تستلطف العرس الحدادي

    قل لمن أغرى انتقادي بعدما
    نزل القبرَ علا فوق انتقادي

    يا صديقي ما الذي أحكي، سدىً
    تستزيد البوح، ما جدوى ازديادي؟

    شاخت الأمسية المليون في
    ريش صوتي وانحنى ظهر سهادي

    والسكاكين الشتائيات كم
    قلن لي: يا نحس جمّرت ابترادي

    الشظايا تحت جلدي، والكرى
    خنجرٌ بين وسادي واتسادي

    * * *

    أنت عند القبر ساهٍ، وأنا
    أحمل الأجداث طرّاً في فؤادي

    أتراني لم أجرب جيداً
    صادروا خطوي، وآفاق ارتيادي

    مِن نفايات عطاياهم يدي
    وجبيني، وبأيديهم عتادي

    * * *

    أنت غافٍ بين نومين، أنا
    بين نابيَ حيَّةٍ وحشٌ رقادي

    متَّ يوماً يا صديقي، وأنا
    كل يومٍ والردى شربي وزادي

    أنت في قبرٍ وحيدٍ هادئٍ
    أنا في قبرين: جلدي وبلادي

    إنما ما زالت الأرض على
    عهدها، والشمس ما زالت تغادي

    (فبراير 1983م)

    * * *

  • 370 الهارب.. إلى صوته

    ديوان ترجمة رملية لأعراس الغبار >  الهارب.. إلى صوته

    كان يبكي، وليس يدري لماذا؟
    ويغنِّي، ولايُحسُّ التذاذا

    وينادي: يا ذاك.. يصغي لهذا
    وهو ذاك الذي ينادي، وهذا

    * * *

    … لا يعي من دعا، ولا من يُلبِّي
    كان في صوتِه، يلاقي ملاذا

    مِن سرايبه، إلى البوح يرقى
    يمتطي صوته، ويهمي رذاذا

    * * *

    ينتمي، يدخل الشجيرات نسغاً
    وإلى قلبهِ، يلُّم الجُذاذا

    يقرأ الأرض، من لغات المراعي
    وإلى حزنها يُطيل النفاذا

    * * *

    وعن المنحنى، عن السفح يحكي:
    وسوساتٍ، منها الجنون استعاذا

    وإلى أغرب القرارات يرنو..
    ويناغي كالطفل: (دادا، حباذا)

    * * *

    أي هجس عن المغارات يروي؟
    قيل: يهذي، وقيل عنه، تهاذى

    قيل: أضحى شيخ المجانين طرّاً
    قيل: داني بدء الصبا، قيل: حاذى..

    قيل: لم يتّخذ لشيء قراراً
    قيل: يبدو تجاوز الاتِّخاذا

    * * *

    كان يدعو الربى: “سُعاداً” “لميساً”
    ويسمِّي لحقول: “زيداً” ، “معاذا”

    ويسمي الغبار: أطفال بؤسٍ
    زادهم، عاصف المتاه انشحاذا

    كان يرضى انتباذهُ، ويُغنِّي،
    للمنابيذ، وهو أقسى انتباذا

    (مارس 1983م)

    * * *

  • 371 حوار فوق أرض الزلازل

    ديوان ترجمة رملية لأعراس الغبار >  حوار فوق أرض الزلازل

    مَن علَّمها الرقص النَّاري؟
    هل رنَّحها العشق الضاري؟

    فغلَت من كل جوانحها
    ودوَت: ضجِّي يا أوتاري

    وهَمَت قُبلاً صخريات
    ما أقسى العشق الأحجاري

    وامتدَّت أحضاناً أخرى
    من أشداق الطيش الواري

    * * *
    كيف ارتجلَت أعتى طَربٍ؟
    أختارت، أو قيل اختاري

    فانثالت قصفاً تحتيّاً
    وانهلّت كالسيف العاري

    وتلت مزمور الموت كما
    يتزيّا الأمِّي بالقاري

    * * *
    أمّ العُرف الجاري خرجت
    عن سلطان العُرف الجاري

    هل ملَّت حمل مناكبها
    فتنادت: أوشك إبحاري؟

    * * *
    ماذا يا (مِذحج) هيَّجها؟
    فلتت مِن قبضة إصراري

    لا الصبح تجلّى نيَّتها
    لاأفشاها النجم الساري

    * * *
    هل جاشت تبحث عن شعبٍ
    أطرى، أو عن رعبٍ طاري؟

    هل للأرض الكسلى يا بني
    أوطارٌ تشبه أوطاري؟

    أوَلم تسمع أنشودتها؟
    شاهدت حطامي وغباري

    قالت لي ما لا أفهمهُ
    عصفَت بالمزري والزاري

    جاءت مِن خلف مدى ظنِّى
    مِن خلف مرامي أنظاري

    * * *
    هل قالت هاك خطوراتي
    فلتتعلمْ مِن أخطاري؟

    لم تترك لي وقتاً أُصغي
    أو أُبدي بعض استفساري

    نفثَت سريَّتها الغضبى
    مِن قعر أرومة أسراري

    وأظنِّي قلتُ لها: اتئدي
    أو قِرِّي، أو لا تنهاري

    لا أدري ماذا قلت لها
    قالت: طلَّقتُ استقراري

    ركضَت مِن تحتي، مِن فوقي
    مِن قدَّامي، مِن أغواري

    مِن بين خلايا جمجمتي
    مِن تحت منابت أظفاري

    * * *
    حدَس (أدجولوجي) علَّتها
    قال المقري: أمرُ الباري

    ما جدوى هذا، أو هذا
    أو ذاك الوصف الإخباري؟

    لا شيخ المسجد أوقفَها
    لا ألجمها المستر (لاري)

    حتى (رختر) يبدو أغبى
    مِن ذيّاك العجل (الذاري)

    * * *
    أبَت: أضَعُفتَ ولاتدري؟
    هربت مِن حولي أقطاري

    وأعز مآمنَي اضطرت
    أن تمسي خوفاً إجباري

    أتراها أبقت لي أثَراً
    مَن كانت تدعى: آثاري

    مِن خلف (الصيَح) إلى (أضرعةٍ)
    حُفَري، وشظايا حُفَّاري

    * * *
    أتشمُّ – هنالك أوديتي؟
    أتصيخ هناك لمزماري؟

    أتشاهدني وأنا أتلو
    في قلب التربة أسفاري؟

    يظما المحراث، فأسقيهِ
    عَرَقي وأغنّي أثواري..

    أذكرتَ هنالك أبنيتي
    تحكي للأنجم أسماري؟

    وتحيي الضيف بريحاني
    وتلاقي الريح بإعصاري
    * * *
    جذّرت الصخر على صخرٍ
    وهناك دُفنت بأطماري

    أضحَت – يا طفلي – مقبرتي
    مَن كنت أُسميِّها داري

    * * *
    (أو جار الثعلب) تحرسهُ
    فلماذا خانت أوجاري؟

    أوكار الطير تُحصِّنهُ
    وأنا أكلتني أوكاري

    * * *
    هل قالت منهى تدميري
    كشفٌ عن أول إعماري؟

    أتراني – يا ولدي – قمحاً
    مِن دفني يربو إثماري؟

    الموت الفوت: أتحسبني
    غيَّرت بموتي أطواري؟

    * * *
    هل أنت الأصدق؟ هل أرمي
    بالتهمة رؤية أبصاري؟

    أنكرتُ أموراً سابقةً
    يوماً وسخرت بإنكاري

    * * *
    أرجو – يا بني – أن تمنحني
    معياراً يُلغي معياري

    أصبحتُ أعي أني غيري
    هل – فأر السد – سوى فاري؟

    * * *
    رجفات الأرض – كعادتها-
    دفعَت مجراكَ وتيّاري

    السرُ الناري في دمها
    أذكى فينا السرّ الناري

    (ديسمبر 1982م)

  • 372 زَمَكيَّة

    ديوان ترجمة رملية لأعراس الغبار >  زَمَكيَّة

    المكان الآن، والآن المكان
    والذي كان غداً، بالأمس كانْ

    والذي يأتي أتى مستقبَلاً
    قبل أن يتزوج السُّوق الأوانْ

    قبل أن تتلو الشظايا عهدَها
    قبل أن يستكتبَ الرمح الطعانْ

    ألغت الأفعال فعليَّاتِها
    شكَّلت أسماءها، عنها لجانْ

    * * *

    الزمان أنحلَّ أبحاراً دماً
    البيوت استوطنت ريح الزمان

    المراعي للثواني لحيةٌ..
    الثواني للمصلَّى لحيتان..

    الدم المُدية، والذبح المُدى
    والنجاة القتل، والموت الأمانْ

    التردَّي للتّردي زفَّةٌ
    والتوابيت نجوم المهرجانْ..

    موكب الأعراس موتٌ أبيضٌ
    والنعوش الخرس عرسٌ مِن دخانْ

    * * *

    حسناً جاءت فؤوسٌ رطبةٌ
    هطلت أيدٍ سليبات البنانْ

    الذباب الورَقي تاجٌ على
    قرن (واشنطن) وفخذِ (الخيزران)

    الغريب، الدار، والدار عصاً
    في يد النافي، وإبط القهرمانْ

    أصبح العكسان عكساً واحداً
    جاوز التخطيط شرط الاقتران

    * * *

    المتى أين،وماذا ههنا
    وعظام المنحنى، كانت فلان؟

    الأسامي والموامي والحصى
    كلها رقمٌ، ثلاثٌ، أو ثمانْ
    * * *

    المنايا كالأماني كلها
    أضحت أسماً واحداً: (أُمَّ الجبان)

    سيد الأسياد هذا الرعب في
    كفِّه كل مكانٍ صولجانْ…

    (أكتوبر 1982م)

    * * *

  • 373 للشوق زمانٌ آخر

    ديوان ترجمة رملية لأعراس الغبار >  للشوق زمانٌ آخر

    للشوق زمانٌ آخر

    هنا تدخل الشمس مِن كل ثقبٍ
    وتحت أديمي ليالي الشِّتا

    ويلبسني عري هذا الجدار
    كما يلبس الميِّتُ الأموتا

    وينهشني صوت أُمِّي العقيم
    ويوهمني أنَّهُ ربَّتا..

    وكان يُفتِّت بعضي ببعضٍ
    ويُطعمني بعض ما فتَّتا

    ويزقو كعصفورةٍ في الوثاق
    ترى حولها خنجراً مُصلتا

    ويسألني البرد والخوف عن
    نهاري، فأرجو بأن يسكتا

    لأن بقلبي زماناً يلوح
    وينأى، ويدنو لكي يُفلِتا

    وخبتأ مِن الشوق تطهو النجوم
    لأشباحِه وجهَ مِن أخبتا

    وصمتاً يصوِّتُ مِن داخلي
    وأستفسر القفر: مَن صوَّتا؟

    * * *

    أحسُّ دويّاً تجاوبتَ أنت
    أصحتُ وأذناي لي أصغتا؟

    لذا الصوت شمٌّ بلا اسمٍ لهُ
    صدىً يذهل النعت أن يَنعتا

    له نكهَةٌ كغموض المصير
    كتلٍّ على المنحنى نكَّتا

    كدربٍ نوى يسبق العابرين
    تنادى، ورجلاه ما لبَّتا

    كمشمشةٍ بكَّتت عرقها
    أرادت، وأغفى الذي بكَّتا

    * * *

    إلى الصمت أرتدُّ، أنحلّ فيهِ
    ولايأذن الصمت أن أصمتا

    فأُضغي هناك إلى جنَّتين
    أحسهما داخلي غنَّتا..

    إلى هاتفٍ، كَسُرى نجمتين
    على حُلم زيتونةٍ رفَّتا

    * * *

    وأدخل حين تنام الغصون
    إلى الجذع، أشتُّ ما بيَّتا

    إذا صرتَ باباً، أتنسى الجذور؟
    ألا تذكر الصخرة المنحتا

    سأنجرُّ مِنْ عنَت العاصفاتِ
    برغمي، لكي أحرس الأعنتا

    وأمسي خفيراً لبيتٍ هناك
    وللطير كنتُ هنا أبيُتا

    * * *

    وياقات: مَن أول القاطفين؟
    سدىً خضرتي، واسم مَن قوَّتا

    أخافُ يكون الجنينُ الذي
    سيحبو، كجد الذي أسنتا

    اللِقات حسٌّ بأهل الحمى؟
    على مَن حنا، وبمن أشمتا

    * * *

    هنا أدخل الريح مِن إبطها
    وأوصي المهبَّات أن تخفُتا

    أتى سيء الصيت فلتحذروهُ
    أتى يبتغي الأعنفَ الأصيَتا

    فأيُّ مباغتةٍ تحتشدون؟
    تنحَّوا، أرى برقُه أبغتا

    لقد أزغبت بنت “عشتار” فيهِ
    وأُختا “سهيلٍ” بهِ أومَتا

    * * *

    نسيتُ الكتاب اهدئي يا رياح
    أُريد الكتاب الكتاب الكتا…

    ستتلو الندى، تكتب الياسمينَ
    وتبدي الذي رام أن يكبتا

    أتسري: إلى أي مستقبَلين؟
    أقدَّامي اثنان؟ واويلتا..

    وأخشى تكون الرياح اثنتين
    كريحين قبلهما ولَّتا..

    فتحتَ مطلاًّ علي كل غيبٍ
    وأغلقتَ مِن خلفك الملفتا

    * * *

    زماني رحيلٌ إلى وعد شعرٍ
    سيأتي، ولهوٌ بشعرٍ أتى

    وهزءٌ، بمن سوف يعتو غداً
    لأني تعلَّمت ممن عتا..

    * * *

    توحّدتُ بالعالَم المستحيل
    لأجتاز ذاتي، ومَن ذيَّتا

    هناك يرى الحب، ماذا يُحبُّ
    ولايملك المقت، أن يَمقُتا

    * * *

    زماني حنينٌ ليوم مضى
    لمجنى غدٍ قبل أن يَنبُتا..

    لِطَيفٍ مِن الأمس يرتدُّ طفلاً
    لِحُلمٍ مِن اليوم يبدو فتى

    لمحبوبةٍ وعدت أن تجيء
    وجاءت لِماماً، ولكن متى؟

    أحبَّتكَ شيناً وعيناً وراءً
    وأحببتَ باءً ونوناً وتا…

    * * *

    أما يرسم القلب تأريخهُ؟
    مراياه تمحو الذي أثبتا

    فلا تبتدي الجمعةُ السبتَ فيهِ
    لأن الخميسَ به أسبتا
    * * *

    كما الساعة الآن؟ فاتت عصورٌ
    وعادت، ولا مرَّ مَن فوَّتا

    أما كتكتت ساعةٌ في الجدار؟
    جدارٌ بلا ساعةٍ كتكتا

    * * *

    ألِلشَّوقِ وقتٌ سوى شوقهِ
    وأغبى مِن الوقت مَن أقَّتا

    أأصغَى لهذا المغنِّي سواهُ؟
    فمن ذا تغنَّى ومَن أنصتا؟

    (فبراير 1981م)

    * * *

  • 374 تحولات يزيد بن مُفَزِّغ الحميري

    ديوان ترجمة رملية لأعراس الغبار >  تحولات يزيد بن مُفَزِّغ الحميري

    تحولات يزيد بن مُفَزِّغ الحميري

    تاريخية بطل القصيدة
    ا- ولد حوالي عام 600م، كان اجرأ شعراء صدر الإسلام رغم ضعف شوكته القبلية؛ لأنه كان ينتمي إلى غمار اليمنيين لهذا كان يسمي نفسه في شعره بالرجل اليماني دون تحديد قبيلة بعينها، على عكس سواه من امثال محاصره (اعشی همدان).
    2- كان على جرأته طيب الحضور، وعلى شدة حبه كان شديد البغض والخوف، تنازعه فتيان قریش لحسن عشرته، وتحاموه لحدة بادرته ووميله إلى الحرية.
    3- اختاره (عبّاد بن زیاد) صاحبة إلى ولايته في (سجستان) على محبة وتوجس، وعندما شاهد الريح تلعببلحية (عبّاد) غلب عليه المزاج الشعري فقال في ذلك المنظر:
    الا ليت اللحى كانت حشيشاً.. فنعلفها خيول المسلمينا
    وكانت اول شرارة عداوة انطوى عليها تجاهل (عباد) لحقوق الشاعر من الصلة، فاستدان من التجار للإنفاق على جارينه اراكة) وعلى غلامه (برد) وكان يحبها أشد حب كما كانا يحبانه.
    4- الب (عبّاد) على الشاعر الدائنين، فامر ببيع سلاحه وفرسه واثاث بينه ثم سجنه فيما تبقى حتى اضطره إلى بيع الجارية والغلام من التاجر (الأزجاني).
    5- لجا (ابن المفرغ) إلى (یزید بن معاوية بدمشق كما تمادی هناك في هجو آل زياد، فطلبه (عبد الله بن زیاد) والي العراق، فاستجاب الخليفة يزيد شارطاً الا يلحق به من العذاب ما يؤدي إلى تلفه، وهناك م
    هجا الشاعر البيتين (السفياني) و(الزيادي) فابتدع له (ابن زیاد) اشنع عقوبة إذ سقاه نبيذا مخلوطة بالمسهل وربطه إلى خنزير وكلب وطاف به شوارع البصرة، وبعد سجن ایام ارسله إلى اخيه (عباد) آمرا أن يمحو الشاعر بأظافره كل ما كتب في هجائهم على الجدران إلى أن وصل إلى (سجستان).
    6- بعد سجنه هناك غضب له الشعب فافرج عنه وفي طريقه
    إلى الشام كان ينشد بغلته المسماة (عدس) هذا الشعر:
    عدس مالعباد عليك إمارةٌ..
    أمني، وهذا تحملين طليقُ

    7- اعنف هجائيات (یزید بن مفرغ) هي تلك النونية التي استهدف بها الزياديين والسفيانيين إذ شهر باستلحاق (معاوية)
    (زياد بن سمية) اخأ من السفاح كما يقول:

    ألا أبلغ معاوية بن صخر
    مغلغلة مِن الرجل اليماني

    أتغضب أن يُقال أبوك عفٌّ
    وترضى أن يُقال أبوك زاني

    وأقسم أن رحمك مِن زيادٍ
    كرحم الفيل مِن ولد الأتانِ

    وأشهد أنها ولدت (زياداً)
    و(صخرٌ) من سميَّة غير دان

    وعلى غرار هذه المقطوعة الشهيرة انبنت هذه القصيدة مؤرخة البطل نفسية وتحولية:

    لماذا ناب عن سيفي لساني؟
    ألي سيفٌ؟ أفي كفِّي بناني؟

    ًأصيح الآن: هل في القلب صوتٌ
    بحجم الحقد، أقوى مِن جَناني؟

    أصيح: لكي أُمَمِّرَ أيَّ سجنٍ
    لينفث جذوةً بعضُ اختزاني

    (ألا ليت اللَّحى كانت حشيشاً
    فأعلفها تناوي اضطغاني)

    أعندي غير هذا الحرف ينوي
    كما أنوي، يعاني ما أُعاني؟

    أُريد أقوم، أعيا بانخذالي
    أُريد البَوح، يعيا ترجماني

    فأختلق المنى، وأخاف منها
    وأشجى، ثم أخشى ما شجاني

    لأن مكان قلبي غير قلبي
    لأن سبيَّ أجدادي سباني

    لأني لا أعي ما نوع ضعفي
    على علمي بنوع مَن ابتلاني

    * * *

    ألي كفَّان؟ يبدو كنت يوماً
    فصرت بلا يدين، بلا أماني

    لأن “البصيرة” انتعَلت جبيني
    وأعطت ذيل “خنزيرٍ” عِناني

    سقتني السُّم، واجتَّرت وثاقي
    وأرخَت فوق نهديها احتقاني

    فكنت أرى الشوارع تقتفيني
    وتسبقني – إلى السجن – المباني

    وأسمع زفَّةَ، هل ذاك عرسي؟
    أدَفني؟ أم سقوط مَن ازدراني؟

    * * *

    أتمشي في جَنازتها “قريشٌ”
    وتزعم أنها قصدَت هواني؟

    إلِي في ظلّ دولتها صِيانٌ
    فتحلم أنها امتهنَت صِياني؟

    أأخزاني الخليفة أم تدنَّى
    لكي يفنى، وأعتنق التفاني؟

    * * *

    أمان الصمت أجدى يا قوافي؟
    أأرضى حكم أولاد الزواني؟

    أتعزفني سيوفٌ مًن حديدٍ
    ولا “أستَلُّ سيفاً مِن أغاني؟

    وهذا الشعر آخر ما تبقَّى
    مِن الأحباب في زمن التشاني

    * * *

    بدت جلوي هِناتُ “بني زيادٍ”
    وأدمَوا دونها الْمُقَل الرَّواني

    فأغرتني القصيدة بالتَّحدي
    وأغراها بهم أخفى المعاني

    تغاضى العارفون، وثُرتُ وحدي
    كفاني هتك ما حجبوا، كفاني

    عن الخيل امتطوا دفء الجواري
    غدا الفرسان أفراس القناني

    فتى “مرجانةٍ” أضحى أميراً
    (دعَوا جرّ الذيول على الغواني)

    * * *

    إذا لم تغضبوا مثلي لهذا
    سيتلو أولَ المكروه ثاني

    لأن الشرَّ أخصبَ مِن لحاكم
    لأن العجز أوله التواني

    فهذا العوسج الملعون ينمو
    بأعينكم، وتنتحر المجاني

    أقلتُ الآن شيئاً؟ هل أصاخوا؟
    أمات الناس؟ هل أودى بياني؟

    * * *

    إذا صوتي أنا أم لون بُغضي؟
    أفي جلدي سوى الرَّجُل اليماني؟

    أُنادي: يا “يزيد” أخال “بُرداً”
    يناديني – فأهتف: مَن دعاني؟

    أكنت أنا الملبِّي والمنادي؟
    وأين وأنا؟ أفتِّش، لا أراني

    وأبحث عن يدي شجر العشايا
    وعن وجهي الزوايا والأواني

    وعن جسدي أنَقِّبُ لا أُلاقي
    سوى مِزَق القميص الأصفهاني

    * * *

    أهذا السقف – يا جدران – رأسي؟
    أهذا المشجب المحني كياني؟

    يُقال: القبر أحنى مُستقرٍّ
    فكيف لبست قبراً غير حاني؟

    * * *

    لأني متُّ آناً بعد آنٍ
    أوَدّ اليوم قتلاً غير آني

    أُحاول أن أُغيِّر أي شيءٍ
    أمام القهر أمتحن أمتحاني

    أُريد ولادةً أخرى، لموتٍ
    له عبَقٌ، ولونٌ أرجواني

    * * *

    وهل أقوى وخيل “بني زيادٍ”
    على صدري؟ وعُكَّازي حصاني

    وكل بني أبي مثل الأعادي
    فتّباً للأقاصي والأداني

    * * *

    (ألا أبلغ معاوية بن صخرٍ)
    أتيتَ مُزامناً، ومضى زماني

    “زيادٌ منك ندعوه “ابن حربٍ”
    وقد ندعو: “سُميَّةَ أم هاني”

    * * *

    ويا “عبَّاد” أبحرَ “ذو نواسٍ”
    وأبحرنا على الرمل الدخاني

    قصدنا شاطئاً مِن غير بحرٍ
    عن الأمواج، خوَّضنا المواني

    * * *

    ف ماذا أدَّعي؟ أُفرِغتُ حتى
    مِن اسمي: “يا مفرِّغ” مَن نماني؟

    أتدعوني – على المعتاد – يا ابني؟
    هضمتَ هزيمتي، قل: يا جباني

    أتَلمحني “مراديَّ” المحيَّا؟
    أتدري الشمس أني “كوكباني”؟

    أبوك أضاع – يا أبتِ – حمِاهُ
    وأنت وحميرٌ ضيعتماني

    * * *

    لماذا لم تجالد أنت مثلي؟
    أنا استوطنت في المنفى سِناني

    يدل عليك – يولدي – جبينٌ
    معينيٌّ، وصوتٌ زعفراني

    ورثتَ ملامحي وفمي ورمحي
    لماذا : لم ترث عنِّي طِعاني؟

    “سجستان” التي شرختك: نصفاً
    مراديّاً، ونصفاً “مَزرُباني”

    فصرت مُرقَّعاً مِن ذا وهذا
    أشد تمزقاً مِن طيلساني

    متى أنساك “عبَّادٌ” “أزالاً”
    أما ألهَتك غانيةٌ وغاني؟

    * * *

    لقد كانت “أراكة” عرش قلبي
    بمغتَربي، و”بُرداً” صولجاني

    فبعتهما برغمي، ويح نفسي
    وويل للغريم “الأُرَّجاني)

    * * *

    أبي.. – أين اختفى؟ أرجوك مهلاً
    أما هذا أبي؟ مَن ذا لحاني؟

    أنا حاورت شيطاناً، ولكن
    هنا الشيطان، مِن أحفاد (ماني (

    ومَن شافهتُ سيفاً يعربيّاً
    كأن لسانه رمحٌ “عُماني”

    نعم: هذا أبي مِنِّي تَبدَّى
    فأورَق مِن جذوري كلُّ فاني

    * * *

    “عَدس” لم تحملي مني طليقاً
    زمان الغدر مهمومٌ بشاني

    وصلت هنا: أكُلّ الأرض سجني
    ومسحب جثّتي بعد انسجاني؟

    فأية بقعةٍ تدعى بلادي؟
    وخيطٌ مِن دمي أضحى مكاني

    * * *

    سأخلق موطناً يمتد مني
    ويَدخُلني، يجدِّد عنفواني

    أعادت صيغتي تلك الدواهي
    عليها غضبتي، ولها امتناني

    فكيف يُعيدني عِنَباً نضيراً
    نبيذٌ قد تخثَّر في دِناني؟

    * * *

    أحسُّ – الليلة – الآفاق أزهى
    أتوهمني؟ أمِ الوهم ارتداني؟

    أحَرْ باوِيَّة حتى الليالي؟
    أللأشباح جلدٌ أفعواني؟

    ترى: ماذا اعترى صورَ المرائي؟
    أراها غيرها: ماذا اعتراني؟

    أتى الوقت المحال، أم استعارت
    سوى ميقاتها هذي الثواني؟

    لهذا الحلم وجهٌ، يحصبيٌّ
    لذاك الطيف، إكليلٌ جُماني

    * * *

    عجيبُ لمح ذاك البرق، يبدو
    يمانياً، أيكذبني عِياني؟

    له أطياب هاتيك الروابي
    له إيماض هاتيك المغاني

    على عينيه أطيافٌ كحزني
    أنامله – كأحلامي – قواني

    أهذا البرقُ روحي طار مِنِّي
    إلى وطني، ومِن عيني أتاني؟

    أراني الآن رابيةً تُغنِّي
    (ألا واليل دان الليل داني)

    يغازل ناظري هجسُ المراعي
    ويلبس قامتي شجو (السواني)

    أتَدَّكُر (السعيدةُ) لو رأتني
    بأني طفلها مهما دهاني؟

    أظن عيونها عنِّي ستُغضي
    وأضلعها تتوق إلى احتضاني

    ستهمسُ: فيه رائحتي وهذا
    – على شتفيه – خَطٌّ مِن لِباني

    له جلدٌ ترابيٌّ وجلدٌ
    مُدمَّىً فوق عظمٍ خيزُراني

    * * *

    فأدعو: يا (مذيخرة) ارقبيني
    إليك البارق الصيفي هداني

    إليك عبرتُ كُلّ ركام عصري
    وبالمستقبل اخترت اقتراني

    * * *

    ستسأل: مَن أنا؟ مِن أي دَوحٍ؟
    يريميٌّ، أبي خالي مَداني

    إلى كل الأُناس أمُتُّ: أني
    بكيليٌّ، حُديديٌّ، خُباني

    * * *

    مرايا الشمس: هل تجدين وجهي
    كما يهوي صِباك الأقحواني؟

    “يزيد” اليوم، غير “يزيد” أمسٍ
    أتى الفادي مِن القِلق الأناني

    فهَزِّي أعظمي، سيفاً. لواءً
    ودميِّني، يزغرد: مهرجاني

  • 375 مِن حماسيات يعرب الغازاتي

    ديوان ترجمة رملية لأعراس الغبار >  مِن حماسيات يعرب الغازاتي

    نحن أحفاد عنترة
    نحن أولاد حيدره

    كلُّنا نسل خالدٍ
    والسيوف المشهّره

    يعربيون إنما
    أمُّنا اليوم “لندره”

    أمراءٌ، وفوقَنا
    عين “ريجن” مُؤمَّرة

    وسكاكيننا على
    أعين الشعب مُخبره

    نحن للمعتدي يدٌ
    وعلى الشعب مجزره

    كلُّنا سادة الرماح
    والفتوح المعطَّرة

    كل ثقبٍ لنا بِهِ
    خِبرة (الدِّيك) بالذرة

    في الملاهي لنا الأمام
    في الحروب المؤخِّرة

    حين “صهيون” يعتدي
    يصبح الكل مقبره

    نحن في اللَّهو أقوياءٌ
    وفي الحروب مسخره

    إننا أجبن الورى
    عندما الحرب مُسعَره

    نَحن أبطال يعربٍ
    عندما نلعب “الكره”

    ونُمورٌ على الضباء
    وعلى (الصَّقر) قُبَّره

    نحن في الهزل وثبةٌ
    نحن في الجِدِّ قهقره

    ليس فينا تقدميٌّ
    سوى الفخذ والشَّرَه

    ذاك حلوٌ مؤنثٌ
    تلك أُنثى مذكَّره

    تلك أصبا مِن إبنها
    ذاك أشهى مِن “المره”

    نشتري الناس جملةً
    ننهش اللحم جمهره

    نجعل الحسن سُلعةً
    والكفاآت سمسره

    “مونت كارلو” خيولنا
    وسراديب “أنقره”

    الغدا في “سويسرا”
    والعشا في “أدنبره”

    آخر الليل مرقصٌ
    أول الصبح تذكره

    * * *

    سيفنا الشيِّك وحدهُ
    والسياسات حميره

    نبذل “القدس” منحةٌ
    نرتدي سوق “أسمره”

    ولكي ندَّعي، لنا
    في الإذاعات زمجره

    نكتري ألف كاتبٍ
    نصف مليون حنجرة

    هكذا أُمَّة العُلى
    مِن عُلاها مُطَهَّرَة

    (30 مارس 1982)

    * * *

  • 376 أسمار.. أُم ميمون

    ديوان ترجمة رملية لأعراس الغبار >  أسمار.. أُم ميمون

    كانت بكل عشيّة تروي
    خَبَر الطرابيش التي تهوي

    عشرون طربوشاً هناك هوَت
    وهنا ارتمى ذو الشارب الملوي

    * * *

    مِنَّا افتقدنا سبعةٌ وفتىً
    نُحنا، وكان نُواحنا يكوي

    نفنى تآويهاً، وتُشعلنا
    (أمة الجليل) وزوجةٌ “الحروي”

    ويضجُّ “مسعودٌ” فيرعبنا
    فمه العريض، وصوته النٌسوي

    كانت “لميس” تصيح: واولدي
    و”ابن الشريف” يصيح: واصنوي

    وأبي يقول لكل مكترثٍ:
    قَدَر الشجاع القتل يا (خُوِّي)

    وغرابة الأطوار لازمةٌ
    للحرب، مِن تكوينها العضوي

    * * *

    في اللّيلة الأخرى بدا قمرٌ
    زاهٍ إلى “الأروام” يستهوي

    فتكبَّدوا تسعين واقتنصوا
    مِنّا “ابن عيسى” و”ابنة البدوي”

    قلنا: انتهينا وهي ما بدأت
    واكفُّنا مِمَّا بها تخوي

    * * *

    مِن خلف ذاك التلُ باغَتنا
    جيشٌ نوانا قبل أن تنوي

    دخل البيوت فلم يجد أحداً
    وغدا بهاكالثعلب المزوي

    جئنا إليه مِن هنا وهنا
    فارتدَّ فوق دمائِه يعوي

    ويفرُّ من عرقوبه، وعلى
    قدميه يسقط نصفه العُلوي

    فاختار (عزّت) مَن يُبلِّغنا:
    كفُّوا عن الفوضى، خذوا عفوي

    * * *

    في “الشّعب” أردَوا “مرشداً” وأخي
    واستوحدوني، فانثنوا نحوي

    ناديت: يا أهل الحمى، فعدت
    كل القرى، كالعاصف الشتوي

    قالوا: أرينا أين مكمنُهم
    فحملت فاسي، واحتذوا حذوي

    وفرحت حين رأوا وطني
    وامتد فوق عيونهم زهوي

    منهم قتلنا تسعةٌ، قتلوا
    عشرين مِنّا، آه واشجوي

    أحسست كل ممزقٍ جسدي
    ورأيت كل معفَّرٍ شُلوي

    * * *

    كانت بلا نارٍ بنادقنا
    ومدافع “ابن الهمشلي” تدوي

    والفرد منهم حجم أربعةٍ
    مِنَّا، ونحن كزرعنا نذوي

    يوم استبى الخيّال “عافيةٌ”
    صاحت: فلبّي “أحمد الصُّلوي”

    وهناك جاءت كل رابيةٍ
    برماحها، كالماطر الغدوي

    واشتدّ ذاك اليوم، لا فرسٌ
    ينجي، ولا مِن مهربٍ يؤوي

    في ذلك اليوم ارتدى دمهُ
    عمّي، وضاع “محمد العروي”

    * * *

    هدرت “بقاع البَون” معركةٌ
    قالت لغازي الدار: ذق غزوي

    كُنّا نصير بعنف قوَّتهِ
    أقوى، ويعيا كيف يستقوي

    يوم “المقاطرة” اغتلت غضباً
    قالت ل”عصمت” هل ترى صحوي؟

    هطلت عليه النار قلعتها
    فاندكّ مثل الطحلب المشوي

    وهنا سمعنا الأرض تخبرنا
    إني أكَلت مَن ابتغوا حسوي

    * * *

    آباؤكم كانوا أعزّ على
    ذهب “المُعِزّ” وكل ما يُغوي

    ماذا أقصُّ اليوم؟ كم سقطوا
    والموت لا يغفو ولايثوي..

    كان الصباح كأنف أُمسيةٍ
    كان الدجى كالملعب الجوِّي

    * * *

    والآن هل ألقى معازفهُ
    زمنُ الأسى كي يبتدي شدوي

    وتنحنحت كي تبتدي خَبراً
    فبكت، فغاص أمرّ ما تحوي

    حدث الذي.. والدمع يسبقها
    ويقول عنها غير ما تطوي

    (مارس1982م)
    * * *

  • 377 أولاد عرفجة الغبشي

    ديوان ترجمة رملية لأعراس الغبار >  أولاد عرفجة الغبشي

    قيل عنهم: تمردوا وأطاعوا
    وكأمثالهم، أضاعوا وضاعوا

    قيل: جاؤوا مِن صخرتين بوادٍ
    قيل: شبّوا كما تطول التّلاعُ

    قيل: هم إخوة، وقيل: رفاقٌ
    قيل: هم جيرةٌ غذاهم رضاعُ

    ذو أصولِ، أعلى المزايا لديهم
    سلُّ سيفٍ أحدَّ منه الذراعُ

    * * *

    قيل: كانوا إذا أجالوا سيوفاً
    في رُبى (صعدةٍ) أضاءت (رداعُ)

    وإذا أولموا ب”صعفان” ليلاً
    كان الليل في الخليج التماعُ

    * * *

    قيل: كانوا كواكباً فاستحالوا
    وأدياً للشموس فيه انزراعُ

    فترى الأرض حيث حلُّوا سماءً
    ولهم مثلها سنىً واتساعُ…

    ولهم نسبةٌ إلى كل برقٍ
    وعلى نيّة الرياح اطِّلاعُ

    * * *

    قيل: إن الصخور كانت رطاباً
    في صباهم، وللرَّوابي شراعُ

    رضعوا في الصِّبا حليب الثُّريا
    وارتعوا قامة الرُّبى حين جاعوا

    * * *

    قال راوٍ: هم أربعون، وثانِ
    قال: هم تسعةُ وعمٌّ شجاعُ

    فانبرى ثالثٌ، تَعِدّان ماذا؟
    هم أُلوف كما تمور القلاعُ

    هل تكيلانهم؟ نعم هم لدينا
    نصف صاعٍ، وقل إذا شئت صاعُ

    ربما تشبرانهم ذات يومٍ
    ربما، أول القياس ابتداعُ

    * * *

    قال بعض المحللين: أطلُّوا
    فجأة في الدجى فهزُّوا وراعوا

    قبل أن يظهروا أتى الوصف عنهم
    فرآهم – قبل العِيان – السَّماعُ

    وأضاف: اغتلوا قليلاً وأغفوا
    هل أقول اشتروا حماساص وباعوا؟

    حين ذاك التقوا بزغب الأماني
    مثلما يلتقي الندي والشُّعاعُ

    * * *

    قال مستبصرٌ: أتوا في زمانٍ
    للنقيضين في يديه اجتماعُ

    فلهم كالزمان قحطٌ وخصبٌ
    وطفورٌ كموجهِ وارتجاعُ..

    ولهم مثل ركبتيه انحدارٌ
    ولهم مثل حاجبيه ارتفاعُ..

    عن حكاياتهم أشاعوا كثيراً
    واستزاد الصدى إلى ما أشاعوا

    * * *

    قَصَّ مؤرخٌ: كيف جاؤوا
    قال ثانٍ: مضوا وجاء الصراع

    ما تراهم تدافعوا ثم قرُّوا
    وامتطى الآن نفسَه الاندفاعُ؟

    حينما أقبلوا تغنّى التلاقي
    فلماذا لا يفكهرُّ الوداعُ…؟

    شوّهتهم صحيفةٌ كالأعادي
    وأعادت صحيفةٌ ما أذاعوا

    * * *

    قيل: جاؤوا النزاع لَمّا تبدّوا
    قيل: مِن قبلهم أفاق النزاعُ

    قيل: جاؤوا البقاع كي يحرقوها
    قيل: جاءت إلى الحريق البقاعُ

    قيل: نابوا عن الغبار فهبّوا
    ثم ناب الغبار عنهم فماعوا

    عجزوا حين حاولوا أن يطيروا
    وأرادوا أن يهبطوا فاستطاعوا

    ثم قالوا: تزوجوا (بنت آوى)
    وأطالت حفل الزفاف السباعُ

    وتبنّى الحياد هذا وهذا
    واتّقى ما انطوى عليه القناعُ

    قيل: هذا، وقد يقال سواهُ
    كل ماضٍ للقادمين مُشاعُ

    * * *

  • 378 زوار الطواشي

    ديوان ترجمة رملية لأعراس الغبار >  زوار الطواشي

    كان يرتاد (الطواشي)
    راكباً بغلاً، وماشي

    تارةً يلبس طمراً
    تارةً أزهى التواشي

    كان يخشى من يراه
    كل راءٍ منه خاشي

    * * *

    لي هنا حامٍ كأهلي
    وحمىً يبغي انتهاشي

    ما لهم يكسون جذعي
    أعيناًً تحسو مشاشي

    هل دروا أوطار قلبي
    من ضموري وانتفاشي؟

    ألفوا الدهشة مني
    أنا طال اندهاشي

    جاوزوا دور التوقي
    كيف أجتاز انكماشي؟

    * * *

    أخطر الشبان “سعدٌ”
    “زيد يحيى” و”الرياشي”

    أعنف النسوان “سعدى”
    “مريمٌ” “بنت الخباشي”

    * * *

    سوف أخفي من نفوري
    ولهم أبدي بشاشي

    فأحيي من ألاقي
    وأغالي في التحاشي

    ربما ارتابوا بصمتي
    ربما أوحى نقاشي

    ربما أجدى ثباتي
    ربما خان ارتعاشي

    * * *

    سألوا: أهو ولي
    أهو للسلطان واشي؟

    أهو داعٍ “حوشبي”
    أهو عفريتٌ براشي؟

    * * *

    قيل: مسؤول كبيرٌ
    قيل: مرشوٌ وراشي

    قاته المختار “وادي”
    كوزه المخصوص “باشي”

    * * *

    قال شيخٌ: ذا مخيفٌ
    واكتبوا: قال الحفاشي

    دخله في كل يومٍ..
    فوق أضعاف معاشي

    صحنه يكفي جياعي
    كأسه يروي عطاشي

    * * *

    قيل: يحتاز كتاباً
    كل سر فيه فاشي

    قيل: يحوي أف سفرٍ
    ويعي حتى الحواشي

    فهو يروي عهد(باذان)
    وتأريخ (النجاشي)

    يعرف الأمس ويدري
    كم ستأتي من غواشي

    * * *

    ولماذا لم يعلم؟
    كالشهاري كالخراشي

    أهو يتلو كالرقيحي؟
    أهو يشدو كالعتاشي؟

    أو كعز الدين يروي
    برمكيات الرقاشي؟

    مذ تبدى وهو يغى
    بيت جلاب المواشي

    من رآه قال يوماً:
    هات لي، أو خذ كباشي

    ويغادي (تلك) حيناً
    واحياييناً يعاشي…

    قائلاً: يصفو شرابي
    ههنا يحلو انتعاشي

    فسهيل سقف بيتي
    وثريّاُه فراشي

    عرفوهُ، كان عطّاراً
    وأياماً قماشي

    واسمه بالأمس “حلمي”
    واسمه اليوم “الهتاشي”

    * * *

    فغدا يخفي ويبدو
    ثم يوطيه التّلاشي

    صار أسمار العشايا
    وأحاديث المماشي

    (أكتوبر 1982م)

  • 379 إحدى العواصف

    ديوان ترجمة رملية لأعراس الغبار >  إحدى العواصف

    كتلفت الذكرى الحميمه
    كذهول أيام الهزيمه

    كفرار محكومٍ عليه
    كزوجةٍ أمست غريمه

    كوثوب مزبلةٍ، لها
    ساقٌ على أخرى جثيمه

    كدبيب أول سكرةٍ
    كختام أغنيةٍ كليمه..

    جاءت منوعةً كما
    يروون أخبار الجريمه

    وكما يصيخ المخبرون
    إلى تزاويق النميمه

    * * *

    تهمي كحكي البدو: عن
    أسواق عاصمةٍ فخيمه..

    تختال “كامرأة العزيز”
    وتنحني مثل البهيمه

    كالرمل تصهل، كالطبول
    تنق، تخطب كالحكيمه

    كجدال برميلين، عن
    أي الأمور: هي الصميمه

    تلقي ترهلها، على
    مزق العشيات السئيمه

    في كل مرأةٍ تفتش
    عن ملامحها القسيمه

    * * *

    ومن الرماد إلى الرماد
    تزف طلعتها الوسيمه

    تعوج حتى الركبتين
    وتنثني كالمستقيمه

    * * *

    تلج الثثقوب إلى الثقوب
    لأنها، ليست جسيمه

    ولأنها الأم العقيم
    أرادت الطرق العقيمه

    * * *

    في سن والدةٍ، تتوق
    إلى الرضاعة، كالفطيمه

    ولها قوائم فرختين
    وقامة امرأةٍ لحيمه..

    من خيفة الشيطان
    تحمل، كل أمسية تميمه

    وعلى شوارع ظهرها
    تلهو الشياطين الرجيمه

    * * *

    تمضي -كعادتها- بلا
    جدوى، تجيء بدون قيمه

    بالزرع تعصف، بالصخور
    تلوذ، تبسم كاللئيمه

    فتعدد الأزواج، وهي
    العانس الولهى الدميمه

    * * *

    وعلى مناكبها تجيء
    حقائب الخطط الأثيمه

    وكتائب “السفليس” من
    أنواع، “ريتا” أو “بسيمه”

    تستورد “السرطان”
    تحسبه مساعدة كريمه

    وبغير مسمعها تصيخ
    إلى البراكين الكظيمه

    * * *

    أهي الوخيمة يا هبوب
    أم المهبات الوخيمه؟

    سلمت يداها: قل معي
    ألأنها ليست سليمه؟

    أأتت كإحدى العاصفات
    من النسيم، أو النسيمه؟

    أهي الذميمة يا روابي؟
    أم أبوتها الذميمه..؟

    أسكت، لأن فم التقصي
    يجرح اللغة الرخيمه

    وهل التردي طبعها؟
    ألفت عوائدها (حليمه)

    تخشى وترجو، لا تصادق
    لا عداوتها أليمه

    كالوارث المطلاق، تهوى
    كالمطلقة النهيمه

    كسلى، وأنشط من ذباب
    الصيف، مترفةٌ عديمه

    * * *

    في جعبة التجار جببهتها
    نواياها الكتيمه

    من كل موطوء الدماغ
    لها نديمٌ، أو نديمه

    مشدودةٌ بعرى هناك
    وعن هنا باتت صريمه

    * * *

    تعرى، وتلبس كل عيدٍ
    طيف “صعدة” و”الجميمه”

    وتقول: والدها “يريمٌ”
    أمها تدعى: “يريمه”

    وقرين عمتها “نعيمٌ”
    واسم خالتها “نعيمه”

    اسميةٌ، ما لونها
    ألها روائحها الشميمه؟

    حتى الأسامي ترتديها
    تلك أوسمة العزيمه

    رمز المواطنة التي
    بسوى لوازمها لزيمه

    لا فرق في أسمائها
    بين المميتة، والمنيمه

    * * *

    تنأى عن الأتي، تعود
    تظل رائحةً مقيمه

    تومي كواعدةٍ، كقاتلةٍ
    بمهنتها عليمه

    تهوي، وتصعد كالدلخان
    على الحصى تبدو زعيمه

    وكأن حشد غبارها:
    أبطال ملحمةٍ قديمه

    * * *

    كالدود، لم ينبت لها
    عظم وسموها: العظيمه

    وهي الأقل من التساؤل
    والإجابات السقيمه

    وأقل من برد المديحة
    من حرارات الشتيمه

    * * *

    للطين تولم، تبتني
    عرشاً، برائحة الوليمه

    تهب الكؤوس وتحتسي
    دمها، وتحسبه غنيمه

    وعلى تجاعيد الفراغ
    تصف أقنعةً نظيمه

    وتهب عن أمر المصارف
    والوعود المستديمه

    يا من تبنوا يتمها
    من منكمو أكل اليتيمه؟؟
    (أكتوبر 1979)

  • 380 هذا اليأس

    ديوان ترجمة رملية لأعراس الغبار >  هذا اليأس

    ترى: ما نوع هذا الياس
    وهل لقياسه مقياس؟

    كسقف السجن يمناه
    بنان شماله، أمراس

    له رأسان في رأسٍ
    وظهرٌ مثل ألفي راس

    وأذقانٌ بلا شعرٍ وأيدٍ شعرها مياس
    وجذعٌ لا أساس له

    وجذع ثابت الأساس

    * * *

    ألا تدري له بدءاً؟
    فهل يأتي من الأرماس؟

    عليه روائح الموتى
    ورعب السوق والمتراس

    ترى: من أين مأتاه؟
    وما يطوي من الوسواس؟

    أراه فوق من قاموا
    وتحت ملامح الجلاس..

    هناك يلوح، سلطاناً
    وشيطاناً هنا، خناس

    فهل في قلبه حسٌّ
    وهل في سمعه إحساس؟

    يجوس البدء والمنهى
    ولا ينجر كالجواس

    عليه عمائم كالدور
    فوق ربىً من الأتياس

    دنيء السير والمسرى
    جبان الغيم والإشماس

    ألا يبدو له نوعٌ؟
    ويغشى سائر الأجناس

    * * *

    يدوي تحت جلد الصمت
    يعوي في فم الأجراس

    يحن بغلة الظامي
    ويغلي في عروق الكأس

    يدمي المأتم الباكي
    يحل جوانح الأعراس

    ويعلو صهوة المثري
    يجر عباة الإفلاس

    ويربو في بيوت المال
    يسعل في حشا الحراس

    ومن سوق إلى سوقٍ
    يسوق الرق والنخاس

    يئن بقبضة الحداد
    يبكي في يد النحاس

    يبيع الخوف أقراصاً
    ويبتاع المنى أكياس

    يدير الحكم والمحكوم
    والمدسوس والدساس

    * * *

    يشكل طعمه خمراً
    مياهاً، مسرحاً، كراس

    أناشيداً، وأخباراً
    دماً، فوق الدم النعاس

    نهوداً من غبار الليل
    من تبن الأسى أكداس

    عشاء من حليب الريح
    أوهاماً من الألماس

    طوابيراً تفوق العد
    بالأخماس والأسداس

    (بسوساً) في حمى (روما)
    وسوقاً في حمى “جساس”

    مرايا لا ترى شيئاً
    وجوهاً تمضغ الأنفاس

    * * *

    يرى من شوك إبطيه
    ومن عكازه النواس

    ويرمي تارةً ناراً
    ويهوي تارةً كالفاس

    وطوراً يقرأ الأبراج
    طوراً يخنق النبراس

    وحيناً يرتدي المحراب
    حيناً يلبس القداس

    ويوماً يوقد الثورات
    يوماً، يبلغ الأقباس

    * * *

    هنا يهمي توابيتاً
    هنا ينقض كالأفراس

    هنا ينصب أحجاراً
    ويمشي هاهنا كالناس

    ترى: ماذا تسميه
    عيون الرمز والأقواس؟

    (نوفمبر1981م)
    * * *

  • 381 علامات العالم المستحيل

    ديوان ترجمة رملية لأعراس الغبار >  علامات العالم المستحيل

    قيل لابد، أن يطيل الغيابا
    قيل ينأى، كي يستزيد اقترابا

    قيل عنوان نبعه، كل جرحٍ
    قيل يستوطن الظنون الكذابا

    قيل أدناه عاصفٌ قبل عامٍ
    وثناه غيمٌ، فأغضى وحابى

    * * *
    وهنا شكل الحصى مقلتيه
    مقلةً حيةً، وأخرى غرابا

    وعلى وجنتيه، يمتد وكرٌ
    يستضيف الذباب فيه الذبابا

    فوقه يفسق الدجى بالمراعي
    تحته تسحب النمال الهضابا

    يعشب القحط في حشاه رمالاً
    ويباري فيه اليباب اليبابا

    * * *
    قيل أودى، قيل استحال نواةً
    قيل كهفاً، أمسى لكهفين بابا

    قيل أغفا هناك، يجتر حزناً
    مثلما يذكر النجيع الحرابا..

    قيل من جوف حارةٍ، سوف يرقى
    قيل من لا هنا، يجيء انصبابا

    قيل يأتي من تحت شعث الروابي
    قيل تنوي الربى إليه الذهابا

    قد يناديه كل صقع فيأبى
    وبلا دعوةٍ، يكون الجوابا

    * * *
    قالت الشمس: ذات يومٍ سيهمي
    قالت الريح: شاهدته سرابا

    قال شيخ الحمام أبصار قلبي
    تجتليه، عيني تراه ارتيابا

    فأجاب الغراب: يبيض لوني
    قبل أن يبتدي، يحث الركابا

    قال سرب القطا: أظن الثريا
    أوشكت أن تحل عنه النقابا

    وادعى المنحنى بأن خطاه:
    أصبحت من رنو عينيه، قابا..

    هل تعي يا قطا ضجيجاً خليطاً؟
    ربما استنبحت خطاه الكلابا؟

    عنه ينبي هذا النباح الموشى
    بأغانٍ يشحدن ظفراً ونابا

    فأجاب القطا: حكت عنه أمي
    مثلما يمضغ الخجول العتابا

    أخبرت أنه أتى قبل عشر
    وتولى، ومادرت كيف ذابا

    هل أحست إذ ذاك من أين وافى؟
    لا، ولاحمنت إلى أين آبا..

    ربما ظن أنه كان فجاً..
    وانثنى كي يطيب، والآن طابا

    * * *
    والذي لا يراه قال: رآه
    والذي شمه يقيناً تغابى

    قيل ينهل من عيون الأماني
    قيل يسري تحت السطوح انسرابا

    قيل من ظنه سيرنو إليه
    يملك الحالم الغيوب اغتصابا

    قيل من أصدق العلامات عنه
    صخرةٌ كالقطار تعلو شهابا..

    قيل بل أنجم تحول كؤوساً
    ورؤساً لا تستقل الرقابا

    قيل بل نم عنه، وقتٌ تجزا
    ساعداً مديةً، ووجهاً ضبابا

    قيل أهدى علامةٍ عنه طفل:
    يحتذي غابةً، ويطوي العبابا

    عبهري، سفرجلي المحيا
    مقلتاه، تعنقدان الرغابا

    وله لحيةٌ وتسعون ثدياً
    وفم، يمسخ الأفاعي قبابا

    * * *
    قيل تنشق بذرةٌ عنه يوماً
    قيل تدمي البروق عنه السحابا

    ربما كان تحت حزن الدوالي
    وقريباً يجتاز، ذاك الحجابا

    * * *
    قيل من أبعد الغرابات يدنو
    يعجن الضوء والندى والترابا

    يغزل البيد برتقالاً وورداً
    يحمل البحر، في يديه كتابا..

    يدخل العشب، يركض فيها
    يستحيل الهبا غصوناً كعابا..

    * * *
    قيل يغشى بيوت (صنعا) صباحاً
    قيل يغشى ليلاً (أديس أبابا)

    قيل فجراً يزف (بيروت) أخرى
    وإلى (تل ابيب) يحدو الخرابا..

    قيل يمحو مجاعة (الهند) صيفاً
    قيل يستهل هنداً شبابا

    قيل من خارج التقاويم يأتي
    من وراء الحساب، يلغي الحسابا

    يبدع العالم الصديق، وينسى
    ثانياً، ثالثاً، نعاجاً، ذئاباً..

    طاوياً، كل من دعوهم، رؤوساً
    دافناِ، كل من تسموا ذنابي..

    * * *
    وسيبدو عاماً، أشذ صبي
    أو يسمى: أحنى عجوزٍ تصابي

    ثم يبدو غير التي لقبوها
    ثورةً، غير ما دعوه انقلابا..

    ويرى من وضوحه كوليدٍ
    يرتدي عريه الطفولي ثيابا

    قيل هذا، وتارةً عكس هذا
    ليت شعري: أذاك، أم ذا أصابا؟

    (مايو 1981)

    * * *

  • 382 غير كل هذا

    ديوان ترجمة رملية لأعراس الغبار >  غير كل هذا

    مثلما تهرم في الصلب الأجنة
    تأسن الأمطار، في جوف الدجنه

    يحبل الرعد، ويحسو حمله
    ثم يستمني غباراً وأسنه

    تمطر الأعماق، نفطاً ودماً
    يحلم الغيث، بأرضٍ مطمئنه

    يعشب الرمل، رمالاً وحصىً
    يستحيل الغيم، بيداً مرجحنه

    ينطوي البرق على إيماضه
    كتغاضي (عمةٍ) عن طيش (كنه)

    ينشد الحلم البكارات التي
    لا يعي النخاس، من ذا باعهنه

    تأكل العفة من أثدائها
    يغتدي القتل على المقتول منه

    * * *

    من هنا؟ سوق البغايا وحده
    يكتب التأريخ، يتلوه لهنه..

    هل دم الإجهاض أمسى أحرفاً؟
    للكتابات، لزوجاتٍ وصنه

    فيلوك الصمت شدقيه، كما
    تعلك الخيل الجريحات الأعنه

    مثلما يستضحك القش، كما
    ينفث المصدور أوجاعاً مرنه

    * * *

    يبتغي النبت الندى، أرضاً سوى
    هذه الموطوءة القلب المسنه

    وسماءً غير هذي تنجلي
    من وراء الحلم، من تحت الأكنه

    وربى أخرى صبايا، للضحى
    من حكاياهن لثغاتٌ وغنه

    عالماً يأتي بلا بادرةٍ
    زمناًً من لا متى، من لا مظنه

    (مايو 1981م)

    * * *

  • 383 صعلوك..من هذا العصر

    ديوان ترجمة رملية لأعراس الغبار >  صعلوك..من هذا العصر

    كان يحس أنه خرابه
    وأن كل كائنٍ ذبابه

    وأن في جبينه غراباً
    يشوي على أنفاسه غُرابه

    وأنه نقابةٌ طموحٌ
    وشرطةٌ تسطو على النقابه

    وبعضه يلهو بهجو بعضٍ
    وكله يستثقل الدعابه

    * * *
    وتارةً يرى البحور كأساً
    في كفه والعالم استجابه

    وأن في قميصه نبياً
    أغنى عن الإعجاز والصحابه

    وأن إبليس على يديه
    أتى يصلي صادق الإنابه

    وأن “هارون الرشيد” يرجو
    في بابه التشريف بالحجابه

    وأن أنف الشمس كان فأساً
    من نصف قرنٍ طلق الحطابه

    * * *
    وتارة يرنو إلى الثريا
    كحائضٍ نامت، على جنابه

    تبدو لعينيه “بنات نعشٍ”
    خناجراً غيمية الذرابه

    ما طالعي؟ كانت تقوم أمي:
    مكتوبةٌ على ابني “الشقابه”

    رأت أبي كان عصاً “لفيضي”
    وراعياً عند “بني ثوابه”..

    وعند “ثاوي يفرسٍ”يرجي
    -مثل ابن خالي- (مهنة الجدابه)

    كانت تود أنني فتاةٌ
    تغوي ثرياً، تحسن الحلابه

    * * *
    نجمي هنا، أرض الحمى سمائي
    هذا نداه، أنجم مذابه

    وبرج عشقي، مقلتا “أزالٍ”
    وبرج حظي في يدي (رصابه)

    المنحنى، في موطني شهابٌ
    زاهٍ، وكل ربوةٍ شهابه

    * * *
    وههنا يصغي، يحس هجساً
    ينشق من قرارة الكآبه

    فيلمح المآذن استحالت
    مشروع برقٍ، يبتغي سحابه

    يخال صفر الرابيات تبدو
    عرائساً، وردية الصبابه

    * * *
    يحكون عنه: أنه فقيرٌ
    ونادراً ما يأكل القلابه(5)

    وغالباً يمسي بلا عشاءٍ
    عن نفسه ساهٍ، عن القرابه

    وأنه يثني العقاب عنه
    ولايمد الكف للإثابه

    وأنه يشتم كل وكرٍ
    وأنه يرتاد كل غابه

    يستبطن المسارب الخفايا
    من قعرها، في أول انسرابه

    لذا رأوه، أخطر الحزانى
    لأنه مستغرب النجابه

    لأنه، من نفسه عليها
    يخشى، ولا يسترهب الرهابه

    * * *
    من ذلك الصعلوك؟ صار هماً
    وكان يوماً، تافهاً لعابه

    بأمه، كان (الفقيه) يزري:
    بشراك بابن الخير يا “كعابه”

    وكان يدعى في صباه، نحساً
    فصار يدعى، حامل الربابه

    وكان يعطي الفعل حرف جر
    ولايرى للمصدر انتصابه

    ومثل شيخ النحو، كان يحكي:
    تأنيث بابٍ -يا بني- بابه

    ومن أسامي النابغين يروي:
    (السهروردي) و”ابن خردذابه”

    * * *
    واليوم يغلي وحده كسفرٍ
    للريح يروي: أغرب الغرابه

    يلقي “سهيلاً” فحمه ويبدي
    نجماً يعير الشارع الثقابه

    يمحو تواريخ التي ستأتي
    ويبتدي مستقبل الكتابه

    (يوليو 1981)

    * * *

  • 384 قراءة.. في كف النهر الزمني

    ديوان ترجمة رملية لأعراس الغبار >  قراءة.. في كف النهر الزمني

    هل هذا الجاري مفهوم؟
    يبدو مجهولاً، معلوم

    صنعائياً من “روما”
    أمريكياً من “مخزوم”..

    عيناه في إبطيه
    وله أنفٌ كالقدوم

    قدماه حرف جر
    فمه كالفعل المجزوم

    * * *
    أدهى من رأس الأفعى
    أنمى من شجر الزقوم

    أجلى من سقف المقهى
    أخفى من أوهام البوم

    وأنا، ما بين الخافي
    والبادي فيه، مقسوم
    * * *
    يستخفي حيناً، يبدو
    حيناً، شيطاناً مرسوم

    آناً عينياً، آناً
    شكلاً غيبياً مزعوم

    يرنو كثقوب المبغى
    يومي كالطيف المجذوم

    يصبو كالشيخ الفاني
    يبكي كالطفل المفطوم

    هل ذا الجاري يجري
    أو أن المجرى مركوم؟

    يمتد هنا مسئوماً
    وهناك يعيد المسئوم

    ينحل شكولاً شتى
    يبدو منثوراً منظوم..

    فعلاً لا أفعال له
    حالاً مجروراً مضموم..

    عنقاً مقطوعاً، رأساً
    برقابٍ أخرى مدعوم

    إطلاقاً، لا صوت له
    موتاً ذا صوتٍ مبغوم

    يبدو ملهى في “دلهي”
    قصفاً ودماً، في “السلوم”

    مذياعاً في (هولندا)
    كعطاس المبغى المزكوم..

    في “واشنطن” اسطولاً
    ينوي إبرام المبروم..

    أيشن هجوماً؟ ومتى
    أجلاه الشرق المهجوم؟

    يحتل المحتل به
    يقتاد زمام المزموم

    ألهذا الجاري صفةٌ
    أله تاريخٌ موسوم؟

    يمسي كبشاً في “صيدا”
    يغدو ثوراً، في “الخرطوم”

    سوقاً حراً في “نجدٍ”
    “ضباً هزروفاً” مخطوم

    ريماً وجرياً “كلباً”
    كندياً يدعى “برهوم”..

    فرواً رومياً يكسو
    بيضات الخدر المعصوم

    “جملاً” لا يرعى “شيحاً”
    لا عهد له “بالقيصوم”

    لا يدري شيئآً إلا
    خلع السروال المنهوم

    * * *
    يدعى شيخاً في “طنطا”
    إفيونياً في “الفيوم”
    “حافرم” من ذا؟ سموه
    فراماً صار المفروم

    في “ديفد” أمسى كنباً
    في “سينا” نصراً مهزوم

    * * *
    هذا الجاري يجري من
    قدميه حتى البلعوم

    حيناً لا إيقاع له
    حيناً ذا نبضٍ منغوم

    حيناً وجهاً مشتوماً
    حيناً أزرى من مشتوم

    يبدي تسجيم الفوضى
    ويغطي القبح المسجوم

    ويخاف ذباب المقهى
    ويغذي فيه الجرثوم

    * * *
    أتلو كفيه فصلاً
    من سفر الآتي المحتوم

    يرتد جداراً، يلوي
    زنديه جسراً ملغوم

    يضحي في “ميدي” نفطاً
    يمسي تبغاً في “الأهنوم”

    تكساً في “صنعا” رقماً
    بالحبر الثلجي مرقوم

    يعدو هراً حجرياً
    يستلقي فاراً مرجوم

    ويلوح “بسوساً” أخرى ألظلم
    لديها المظلوم

    يغدو صلحاً أخوياً
    لبقاً في حسم المحسوم

    * * *
    يعلو كالبحر الطاغي
    يقعي كا “الكوز” المثلوم

    أملى بكنوز الدنيا
    أعرى من كوخ المحروم

    * * *
    ماذا أحكي؟ عن ماذا؟
    زمني كالكهف المردوم
    مفصوم عن شطيه
    وأنا عن نبعي مفصوم

    هل يأتي زمنٌ يمحو
    من لغتي: (كان المرحوم)؟..

    * * *
    أأثير هموماً كبرى؟
    من ذا بالكبرى مهموم؟

    السوق الهم الأطغى
    لا ملتزماً، لا ملزوم

    * * *
    : إني مهضومٌ: وأنا
    من ذا للوطن المهضوم؟

    المعروقي الأيدي
    أحد عن حس مغموم؟

    هل تستدعي تصديقاً
    يا هذا الصدق المذموم؟

    * * *
    ماذا أحكي؟ هل أشجي
    هذا الإسمنت المتخوم؟

    أروي للشؤم الآتي
    تأريخ الماضي المشؤوم

    * * *
    أهذي وحروفي تهوي
    حولي كالطير المسموم

    حتى ظلي متهمٌ..
    وقميصي مثلي موهوم

    * * *
    من أين أنادي؟ حلقي
    بالشمع القاني مختوم

    وعلى صدري برميلٌ
    بنجيع بلادي موشوم

    ولماذا لا تبقي لي
    هذياني، إني محموم

    قل ما تهوى، لكن قل
    بفم ليس له حلقوم

    * * *
    هذا المذياع الأمي
    أقوى من صوتي المكلوم

    هل هذا الإسمنت فمي
    وعلى أنفاسي قيوم؟

    ألهذا الجاري نسبٌ؟
    أم هذا ظرف مقحوم؟

    * * *
    ويحي، من ذا ينسيني
    أني كبلادي معدوم؟

    وبأني مبيوعٌ من
    بياعٍ مثلي مقصوم

    وبأني محكومٌ في
    كفي مأمورٍ محكوم

    وبأني بيدي غيري
    من لحمي ودمي مطعوم

    يا من أجلى “إبرهةً”..
    أضحى عربياً “يكسوم”

    * * *
    أدري أني محتل
    وأرى فوقي خيل الروم

    أدري، لكن ما الجدوى
    من علمي، إني موصوم؟

    هل يبنيني إدراكي
    أني من أصلي مهدوم؟

    هل يشفي من أزماتي
    ترديدي: أني مأزوم؟

    ماذا تحكي، لا تغضب
    لم أكشف أمراً مكتوم

    عملي! أعطي للمرئي
    سمةً، لغة للمشموم

    أتلو كفاً مائياً..
    وفماً كالصخر المخروم

    حيناً استقري عقماً
    حيناً تأكيداً مسقوم

    فأحس جذوراً خلفي
    وأشم أمامي برعوم

    * * *
    هل تستجلي ما يخفى
    عنا، يا أكال الثوم؟

    عفواً: إني عفريتٌ
    عرافٌ، واسمي “يحموم”

    أستنبي ما لا ينبي
    وأعي ما تحت الحيزوم

    * * *
    هل تحت الإسمنت دمٌ
    يغلي، وطفورٌ مكظوم؟

    ما لا يجري مفهومٌ..
    الجاري غير المفهوم
    * * *

  • 385 الصمت المر

    ديوان ترجمة رملية لأعراس الغبار >  الصمت المر

    هاهنا أقعت اللغه
    كالؤوس المفرغه

    كشظايا صفيحةٍ
    كالعظام الممرغه

    واستحالت حصىً بلا
    أي دعوى مسوغه

    * * *

    لا استحرت بحرقتي
    لا استجابت لدغدغه

    ساهدٌ استفزها
    وهي في الموت مولغه

    يلهث الصمت فوقها
    كالرئات المتبغه

    شهوة البوح داخلي
    صخرةٌ ذات بغبغه

    أو جلودٌ تفسخت
    تحت إرهاق مدبغه

    * * *

    ليس في الصمت حكمةٌ
    لا البلاغات مبلغه

    فلسف الرمل يا حصى
    وامنح الريخ أدمغه

    لا أنجلى المختبي ولا
    غطت القبح مصبغه

    (نوفمبر 1982)

    * * *

  • 386 بنوك.. وديوك

    ديوان ترجمة رملية لأعراس الغبار >  بنوك.. وديوك

    لنا بطونٌ.. ولديكم بنوك
    هذي المآسي، نصبتكم ملوك

    حرية المقهى لنا، عندكم
    لكل بابٍ داخلي فكوك
    * * *

    من أي صنفٍ أنت؟ إني إلى
    شيءٍ سوى ما في يديكم هلوك

    لكم ثراءٌ، ولنا ثورةٌ
    من أنت حتى تدعي، من أبوك؟

    نصف يدي مغلولةٌ ههنا
    ونصف زندي، عامل في “تبوك”

    أنا الحواري، والقرى كلها
    -كن مثل إحداها، سكوتاً تروك

    -لأنني منها، فمي بعضها
    – يخاف لا تدري غداً أين فوك

    * * *

    لنا شروطٌ، ولكم شرطةٌ
    تخط بالكرباج (حسن السلوك)

    لنا نقاواتٌ، لكم عكسها
    فأينا أولى بمنح الصكوك؟

    * * *

    عن من تعادي؟ كل من تجتبي
    ملوا نضالاً، والعدا أنهكوك

    يا ضعفنا، تبدو لهم سافراً
    يا ضعفهم، هيهات أن يدركوك

    * * *

    لكم سجونٌ، ولنا عنكمو
    تجادلٌ مثل نقار الديوك

    عنا تلوكون اللغات التي
    نعني سواها، أي همسٍ نلوك؟
    * * *

    ظنونكم عنا يقينيةٌ
    يقيتنا عنكم، كخوف الشكوك

    لنا مناقيرٌ حماميةٌ
    لكم مدىً عطشى، وجبن سفوك

    * * *

    أنتم تحوكون الذي لا نرى
    وتستشفون الذي لا نحوك

    هذا انتهاكٌ، بل عدائيةٌ
    كل ضيائي عدو هتوك

    قل غير هذا، لا تقل غيره
    ملكت من يبغون أن يملكوك

    (يونيو 1980م)

  • 387 زامر الأحجار

    ديوان ترجمة رملية لأعراس الغبار >  زامر الأحجار

    موطني أدعوك، من تحت الخناجر
    وإلى زنديك، من موتي أسافر

    هامتي عنوان بيتيك، وفي
    قبضتي من سرة الريح، تذاكر

    من سعال التبغ أطفو، وإلى
    جبهتي أخرج من جوف المحابر

    تخبز الكثبات في جمجمتي
    وجهها خارطةً حمر الدوائر

    * * *

    المسافات معي تمشي، إلى
    ركبتي، تأتي، ومن ساقي تغادر

    من هنا، من نصف وجهي، وإلى
    نصف وجهي سائرٌ، والدرب سائر

    من هنا آتي، وآتي من هنا
    دلني أرجوك: من أي المعابر؟

    فيك أفنى، أرتمي سنبلةً
    تحفر الأشواك من منقار طائر

    عن ندى يغزلني مزرعةً
    ومهباً يعزف الريح بشائر

    فيك أمتد طريقاً، أنهمي
    كرمةً، عصفورة، مشروع شاعر

    * * *

    هاك، شكلني كتاباً، وردةً
    أي شيءٍ، أي تشكيلٍ مغاير

    ليس تدري الآن ما اسمي؟ ربما
    كنت من “عمران” أو من “بيت عامر”

    صرت لا أجدي، أعدني إنني
    جئت من أم -كجلد الرمل- عاقر

    قمطتني نبتةٌ بريةٌ
    رحبت عوسجةٌ بابن الأكابر

    * * *

    أرضعتني الريح مزماراً، وفي
    ذلك المربى دعاني السفح، زامر

    علمتني أدخل الكنه، إلى
    أسفل الأخفى، ليرقى كل غائر

    فتهجيت كتاب المنحنى
    قبل أن تحلم بالحبر الدفاتر..

    ولذا أعشبت في ساقيك
    يا موطني، أقمرت أشواقاًمواطر

    فلماذا عنك هاجرت أنا
    وإليك ارتحلت أعتى المهاجر..

    موطني: هل أكشف الغور، أما
    يوجز البرق المصابيح السواهر

    منك أدعوك، وصوتي أنت
    يا أقرب القرب، وبعد المغامر

    ولعينيك أغني، وأنا
    أنطفي وحدي، كأعقاب السجائر

    * * *

    أحتسي طعم رمادي باحثاً
    في أسى الذرات عن شوق المجامر

    أشتري من شارع الأمس فماً
    معزفاً، أغنية عن “ظبي حاجر”

    جرةً، جاريةً كوفيةً
    أنجماً، أخيلةً حمر المشافر

    أمضغ القات الذي يمضغني
    أمتطي جنيةً مثلي تحاذر

    أسأل المذياع: ماذا يدعي؟
    من صديق الشعب، وفي دور الأوامر؟

    يستحيل الصمت نهدي عانسٍ
    أحتمي من ساعديها بالضفائر

    أغتفي، يتكىء النوم على
    نعل شرطي، على أهداب ساحر

    * * *

    أدخل الأحجار، أنمو، أرتدي
    عريها، تلبسني مثلي تخاطر

    تبتني هجس الحصى فلسفةً
    للتحدي، تنتقي نوع المنابر

    تهتك الاسرار، تدوي، يا ربي:
    السلام القتل، والقتل المتاجر

    آخر الحرب كبدء الحرب، لا
    يبتدي النصر، ولا للحرب آخر
    * * *

    يرتقي العهر على العهر، إلى
    آخر المرقى، لأن السوق عاهر

    لأن الشارع الشعبي، على
    زحمة الأهل، لغير الأهل شاغر

    * * *

    هذه “الموضات” أعراس بلا
    أي عرسٍ، هكذا الموت المعاصر

    أيها السواق: من ذا ههنا؟
    إنها ملأى، ولكن من أحاور؟

    ذلك الدكان يعطي غير ما
    عنده، هذا بلا حذقٍ يناور

    ذاك ماخورٌ بلا واجهةٍ
    ذاك ذو وجهين: ودي ونافر

    كل شيءٍ رائجٌ منتعشٌ
    هل سوى الإنسان معروضٌ وبائر؟

    تلك أصوات أناسٍ، لا أعي
    أي حرفٍ، أصبح الإسمنت هادر

    يا فتى: يا ذلك الآتي، إلى
    غيره يرنو: صباح الخير “صابر”

    سنةً تبحث عن بيتٍ؟ سدىً
    أتعب التفتيش “مسعود” و”شاكر”

    إن هداك البحث عن بيتٍ، إلى
    مقعدٍ في أي مقهى، لست خاسر

    * * *

    أصبح المحتل طين الأرض، عن
    طينها، واحتل “مريان” و”ظافر”

    صار”رمسيساً” و”عمراً” وارتدت
    قامة التلمود “يس” و”فاطر”..

    وبنى (بيجن) ب(جيهان) على
    لحية (السادات) زفي يا مساخر

    لم يعد هذا (أبو الهول)، هنا
    (حائط المبكى)، أفق يا قبر ناصر

    * * *

    تسأل الأحجار: ماذا يختفي
    يا درامى، تحت ألوان الستائر؟

    ومن السادات منكم؟ كلكم
    واحدٌ كاثنين: موحٌ ومباشر

    * * *

    صلوات النفط سفيانيةٌ
    والمصلى، لحم “عمار بن ياسر”..

    إنها نفس الضحاياوالمدى
    آخر التجديد، في شكل الوتائر

    * * *

    ههنا الثروة فقرٌ زاهرٌ
    وكذا الفقر هنا زاهٍ وزاهر

    يا (بهاء الدين) ماذا تنتقي؟
    من تغني؟ وكلا البدرين حاضر

    * * *

    أسمع الأحجار من داخلها:
    أينا الملعون؟ من أفشى السرائر؟

    أصبحت -ياكشف- حلاجيةً
    فتحت للريح أبواب الظواهر..

    * * *

    ما الذي يدوي؟ صخورٌ سيدي
    ذاك أدهى ما جرى، سخفناً نكابر

    أسكتوا -كالناس- أحجار الربى
    قبل أن تنشق أحجار المقابر

    أقتلوها الآن، ماذا ندعي؟
    سجلوها ثورةً من غير ثائر

    هجماتٍ ضد مجهولين، من
    غيركم أدى بقاموس العساكر

    * * *

    تصرخ الأحجار: يا أبطال في
    غير حربٍ، يا مغاوير المسامر

    يا رجالاً في الملاهي، يا دمىً
    في سواها، من ملفات المخافر

    كسرتكم فوضويات المنى
    يا (أفندم) لم تعد فيك مكاسر

    * * *

    اهربوا ناريةً أعينها
    ولها كالجن، أيدٍ وحناجر

    أهي خيلٌ؟ شبه خيلٍ، إنما
    ذات بعدٍ تاسعٍ، في بطن عاشر

    تقرأ الأعشاب من أعراقها
    كي تعيد الأرض تركيب العناصر

    ترسم التصهال جغرافيةً
    تبتدي عالمها من كل حافر..

    * * *

    خبأتني هذه الأحجار، في
    صلبها، أضحت بلادي والعشائر

    عن فمي تعلن عن إنصاتها
    أغتلي هجساً، وعن همسي تجاهر

    أنا والأحجار نأتي، نبتدي
    موطناً بكراً، ونختار المصائر..

    هل لذا الوادي سوى أحجاره
    وزمان الصخر أدرى بالضمائر

    * * *

  • 388 ليلة من طراز هذا الزمان

    ديوان ترجمة رملية لأعراس الغبار >  ليلة من طراز هذا الزمان

    دنت كزيارة الجاسوس
    ومثل غرابة الكابوس

    وكالرحالة المحني
    ومثل الهارب المحبوس

    ومثل توغل المحتل
    مثل تعقل الممسوس

    * * *

    تخالسني كأمي
    يقلب دفتراً مطموس

    تحن إلى المدى الأخفى
    وتستغني عن الملموس

    كوحشٍ ما له وصفٌ
    ولا رسمٌ على القاموس

    كأن الأنجم الكسلى
    حصىً في لحمها مغروس

    * * *

    مساء الخير: من جاءت؟
    حضوري غائبٌ ميئوس

    ستسخن، أنت مبرودٌ
    أحس بأنني مشموس

    تريد حليب شحرورٍ
    وكوزاً من دم الجاموس

    * * *

    فمن قبلي رأى الأفعى
    تحاكي الشيخ (جالينوس)؟

    صهٍ: لا تجتلب (رسو)
    ولاتعرف (إكدياموس)

    أبوك الفارس الملغى
    وأنت الفارس المفروس

    * * *

    أتت منحوسة المسرى
    إلى ذي الطالع المنحوس

    بكفيها توابيتٌ
    وخلف قذالها فانوس

    بفيها (سورة الأعلى)
    وتحت قميصها (باخوس)

    وعقدٌ فوق فخذيها
    كخفق المشعل المنكوس

    * * *

    لها عشرون حافوراً
    وأنف يشبه الدبوس

    وأيدٍ عوسجياتٌ
    وحيداً للقفا معكوس

    عليها يرتخي ثديان
    مثل الجورب المغموس

    وبين قوامها والظل
    شيءٌ ثالثٌ مدسوس

    * * *

    غريبٌ أمرها عندي
    وعند أميرها مدسوس

    رهيبٌ سرها عندي
    وعند سريرها مأنوس

    * * *

    أمرت مثلها؟ كلا
    لماذا اجتازت الناموس؟

    أتأرق تحتها (صنعا)؟
    هل امتدت إلى “الأعبوس”؟

    أجاءت منزلي سراً
    فلا حساً ولا محسوس؟

    ولا مستنبئاً عنها
    ولاحدساً ولامحدوس؟

    لماذا لا يعيها الباب
    إلا كالصدى المهموس؟
    مشت، لا استموأت “سوسو”
    عدت، لا استبحت “دعبوس”

    ولانادت زوايا البيت
    يا (باهوت) يا (قدوس)

    ولاشمت محياها
    نوافذ جارنا المحروس

    * * *

    أتت، لا أخبر الممشى
    ولا دق الحمى الناقوس

    أأعطت كل صرصورٍ
    فماً من صمتها مقبوس؟

    وباتت ضيفتي وحدي
    وبت رئيسها المرؤوس

    برغمي ترتدي وجهي
    وألبس جلدها الملبوس

    فمن منا على الثاني
    تطفل؟ أينا المهووس؟

    (يوليو 1982)

    * * *

  • 389 عام بلا رقم

    ديوان ترجمة رملية لأعراس الغبار >  عام بلا رقم

    وجهه بيدر الجثث
    ظهره مركب التفث

    صبحه الراث كالدجى
    وهو من وقته أرث

    كل مجرى فصوله
    جدث يقتفي جدث

    أهو أقصى مدى الأسى؟
    أم بدائية العبث؟

    جاء من جوف مسلخٍ
    وإلى المدية انبعث

    يسهل الخبث أعزلاً
    تب من سلح الخبث

    كيف وافى؟ من الذي
    قاد مجراه واستحث؟

    أقسم الكل أنهم..
    ما دروا: أيهم حنث؟

    * * *

    قيل: أبقاه فاتحٌ
    في الشقوق الذي نبث

    قيل: ألقاه عاصفٌ
    قيل: مستنقعٌ نفث

    زمن القحط إن سخا
    عزز الغث بالأغث

    * * *

    أي ريحٍ جرت به؟
    أيها زاول الرفث؟

    يازفاف الغبار: من
    أولد الريح؟ من حرث؟

    ضاجعت ثم نفسها
    بعضها بعضها طمث

    * * *

    من تبنى الذي أتى؟
    أين عن وجهه بحث؟

    قيل: من هاهنا التوى
    قيل: من لا هنا لهث

    بات عيناً وما درى
    عاد كعباً وما اكترث

    كان عاماً بلا مدىً
    صار قرناً وما انثلث

    قيل: سموه حادثاً
    قيل: غير الذي حدث

    * * *

  • 390 أطوار بحَّاثة نقوش

    ديوان ترجمة رملية لأعراس الغبار >  أطوار بحَّاثة نقوش

    كما تعرف النبع قبل الورود
    تشمُّ مِن السفح ريح النجودْ

    تجىء مهرِّبةً ذات يوم
    وتُمسي مواطنةً ذات جُودْ

    تبيض هنا وهناك الرَّصاصَ
    وترمي هنا وهناك النقودْ

    * * *

    ويوما تُسمَّى “لميساً” ويوماً
    تُسمَّى “فُنَيدا” ويوماً “فُنُود”

    وعن كل شيءٍ تعيد السؤال
    وتبدي غباءاً أمام الردود

    أتسهو عن “القات” يا عم يوماً؟
    أعد إليه الثواني (عدود)!

    وكيف تراك – لدى مضغه؟
    أميراً على جن (بيت العرود)!

    وكم عمرك الآن؟ سبعون عاماً
    عرفت الأعاجيب: حمراً وسود!

    * * *

    تكسرت في زمن “الانسحاب”
    ويوم “كريتر” ذبحت اليهود

    بذي “السك” أحرقت طيارتين
    على الانجليز، السلاح الزنود

    * * *

    أراكم حفاةً.. نعم كالنمور
    لأهل الغنى، لبس تلك “المسود”

    وهل تقصدون من الاغتراب
    سوى المال؟ إن المعنى قصود

    * * *

    وأنت كجدك، يا ذا الفتى؟
    كنفسي، على كل عاتٍ حقود

    تراك، وأختيك ند “الإمام”؟
    أضيفي إلينا ألوف الندود

    * * *

    وتستنفر المستريب الصموت
    بإطرائها كل حاكٍ سرود:

    (حكى لي “أبو عامرٍ” قصةً
    سأكتبها برحيق الخلود)

    تجس نبواءات “بيت الفقيه”
    لكي تدخل الغيم قبل الرعود

    وعند “المقذي”ترى داءها
    وعند “الشبيبي” تداوي الكمود

    وفي طب “حيفان” و”الحيمتين”
    تغوص من الساق حتى الخدود

    * * *

    (هنا.. كل شيءٍ على ما يرام
    لكل عنودٍ نقيضٌ عنود

    إذا ما استحال الموالي عدواً
    فسوف يكون المعادي سنود

    عما ههنا للعداوات حد
    وبين الأخوات أعتى الحدود

    يقولون: لابد.. لابد.. لا..
    عن البت يستحمسون البدود

    أرى بعضهم نبت هذي السنين
    وأكثرهم نبت عهد الجدود)

    * * *

    تضاهي أوان “المقيل” الثقاة
    فتروي تواريخ كل العهود

    وتبدي اختصاصاَ بعلم النقوش
    وأقوام “عادٍ” وأصحاب “هود”

    * * *

    (هناك.. بنوا مئتي معبدٍ
    وكانوا هنا، يعصرون القنود

    وكانوا يصلون قبل الصباح
    وبعد الضحى، يدبغون الجلود

    يحوكون في “الجند” المذهبات
    وفي “مأربٍ” ينقشون اللبود)

    * * *

    وتسرد: كيف مضى “آصف”
    ب(بلقيس) ثم تلتها “السدود”

    و”ذي حود” تحكي: على أنه
    لتوحيده الله سموه “حود”

    وتزعم: أن “يريماً” مريمٌ
    وأن اسم “عبهلةٍ” “ذا العبود”

    وأن “أبا حميرٍ” شافعي
    و”خولان” من قبل “زيدٍ” “زيود”

    و”ذو يزنٍ” نشد المستحيل
    لكي ينجلي بعد، موت النشود

    وتخبر عن “سبأ”: كم سبى
    وكيف طوى “حضرموت” البرود؟

    (أكانوا سيوفاً، كما يدعون؟
    فكيف استحالوا بقايا غمود؟

    أأتقنت سحر الزمان الدفين؟
    لكي تقتدي بالقبور المهود)

    * * *

    وتبدي، بأن اهتماماتها
    “معينيةٌ” عن أبيها تذود

    وقد تدعي أنها من “زبيدٍ”
    وأن خؤولتها من “عتود”

    وأن أباها تحدى “الوشاح”
    وضاح ابنها في ليالي “الجرود”

    وأ أخاها اشترى “موتراً”
    قبيل “الحلالي” وباع “القعود”

    وعن “فيد” “صنعا” سوى الناس عف
    وعادوا سواه بأغلى “آلفيود”
    * * *

    تغني كأهلي: أيا (دان دان)
    وكالأهل تدعو الجبال: “الحيود”

    وك”بن الغويري” تشد “العسيب”

    وتلبس كا “العنسيات”العقود

    فتغدو يمانيةً من زجاجٍ
    مقاتلةً لا يراها الجنود..

    وبعد ثلاثين شهراً تغيب
    وتأتي كأخرى، كطيف شرود

    (مهماتي اليوم: شتى الوجوه
    فكم أشتري؟ وعلى كم أجود)؟

    وتنسل كالهارب المطمئن
    وتختال كالياسمين الميود..

    * * *

    تراها فتاةً بعيد الشروق
    وقبل العشية زوجاً ولود

    لها من جلود التماسيح ثوبٌ
    وقبعةٌ من سراب “النفود”

    * * *

    تلوح “سويديةً” تارةً
    وحيناً عليها اصفرار “الهنود”

    وتبدو هناك ابنة “العم سام”
    وتبدو هنا، ناقةً من “ثمود”

    وآناً تمر كسيارةٍ
    وترنو كغزلان وادي “زرود”

    وطوراً تحجر لمح العيون
    وطوراً تعلب فيها الهجود…

    * * *

    وبعد ثمانين يوماً تغيب
    وتأتي.. عليها مئات النهود!

    (أرى ذلك “البنطلون” أشرأب
    على ذلك “التكس” كبش سفود)

    * * *

    يصير اسمها العربي (رندةً)
    ومن دللوها دعوها (رنود)

    وكان اسمها في “دبي” “أم زينٍ”
    وفي سوق “طهران” “قوت الكبود”

    وكان اسمها في “المعادي” “حناناً”
    وفي “الأحمدي” كان “أم الرشود”

    وكانت بيروت (دوبو فوار)
    وفي “خور مكسر” “مرجريت يود”

    * * *

    لها سلةٌ من فتات اللغات
    وقارورةٌ من حليب الوعود

    تسمي حسيناً “هسيناً”كما
    تنادي بايثار: فردٍ فرود…

    فيعجبها مثل “عبدالغفور”
    ويرعبها مثل “سعد الكدود”

    تقول لذا: ألف شكرٍ، تقول لهاتيك
    “مرسي” لهذين: “قود”

    ومن كتب الحب تشري الرخيص
    وتبتاع ليلاً.. بيبع الهمود

    * * *

    هنا تفتح الجيب والساعدين
    هنا.. تفتح النار ذات الوقود!

    وتندس بين الحمى والحمى
    وبيني، وبيني تشق اللحود

    وتسخو على كل ذي ثروةٍ
    وتستنزف السيد بن المسود
    * * *

    (ل ماذا أجود، ولا أستميل
    كثيراً، وأهوى، وألقى الصدود؟

    أما آد هذي الرياح الغبار
    وحجب المدى؟ أي شيءٍ يؤود؟)

    ترى الحل نفي الحمى من حماه
    وتبديل أبنائه بالوفود!!

    * * *

    يخوفها بائع “السندويتش”
    وترتاب في بائع “العنبرود”

    وتخشى الزقاق الترابي، تراه
    يراوغها.. كالرقيب الكيود

    * * *

    (أأقتاد كل أنوف القصور
    ويوقعني شارعٌ في القيود؟)

    فتخفى كعادتها مدةً
    وتأتي كأخرى، كشيخٍ صيود

    لها لحيةٌ كالنبي الكذوب
    وظهرٌ كظهر الحصان (الحرود)

    وكفان -رغم التماع الحلى-
    بنانهما من أفاعٍ ودود!!

    أواناً تناهز منهى السقوط
    وآناً تناهز بدء الصعود!

    بأسمار “صنعا” تسمى المدام
    وفي “باب موسى” تسمى “حمود”!

    وتدعى ب “صعفان” دكتورةً
    وتدعى ب “همدان” ذات الجعود

    “بوادي بنا” ينكرون اسمها
    وفي الجوف يدعونها: (عقنفود)

    وتدعى “الخبيرة” في “البرتكول”
    وفي غيره أم أخفى الجهود؟

    ترود هنا، مصيفاً في الشتا
    وتشتو مصيفاً، ف ماذا ترود؟

    تشتي، وتصطاف كل الفصول
    سوى الحر تبغي، وغير البرود

    * * *

    على منكب الجوع ترقى.. ترى
    على من ستقضي؟ ومن ذا تقود؟

    تجيء كباحثةٍ مرةً
    وأخرى كمبحوثة لا تعود!!

    * * *

  • 391 حوارية الجدران.. والسجين

    ديوان ترجمة رملية لأعراس الغبار >  حوارية الجدران.. والسجين

    هيّا يا جدران الغرفة
    قولي شيئاً، خبراً، طُرفه

    تأريخاً منسيّاً، حُلُماً
    ميعاداً، ذكرى عن صدفه

    أشعاراً، سجعاً، فلسفةً
    بغبار الدهشة مُلتفَّه

    أنغاماً تعلو قامتُها
    وتحلُّ ضفائرها اللَّهفه

    * * *

    هَيّا يا جدران ابتدعي
    أصواتاً، إيماءً، وجْفَه

    فجّاً أسطوريّاً. أرجو
    مِن نبت غرابته قَطْفَه

    أشواقاً، أخيلهً حبلى
    كوباً غيبيّاً، أو رشفه

    * * *

    (يا هذا تستسقي نهراً
    لا تنظُرهُ، وترى الضّفَّه

    الأنهار الكبرى تفنى
    غَرقاً، وتحنُّ إلى النطفه(

    * * *

    أترين لهذا خاتمةٌ؟
    (ماعندي للموتى وَصفَه)

    )قد يهذي البعض كمذياعٍ
    يعزو للسَّفَّاح الرأفه)

    * * *

    تحكين الآن عن الجاري
    : ألَديكِ عن الآتي نُتفه؟

    (هذي أعوامٌ، لا تمضي
    لا تأتي، لا تجري خِلفَه

    ألسقف يعي عن جمجمتي
    أسراراً، تجهلها الشُّرفه

    ترتاب الزاوية اليمنى
    في اليسرى، تتَّهم الصُّفّه

    لعروق وقاري وسوَسَهٌ
    أقوى مِن ثرثرة الخِفَّه

    أو ما تشتَمُّ شذى لغتي؟
    وتَحسُّ بأجفاني رَفَّه؟)

    * * *

    هذا المدعو جلدي: جَدَثٌ
    هذا المدعو رأسي: قُفَّه

    إني أستدعي رائحةً
    أخرى، أبغي أعلا رجفه

    عنوان البرق المستخفي
    أستملي عينيهِ خطَفه

    * * *

    (في قلبي ألسنةُ الدنيا
    لكن لفمي عنها عِفَّه

    الصمت حوارٌ مُحتَملٌ
    والهجس أدلُّ مِن الزَّفَّه

    إطلاق الأحرف حرفتكم
    اِخترت الصمت، أنا حِرفَه

    أو قل: ما اخترت ولا اخترتم
    طبَعتنا العادة والألفه)

    حسناً، ألديكِ سوى هذا؟
    (إجهادي مِن طول الوقفه

    مَن صفَّ ركامي، لا يدري
    أني أوجاعٌ مُصطَفَّه)

    * * *

    وَجَعي مثلي؟ فمن الأشقى؟
    مَن أضنى؟ مَن أعتى كُلَفه؟

    مَن أستعطي يدَه قمحاً
    ألقاني صاعاً مِن رُفَّه

    * * *

    (حرِّرني مِن هذا المثوى
    أو فاسكت مثلي يا تُحفه)

    (يونيو 1981م)
    * * *

  • 392 كُليمة.. لمقبرة خزيمة

    ديوان ترجمة رملية لأعراس الغبار >  كُليمة.. لمقبرة خزيمة

    في فمي مِن آخر القلب كُليمة
    كيف أحكيها لقلبي، يا خُزيمة؟

    انظري: كيف استحالت غضّةً
    بين صدري، وفمي، تلك النغيمه؟

    هل تقولين لقلبي عن فمي:
    (إننا كنا كندماني جذيمه)؟

    هذه البوحة أعيَت أحرفي
    ولساني، وهي في حجم اللُّقيمه

    ظَلَّ يُثنيها اختناقي بالبكا
    مثلما يجترف الطوفان خَيمه

    * * *
    كيف أحكيها؟ تعاصت، جذَّرت
    غابة في القلب، في الأجفان غَيمه

    أصبحت أُمّاً لأجيال الأسى
    في عظامي، بعدما كانت “أُميمه”

    كَبُرت صارت “زبيداً” “شبوةٌ”
    أضحت “الحيمة” فيها ألف حيمه

    * * *
    لفظةٌ كالوردة امتدت لظىً
    داخلي زوبعةٌ، كانت نُسيمه

    كوكبت كل الأسامي والكُنى
    “مسعداً” “أروى” “أبا ريّا” “نُعيمه”

    إنها أطول مِن صوتي، وفي
    أضلعي أعرَقُ مِن أدواح (ريمه)

    فالمحيها في سكوتي، ربما
    أوجَزَتْ غَور الدجى عينا نُجيمه

    مايو 1981م

    * * *

  • 393 مِن آخر الكأس

    ديوان ترجمة رملية لأعراس الغبار >  مِن آخر الكأس

    نعم، لا انتهى شيء، ولا غيره ابتدا
    لمن أشتكي؟ لا الأهل جاؤوا، ولا العِدا

    تجيءُ ملايين القبور كغيرها
    كأن الرَّدى في قبضتيها سوى الرَّدى

    لأن الغرابات التي تغزل الحصى
    عيوناً، وجوهاً، تنسج الحلم أرمدا

    * * *
    أما ههنا قتلى تروح وتغتدي؟
    وقتلٌ بألفي ركبةٍ راح واغتدى؟

    .. ومِن تحت جلد الريح يأتي وينثني
    ويأتي كما ولَّى، وينأى كما بدا

    إذن ينهمي بعض الرصاص بلا يدٍ
    فهل ترتدي سريّة الذابح الْمُدى؟

    * * *
    ومَن قولب الإعدام في غير شكله؟
    ترقّى، إلى أن أصبحت رجله اليدا

    وأضحى كألوان الأواني، لأنهُ
    تزيَّا، بأرحام الثواني توحَّدا

    * * *
    أقول لمن؟ يا ريح هل تزعمينني
    توهمت، هل أكَّدتَ أمراً مؤكداً؟

    أعَنِّي تُغنِّي الريح والرمل لا أعي
    أأنشدت؟ أم عني حصى الريح أنشدا؟

    ويجتازني غيمٌ، وتأتي روائحٌ
    يهاجسنني وحدي، ويرجعن شُرِّدا

    * * *
    لماذا يسدّ العالَم الميت درب مَنْ
    سيأتي؟ لأن المهد بالمِدفن اقتدى

    لأن الذي ألغى المسافات بينهُ
    وبين سواهُ صيَّر القرب أبعدا

    لأن لغات السوق من كل عمله
    تريد (أبا جهل) وتدعو (محمدا)
    * * *
    فمِن أين يأتي العالَم الرابع الذي
    يموت فدائياً، وينمو كمفتدى؟

    ومَن حزّ أثداء الليالي؟ مَن احتذى
    بقايا عيون الشمس؟ مَن حجَّر الندى؟

    ومَن ذا يضجّ الآن في كل بقعةٍ؟
    أنادي، ويأتي مِن سوى صوتي الصدى

    أمَسُّ فمي، هل لا يزال..؟ وأنثني
    أشمُّ ولا ريحاً، أأنفي تجلمدا؟

    * * *
    بمليون رجلٍ يركض الرعب، ينحني
    يرى، ينتقي مِن ريشهِ ما تبدَّدا

    ينحّى رداءاً، يرتدي أعيناً بلا
    جفونِ، يراوغن النعاس المسَّهدا

    يميس كستِّينيَّةٍ تشتري الصِّبا
    فيبتاعها كهلٌ، وتبتاع أمردا

    * * *
    تجيء سراويل المدينة وحدها
    مِن الريح تستجدي عَشاءً ومرقدا

    ويدخل بعض السوق أصلاب بعضِه
    وتنثال أسرابٌ مِن البُوم والحِدا

    * * *
    وتمتد أيدٍ تقتل البحث عن يدٍ
    أجابت سؤالاً، عن سراجٍ تمرَّدا

    عن النبض في ذاك الزقاق الذي التوى
    وعن حارةٍ تهوى (الغدير) و”مشهدا”

    وعن بيت شِعرٍ قيل: قدّام بابهِ
    رصيفٌ، يحاذي نصف ركنيه مسجدا

    وعن أي جذرٍ سوف يصبح كرمةٌ
    وعن أي عودٍ سوف يصبحُ مقعدا!

    * * *
    خذوا مَن يردَ الجيم سيناً، ودبِّبوا
    فم السين حتى يصبح الجيم أدردا

    وحتى يرى كل النصاعات حمرةٌ
    وحتى يحس الأخضر النضر أسودا

    لأن اشتباه اللّون باللّون ينتهي
    إلى غير لونٍ، مثل بغضٍ تودّدا

    بطمس الضحى لا يحمد الصبح مَن سرى
    بمحو السُّرى، لا ينظر العَود أحمدا

    * * *
    هنا أحشدُ (القطران): من أين أقبلَتْ؟
    عفاريت كل البيد أدهى وأعندا

    أمدّ لهم (شمس المعارف) كلها
    يصبُّون لي مِن فلم (لورنس) مسردا

    أحث “ابن علوان”: البدار ابن يفرسٍ
    وأستنفر الشيخين “عَمْراً” و”أسعدا”

    أصيح، يقول الصوت ما لا أقولُه
    أصيخ لمن، سمعي سوى سمعه ارتدى

    فأشدو سكوتاً، كي أحس بأنني
    أغني أنا، يستغرب الشدو مَن شدا

    لأن انقسام القلب، أنساه قلبهُ
    لأن اتحاد الحزن، فيهِ تعددا

    وفي البحث عن قلبي، أضيع بقيَّتي
    وفي البحث عن صوتي، أضيع التنهّدا

    * * *
    أقول لمن؟ كل المرايا تكسَّرت
    فليست ترى، إلاّ الغبار المرمَّدا

    وأصوات ألوانِ تطقّ كأنها
    جدارٌ تهاوى، فوق ماءٍ تجمَّدا

    * * *
    لأن اجتماعي ناشيءٌ من تجمعي
    سقطت اجتماعاً، وابتذلت التفردا

    سدىً في سباق الانهيار تَسارُعي
    سدىً تغتلي الأنقاض، أصغي لها سُدى

    فهذا الأسى مِن آخر الكاس يبتدي
    كأن نهايات المدَى، أولُ المَدى..

    لأن سوى الثوَّار ثاروا، وهل يعي
    رداءات ذا مَن لا يرى ذاك أجوَدا؟

    * * *
    هنا أدخل الصمت الذي ضجّ داخلي
    أفتّش عن شيء، أسمِّيه موعدا

    ألَقِّبُه تلاًّ، كتاباً، حديقةً
    أناديه ميداناً، أكنِّيه منتدى

    وأغزله برقاً، يراني غمامةٌ
    ويشتَمُّني عرساً، وأدعوه مولدا

    أعدُّ له لوناً، أُلاقي تلوُّناً
    وأختار بُنِّياً، أُلاقي مورَّدا

    * * *
    يحنُّ وأهفو، يجتديني وأجتدي
    طفور التلاقي، لا نعي أيَّنا اجتدى

    أعيهِ وصولاً، معلناً بدء وقتهِ
    رحيلاً قبيل الوقت، للوقت غرَّدا

    * * *
    وأجثو هنا وحدي، فتدخل غرفتي
    ربى موطني، مَن ذا هداهنّ، مَن حدا؟

    ومن أين جئن الآن؟ من كل أعظمي
    توالدن آحاداً، وأقبلن حُشُداً

    بلا موعدٍ مِن كل ثقبٍ دخلنني
    بلا مرشدٍ، بعضي إلى بعضه اهتدى

    هناك انتهت كل التواريخ وابتدا
    ضحاهُ جبينٌ، كان للشمس معبدا

    * * *

  • 394 جدليَّة القتل والموت

    ديوان ترجمة رملية لأعراس الغبار >  جدليَّة القتل والموت

    يا راية الفزع الفكاهي
    فقدت غرابتها الدواهي

    غدت اعتياداً، كاحتمالي
    جثَّتي، كحصى متاهي

    مثل ارتحالي في غيوم
    التبغ، في وَهج التماهي

    ما عاد يفجأُ فاجعٌ
    يا هول: دع عنك التباهي

    هذا الذي تبدين زهواً
    يا مخافة أم تزاهي؟

    * * *

    أمسيتَ لغواً يا ردى
    والقتل كالمقتول ساهي

    مَن ذا تُميت، وكلهم
    ماتوا، وأنت هناك لاهي؟

    سبفتك أمركة المذابح
    أيها الشيخُ الرفاهي

    اليوم للشيك الأوامرُ
    لِلْمُدى كل النواهي

    أصبحت يا موت احتياطاً
    مثل أبطال المقاهي

    * * *

    قد كنتُ آجالاً، وجاء
    القتل، فاخترقَ اتجاهي

    أتَخال ذبح الشيك أمهر
    مِن يد الحتف الآلهي؟

    * * *

    قد كان ذلك مثل ذا
    والآن ليس له مُضاهي

    ويلوح أن الفرق بين
    الموت، والموتَين واهي

    * * *

    أتقول: عطَّلني الرصاص
    وشاركتني الريح جاهي؟

    تبغي مجابهتي؟ ألا
    تدري ملايينٌ جباهي؟

    السوط أذكى مَن يشم
    تطرفي، ويرى سفاهي

    هذي الشظايا كلها
    كانت دمي، فغدت مياهي

    السوط سمعي والسكاكين
    التي أحسو شِفاهي

    عنوان قبري في يدي
    مهدي على طرف اشتباهي

    لَبِسَت معي جلدي
    سراديب المخافر والملاهي

    * * *

    أتظن إبليس انتهى؟
    أمسى بذاك القصر طاهي

    واعتاض عشر نواهدٍ
    عن زوجة أم الشواهي

    تكسوه أبَّهة الرشيد
    وشملة الزُّهد (العتاهي)

    * * *

    سيارةٌ مَنّا دنت
    أخرى تزيد مِن اكتناهي

    وتكاد تقرأ لون أنفاسي
    تعبُّ خيوطَ آهي

    * * *

    جوّالة تُعنى بما…
    تحت انكسارك وانشداهي

    وتجس: هل (طاليس)
    في خلَدي؟ أو (الجمل الدباهي)؟

    وترشُّ عجمة صوتها
    بفصاحة السمن (العُباهي)

    ألَمحتَها تبدي المحبةَ؟
    ذلك الغَزَل الكراهي

    أتقول أني واهمٌ؟
    أأنا بمأساتي أكاهي؟

    أترى البديهيات يا مولاي
    مِن نزَق ابتداهي؟

    * * *

    يا موت حاذر قبل أن
    يروا انتباهك وانتباهي

    الذئب يحذر مِن أخيهِ
    فكيف أحذر مِن شياهي؟

    مُتْ بالبطالة: هل ترى
    بعد النهاية مِن تناهي؟

    (أكتوبر 1982م)

    * * *

  • 395 حادي المطر

    ديوان ترجمة رملية لأعراس الغبار >  حادي المطر

    وراء برقٍ مذحجي
    أعدو، أخاف، أرتجي

    أظما إلى غمائمٍ
    يُفصحن عن تلجلجي

    أحدو سحابةً إلى
    أخرى، أصيح: عرِّجي

    يا تلك، مِن تلك اقربي
    في هذه تولّجي

    هناك حلمُ بارقٍ
    بنبضهِ تزوّجي

    * * *

    أسقي عمامةٌ دمي
    وغيمةٌ تشنُّجي

    أرجوك يا هذي ارقصي
    أرجوكِ يا تلك اهزجي

    يا هذه تألقَّي
    يا هذه تضرَّجي

    يا هذه تعبئي
    يا هذه تدجَّجي

    كالأخريات، جرِّبي
    أن تُحزني وتُبهجي

    كالرمح شجِّي جبهتي
    كجبهتي تشجَّجي

    تشكّلي شيئاً، عِدي
    لا تحذري، أن تُخدِجي

    بالمنحني توحّدي
    وبالربى تتوّجي

    * * *

    يا خلّباً أزعجتُها
    تلّمي أن تُزعجي

    أن تحرقي، أن تورقي
    أن تُضحكي أن تُنشجي

    أُعلي إليك جرِّتي
    تُسقينني تحشرجي

    وكالوليد أقتفي
    هروب طيفٍ (منبَجي)

    * * *

    أعيا بِحَمل قامتي
    أجثو، ينادي منهجي

    إلى الحريق أنتحي
    وبالرماد أحتجي

    أجتّر خلفي جبهتي
    يجترّني تعرُّجي

    * * *

    البحر يحسو زورقي
    الرمل يشوي هودجي

    أسرجتَني يا موطني
    حُمِّلتُ غير مُسرجي

    يمتصُّني تستُّري
    يُذيبني تبرُّجي

    * * *

    أموت، ينتشي على
    بطولتي، تفرُّجي

    يصيح ميتٌ داخلي:
    يا جيفتي تبهرجي

    مِن قعر جثَّتي إلى
    عنف الخروج ألتجي

    أفنى، وأتي باحثاً
    عن مبتدا توهُّجي

    عن ورطةٍ تشبُّني
    يشبُّها تهيُّجي

    تقولُني، أقولُها
    أبكي، ترى تهدُّجي

    تَردُّني، أجنَّةً
    وتنتقي مُنَضِّجي

    * * *

    أجتاز جلدي أغتلي
    مفتِّشاً عن مدرجي

    عن همسةٍ ورديَّةٍ
    عن موعدٍ بنفسجي

    عن واحةٍ أوسيَّةٍ
    وعن غدير خزرجي

    وعن نهود كرمةٍ
    وراء تلٍّ عوسجي

    وعن أريج مطلعٍ
    يهفو إلى تأرُّجي

    وعن حنين مدخلٍ
    يضيع فيه مخرجي

    أنسى أمام بابهِ
    هشاشتي تحرُّجي

    * * *

    إلى هنا تدفُّقي
    ومِن هنا تموُّجي

    هنا أمدُّ قامتي
    مُخصِّباً توشُّجي

    جذريَّتي بدايتي
    مِن بدعتي نموذجي

    تهمي البروق مِن يدي
    يَهدي الضحى تبلُّجي

    * * *

    أشدّ أعراقي إلى
    ربابتي ومِنسَجي

    أعيد نوع صيغتي
    أصوغ، نوع مُنتجًي

    (يوليو 1979م)
    * * *

  • 396 أمين.. سرّ الزوابع

    ديوان ترجمة رملية لأعراس الغبار >  أمين.. سرّ الزوابع

    كان الدجى يمتطي وجهي، ويرتحلُ
    وكنت في أغنيات الصمت، أغتسلُ

    وكان يبحث عن رجليه في كتفي
    وكنت أبحث عن صخري وأحتملُ

    وكان يهذي السُّكارى في عباءتهِ
    وتحت جلدي حيارى، بالدم اكتحلوا

    وكان يغزل أطيافاً وينقضها
    وكنت والصمت، والأَشباح تقتتلُ

    وكان عند سهادي يجتدي عملاً
    وكنت كالرمل عند الريح لي عملُ

    وكان يهجس: بعد المبتدا خبرٌ
    وكنت أسأل: ما التوكيد ما البدَلُ؟

    وكان يكتب أسماءً ويمسحها
    وكنت أفتح أوجاعي وأنقفلُ

    وأشرئب كعُود يرتدي حَجراً
    وكان يختال في تلوينه الوجَلُ

    وكنت أستفسر الجدران: أين أنا؟
    وكان يستجوب الإعدامُ مَن سألوا

    وكنت عن كل برقٍ أنهمي شرراً
    طلاًّ، عن الغيمة المكسال أنهمل

    أبكي على مَن أتوا مثلي بلا سببٍ
    على الذين بلا مستوجب أفَلوا

    * * *

    وأبتني عالَماً، لا حلم مكتشفٍ
    رآه، لا أنبأت يوماً به الرُّسُلُ

    أصوغه من خيالات النجوم، وما
    أومَى إلى بابه (المريخ) أو (زُحَلُ)

    أومي إليه، تُسمِّي كل داليةٍ
    أحياءه ورباهُ، تفرح السُّبُلُ

    * * *

    مَن ذا يجمجم في أدغال جمجمتي؟
    جنٌّ يبولون، جنٌّ أولموا، ثَمِلُوا

    الكاس تحرَق في كفِّي وأعصرها
    هناك عند الرصاص.. الكاس والقُبَلُ

    وكان للسوق أصواتٌ مسفلتةٌ
    وكنتُ أُنصتُ، والإسفلت يرتجلُ

    وكان أبناؤه يرقَون مِن يدهِ
    لأن آباءهُ مِن فخذه نزلوا

    ويركبون مِن (الموديل) أبهضتةُ
    سعراً، ويعلوهم الإسمنت والوحَلُ

    * * *

    وكنت قدّآم باب الحظ أسألهُ
    وكان قدَّام بابي يعرق الخَجَلُ

    وكنت أستمنح الحداد مطرقةٌ
    وكان مثلي، بباب الحظ يبتهلُ

    * * *

    لِمَ لا تكون كمن أوليتهم نِعَمي؟
    لأنني غيرهم: أفعل كما فعلوا

    لأنني غير مَن أوليت يمنعني
    شيءٌ أُفدِّيه، أن أرضى الذي قبلوا

    * * *

    ماذا يوشوشُ؟ يرخي الصمت لحيتهُ
    للريح، يبحث عن عكازه الملَلُ

    يروِّض الشارعُ المدفون ركبتَهُ
    على الوقوف، كما يستذئب الحَملُ

    * * *

    وكنت مِن ساق (وضّاحٍ) أدبُّ إلى
    عرقوب (أروى) طريقي الموت والغزَلُ

    وكان ينجرُّ ميدانٌ على فمهِ
    كما تشتكَّي إلى (ذي الرُّمَّةِ) الطللُ

    وكانت الهضبة الصفراء مثقلةٌ
    أولادها في طوايا صلبها اكتهلوا

    شَيب الأجنَّة أقسى ما تكابده
    كيف التقى في حشاها: العقم، والحبَلُ؟

    وكنت مِن كائنات الليل واحدةً
    وكان أتفه ما أشتاقه الأملُ

    * * *

    هل أَصفر الآن؟ يأتي الجنّ أُسلمهم
    نفسي، لكي يأكلوني مثل مَن أكلوا

    يقال: كانوا شياطيناً لهم خطرٌ
    تطرَّفوا زمناً، كالناس واعتدلوا

    واليوم تغرقهم كأسٌ، وفي زمنٍ
    خاضوا بحوراً، وما ندَّاهُمُ البللُ

    * * *

    مَن ذا أُنادي؟ لماذا لا تنام أجب؟
    أنسى لماذا ، ومثل الفار ينفعلُ

    وكان يُعشب كفَّاهُ حصىً ودماً
    وكان تحت قميصي يزهر البَصلُ

    هل تنتمي؟ ذاك سرٌّ، كل زوبعةٍ
    عليّ في حرمة الأسرار تَتَّكلُ

    أنا ابن مَن ولدوا سرّاً، وكي يثقوا
    ماتوا، وماشهقوا كالناس أو سعلوا

    يرنو الرصيف إلى وجهي كمتَّهمٍ
    مثلي، بلا هدفٍ يعصي ويمتثلُ

    وكان يحكي غلامٌ: جاء يا أبتِ
    مَن خِفتَ واجتاز ثقب الإبرة الجَملُ

    * * *

    وكان لون الدجى مشروع أسئلة
    وكان بيني، وبيني حولها جدَلُ

    كانت تصارع نفسي نفسها وأنا
    عنها، بتأريخ هذا الصمت منشغلُ

    * * *

    كان الدجى يخلع المسرى ويلبسني
    وكنت ألبس أنقاضي وأنتعلُ

    وكان يبحث في الغيمات، عن دمهِ
    وكانت الأرض عن رجلَيَّ تنفصلُ

    وكنت أسرد عن (بلقيس) أغنيةً
    مداد من كتبوها، العطر والعسَلُ

    وكان يفترس المذياع، مَن سقطوا
    ويرتدي وجه مَن قاموا مَن احتفلوا

    مَن ضاجعوا الشمس في سروال والدها
    مَن وزَّعوا أمَّهم، في بعض مابذلوا

    * * *

    هذي الفجاج كأنثى، ما لها رَحِمٌ
    هذا الزحام، رجالٌ ما بهِ رَجُلُ

    يمضون يأتون، كالأبواب ما خرجوا
    مِن أي شيء، ولافي غيره دخلوا
    * * *

    غاصت وجوه الروابي تحت أرجلها
    في جلد كل حصاةٍ، ينطوي جَبَلُ

    هذي (الدراما) مِن الأحجار أحرفها
    ومِن نقيق الغبار، الدَّور والبطلُ

    هل بُحتِ يا ريحُ بالأسرار؟ تدخلني
    عجلى، تبعثر ذرّاتي وتنتخلُ

    * * *

    وكان يلثغ نجمٌ، وعده قدَرٌ
    : على قناديل قلبي، سافِروا تصلوا

    كانت تَفرَّع مِن عينيه أغنيةٌ
    وكنت مني، إلى عينيه أنتقلُ

    وأستحيل بروقاً، شوق أوديةٍ
    غمامةٌ، بعروق الأرض تنغزلُ

    وكان يبدأ حُلماً مِن أواخرهِ
    وأستهلُّ نشيداً سوف يكتملُ

    وكان يهمي ندىً جمراً، وكنت أنا
    أُجمِّع الغيم في كفي وأشتعلُ

    * * *

    وكان (عيبان) يأتي حافياً: أهنا
    أهلي؟ ويدنو بعشب النار يشتملُ

    وكان يهمس مِن خلف الهدير فمٌ
    : لا يورق الناس، حتى تذبُل الدُّوَلُ

    يوليو 1979م

    * * *

  • 397 عواصف وقش

    ديوان ترجمة رملية لأعراس الغبار >  عواصف وقش

    لأنني هشٌّ وبيتي صفيح
    تجترني ريحٌ، وأقتاد ريحْ

    لا شيء غير الريح: ماذا هنا
    سواك يا هذا الفراغ الفسيحْ؟

    حتى النقاوات التي أومضتْ
    قيل ارتدت لون الأوان القبيحْ

    * * *

    لأنني قشٌّ مضاف إلى
    قشٍّ، بويبي للذواري فتيح

    ريح تغاديني سكاكينها
    ريح يماسيني حصاها الطليحْ

    لا، لليالي سكراتُ الكرى
    ولا، لصحو الصبح وجهٌ صبيحْ

    تَقِلُّني قارورةٌ عاقرٌ
    وينثني فوقي زقاقٌ جريحْ

    ثُلثي غبارٌ قائمٌ يمتطي
    وجهي، وثلثايَ غبارٌ طريحْ

    * * *

    مَن ذا الذي يدعو سُعالي إلى
    عقد اجتماعٍ، واعترافٍ صريحْ

    بالهدوء الْمُرِّ يوصي يرى
    أن الهدوء اليوم عقلٌ رجيحْ

    يقول: يا (ناجي) (يحيى) أتعَّظ
    بقتل (فرحان)، اعتبر يا (سميحْ)

    سمعتَ يا هذا، ولكن أعي
    غير الذي يحكي الغبار النصيحْ

    ترى الذي يهمي ندىً عاطراً؟
    هذا نجيعٌ آدميٍّ سفيحْ

    تقول هذا واقعيْ؟ تنثني
    تكيل للمقسوم غثَّ المديحْ

    قرأتَ لي فنجان مستقبلي؟
    إني أرى ما لا ترى يا “سطيحْ”

    أُريد أغشى عالماً واضحاً
    مثلي، زماناً مثل سرِّي فضيح

    ما الفرق بين القتل والقتل يا
    كثبان؟ يا هذا الغموض الفصيحْ
    * * *

    خمسون عاماً مِن عظامي غدت
    خمسين نعشاً فوق ظهري تسيحْ

    تمشي بأرماسي، وأمشي بها
    فما الذي عني وعنها أُزيحْ؟

    تشتّ أنقاضي رياح الضحى
    تلُّمني ريح الدجى، كالضريحْ

    يا هذه الأجداث: ماذا جرى؟
    هل مَن يموت اليوم لا يستريحْ؟

    ماذا تقولين؟ يجيء الذي
    يموت يوميّاً طريّاً صحيحْ

    * * *

    يا ذلك البرق الذي يبتدي
    في الظن، حتى أنت عنِّي تُشيحْ

    مِن أين تأتي الريح؟ مِن خلفها
    مِن وجهها، لا فرق، ردٌّ مليحْ

    وهل ستأتي غيرُهما؟ ربما
    هل أبتغي أمراً سوى ما تُتيحْ؟

    دأذوي، وتلك الريح تمتصني
    أدمى، وهذي مِن دمي تستميحْ

    وذي تهوهي مثل كلبٍ يرى
    كلبَيْن، يجتران طفلاً ذبيحْ

    * * *

    مِن ذا له حريّةٌ أو يدٌ
    سواكِ؟ يا ريح الزمان الكسيحْ

    مَن سوف يُثني مستبيح الحمى؟
    – يا قشّ – والحامي يدُ المستبيحْ

    ماذا سيأتي بعد؟ أرضي بلا
    ماءٍ، سمائي كالأديم المسيحْ

    * * *

    قرون هذي الريح أقوى؟ نعم
    أموت إمَّا ناطحاً، أو نطيحْ

    أُذكي حطامي شهوةً للثرى
    حلقاً لديكِ ينتوي أن يصيحْ

    مهداً لغصنٍ، زوجةٌ للنّدى
    ينبوع زيتٍ، للسراج الشحيحْ

    هذا اكتمالي في ابتدائي الذي
    أرجو، وأدعوه الجزاء الربيحْ

    (سبتمبر 1982م)

    * * *

  • 398 وردة.. من دم المتنبي

    ديوان ترجمة رملية لأعراس الغبار >  وردة.. من دم المتنبي

    مِن تلظّي لموعه كاد يعمى
    كاد من شهرة اسمه لا يُسمّى

    جاء من نفسه إليها وحيداً
    رامياً أصلهُ غباراً ورسما

    حاملاً عمره بكفيه رمحاً
    ناقشاً نهجه على القلب وشما

    خالعاً ذاته لريح الفيافي
    ملحقاً بالملوك والدهر وصما

    * * *

    اِرتضاها أُبوَّة السيف طفلاً
    أرضعتهُ حقيقة الموت حُلما

    بالمنايا أردى المنايا ليحيا
    وإلى الأعظم احتذى كل عظمى

    عسكر الجن والنبوءات فيهِ
    وإلى سيف (قُرمطٍ) كان يُنمى

    * * *

    البراكين أُمُّه، صار أُمّاً
    للبراكين، للإرادات عَزْما

    (كم إلى كم، تفنى الجيوش افتداءاً
    لقرودٍ يفنون لثماً وضمّاً)

    ما اسم هذا الغلام يا بنَ مُعاذٍ؟
    اسمه (لا): مِن أين هذا المسمى؟

    إنه أخطر الصعاليك طُرّاً
    إنه يعشق الخطورات جمّا

    فيه صاحت إدانة العصر: أضحى
    حكَماً فوق حاكميهِ وخصما

    قيل: أردَوه، قيل: مات احتمالاً
    قيل: همّت به المنايا، وهمّا

    قيل: كان الردى لديه حصاناً
    يمتطيه برقاً ويُبريه سهما

    الغرابات عنه قصّت فصولاً
    كالتي أرّخت (جديساً) و(طمساً)

    * * *

    أورقَ الحبر كالربى في يديهِ
    أطلعَت كل ربوةٍ منه نجما

    العناقيد غنّت الكاس عنهُ
    الندى باسمه إلى الشمس أوما

    * * *

    هل سيختار ثروة واتساخا؟
    أم ترى يرتضي نقاء وعدما؟

    ليس يدري، للفقر وجه قميء
    واحتيال الغنى من الفقر أقمى

    ربما ينتخي مليا، وحينا
    ينحني، كي يصيب كيفاً وكما

    عندما يستحيل كل اختيار
    سوف تختاره الضرورات رغما

    ليت أن الفتى – كما قيل – صخر
    لو بوسعي ما كنت لحماً وعظما

    هل سأعلو فوق الهبات كميا؟
    جبروت الهبات أعلى وأكمى

    * * *
    أنعلوا خيله نظاراً ليفنى
    سيد الفقر تحت أذيال نعمى

    (غير ذا الموت ابتغي، من يريني
    غيره لم أجد لذا الموت طعما

    أعشق الموت ساخناً، يحتسيني
    فائراً، أحتسيه جمراً وفحما

    أرتعيه، أحسه في نيوبي
    يرتعيني، أحس نهشاً وقضما)

    * * *
    وجدوا القتيل بالدنانير أخفى
    للنوايا، أمضى من السيف حسما

    ناعم الذبح، لا يعي أي راء
    أين أدمى، ولا يرى كيف أصمى

    يشتري مصرع النفوس الغوالي
    مثلما يشتري نبيذاً ولحما

    يدخل المرس من يديه وينفي
    جسمه من أديمه وهو مغمى

    يتبدّى مبغى هنا، ثم يبدو
    معبداً هاهنا، وبنكين ثَمّا

    يحملُ السوق تحت إبطيه، يمشي
    بايعاً شارياً، نعيّاً ويُتما

    * * *

    مَن تُداجي يا بن الحسين؟ (أُداجي
    أوجهاً تستحق ركلاً ولطما

    كم إلى كم أقول ما لست أعني؟
    وإلى كم أبني على الوهم وهما؟

    تقتضيني هذي الجذوع اقتلاعاً
    أقتضيها تلك المقاصير هدما)

    * * *

    يبتدي يبتدي، يُداني وصولاً
    ينتهي ينتهي، ويدنو ولَمّا

    هل يرى ما ترى مقلتاهُ؟
    (هل يُسمِّي تورّم الجوف شحما)؟

    * * *

    في يديهِ لكل سِينَين جيمٌ
    وهو ينشَقّ: بين ماذا وعّما

    لا يريد الذي يوافيه، يهوى
    أعنف الاختيار: إمَّا، وأمَّا

    كل أحبابهِ سيوفٌ وخيلٌ
    ووصيفاتهُ: أفاعٍ وحمّى

    * * *

    (ياابنة اليل كيف جئتِ وعندي
    مِن ضواري الزمان مليون دهما؟

    الليالي -كما علمتُ – شكولٌ
    لم تَزدني بها المرارات عِلما)

    * * *

    آه يا بن الحسين: ماذا ترجِّي؟
    هل نثير النقود يرتد نظما؟

    بخفيف الرموز ترمي سيوفاً
    عارياتٍ: فهل تحدَّيتَ ظلما؟

    كيف تدمى ولاترى لنجيعٍ
    حمرةٌ تنهمي رفيفاً وشما؟

    كان يهمي النبات والغيث طلٌّ
    فلماذا يجفُّ والغيث أهمى؟

    ألأنَّ الخصاة أضحوا ملوكاً
    زادت الحادثات، وازددن عُقما؟

    * * *

    (هل أقول الزمان أضحى نُذيلاً؟
    ربما قلت لي: متى كان شهما؟

    (هل أُسمِّي حكم الندامى سقوطاً؟
    ربما قلت لي: متى كان فخما؟

    أين ألقى الخطورة البكر وحدي؟
    لست أرضى الحوادث الشمط أُمّا

    أبتغي يا سيوف، أمضى وأهوى
    أسهماً مِن سهام (كافور) أرمى)
    * * *

    شاخ في نعله الطريق، وتبدو
    كل شيخوخةٍ، صِباً مدلهمّا

    كلما انهار قاتلٌ، قام أخزى
    كان يستخلف الذميمُ الأذمّا

    هل طغاة الورى يموتون زعماً
    – يا منايا – كما يعيشون زعما؟

    أين حتمية الزمان؟ لماذا
    لا يرى للتحول اليوم حتما؟

    هل يجاري، وفي حناياه نفسٌ
    أنِفَت أن تحلَّ طيناً مُحمَّى؟

    (ساءلت كل بلدةٍ: أنت ماذا؟
    ما الذي تبتغي؟ أجلّ وأسمى

    غير كفِّي للكأس، غير فؤادي
    لعبةٌ في بنان “لَميا” و”ألمى”)

    * * *

    كيف يرجو أكواز بغداد نهرٌ
    قلُبه وحدهُ مِن البحر أطمى؟

    كان أعلى مِن (قاسيون) جبيناً
    مِن نخيل العراق أجنى وأنمى

    للبراكين كان أُمّاً: أيُمسي
    لركام الركاد خالاً وعمّا؟

    * * *

    (حلبٌ يا حنين، يا قلب تدعو
    لا أُلبِّي، يا موطن القلب مهما..

    أشتهي عالماً سوى ذا، زماناً
    غير هذا، وغير ذا الحكم حكما

    أين أرمي روحي وجسمي، وأبني
    لي، كما أستطيب روحاً وجسما؟)

    * * *

    خفِّفف الصوت للعدا ألف سمعٍ
    هل أُلاقي فدامة القتل فدما؟

    يا أبا الطيِّب اتئد: قل لغيري
    اِتخذ حطيةً على مَن وممَّا؟

    كلهم (ضبَّةٌ) فهذا قناعٌ
    ذاك وجهٌ سمَّى تواريه حزما

    * * *

    (ألطريق الذي تخيَّرتُ أبدى
    وجه إتمامهِ، أُريد الأتَّما

    متُّ غمّاً: يا درب “شيراز” أورق
    مِن دمي كي يرفَّ مَن مات غمَّا

    وانفتح وردةَ إلى الريح تُفضي
    عن عدوِّ الْجَمام كيف استجمَّا)

    أصبَحت دون رجله الأرض، أضحى
    دون إطلاق برقه، كلُّ مرمى

    هل يصافي؟ شتى وجوه التصافي
    للتعادي وجهٌ وإن كان جهما

    أين لاقى مودّةً غير أفعى؟
    هل تجلَّى ابتسامةً غير شرمى؟

    * * *

    أهلُهُ كل جذوةٍ، كل برقٍ
    كل قفرٍ في قلبه، وجه “سلمى”

    تنمحي كلها الأقاليم فيهِ
    ينمحي حجمُه، ليزداد حجما

    تحت أضلاعه “ظفارٌ” و”رضوى”
    وعلى ظهرهِ “أثينا” و”روما”

    يغتلي في قذاله “الكرخ” يرنو
    مِن تقاطيع وجهه “باب توما”

    * * *

    التعاريف تجتليه وتغضي
    التناكير عنه ترتدّ كلمى

    كلهم يأكلونَهُ وهو طاوٍ
    كلهم يشربونهُ وهو أظما

    كلهم لا يرونهُ وهو لفحٌ
    تحت أجفانهم مِن الجمر أحمى

    * * *

    حاولوا، حصرهُ، فأذكوا حصاراً
    في حناياهمو يُدمِّي ويَدمى

    جرَّب الموت محوهُ ذات يومٍ
    وإلى اليوم يقتل الموت فهما

    إبريل 1980م

    * * *

  • 399 مصارحة المأدبة الأخيرة

    ديوان ترجمة رملية لأعراس الغبار >  مصارحة المأدبة الأخيرة

    (قيلت بعد مقتل السادات)

    ألا اقتلْ كل مَن تلقى
    إذا استبقيت لن تبقى

    لأن القتل بعد القتل
    طبّ الأمة الحمقى

    * * *

    قتلتُ قتلتُ، لا جدوى
    غدوتُ الأقتلَ الأشقى

    أبتّ جذورها، تنمو
    أحزّ رؤوسها، ترقى

    وأدفن مَن تُسمّيهِ
    نقيّاً، يصعد الأتقى

    بكل النار أشويها
    ومِن جمراتها تُسقى

    هنا تنهلُّ أمطاراً
    هناك تُكثّف البرقا

    وتحت قذائف (النابلم)
    تندى، تحرق الحرقا

    وتبدو أنجماً خضراً
    ربىً وردّية زرقا

    ترود قرارة الأغوار
    كي تستبطن العمقا
    * * *

    لها دمويةُ كالصقر
    تحت وداعة (الورقا)

    تروعُ الباحث الأدهى
    وتُعيي الواعظ الأتقى
    أتدري؟ كل متراسٍ
    هنا أعصى مِن (العنقا)

    رصاصي ينثني عنهم
    قتيلاً داخلي مُلقى

    فجرِّب قتلهم، تصبح
    شبيهي، جثّة غرقى

    على أني أرى أني
    أُمشّي خطّة خرقا

    * * *

    سأعطي، خطّة أخرى
    ومالاً يدعم الخطّه

    – فعلنا الأعنف الأضرى
    أخفنا النسر بالبطّه

    – نكظّ السوق ب”الوسكي)
    ونطوي صفقة الحنطه

    فنلهي كل صعلوكٍ
    بسعر الخبز و(الشطَّه)

    ونغري كل موصولٍ
    بثانٍ نحرف الخُلطه

    * * *

    – مراراً قلتَ لي هذا
    ووحدي أدخل الورطه

    وعنك – وأنت لا تدري-
    أنوء بصخرة الغلطه

    لقد أسقطتُ بالثروات
    بالسهران، بالشرطه

    قبضت الكفّ عن هذا
    لذا أسرفت في البسطه

    ولم أُسقط بذا وجهاً
    سوى المطوي على السقطه

    سوى أُلعوبة الملهى
    سوى المبني على الحِطّه

    * * *

    فهل حققتُ يا مولاي
    ما يستوجب الغبطه

    – مَن الأغبى، أنا أو أنت؟
    تلك خلاصة النقطه

    * * *

    خلا مِن مخلبيه القطّ
    لِم لا تحكُم القطّه؟

    سدىً نختار سلطاناً
    نريد أُنوثة السلطه

    – خبطتَ بوجهي العشوا
    فصرتُ نهاية الخبطه

    * * *

    – فدع لي الآن جمجمتي
    وخذ وصفي، وخذ لقبي

    وخذ دُروي، وأدويتي
    ودعني، لا تخف غضبي

    ومَن أُدعى؟ أما وطني
    يردّ إليك منتَسبي

    فلا أصبحتُ مِن بلدي
    ولا مغناك مغتربي

    * * *

    أذع ما ترتئي سبباً
    فأنت كما ترى سببي

    كما استعملتني ذنَباً
    منحتَ مكانتي ذنَبي

    – فلم أصعد بمقدرتي
    صعدتُ بزندك الخشبي

    وما كانتُ الأحقَّ بذا
    ولا هذا حصان أبي

    فما أعليتَ مِن خلَفي
    ولا أنزلت مِن رُتبي

    * * *

    عرفتَ اليومَ كيف ترى
    بدأتَ أوانكَ الذهبي

    ستثني كل عاصفةٍ
    بهذا المشجب القصبي

    بأفواجٍ مِن الأغراب
    تدعى: الفيلق العربي

    وهذا ما ارتكبتُ أنا
    فهل تبني على كَذِبي؟

    * * *

    سيلقى ليلةَ خلَفي
    على كفيكَ مُنقلبي

    فمنذ الآن يرقبهُ
    مصيرٌ كان مرتقبي

    وأنت ستحتمي سنةً
    وتهوي، لاحقاً عقبي

    * * *

  • 400 علاقمة

    ديوان ترجمة رملية لأعراس الغبار >  علاقمة

    المستهل الآن يبدو الخاتمه
    أتعود؟ أم تأتي الفصولُ القادمة؟

    القادمات مريرةٌ، أو أنها
    أحلى؟ تعاكست الظنونُ الرَّاجمه

    أهناك قادمةًٌ؟ يقال جميعها:
    قدمت كواهمةٍ، وولّت واهمه

    ويقال: أودت مرتين، ومرّة
    فقدت قوائمها، وأغفت سالمه

    ولعلها نجمت مراراً وانطوت
    ولعلها اندثرت، وظلّت ناجمه

    ولربما احتشدت صباحاً وانثنت
    ليلاً، وعادت والصبيحة واجمه

    وعلى بقية وجهها (طروادةٌ)
    وطيوف (أبرهةٍ) وتلك الدّاهمه

    * * *

    مِزَق النهايات، استحلن بدايةً
    لنهاية بدأت، وأخرى عازمه

    أتحُول أعجاز الحوادث أوجهاً؟
    وهل الحوادث مثل أهلي راغمه؟

    * * *

    يا فلسفات الشك: هل حَلُم الذي
    يُدعى اليقين؟ أم الشكوك الحالمه؟

    أوَ ما الذي سمّوه لغو خرافةٍ
    أضحى الحقيقة؟ فالخرافة دائمه

    حتى الذي زٌعِمَ المحال، فإنهُ
    وافى وولى، والأهلّة نائمه

    * * *

    يا عين (زرقاء اليمامهِ) هل خبَت
    مُقلُ الشموس؟ أم المرايا قاتمه؟

    أترين شيئاً في حقيقة وضعهِ؟
    وهل الجزيرة حيث كانت جاثمه؟

    * * *

    خلعَت شواطئَها البحارُ، وأقبلَت
    فوق الربى، وعلى العواصف عائمه

    تنجرُّ تائهةً، كظهر هزيمةٍ
    تجتاز قامتها، كجبهة هازمه

    * * *

    (تكساس) جاءت فوق منكب (لندنِ)
    غدت العواصم، فوق صدري عاصمه

    كيف ارتدت جسدي؟ أأحكي أنها:
    بيني وبين فمي تبثُّ تراجمه؟

    وهناك تعمر حانتين ومسجداً
    وتقيم أحياناً طقوس براهمه

    وكأن (يعرب) حارس في بابها
    وكأن (أروى) في يديها خادمة

    صور القواصم بعد فرقتها التقت
    في شكل منقصم، وهيئة قاصمة

    * * *
    يا (مأرب) الأغلى: أتى (العرم) الذي
    يفني بدغدغة الأكف الناعمه

    سميت سيل الغيث أمس عرامة
    اسيول نفط اليوم ليست عارمة؟

    أتقول: أعياك القياس وإنما
    هاتيك غاشمة، وهذي الغاشمة؟

    * * *
    بالأمس كنت على التجارة حاكماً
    واليوم أصبحت التجارة حاكمة

    أرأيت (إرباط) الذي تعتاده
    أليوم يلتحف (العذيب) و(كاظمة)

    و(الشمر) كر (بذي الفقار) كما ابتدا
    وأتى (الحسين) على ذراعي (فاطمة)

    نفضت مقابرها (البسوس) وأرعدت
    وعدت على دمها الرمال الغائمة

    وتقمص (التنين) شكل حمامة
    ودنا (أبن أوى) كالبغي النادمة

    وتعدد (ابن العلقمي) فههنا
    قامت علاقمة، هناك علاقمة

    أو أنت يا يوم القيامة واحد؟
    من عهد عاد، والقيامة قائمة

    * * *
    هل قُلت يا ميمونة الذكرى سوى
    ما قلتِ لي؟ عبثاً أُخبِّر عالمه

    مِن ذا وذاك بدأت أعرف ثالثاً؟
    لا تكترث، إن النتيجة حاسمه

    وقع الذي تدري وأدري لا تخف
    المطلع الآتي، دليل الخاتمه

    (ديسمبر1981م)

  • 401 ترجمة رملية لأعراس الغبار

    ديوان ترجمة رملية لأعراس الغبار >  ترجمة رملية لأعراس الغبار

    غريبة يا طارئات مثلي
    شريدة مثلي ومثل أهلي

    منقادة مثلي لكل ريحٍ
    رمل الفيافي أصلها وأصلي

    لأنها رملية شبيهي
    أتى غباراً نسلها ونسلي

    كما التقى مستنقع وقيح
    كأن تناجي زمرها وطبلي!!

    * * *

    مثلي بلا فعل بلا تخل
    هل فعلنا أخوى أم التخلي؟

    مثلي بلا ماضٍ، وما يسمى
    (مستقبلي) يأتي، يموت قبلي

    غريبة يا طارئات عني
    وتلتحفن قامتي وظلي

    من مقلتي تدخلن قبل فتحي
    ومن فمي تخرجن بعد قفلي

    تطبخن في قلبي عشاء موتي
    وتبتردن في يدي، وأغلي

    تقلن ما لا أبتغي بصوتي
    تكتبن ما لا أرتأي وأملي

    وليس لي ما أدعي لأني
    أغمدت في قلبي: يدي ونصلي

    * * *

    أيا التي سميتها بلادي
    بلاد من؟ يا زيف: لا تقل لي

    بلاد من؟ يا عاقراً وأما
    ويا شظايا تصطلى وتصلي

    يا ظبية في عصمة (ابن آوى)
    يا ثعلباً تحت قميص (مشلي)

    يا طفلة في أسرها تغني
    ويا عجوزاً في الدجى تفلي

    يا حلوة دودية التشهي
    يا بهرجاً من أشنع التحلي
    * * *

    همست للقواد: هاك صدري
    وقلت للسكين: هاك طفلي

    وللغراب: البس فمي وكفي
    وللجراد: اسكن جذور حقلي

    فهل تبقى الآن منك، مني
    شيء سوى لعلها، لعلي؟

    * * *

    إلى سوى هذا الزمان أهفو
    إليه أضني سرعتي ومهلي

    هل أمتطي نفاثة إليه
    وتحت جلدي ناقتي ورحلي؟

    هل أمتطي بغلاً كنصف حل؟
    قد يمتطي وجهي قذال بغلي؟

    أي الخطى أهدى إليه؟ أضحت
    غايات عرفاني كبدء جهلي!

    * * *

    يا غير ما جربته أجبني
    ويا سوى تلك المنى أطلي

    ويا حدود المستحيل ذوبي
    ويالغات الممكن اضمحلي

    ويا التي يدعونها: (ظروفا)
    تحط أكداس الدمى وتعلي

    الموت بالحلوى لديك حذق
    وبالمدى ضرب من التسلي

    من علم البوليس كيف يشوي
    لحوم عشاق الحمى ويقلي؟
    * * *

    من يحمل الرشاش فهو حر
    في قتل آتي موطني وقتلي

    يقول -إذ يمشي على الضحايا-:
    ماذا هنا غطى لموع نعلي؟

    لأن قتل (النفط) ذو فنونٍ
    يردي هنا، وها هنا يصلي

    هنا يحني لحية ويدعو
    هناك يرمي جلده المحلي

    يبيع لوناً يشتري سواه
    يريد تجديد اسمه فيبلي

    تلك القبور المزمنات فيه
    يظل يجلو حسنها ويطلي

    * * *

    يبدو عروساً، لا تقول ريح
    لأختها: إن الزفاف رملي

    تصغي إلى تصريحه الدواهي
    وآخر الأزواج عنه يدلي

    يغدو أصولياً بدون فقهٍ
    يمسي حلولياً بلا تجلي

    يشم ماذا تحلم العشايا
    يصيح: هذا العصر صنع بذلي

    أهرقت في أوكاره عيوني
    كي يرتدي هذا اللعين شكلي

    لا تنفلت يا بحر من بناني
    تجمعي يا أرض تحت رجلي

    * * *

    يا ريح: هل تعطين غير قش؟
    من أين؟ تأريخ الركام بعلي

    غداً تراني أستهل عهداً
    لأنني ضيعت مستهلي

    * * *

    في القلب شيء -يازمان- أقوى
    لا تنعطف من أجله وأجلي

    أحب ما تولين من عطايا
    -ياهذه الأيام- أن تولي..

  • 402 شتائية

    ديوان ترجمة رملية لأعراس الغبار >  شتائية

    البرد أبرد ما يكونْ
    والليل أسهد ما يكونْ

    وأشذ من شبق الرصاص،
    ومن غرابات المنونْ

    * * *

    ماذا هنا غير الدجى المشبوه،
    وحشي السكون؟

    يبدي ثلاثة أوجهٍ
    ويمد آلاف الذقونْ

    كشيوخ (ياجوجٍ)، كسيف
    (الشمر)، كالسقف الهتونْ

    * * *

    وكأن كل دقيقةٍ، تبدو
    ملايين القرونْ

    كل الكواكب لا تدور
    وكل ثانيةٍ حرونْ

    وكأن فوق مناكب
    اللحظات، جدران السجونْ

    * * *

    البرد يسترخي كأفيلةٍ
    حطيمات المتونْ

    ينسل، يستشري، له
    في كل زاوية شؤونْ

    * * *

    ومفاصل الأكواخ ترسف
    تحت أحذية الغبونْ

    والحلم يلبس مديةً
    والطيف يزفر كالاتونْ

    وهناك ترتجف الكوى
    وهنا يجول المخبرونْ

    * * *

    فتموت (صنعا) وهي توقد
    -فوق نهديها- (النيون)

    ويقال: تولم للردى
    وتصوغ من دمها الصحونْ

    * * *

    والليل يبتدع التهاويل
    الغريبات الفنونْ

    ويرهل المذياع حشرجة
    يسميها اللحونْ

    كهوى المراهق يغتلي
    ويئن مثل (الحيزبون)

    والصمت يستقصي
    كأسئلةٍ قريحات الجفونْ

    وكمدمنٍ ضام، عليه
    لكل خمار ديونْ

    * * *

    تصفر أوردة الرؤى
    تسود وسوسة الظنونْ

    تثب العيون بلا وجوهٍ
    والوجوه بلا عيونْ

    فتخاف جدران المدينة
    أن يفيق الميتونْ

    النوم متهم، ومتهم
    سهادك يا جنونْ

    والحب متهم، ومتهم
    أسى القلب الحنونْ

    والصوت يحترف الخيانة،
    والسكوت كمن يخونْ

    حتى الجذور مدانة
    بذنوب إنجاب الغصونْ

    حتى الصخور، لأنها
    كانت (لذي يزن) حصونْ

    حتى الذي كان احتلالاً
    ملسوه بالسمونْ

    حتى الذي كان اسمه
    عنباً، تحول زيزفونْ

    يا خدعة التشكيل أمسى
    كل رأسٍ (بنطلون)

    يا برد (كافات الحريري)
    لا يراها الطيبونْ

    * * *

    غارت أسارير المنى
    وتجلمدت فيها الغصونْ

    والليل متسلقٍ كماخورٍ
    ينقر عن (زبون)

    كخرابةٍ شعثا أناخت
    فوق أعظمها السنونْ

    يا قلب هل تدع الطفور؟
    وأين تمضي بالشجون؟

    للشوق شوقٌ في حشاه
    وللمنى وجهٌ مصونْ

    ما دام لي شوق، له
    وجه، فإن له بطونْ

    لهواه ألفا زوجةٍ
    ولكل واحداةٍ بنونْ

    * * *

    كيف اكتشفت؟ قرأت
    أسرار المغاور والحزونْ

    لي موطن، لا ذرة فيه
    على الأخرى تهونْ

    الأرض نفس الأرض
    لكن الجحيم الآخرونْ

    السجن لصق السجن
    لصق المكرفون المكرفونْ

    * * *

    لا تكترث، يقع الذي
    لا يدعي المستطلعونْ

    من أي نبع أنت؟
    من ياءٍ، ومن ميمٍ، ونونْ

    * * *

    للقلب -يا ديجور- قلب
    من أساطير الفتونْ

    لن يعدم الأرق النجوم
    ولن ينام العاشقونْ

    * * *

  • 403 الصديقات

    ديوان ترجمة رملية لأعراس الغبار >  الصديقات

    نافرات ينسين عندي النفارا
    واعدات لا يستطبن اعتذارا

    مسعدات من طول ما ارتدن بيتي
    زائرات، أمسين هن المزارا

    في بساتينهن يحلو مقامي
    فوق أثدائهن أهوى السفارا

    * * *

    أصبحت وحدها القصائد أهلي
    صرن لي في الضياع حقلاً ودارا

    تلك أمي، تلك ابنتي، تلك طفلي
    تلك عرسي ليلاً، وأختي نهارا

    * * *

    حاضناتي، وهن طفلات حبي
    مرضعاتي، وهن أصبى العذارى

    هن سكري، وهن في الكأس أصحى
    هن صحوي، وهن حولي سكارى

    * * *

    الصديقات في الزمان المعادي
    والحواني، والعنف ليس يجارى

    الدفيئات في الليالي الشواتي
    والشوادي والصمت يحسو الجدارا

    * * *

    يختصرن الشعوب قلباً بقلبي
    وإلى جرتي يسقن البحارا

    فارعات القوام يحضن وجهي
    وإلى جبهتي أطيل القصارا

    بين أفنانهن يفتن غصني
    فأغني، ويعطس القلب نارا

    عند ذات الوقار أصغي وأنسى
    عند برقية العيون الوقارا

    * * *

    هن شتى الفنون، هذي ألوف
    تلك جنية الخطا لا تبارى

    ذي (تراجيديا) وهذي (درامى)
    تلك (جمالة) تشم العرارا

    هذه ربوة تدلي الثريا
    تلك فج هناك يتلو الغبارا

    تلك عين تمد للشمس يوماً
    تلك أمسية كوهم الحيارى

    تلك بنية، وهذي نبيذ
    تلك قمحية تشع اخضرارا

    تلك وادٍ من الكروم الحبالى
    تلك روض تفتق الجلنارا

    تلك قاتية كأهداب (أروى)
    تلك دخنية كغيم الصحارى

    * * *

    هن أنى ذهبن وجه بلادي
    جئن عنه، وجئن منه اختصارا

    أي اسمائهن أشذى نثيثاً
    أي أوصافهن أشهى ابتكارا؟

    * * *

    قد أرى هذه (تعزاً) وتبدو
    تلك (صنعأ) هاتيك تبدو (ذمارا)

    تلك تبدو (بيحان) هاتيك (إباً)
    تلك (لحجاً) هذي تلوح (ظفارا)

    قد أسمي هذي (سعاداً) وأدعو
    هذه (وردةً) وهذي (نوارا)

    هن ما شئت من أسامٍ وإني
    كيفما شئن لي أموت اختيارا

    (أغسطس 1982)

  • 404 لعينيك يا موطني

    ديوان ترجمة رملية لأعراس الغبار >  لعينيك يا موطني

    لأني رضيع بيانٍ وصرف
    أجوع لحرفٍ، وأقتات حرف

    لأني ولدت بباب النحاة
    أظل أواصل هرفاً بهرف

    أنوء بوجهٍ، كأخبار كان
    بجنبين من حرف جر وظرف

    * * *

    أعندي لعينيك يا موطني
    سوى الحرف، أعطيه سكباً وغرف؟

    أتسألني: كيف أعطيك شعراً؟
    وأنت تؤمل، دوراً وجرف

    أفضل للياء وجهاً بهيجاً
    وللميم جيداً، وللنون طرف

    أصوغ قوامك من كل حسنٍ
    وأكسوك ضوءاً ولوناً وعرف

    * * *

  • 405 ملامح حداثية في شعر البردوني.. الدكتور عبدالعزيز المقالح

    دراسات >  ملامح حداثية في شعر البردوني.. الدكتور عبدالعزيز المقالح

    اعترف بداية أنني لم أكن أرغب في الكلام على حداثة شاعرنا الكبير تحت هذا العنوان فقد كنت- ومازلت- أرى أنه شاعر حديث بكل ما تحمله كلمة حديث من مفهوم المعاصرة والتجديد، وباستثناء بداياته القليلة التي كان واقعياً فيها- شأن كل مبدع مبتدئ- تحت تأثير بعض الشعراء القدامى والإحيائيين أمثال أحمد شوقي وحافظ إبراهيم والرصافي وأضرابهم، فإن الشعر الذي كتبه بعد مرحلة البداية يصب في نهر التحديث بكل طموحاته ومغامراته، سواء من خلال الأسلوب الذي يصطنعه أو من خلال الموضوعات التي يتبناها، ويمكن لنا أن نتكلم على هذا الشعر عبر ثلاثة ملامح رئيسية تتحدد بحسب المؤثرات التي خضع لها الشاعر هي: الملمح الرومانسي، والملمح الواقعي، والملمح السوريالي.
    البردون الشاعر وحداثة البردوني الإنسان والثائر قد تلازمتا وتناغمتا، وكانتا دليله إلى “مدينة الغد” التي ظل ينشدها في شعره ومواقفه.
    قبل الاقتراب من الملامح الحداثية في شعر الشاعر الكبير عبدالله البردوني تجدر الإشارة بإيجاز شديد إلى مفهوم الحداثة عند القدماء والمعاصرين من نقاد الشعر العربي عبر العصور، مع التأكيد على حقيقة لم تكن غائبة في وقت من الأوقات ومؤداها أن الشعر العربي لم يعرف حالة الركود والاجترار إلا في القرون التي أعقبت انهيار الدولة العربية الإسلامية وما تلاها من توقف حركة التطور والتجديد ومن عزل للوطن العربي عن سياق التفاعلات الواسعة التي كان أبناؤه يخوضونها بوعي واقتدار، والتأكيد على هذه الحقيقة والتعمق في أبعادها من شأنهما أن يجنبانا بل يقيانا الوقوع في براثن التفكير الرديء وأعني به ذلك المستوى من التفكير الذي يصور لنا أن كل جديد ماهو إلا خروج عن سياق الأصالة وإساءة للنموذج الإبداعي الأول، أن كل حداثة بدعة مستوردة من الآخرين الذين هم أعداؤنا بالضرورة، وأن المحافظة على لغتنا وأدبنا بشقيه النثري والشعري لن تتحقق إلا بالانكفاء على الذات وبرفض منطق التفاعل والقبول بالعيش في دائرة ضيقة بعيداً عن الرؤى والقضايا والعلاقات الجديدة.
    وتحاول هذه الإشارة الموجزة إلى مفهوم الحداثة قديما أن تسترجع مواقف ثلاثة تيارات إبداعية في الشعر العربي يرافقها أو يعكس مواقفها ثلاثة تيارات نقدية شغلت الماضي كما تشغل الآن الحاضر وكأنها تؤكد نظرية التناسخ في الأفكار والمواقف وهذه التيارات الثلاثة هي:
    1- تيار شعري تقليدي محافظ على مرجعيته الأصولية التي تعود إلى شعر ما قبل الإسلام، ويتركز جهده ومحافظته على الشكل البنائي الخاص بترتيب القصيدة بدءاً بالنسيب والوقوف على الأطلال من جهة وعلى الجانب الفني المرتبط بالبلاغة وطريقة بناء الاستعارة بما لا يخرج عما تواضع عليه الشعراء في ذلك الزمن السالف الذي أصبح مرجعا ونموذجا. وشعراء هذا التيار كثيرون ومن نقاده المشاهير عمرو بن العلاء الذي يناوئ كل تحديث ويرى فيه ضعفاً وركة وخروجاً على النموذج الكامل وقد روت عنه كتب النقد قوله بعد تمكن الحديث من إثبات وجوده (لقد كثر هذا المحدث وحسن حتى لقد هممت بروايته)(1)
    2- التيار الشعري التجديدي الذي يحافظ على الشكل البنائي للقصيدة ويخضعه لاستيعاب المتغيرات في الرؤى والتحول في التعامل مع اللغة وصوغها بما يتناسب مع قدرتها على تلبية ثقافة الواقع وشروطه الثقافية، وله رواده وأقطابه في الماضي ورواده وأقطابه في العصر الراهن ولم يحفل هؤلاء الرواد بمواقف التيار السابق ولا بمقولاته الجامدة ومنها قول الآمدي (وإنما ينبغي أن ينتهي في اللغة حيث انتهوا ولا يتعدى إلى غيره فاللغة لا يقاس عليها)(2)
    3- التيار الشعري التجديدي أو الحداثي الذي يسعى إلى تجاوز النموذج البيتي، وكانت البداية مبيتات ومسمطات ثم موشحات وصولا إلى ما يسمى بشعر (البند) الذي يشبه النثر في طريقة كتابته مع محافظته على الوزن، ولقد لقي هذا المستوى من التجديد اعتراضاً شديداً، فكان الموشح، وهو الفن الشعري الذي حاول في وقت مبكر اكتشاف إيقاعات وأوزان وتشكيلات بيتية جديدة- مرفوضاً ومعدوداً خارج الشعر، وجاءت تسميته بالموشح إبعاداً وتمييزاً له عن الشعر بالمفهوم السائد.
    وهذا يؤكد بوضوح أن العربي كان دائما بحاجة إلى التجديد والتجاوز إما في لغته أو في بنيته أو في موضوعاته، كما يؤكد أن التعايش بين هذه الأنماط أو التيارات الثالثة قد بقي إلى العصر الحديث حيث بدأ التجديد في المهجر على شكل قصائد متعددة البحور وتفيد من نظام الموشحات، كما بدأ التحديث داخل إطار القصيدة البيتية، وحقق شعراء الحداثة المضمونية -إذا جاز التعبير ومنهم على سبيل المثال لا الحصر بشارة الخوري – وعمر أبو ريشة وسليمان العيسى والبردوني والجواهري وسعيد عقل، حققوا نجاحا هائلا في أن يصبوا داخل الإطار التقليدي للقصيدة خلاصة ثقافتهم الحديثة، وكما اخترق أبو نواس ومن بعده أبو تمام المألوف ليحدثا جديداً داخل القصيدة العربية دون أن يضطر إلى تهشيم نظامها البيتي فقد أحدث الشعراء المعاصرون ثورة فريدة مؤكدين بذلك أن الشاعر الحقيقي في كل عصر لا يخضع للتقليد ويرفض الاستسلام لأساليب سابقية والكتابة على منوالهم والحداثة في أبسط تعريف لها هي التعبير عن الفاعلية الزمانية والمكانية وعلى ضوء هذه الفاعلية يعيد كل جيل ترتيب أفكاره وأساليبه ويحاول كل فرد موهوب في هذا الجيل أن تكون له لغته الخاصة أو بعبارة أدق امتلاك لغة تستوعب رؤاه وتسمو إلى أفقه الفني والمعنوي.
    ويستطيع القارئ أن يكتشف بنفسه أن البردوني الذي كان أكثر الشعراء المعاصرين -المشار إليهم فيما سبق- محافظة على نظام القصيدة البيتية هو في الوقت ذاته أكثرهم خروجاً على هذا الشكل من داخله ومن خلال استيعاب المغامرة،. وفي كتابي “أصوات من الزمن الجديد” دراسة بعنوان “عطر جديد في آنية قديمة” مقاربة تحليلية لهذا المستوى من التجديد في القصيدة البردونية وقد بدأت الدراسة بالسؤال الآتي: (هل رأيت العطر أو “الباروفان” الباريسي الحديث في زجاجة قديمة؟ إذا لم تكن قد رأيته فإنني قد رأيته أنا، ولكن في ديوان شعر.. نعم ديوان شعر يجمع بين المحتوى الحديث والشكل القديم، بين الرؤية التحليلية التي تتواءم مع الرؤية التمثيلية لشاعر حديث مثل (سان جون برس) والبنية التراثية التي تذكرنا بالأعشى، والنابغة، وأضرابهما من الشعراء الجاهليين، كيف حدث هذا؟ وأين حدث؟ وتمضي الدراسة بعد ذلك إلى القول: (إن قراءة عابرة في ديوان الصديق الشاعر الكبير عبدالله البردوني كفيلة بالرد على السؤال، وقادرة كذلك أن تعطينا تصورا كاملا عن كيفية اللقاء الواعي بين الماضي الحاضر، والعناق الملائم بين الإبداع والتراث، ولقد تمكن شاعرنا في ديوانه الأخير، “زمان بلا نوعية” ان يتوصل إلى المعادلة الصعبة في عالم الشعر، واستطاع أن ينجح فيما فشل فيه الآخرون، عندما حافظ على الغنائية المتكاملة، وهي أهم ما تتميز به القصيدة التراثية، في الوقت الذي شحن فيه قصائده بالمضامين المواكبة للعصر، وكأنه بذلك يضع شعار الأصالة والمعاصرة موضع التطبيق)(3).
    وفي كتابي “من أغوار الخفاء إلى مشارف التجلي” دراسة أخرى بعنوان “البردوني ورحلة التجاوز من القصيدة البيتية بالقصيدة البيتية” وفيها أي الدراسة قراءة متأنية لعدد من الدواوين الأخيرة للشاعر وما تحمله من مغامرة جديدة ومدهشة داخل النظام البيتي، مغامرة تصنع اللامألوف من المألوف وتقيم الجسر المفقود في حركة التنوير الشعري في امتدادها من البيت إلى القصيدة، ومن القصيدة إلى النص الفني المعاصر، وهو أي البردوني- بهذه الدواوين يثبت أن كل الشعراء العرب المبدعين والحريصين على الانتماء بشعرهم إلى الوجود المعاصر قد شاركوا جميعاً وبمستويات مختلفة في هز القصيدة التراثية وآفاقها كلٌّ بأسلوبه فمنهم من حاول تفكيك القصيدة إلى مقاطع ومنهم من حاول تفكيك البيت إلى تفعيلات مع الاحتفاظ بموسيقى البحر، ومنهم من حاول تفكيك القصيدة والبيت معا وصولا إلى القصيدة النثرية، وكل هذه المحاولات مشروعة وضرورية للشعر إذا كان الهدف هو الإبداع وإثبات أن نبض القصيدة كنبض التاريخ تطورٌ لا يتوقف ولا ينتهي ولا يعترف بالقيود والسدود، فالتوقف صيغة للموت وصورة من إعلان إفلاس الإبداع.(4)
    وتصل الدراسة إلى الدور المهم الذي نجح فيه شاعرنا البردوني في الخلاص من التأثير البنائي للقصيدة الموحدة البحر والقافية والخروج بها إلى مرحلة التحدي التاريخي حين تبدو ظاهريا تكراراً لصيغة الشكل التقليدي في حين أنها تتمتع بمقومات الحداثة والمعاصرة، وحتى الإيقاع الموسيقي الذي يبدو مع القافية أقل عناصر القصيدة البردونية حداثة لا يخلو من الجدة، فهو يستجيب للتمرد اللغوي ولخللة تركيب الجملة الشعرية، والقافية وهي جزء من الإيقاع الموسيقي لا تؤدي إلى تقطيع أوصال القصيدة أو إلى تفتيت معانيها، كما كانت ولا تزال تظهر في شعر كثير من النظامين، وإنما هي جزء من البنية ليست ملتصقة بالبيت ولا خارجة عن النسق الشعري ولم تعد مهمتها إيجاد التوافق الصوتي مع بقية الأبيات أو إعلان نهاية المعنى وإفساح الطريق لمعنى جديد، إنها تتلاشى بإيقاعها الحاد في البنية الداخلية للقصيدة وتوشك القصيدة من هذا النوع عند البردوني أن تصير مدورة، ويستطيع القارئ أن يلم بها دون أن يتوقف عند نهايات الأبيات وهذا هو المقطع الأول من قصيدة زمان بلا نوعية
    غريبة طارئات مثلي
    شريدة مثلي ومثلك أهلي
    منقادة مثلي لكل ريح
    رمل الفيافي أهلها وأهلي
    لأنها رملية شبيهي
    أتى غباراًً كنسلها، ونسلي
    كما التقى مستنقع قبيح
    كان تفاجئ زمرها وطبلي
    مثلي بلا فعل ولا تخلٍّ
    هل فعلنا أخوَى أم التخلي
    مثلي بلا ماض، وما يسمى
    (مستقبلي) يأتي، يموت قبلي(5)
    هذا المقطع يمكن أن نقرأه على نحو آخر تختفي معه العمومية أو البيتية، وتتشابك فيه المعاني وتتوحد البنية الخارجية بالبنية الداخلية دون أن يحدث قدراً من الاختلال، ودون أن يؤثر التشكيل الجديد على وضوح التجربة وتطور مسارها، بل ربما زاد هذا الجانب وضوحا واستكمالا، وربما اتجه إلى الكشف عن وحدة البناء العضوي، وحدد ملامح تجربة متميزة تستطيع أن ترتفع إلى مستوى التحدي التاريخي لفن الشعر(6).
    ومهما قيل عن الإطالة في هذا التقديم، واعترف أنها كذلك، لكنها تبدو من وجهة نظري على الأقل- ضرورية لمعرفة أبعاد التجاوز التي قطعتها القصيدة البردونية في مضمار التحديث فضلا عن المحاولة الهادفة من خلال هذا التقديم الذي أكرر الاعتراف بأنه طال- إلى وضع تجربة الشاعر في سياقها التاريخي والمعاصر بوصفها واحدة من أهم التجارب الشعرية الحديثة التي استأثرت بوجدان القارئ العربي، وكانت وستبقى محل اهتمام النقد الأدبي لا بكونها تجربة رائدة في مجالها وحسب وإنما مغامرة فنية لم تمنعها الأطر المحددة سلفا عن التعدد والاتساع وتغيير المعادلات التي ترسخت عبر الكتابات النقدية الجادة التي كانت وما تزال ترى أن هامش الحداثة داخل القصيدة البيتية محدود أو شبه معدوم.
    الملمح الرومانسي
    لا مكان للشك بين الدارسين المهتمين بالشعر العربي الحديث.. في أهمية ما اضطلع به الاتجاه الرومانسي من إشاعة النزعة التجديد والتمكين للشاعر العربي من اكتشاف منهج مغايرة في الكتابة الشعرية، ومن حسن الحظ أن الرومانسية عندما تلقتها الحياة الأدبية العربية في العشرينات من القرن المنصرم لم تكن تعبيراً عن الإحباط والهروب من الواقع كما كانت في بداية ظهورها في أوروبا وإنما كانت بمثابة الثورة الفنية الشاملة ثورة في الأسلوب وفي المعجم الشعري وفي الحنين إلى الطبيعة وتجاوز موضوعات الشعر العربي القديم كالمدح والهجاء، صحيح أن عدداً قليلاً من الشعراء العرب قد وجدوا في هذا الاتجاه فلسفة أو مرجعية للشعور بالقلق والإحساس بالضياع والتشاؤم من الوجود إلا أن غالبية شعراء العربية الذين اقتربوا من هذا الاتجاه بوعي قد أفادوا من سماته الجوهرية وكتبوا في ظل مؤثراته شعراً إنسانياً بديعا متألقا في صوره ومفرداته وموقفه وفي حنينه إلى العدل والمساواة. وإذا كان الأثر الإيجابي لهذا الاتجاه قد بدأ مع أبي القاسم الشابي وعلي محمود طه وإبراهيم ناجي ومحمود حسن إسماعيل فإن تجلياته الأوضح كانت مع السياب ونازك الملائكة والبياتي وبلند الحيدري وصلاح عبدالصبور وأدونيس وأحمد حجازي حيث قاد إلى اكتشاف التجربة الجديدة في الشعر العربي الحديث، فقد خرج هؤلاء جميعهم من عباءة الرمانسية.

    وإذا كانت اليمن لأسباب جغرافية أو سياسية قد انعزلت عن العالم بعامة وعن أقطار الوطن العربي بخاصة فإن ذلك لم يمنع بعض أبنائها المبدعين من الخروج إلى بعض العواصم العربية كما حدث لأربعة من الشعراء الرواد وهم محمد عبده غانم ومحمد محمود الزبيري ولطفي جعفر أمان وعلي محمد لقمان، فقد تلقى الأول دراسته في بيروت في أوائل الثلاثينيات وحاول الثاني أن يدرس في القاهرة في أواخر الثلاثينات ولم ينجح بينما أفاد الثالث من دراسته في الخرطوم في الأربعينات والرابع والأخير تلقى دراسته في القاهرة في الفترة ذاتها تقريبا وحمل أربعتهم نسمات الرومانسية وسماتها وسرعان ما التقطها شاعران مقيمان في الوطن هما إبراهيم الحضراني وأحمد الشامي، وبفضل الجهود الإبداعية التي بذلها هؤلاء استطاعت الحداثة أن تؤسس لها مساحة في الحياة وفي وعي الناس.
    وفي منتصف الخمسينات كان البردوني قد استوعب الموروث واستبطنه حفظاً ومحاكاة وحينها بدأ يتجه إلى قراءة الشعر الحديث وكان الاتجاه الرومانسي أول المنعطفات الهامة في حياته الشعرية. فالرومانسية تلبي حاجة الشاعر إلى “الحلم” بعالم جديد وإنسان متجدد في إحساسه بالتوحد مع الطبيعة والتعامل بحب وحنان مع كل الأشياء كما هو الحال في قصيدة “عازف الصمت” التي توحد بينه وبين الصخور والقبور بين السهول والتلال بين الوجود والفراغ في لغة صافية وفي صور بالغة العذوبة والجمال:
    أطلت هنا وهناك الوقوف
    تلبي طيوفا وتدعو طيوفْ
    وفي كل جارحة منك.. فكر
    مضيء وقلب شجي شغوف
    تغني هنا وتناجي هناك
    وتغزل في شفتيك الحروف
    وتهمس حتى تصير الصخور
    فماً شاديا وفؤاداً عطوف
    وتعطي السهول ذهول النبي
    وتعطي الرؤى حيرة الفيلسوف
    تلحن حتى تراب القبور
    وتعزف حتى فراغ الكهوف
    وتفني وجوداً عتيقاً حقيراً
    وتبني وجوداً سخياً رؤوف
    وتغرس في مقلتيك الرؤي
    كروماً تمد إليك القطوف
    وحدي وآلاف البرى
    قومي.. وكل الدهر عندي
    من جلديَ الخشبيَّ أخرج
    تدخل الأزمان جلدي
    من لا متى، آتي، أعود
    مضيعاً قبلي وبعدي
    كحقيقة ملأى ولا تدري
    كبابٍ، لا يؤدي
    مشروع أغنية بلا صوت
    كتابٌ غير مجدي
    شيء يخبئه الدجى
    في زرع سرته ويبدي(8)
    شعر بديع يعزز المنحى التجديدي في القصيدة العربية، ويتمثل بوضوح تام مقاييس الاتجاه الرومانسي وجمالياته، ورغم بوادر القلق والحيرة البادية في الجزء الأخير من هذا المقطع فإنه يبقى شعراً متمرداً وصاخباً وإيقاعه الحزين لا يمنع من الإيحاء بعنف صارخ ضد هذه العدمية التي تنمو داخل النص دون أن يدري الشاعر كمحصلة طبيعية لهذه الوجدانية المتأزمة.. وما أحوج هذا الملمح التحديثي في شعر البردوني إلى دراسة متأنية تتناوله بتوسع.
    الملمح الواقعي
    لا ينفصل شعرنا العربي بعامة، أو الشعر في اليمن بخاصة عن الواقع الذي صدر عنه، وهو يعبر أصدق تعبير عن حالات التردي التي يعيشها الإنسان العربي في مشرق الوطن الكبير ومغربه.. ومعظم شعر البردوني، إن لم يكن كل شعره مرتبط أشد ارتباط بالواقع المحلي والعربي والإنساني وقصائده كلها أو جلها جدل حي بين الاجتماعي والسياسي والفكري، وقد رأينا في النموذجين اللذين أوردناهما في الملمح الرومانسي كيف أن الرومانسية بما قيل عن كونها مذهبا هروبيا لم تستطع أن تنتزعه عن الواقع الحائر المحير فامتلأ النموذجان بالتمرد والثورة العارمة.
    وإذا كانت بعض النماذج الواقعية في الشعر العربي قد اختلطت بالإعلام والدعاوة المباشرة وتعامل معها عشرات الشعراء من منظور تبسيطي هابط يسيء إلى الشعر وجمالياته ويشوه معالمه فإن قصيدة الواقعية لدى البردوني ذات مقاييس حداثية حريصة على أن تكون شعراً وكما تحاول أن تتجه إلى مجموع الناس الذين نسعى جميعا إلى استقطابهم وكسب مواقفهم فإنها تسعى كذلك إلى أن تتحدث إلى ذهنية ثقافية متقدمة تمتلك ثقافة شعرية وتجيد التمييز بين مقومات لاشعر ومقومات النثر، بين الكلام والإبداع، ومن هنا فقد لقيت قصائده الأخيرة وهي شديدة الواقعية والارتباط بواقع الناس الذين ازداد اقترابا من همومهم ومعاناتهم قد لقيت نوعا من الإعراض لأنها ارتقت بمستواها الفني إلى درجة يصعب على عامة الناس إدراك رموزها ودلالاتها، ولأسباب ثقافية بحتة سيظل القارئ العربي يشكو من غموض القصيدة ومن عجزه عن فهم الشعر الجيد المكتنز بالمعنى العميق والأسلوب الساخر الساحر وهذا نموذج واقعي بديع كان قد حمله إلى قبل عقد من الزمن أحد المحسوبين على الشعراء طالبا مني تفسيره:
    الرقم العاشر كالثاني
    الواحد ألف، ألفان
    وسوى المعدود، كمعدود
    وسوى الآني، مثل الآني
    الألف، الصفر، بلا فرق
    يَّان الأعلى، والداني
    الفوق سقوط صخري
    التحت سقوط إنساني
    نفس النوع، الأعلى أدنى
    وجه المغنى، ظهر الغاني
    سيان القاتل، والراثي
    سيان الشامت والحاني
    الإنسان الموت الأظمى
    ودم القتل الظمىء العاني(9).
    أي صورة أدق وأعمق للواقع العربي، بل الواقع الإنساني الذي اختلطت فيه الأمور إلى درجة يصعب معها التميز بين الأرقام والألوان وكذلك بين الأفعال نفسها وبين الأقوال نفسها، إنه واقع شديد الغرابة والقسوة لا يستطيع إدراك أبعاده الحقيقية وقراءة دلالات هذه الأبعاد سوى الشاعر الرائي القادر على النفاد بوعيه المتقدم إلى الواقع المتعين القائم لا الواقع المثالي المنتظر.
    وحين نتخلى قليلاً عن تفاؤلنا الساذج سندرك حقيقة هذه المفارقات المتضادة ونعذر الشاعر الذي أمسك بخيوط هذه الشطحات، بل سنكبر فيه وعيه المخالف للمألوف في التعبير وفي أساليب التعبير، والفن الواقعي- كما يؤكد النقاد الواقعيون الأحرار- لا يكون بنقل الواقع من الطبيعة إلى الورق كما تفعل الصورة الفوتوغرافية، وإنما يعطي للفنان، الشاعر والرسام مساحة من حرية التشكيل:
    أخي صحْونا كله مأتم
    وأغفاؤنا ألمٌ أبكم
    فهل تلد النور أحلامنا
    ولم يلد الزهرة البرعم؟
    وهل تنبت الكرم ودياننا
    ويخضر في كرمنا الموسم؟
    وهل يلتقي الري والظامئون
    ويعتنق الكأس والمبسم؟
    لنا موعد نحن نسعى إليه
    ويعتنق الكأس والمبسم؟
    لنا موعد نحن نسعى إليه
    ويعتاقنا جرحنا المؤلم
    فنمشي على دمنا والطريق،
    يضيعنا والدجى معتم
    فمنا على كل شبر نجيع،
    تقبله الشمس والأنجم
    سل الدرب كيف التقت حولنا
    ذئاب من الناس لا ترحم
    وتهنا وحكامنا في المتاه
    سباع على خطونا حوّم
    يعيثون فينا كجيش المغول
    وأدنى إذا لوَّح المغنم(10).
    تلك صورة واقعية بالكلمات لما كان يعاني منه الشعب اليمني قبل ثورة السادس والعشرين من سبتمبر 1962م، ولعل هذا الملمح بحداثته المعنوية، ورؤيته الثورية يشكل الجانب الأكبر من تجربة البردوني الشعرية الذي أصبحت قصائده التعبير الصادق عن هموم الإنسان في هذا الجزء من الوطن العربي والصور الأوضح عن الواقع القبيح الذي ينبغي، بل يجب تغييره:
    لماذا لي الجوع والقصف لك؟
    يناشدني الجوع أن أسألك
    وأغرس حقلي فتجنيه أنت
    وتسكر من عَرَقي منجلك
    ماذا؟ وفي قبضتيك الكنوز
    تمد إلى لقمتي أنملك
    وتقتات جوعي وتُدعى النزيه
    وهل أصبح اللص يوما مَلَكَ؟
    لماذا تسود على شقوتي؟
    أجب عن سؤالي وإن أخجلك
    ولو لم تجب فسكوت الجواب
    صحيح.. يردد ما أنذلك(11).
    الملمح السوريالي
    يقول خصوم السوريالية إنها فن الكتابة الذي يسعى إلى وضع الرأس مقلوباً في محاولة للإدهاش والإثارة، ولكن هؤلاء الخصوم ينسون الهدف الذي من أجله تفعل السوريالية ذلك، ويقولون أيضاً إنها تسعى إلى تشويش الوعي دون أن يذكروا الأسباب الفنية الكامنة وراء ذلك التشويش الذي يصدر عن قصد يستبعد معه الشاعر المألوف والمتعارف عليه ويبدأ كتابته في حالة شعورية خالية من قيود المنطق، وفي محاولة لتجاوز الواقع الجامد وتركيب الأشياء تركيبا فنياً.
    وباختصار، فإن السوريالية (تقوم على الحلم الدائم والمشاعر والأحاسيس البعيدة عن كل هيمنة إرادية، وتخرج من سلطان الوعي المباشر إلى اللاوعي، ومن المنطق العقلي السائد إلى اللاوعي حيث الحقائق الأولى والمواضيع الأولى البعيدة عن مراقبة العقل المباشرة)(12) وقد نجح البردوني في التقاط مؤثرات هذا المذهب الفني وكتابة بعض قصائده في ضوئه؛ لا بحثاً عن الإدهاش والإثارة وإنما في محاولة للفت الانتباه إلى حالة التناقض الموجودة في الواقع والتي تجعل الأمور مقلوبة أو في غير موضعها من جهة وفي تحديث القصيدة العربية والخروج بها من المسكوكات التقليدية من جهة ثانية، ويكاد هذا الملمح يشكل الخصوصية الخالصة في القصيدة البردونية إذ لم يجرؤ شاعر عربي، من شعراء العمود أو التفعيلة على تحطيم التعابير المألوفة عقليا كما فعل هذا الشاعر الكبير الذي شجعته سخريته المريرة على الاقتراب من الخيال بالمفهوم السوريالي:
    للريح طعم في حلوق الحصى
    وللجواري بالنجوم اكتحال
    هذي الشبابيك لها صبوة
    إلى وصالٍ غير ذاك الوصال
    تلك القناديل وإن راوغت
    لها غموض واضح الانفعال
    ماذا اعتراني لا أنا عامر
    ولست قفراً.. ما اسم هذا المآل؟
    يُعيِّر الأحلام، تبدو له
    ذوات أنياب وأيد طوال
    لها أنوف مثل ريش “القطا”
    وأعين مثل دبيب النمال
    أقدامها مثل صدى أنة
    أكتافها مثل جسوم البغال
    يحس رأسين على جيده
    وحيث كان الحلق، حل القذال
    يلف زنديه على صدره
    يصغي كمسلول يقاوي السعال
    تلوذ ساقاه بأضلاعه
    يهز في إبطيه، وكر اغتيال
    أمطار هذا الوقت ضوئية
    يا سقف هذا وابل أم وبال(13).
    نحن مع هذا النص وأمثاله أمام طقس شعري ولغوي غير مسبوق لا في شعرنا القديم ولا في شعرنا الحديث، تركيب الجملة مختلف وتكوين الصورة أكثر اختلافاً، ولو تساءلنا هل للريح طعم؟ وهل للحصى حلوق كي تتذوق من خلالها طعم الريح؟ لكانت الإجابة بالنفي طبعاً، ولكنه الشعر أو أنها الملامح الأولى السوريالية في القصيدة العربية تعيد تركيب الأشياء كما تراه لا بما هو عليه، وهذا جزء من نص بعنوان: “الجدران الهاربة” هاربة إلى أين؟ هذا ما لا يقوله النص لأنه لا يحفل بأن يقول أو يرد على جواب:
    أقبلت كلها الدكاكين ولهى
    كبغايا هربن من نسف ملهى
    لم يعد من يجيء، جاءت سقوف
    فوق أخرى، واهٍ أتى فوق أوهَى
    كان يستفسر الغبار الشظايا:
    المرايا أو الجراحات أزهى؟
    أي صنفي خمارة الموت أرقى؟
    الأغاني أو السكاكين أشهى؟
    أقبلت كلها العمارات عجلى
    تتمطى مخبزاً،وتجتر مقهى
    ترتدي آخر الأناقات، لكن
    مثلما تدعي الفطانات بلها
    كاد يبدو أسفلت كل رصيف
    ركبة تحتذي ثمانين وجها
    والذي يبتدي، بلا أي بدء
    والذي ينتهي، إلى غير منهى(14).
    خاتمة
    تلك هي الملامح الحداثية في شعر البردوني كما حاول أن يقدمها – باقتضاب- هذا البحث الذي اعترف أنه بمثابة قراءة أولية لهذه الملامح الفنية بالمعاني والصور الجديدة والمحرضة على الأخذ بأسباب التحديث ومقاومة الجمود الشعري، وما من شك في أن ثقافته التراثية العميقة قد ساعدته على التحرر من أشكال الوعي المسبق بالتركيب البنائي للجملة الشعرية وعدم الخوف من تهمة الحداثة إيماناً منه بأن هذا المصطلح ليس جديداً ولا طارئاً مستورداً من وراء البحار كما يتوهم التقليديون ودعاة الجمود وربما تضمَّن تقديم هذا البحث إشارة مباشرة إلى هذه الحقيقة وإلى أن مصطلح التحديث قديم وليس هبة من الغرب وإنجازاته في الآداب.
    وبعيداً عن التعصب الأعمى والمبالغة فإن موروثنا الأدبي بشقيه الإبداعي والتنظيري يشمل معطيات بالغة الأهمية تحتاج منا إلى مزيد من الدرس والبحث والتأصيل حتى لا يبقى العقل العربي المعاصر رهن التخرصات ولكي يدرك أن مدارس شتى للحوار في مختلف المجالات الفكرية والإبداعية قد نشأت على أرض العرب قبل قرون من وعي الغرب بها.
    وتبقى إشارة أخيرة إلى العلاقة بين حداثة البردوني الشاعر وحداثة البردوني الإنسان والثائر، فقد تلازمت الحداثتان وتناغمتا وكانتا دليله إلى “مدينة الغد” التي ظل ينشدها في شعره وفي مواقفه.
    الهوامش:
    1- ابن قتيبة: الشعر والشعراء، ص5
    2- نفسه: ص6.
    3- د. عبدالعزيز المقالح: أصوات من الزمن الجديد، ص11.
    4- د. عبدالعزيز المقالح: من أغوار الخفاء إلى مشارف التجلي، ص143.
    5- ديوان ترجمة رملية لأعراس الغبار، ص23.
    6- د. عبدالعزيز المقالح: من أغوار الخفاء إلى مشارف التجلي، ص144.
    7- ديوان في طريق الفجر، ص289.
    8- ديوان وجوه دخانية، ص14.
    9- ديوان زمان بلا نوعية، ص15.
    10- في طريق الفجر: ص55.
    11- نفسه، ص21.
    12- د. عبدالحميد جيده: الاتجاهات الجديدة في الشعر العربي الحديث ص29.
    13- ديوان رواغ المصابيح، ص75.
    14- ديوان زمان بلا نوعية، ص27.
    عن (مجلة الكويت العدد 227 الصادر في 1سبتمبر2002)

  • 406 الدلالة ومرجعية الصورة في شعر البردوني.. الدكتور فايز الداية

    >  الدلالة ومرجعية الصورة في شعر البردوني.. الدكتور فايز الداية

    يتطلع الكشف الدلالي في نقد الشعر إلى بلوغ مرتبة يتبين معها وعي الشاعر بالعالم من حوله وترتسم من خلال الكلمات الدوال رؤيته المتبلورة في مجمل الديوان، أو في الأعمال الشعرية الكاملة، وهذا ما يتيحه لنا ديوان عبدالله البردوني الثالث “مدينة الغد” الذي يجمع سمتين هامتين هما نضوج التجربة والأدوات لدى الشاعر، والإطار التاريخي للقصائد. فهي تدور في سنوات غليان الثورة وبحثها عن ملامحها وطريقها بعد انطلاقها في اليمن 1962م.
    إن الكلمات هي الدوال التي تعكس العالم المادي والذهني والنفسي وعندما تبرز مجموعة منها مشكلة دائرة دلالية في زوايا محددة إنما تعطينا ما يدور في أعماق الشاعر وهي الهواجس التي تلح وتتفاعل في المواقف والمنحنيات وتتلمس مواطئ الخطوات، إن هذه الدوال المفاتيح هي بعض من المعجم الشعري الخاص لأنها غادرت فاعلية الدلالة العامة إلى دلالة تحمل إضافة من تكاملها وتبادل التأثير فيما بينها عبر قصائد الديوان، ولا شك أن قراءتنا ستجد تفسيراً أبعد مع كل وقفة للمفاتيح الدلالية، لأن تجاوب الأصداء سيتصاعد ما بين كيان الدائرة الكلي وهذا الموقع في القصيدة، وسيظل التلقي في إطار النص وعلاقاته أولاً على أن يتسع مفهوم النص لديوان الشاعر أو دواوينه.
    أدى بنا استقراء ديوان “مدينة الغد” إلى رصد دائرتين دلاليتين تركزت كل منهما في بؤر دلالية تستغرق القصيدة ثم انداحت المفاتيح في القصائد الأخرى على شكل مقاطع أو ومضات، وهكذا يبدو جسم الدائرة في مجموعة المفاتيح الخاصة بها وفي انتشارها في أركان التجارب الشعرية، أما الأولى فهي دائرة “الولادة والخصب” والأخرى هي “دائرة المواسم والفصول”.
    ونحدد قبل الخوض في التفاصيل أن دراسة الصورة الفنية متداخلة على نحو عضوي بالدلالة ذلك أن الدوال المرصودة تعد إشارة إلى مرجعية الصورة، وفي الوقت نفسه ترتبط بمرجعية داخلية هي دلالة اختيار الشاعر للدائرة والأبعاد النفسية والفكرية فيها، وهنا يمتاز هذا اللون من الدرس النقدي بالحركة مع مساحات ووحدات تغني الصورة في سياقها وتنقل إليها شيئاً من سياق أوسع تلتحم به خاصة عند تداخل الدوائر الدلالية.
    ولعل هذه الدراسة ترسم الخطوط في ديوان “مدينة الغد” أساساً لنظر شمولي في أعمال البردوني الشعرية يمتحن المشترك والمباين في دلالات الدائرتين.
    الخصب في ولادة الوطن
    يطل علينا الوطن/ اليمن في كل أرجاء دائرة “الولادة والخصب” في ديوان مدينة الغد، فالتجدد مطمح مع الولادة التي تتنامى أجيالاً مع اليوم الآتي، وكأن الأمل يداعب النفوس بوجوه تحمل من دفء الشمس وضيائها ما يبدد ضياعاً أحاط بالجبال رغم شموخها، ويكتسب هؤلاء الآتون روح الحضارة في شرايين الوطن الغائرة فتتحول أزهاراً تغسل مرارة العقم الذي يغير ويبغي الوقوف باباً موصداً في وجه التاريخ.
    وقد استطاع البردوني بهذا الربط بين الوطن ودلالات الولادة والخصب أن ينقل القضية إلى إطار حتمي الانتصار، فلا تستطيع قوى الطغيان أن تقف في وجه هذا السر الذي منحه الخالق للبشر، فهذه المواجهة مع ظلمة التخلف وخفوت صوت الإنسان قد تتعثر ولكنها ستمنع يوماً جمرة الخلاص، وقد تبدت رابطة الدم فريدة في هذه الدائرة لأنها، في حلمها- وحدت الأبناء في كنف أم هي الأرض وإهاب الوطن غدا جامعاً أكبر من إطار الأسرة الصغيرة والروابط الخاصة، وجوهر الخصب يكمن في الائتلاف لا تباين معه الوديان ولا الجبال وتجدل الأصوات نغماً واحداً.
    امتدت هذه الدائرة في ثلاث عشرة قصيدة إضافة إلى فاتحة الديوان الذي بلغت قصائده (45) خمسة وأربعين: مدينة الغد، اليوم الحنين، صديق الرياح، كانت وكان، وراء الرياح، أم يعرب، كلمة كل نهار، أم في رحلة، ذات يوم، نحن أعداؤنا، من رحلة الطاحونة إلى الميلاد الثاني، حكاية سفين، كاهن الحرف” وانتشرت مفاتيح الدائرة وكان ترددها (62) اثنتين وستين مرة في البؤر والمقاطع والومضان ونستطيع إدراجها في عدد من الحزم الدالة فنجداً أولاً إلحاحاً على المصدر “الميلاد” وما يتفرع منه اشتقاقاً إضافة إلى “الأم” وليد، مولود، ولدنا، ولد، ولادة، استولد، تلد، يولد، أولاد، الميلاد، أم، أمي، أم يعرب” وينضم كذلك إلى هذه الحزمة “الجنين” أجنة، تحبل، الحبالى، الحمل، تجبه، إخصاب”، ونلحظ حضور الأفعال والتركيز على الحدث الرئيسي الولادة بعد الحالة الجنينية ولا يغيب عنا ترميز امتداد الأرض ومما تحمل من أبناء الوطن الذين يتخلق من جموعهم الوليد القادم، وهنا ننتقل إلى الحزمة الثانية التي تتابع مرحلة تالية للوالدة” مرضع، يرضع، أرضعه، رضاعته، رضعناه، رضيع، أثداؤها، الحاضنات، حليبي، المهد” وفي الحزمة الثالثة ينمو المشهد “طفل، طفولة، أطفالي،ابني، صبي” ونشير إلى النقيض أو السلب في هذه الدائرة ونذكر مفتاحين هما “العقيم وتخدج”.
    وتبدو لنا حال التماهي بين الإنسان والوطن في تبادل الأدوار تبعاً لأطوار الطبيعية التي تجعل الوالدين في رعاية الابن يحنو عليهما متذكراً تواصلاً له مع الدنيا من خلالهما عندما درج على الأرض، إن مفهوم الأسرة الكامن في أثناء هذه الدائرة الدلالية يتجلى في موقع يبحث فيه الشاعر عن “حلم الوطن” الآتي وهنا يتحول إلى الراعي الذي يتكفل بذاك الوليد لتنهض أيام جديدة في اليمن وتشع عليها من العمق إضاءة من الثقافة القرآنية “واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا”.
    وواد يصيخ إلى
    تباشيره اللّمعِ
    فأحلم أن الجنين
    وليد بلا مرضع
    فألوي زنود الحنان
    على خصره الطيع
    ويحبو على ساعدي
    فأرضعه أدمعي
    أمد له سلما
    إلى النور من أضلعي
    وأشدو لميلاده
    ويصغي بلا مسمعِ
    ويؤكد هذا التصور لدى البردوني ما جاء في قصائد أخرى تتوزع الديوان فهو يجمع الوجهين معاً، وقلبه مفعم بأمل يستل من حنايا هذه الهضاب وتلك الروابي ويظل الإحساس بالتاريخ منفتحاً على الأفق وليس انغلاقا ماضياً.
    وها هنا غمغم التاريخ أين أنا
    من قائد الزحف سيف الله أو عمرُ!
    ماذا هنا اليوم يادنيا؟ هنا يمن
    طفل على شفتيه يبسم الظفر
    وتردد كلمات أخرى التواصل المأمول بين “العجوز” و”الحنين”.
    ولمن ألحن هجعة الأشباح
    والرعب الدفين؟
    لمواكب التاريخ يرويها
    الأمين عن الأمين
    ولأمي اليمن العجو
    زولا بني اليمن الجنين
    وعندما يرقب تسلسل الأحداث وإرهاصات الثورة في محاولات انبثقت من بين الصخور الصلدة نراه يوازي بين انفجار يغير مساراً غارقاً في التيه والولادة التي تنداح أمامها دنيا بريئة ونقية تسطر عليها خطوات الحلم على الأرض:
    وإلى العشي تعاقدا
    واستبطأ سير الثواني
    أيكون مستشفى الحديد ة
    مولد الفجر اليماني؟
    إن بوصلة ذاك النور الكامن هي سر الولادة لذلك يميز البردوني الومضة الخلبية التي لا غيث من ورائها، بل إنها تبلغ حد الخديعة لأعين طال انتظارها وشفاه ظمأى، ونسمع شكوى الشاعر، من أولئك الذين كانوا عذاب الوطن والسياط التي أدمت الأجساد، والسلطة الغاشمة وإننا نجد ما نسميه الولادة النقيض:
    من عهد من ولدوا بلا
    سبب وماتوا دون غاية
    المسبلين على الذئاب
    البيض أجنحة الرعاية
    الناسجين عروقهم
    لمواكب الطاعون راية
    وقد يكون تجار الحروب أشق وأكثر دماراً لبنية البلاد وهي تتلمس طريق الغد.
    إن تجربة الثورة شهدت عثرات كادت تعود بها القهقري كما حدث في المحاولات الأولى المأساوية سنة 1948م، لذلك تزاحم الصورة المشوهة أطيافاً واعدة:
    على اسم الجنيهات والأسلحة
    يتاجر بالموت كي يربحه
    أينسى عراقته أنه
    أبو الحرب طفلها الأول
    وما زال تنجبه كل يوم
    (بسوس) وأخرى به تحبل
    وعادت كما بدأت غيمة
    توشي بوارقها الخلبا
    وتفرغ أثداءها في الرمال
    وتهوي تحاول أن تشربا
    لكننا نلحظ أن التفاؤل ظلت له السيادة، ففي نهاية قصيدة “حكاية سنين” التي روي فيها البردوني وقائع الوطن والزمن، تبزغ حقيقة هي توحد ولادة الخصب في الأرض وفوق المسالك بأنفاس زكية ودماء طهرت الآفاق، وامتزجت تربة غالية فلا ندري ملامح دفق الدماء من قطرات الندى فالكل تلفه كلمة الحب وهمةٌ فيها من الشمس وعد الحصاد:
    أَوَ ما رأى الشهداء كيف
    أخضوضرت بهم الفصول
    فرشوا السعيدة بالربيع
    ليهنأ الصيف البذول
    ومضوا لوجهتهم ويبقى
    الخصب إن مضت السيول
    الواقع والرمز في دائرة
    تستوقفنا قصيدة “أم في رحلة” لأنها تبدو واقعية مما يجري في جنبات الحياة اليومية، ونحن نتابع لهفة أم بعيدة عن أولادها في رحلة، وذلك عندما تصادف طفلا مع والده، فلماذا غايرت هذه الوقفة ما نراه في دائرة الولادة من اتخاذها المجاز والرمز سبيلا تعبيريا؟ إن كل المواقع والمفاتيح الدلالية كانت أداة تصويرية تحمل نفثات وهواجس ورؤى إلى التجربة في القصيدة التي تدخل في نسيجها.
    رغب البردوني أن يمشي على الأرض مع كلماته بيننا ثم ينشر خفقات على امتداد الديار وبعدها تحلق الرموز عالياً، ولعلنا لا نبعد عندما نرى هذه القصيدة مشهداً محسوساً قريبا يعمق ما كان يذهب إليه الشاعر في أركان الديوان من رموز فتغدو كائنات من لحم ودم!.
    شكل حلو ما أجمله
    كالطيف كأطيار الوادي
    كالحب كدغدغة الذكرى
    كالحلم كهمس الميعاد
    أشتم حليبي في فمه
    قبلاتي أنفاس بلادي
    وتمد إليَّ ملامحه
    فرحي وعذاب الميلاد
    زهوي بالحمل كجاراتي
    صرخات المهد وإجهادي
    وتخرج هذه الأم من حالتها الفردية إلى شمول يضم الجميع وهنا تقصد الوطن بحسب أنفاس الحديث ومفاتيحه الدلالية، ونتابع الحوار بين والد الطفل الذي يحمل عبر اسمه سلسلة الأجيال وبين هذه المرأة/ الأم:
    ما اسم المحروس؟ أجب يا بني:
    (نعمان) كجد الأجداد
    أتحبين ابني؟ كل ابن
    في الأرض وكل الأحفاد
    عفواً، ياعم أنا أم
    أولاد الغير كأولادي
    ونلحظ الأسلوب الحواري الموجز والذي تحرر من (قلت، قالت، قال، فجاءت الجمل باترة محددة هدفها بتركيز وإن يكن بحاجة إلى دربة القراءة لتحقيق المعايشة.
    وإثر الجولة الأرضية رأينا الشاعر تنفتح بصيرته وتضم في حناياها كل أبناء اليمن، وقد تكون معرفتنا بأحوال البردوني الشخصية مثار شجن إنساني، فقد برهن على التعالي الذي بلغ به درجة رفيعة من التواصل مع الآخرين ومع القضية الكبرى التي ترسم أحلام بلده، كان البردوني محروماً من الإنجاب لكن الخصب الذي تغنى به، وأرسل كلماته تبشر به أعطاه فوق ما يعطي الأبناء، وقد أطلق في هذه القصيدة شيئاً مما في نفسه على لسان والد الطفل “نعمان”.
    لا تأسي يا بنتي إني
    سافرت العمر بلا