المقابلة الصحفية مع صحيفة (الأسبوع الأدبي) السورية

المقابلة الصحفية مع صحيفة (الأسبوع الأدبي) السورية
موقع الشاعر الكبير الأستاذ عبدالله البردوني

عبدالله البردوني >  المقابلة الصحفية مع صحيفة (الأسبوع الأدبي) السورية

نشرت في العدد 717 الصادر بتاريخ15يوليو 2000م
وأعادت نشره صحيفة الأمة في العددين 164،165
أجرى الحوار: وجيه حسن
في مقابلتين معه في بيته في صنعاء، وفي غرفته في فندق “هوليدي إن-الشارقة” يوم حضر لتسلم جائزة “سلطان العويس الثقافية” لفوزه بجائزة الشعر قال عن نفسه بكل ثقة واعتداد: “… أنا معروف بأني شاعر ومفكر، لأن الشعر هو الفكر” هذا الشاعر – المفكر التقيته مراراً في بيته في حي “الصافية الغربية” بصنعاء عاصمة اليمن وكلما ألتقيه كنت أزداد إعجاباً بشخصه وبأدبه وشاعريته المرهفة وابتسامته العذبة التي لا تفارق فمه المبصر وقلبه وعينيه الباصرتين المفكرتين. وأنت تتقدم من بيته “الصومعة” تغزوك مشاعر وسفائن مختلفة الطعوم والألوان تجتاح بحر نفسك وتجعلك تعيش حالة من التهيب والتوفز والخفقان. البيت لا حرس ولا بنادق ولا أسلاك شائكة هكذا بيوت الأدباء دائماً في الهواء الطلق بل لا أبالغ إذا قلت: إن كل حجر في صنعاء يدلك إلى بيت البردوني وهو المتربع في الطبقة الأولى من عمارة القصيدة العربية.
تقرع الجرس… القلب يتلجلج بين الجوانح… إنها المرة الأولى…. يأتيك عبر جهاز “الأنترفون” ومن العلبة المعدنية الفضية اللون يأتيك صوت هو أجمل من الفضة وأحلى من الذهب وأنضر من ياسمينة بيضاء.
تقول منادياً: أستاذ عبدالله موجود؟
وبصوت العربي البدوي الخشن يقول حالاً وللتو: يا مرحباً تفضل….
وتسمع خشخشة هاهو الباب ينفتح تلقائياً تدخل متوجساً متهيباً تقابلك أرض فسيحة مفروشة بحصيات بازلتية زرقاء بلون الحصيات وهذه وتلك موصولة بقلب الشاعر في صفائه ونقائه. ويمنة ويسرة تقع عيناك على شجيرات محببات.. وعلى أزاهير طيبة… وهذه وتلك تتمايل أمام عسكر الهواء وكأنها تقول لك كذلك تفضل يا مرحباً…
وتسحبك قدماك متلهفة، تصعد ثلاث أو أربع درجات، وبحب تجده ينتظرك عند ذاك الباب الخشبي البني اللون يقودك من يدك ليدلك على الطريق، ومعاً تدخلان غرفة القراءة والكتابة ورفوف الكتب غرفة الشعر والأدب والحميمية في آن معاً. إنها وبلغة مقتضبة غرفة عادية إذ سيكون جلوسك على الأرض على الطراز العربي القديم فوق بساط عادي، وخلف منضدة خشبية عادية، كذلك يتربع الشاعر الكبير، وعلى المنضدة علبة فيها “تنباك” والذي يطلق عليه اليمانيون اسم “الشمّة” وعدد من علب الأدوية و”دلة قشر القهوة العربية بالهيل” و”دلة شاي” إلى جانب هاتف من النوع العادي جداً، وتهم أنت بتوجيه سؤالك الأول لكن هاتفاً يقطع عليك سيل الكلمات… ثم…. ثم يقرع الجرس… ثم….. ثم يرن الهاتف… وما هي إلا دقائق حتى تمتلئ الغرفة “الصالون” بلفيف من عشاق الحرف العربي والنبض العربي ويمتلئ الشاعر منك خجلاً من قمة رأسه حتى أخمص القدمين وهو الإنسان المرهف الحس لأنه لم يستطع تلبية طلبك في إجراء مقابلة ضمن هذا الزخم الكلامي، والحوارات الساخنة، ويشكرك شكران الأديب المثقل بعناقيد المحبة لأنك تكبدت مشقة التنقل والوصول.
وفي مرتين – يوم كان حياً- كان هذا اللقاء الممتع المثمر الغني مع الشاعر العربي اليماني الكبير “المرحوم” (عبدالله البردوني) هذا المبصر في الزمن الأعمى.. في صنعاء والشارقة.
س: سؤالي الأول هو السؤال التقليدي الروتيني من هو عبدالله البردوني؟
ج: إليك بطاقتي الشخصية: أنا من مواليد العام 1929 في قرية “البردون”- بتشديد الدال- (منطقة الحداء) – محافظة “ذمار” وفي قريتي أصبت بالعمى ما بين الخامسة والسادسة نتيجة إصابتي بمرض الجدري والذي ما أزال أحمل آثاره على وجهي حتى الآن.
وفي “ذمار” درست المرحلة الابتدائية، وفيها قرأت النحو واللغة والدين والفقه، وبعدها انتقلت إلى “دار العلوم” في صنعاء العام1949، حيث تخرجت فيها العام1953، منهياً دراسة 18 عاماً، وفي دار العلوم وبعد التخرج بقيت فيها مدرساً إلى العام 1962، ثم التحقت بالإذاعة مشرفاً على البرامج الثقافية بعد أن كان عملي فيها من خارج الوظيفة.
س: أستاذنا الجليل: كيف تعلمت؟
ج: كما قلت: إنني أعمى منذ الصغر تقريباً من الصبا الباكر في عمر السادسة تعلمت القراءة كلها على السماع بما فيها معرفة الحروف وأداؤها، ثم تعلمت القرآن الكريم كاملاً كتابة ثم ترتيلاً تم تجويداً ثم تعلمت العلوم، ثم علوم القرآن… ثم قرأت كتب اللغة، نحواً وصرفاً وكتابة بالسماع وعرفت قواعدها بالسماع وتعلمت العبادات والأحكام وأصول الدين بالسماع ثم تعلمت علم الكلام والفلسفة القديمة عن العرب: ابن سينا، والفارابي وابن رشد وإخوان الصفا وابن ماجه وابن طفيل.. ثم قرأت وقرأت… وهكذا اعتمدت على السماع، لأن السماع أوجد حاسة ثانية أو أذنا ثانية. الأذن التي تسمع الصوت وتلك التي تسمع صوت الصوت فأنا مثلاً لا أسمع صوتك كما يسمعه بعض الناس، بل أشعر أن له خضرة وحمرة وشفقية وبرتقالية وهذا حسب حالة الأذن الصوتية وإمكان الصوت كل فنان له حاسة وراء الحاسة سمع السمع قلب القلب، عين العين، إنه عادي وله زيادة أوجدتها فيه الحاسة الفنية، فالحاسة الفنية عند الأعمى أقوى لأنه لا يرى بالعين المجردة، ولكنه يتصور والتصور يستوعب ما لا تقع عليه العين، كما يستوعب الذي تقع عليه العين.
س: أستاذ عبدالله بمن تأثرتم من الشعراء بخاصة والكتاب بعامة؟
ج: كانت مرحلة التأثر لا تقتصر على شاعر بعينه أو كاتب بذاته فلا ينتهي التأثر بشاعر أو كاتب حتى ينهيه شاعر أو كاتب آخر لأن مرحلة التأثر حادة الحساسية ولعل الأكثر سيطرة عليّ في الأربعينيات هم “أبو العلاء المعري، الجاحظ أبو حيان، والمتنبي…” أما من بداية الخمسينات وحتى الآن فلم يعد التأثر شديد النفوذ إلى النفس لأن الأحداث المتعاقبة كانت أغزر إيحاء، ولم تعد الكتب إلا مجرد إضاءة على تحول الأحداث وتعاقب التغيرات، لهذا استكثرت في الخمسينيات من قراءة الكتب السياسية عربية ومترجمة، وحتى الأدب كانت لا تهمني قيمه الجمالية بمقدار ما كانت تهمني رؤيته السياسية، وشمول رؤيته الإنسانية، إلى حد أني لا أقرأ الشعر إلا إذا كان سياسياً أو متسيساً، وهذا ما جرني إلى قراءة الشعر الجديد لأنه ابن الثورات المعاصرة، ومرآة التحول الثقافي والاجتماعي.
س: وأنتم بصدد الحديث عن قراءة الكتب، فما هي أبرز مطالعاتكم في بداية الأربعينيات؟
ج: كانت الأربعينيات فترة تعليم، ولم يكن للمطالعة غير حيز ضيق في شهور الدراسة ولعل أهم مطالعاتي هي أربعة كتب: كتاب “الأغاني” للأصفهاني، كتاب “الموازنة بين الشعراء” للدكتور زكي مبارك، وكتاب “الشوامل والهوامل” لأبي حيان التوحيدي، وكتاب “مع المتنبي” للدكتور طه حسين.وأظن بأن أجودها لمعرفة الشعر ولغته هو كتاب الدكتور “المبارك” فهو فريد في معرفة السر الشعري في كل لقطة، والدخول إلى نسق القصيدة، وقد فاق كل الموازنات لأن الموازنات التي سبقته كانت تقوم على موازنة بين شاعرين كموازنة “الناشئ الأكبر” بين أبي العتاهية والعتابي، ثم موازنة “الآمدي” بين الطائيين البحتري وأبي تمام، أما الدكتور “مبارك” فوازن بين أكثر من ستين شاعراً، وازن بين أبي نواس وبين الدراج القسطلاني وبين البارودي والبوصيري وشوقي وبين جرير والفرزدق، وبين كثير وجميل، إلى آخر القائمة حتى عصر شوقي وكان أهم ما في هذا الكتاب هو تبيين الدقة اللغوية والسر الشعري الكامن في المفردة والتركيب اللغوي.
س: وحول كتب التعليم المقررة وقتتئذ هل تسعفكم الذاكرة بالحديث عنها؟
ج: كتب التعليم التي كنا نقرأها كانت شديدة التعقيد متداخلة الاستطراد، إذ كنا نقرأ في النحو كتاب “شرح ألفية ابن مالك” لابن عقيل، ثم كتاب “قطر الفاكهي” وننتهي ب”مغني اللبيب” لابن هشام، وكانت المراحل في تعليم النحو تبدأ من كتاب “الأجرومية” لابن دحلان، يليه “قطر الندى” لابن هشام، ثم ابن عقيل، كذلك كتب الفقه كنا نبدأها بكتاب “متن الأزهار” وننهيها “بالبحر الزخار” لابن المرتضى، كذلك أصول الفقه كنا نبدأ ب”كافل لقمان”،ثم “كافل الطبري” وكتاب “الغاية” للحسين بن القاسم، وكذا أصول الدين كنا نبدأه ب”الثلاثين المسألة الصغرى” يليه “الثلاثون المسألة الكبرى” ويكون الختام كتاب “الأساس” وكانت كتب النحو أسهل من كتب البلاغة أما الفقه والبلاغة فليس لهما قواعد لأن كل مسألة تقوم على قاعدة خاصة، وهذا انطبق على تعليم القرآن، إذ بدأناه من النصف الأخير، لأن حفظ السور القصيرة أسهل على التلميذ الصغير، وبعد هذا نقرأ أصول الفقه والنحو والبلاغة لكي نصل إلى تفسير القرآن، وكان الكتاب التفسيري المقرر علينا هو كتاب “الكشاف” للزمخشري، لهذا كانت هذه الدروس تستغرق كل أوقاتنا إلا أن هذه الكتب العلمية كانت تحمل بذوراً ثقافية لأن الشعر كان منبثاً في أثنائها كشاهد على صحة القاعدة الإعرابية، وعلى صحة القاعدة البيانية، لهذا فقد شكلت كتب التعليم أساساً ثقافياً بمقدار ما شكلت ضوءاً على بوابة ثقافة العصر.
س: إن فترة الأربعينيات كانت موصولة بالعصور السابقة كيف ترون هذا في ضوء ثقافتكم؟ وهل كان الماضي الديني والأدبي والسياسي محور كتاب الأربعينيات؟
ج. إن الأربعينيات في الوطن العربي كله اتجهت إلى منهجة الماضي الديني والأدبي والسياسي وفيها صدرت “عبقرية العقاد” و”حياة محمد” لهيكل، أما الماضي الأدبي فتناولته دراسة “العقاد” عن ابن الرومي “حياته وشعره” إلى جانب كتابه عن “أبي نواس” إلى جانب كتاب “الشعر في العصر الأموي” أما الحياة الفكرية فتناولها “أحمد أمين” في ثمانية مجلدات من “فجر الإسلام” إلى “يوم الإسلام” وهو أهم كتب في الحياة العقلية والجدل حول الفقه والأحكام.
أما الماضي السياسي فكان أهم الكتب التي صدرت عنه هو كتاب الدكتور حسن إبراهيم “تاريخ الإسلام الثقافي والسياسي”، ولهذا كانت الأربعينيات فعلاً موصولة بالعصور السالفة تحت ضوء معاصر، وعن رؤية معاصرة، ولعل هذه المرحلة بدأت من العشرينات عندما أصدر طه حسين كتابه “في الشعر الجاهلي” وعلي عبدالرزاق “الإسلام وأصول الحكم” ثم توقفت الدراسة عن الماضي في عقد الثلاثينات ثم انتعشت في الأربعينيات، لهذا لم ننفصل عن الماضي تعليمياً وثقافة، وحتى كتاب “الموازنة بين الشعراء” فإنه لم يتطرق إلى معاصر من الثلاثينات أو الأربعينيات، وإنما بدأ من العصر العباسي، وانتهى، بالفترة النهضوية، ولم نشم رائحة العصر، إلا في كتب “جبران خليل جبران” و”أمين الريحاني” الذي كان يتجه اتجاهاً قومياً مبكراً.
أما الثقافة اليمنية فكان أجد ما استحدثت هي مجلة “الحكمة” التي صدرت عام1939، واحتجبت عام 1941، نتيجة الحرب العالمية التي شكلت الأزمة في الحبر والورق معاً.
س: كيف يرى البردوني واقع ونبض الحركة الشعرية على امتداد مساحة الوطن العربي بعامة وفي اليمن على وجه الخصوص؟
ج: أولاً على مستوى الساحة اليمنية فإن الشعر في اليمن هو كغيره في باقي البلاد العربية من حيث المد والجزر، وليس هناك كبير مغايرة، أو تفاوت بين النبض اليمني، وبين النبضات الأخريات. والحقيقة فإن الحركة الشعرية لا تتضح بقوة، ويشعر المرء باندفاع أمواجها إلا في إطار المناسبات، والمهرجانات الشعرية في هذا البلد أو ذلك، فمثل هذه المنتديات الشعرية تؤكد في الأذهان أن الشعر موجود وأن الأدب بكل أجناسه موجود.
س: كيف ترون مستقبل الشعر في وطننا الكبير؟..ثم ما موقفكم من شعر الحداثة، ثم ممن يسميهم البعض: بالحداثويين؟
ج: الشعر من مطلع الخمسينات يتطور من شكل إلى آخر، ولكنه أبدا ينبع من الأصالة الواحدة. وفي اعتقادي فإن الشعر الحديث وقع في “مأزق” حرج لكنه استطاع أن يتجاوزه، وأن يتجدد ويتابع نشاطه، وأقولها صريحة: إن مأزق الشعر وأزماته واختناقاته دائماً إلى زوال بسبب ديناميكية الشعر نفسه، ليبقى على مر الأيام نابضاً حياً، متجدداً، دافقاً.
س: ما آخر الدواوين الشعرية، وكتب الدراسات التي أنتجتها قريحة الشاعر الوقادة؟
ج: آخر كتابين صدرا لي ديوان بعنوان “جواب العصور” وكتاب دراسة بعنوان “من أول قصيدة إلى آخر طلقة” والأخير هو دراسة في شعر المرحوم محمد محمود الزبيري، ويقع في “454” صفحة وهنالك كتاب صدر حديثاً بعنوان: “الجمهورية اليمنية” وهو امتداد لكتابي السابق “اليمن الجمهوري” والكتاب الجديد يعالج حكاية الوحدة منذ بدايتها عملياً وأصبحت الجمهورية اليمنية نظام الشطرين، وفيه كذلك أقدم فلسفة عن صعوبة توحيد الواحد، وإمكان واحدية الاثنين. قبل قيام الوحدة في اليمن ألقيت محاضرة بعنوان: “قبل الطوفان، يانوح” رصدت فيها الحساسيات القائمة واختلافات التركيب، ثم طمع الإنسان في شمالي اليمن في الاستيلاء وبعده عن الوحدة كمشاركة الوحدة.
شعب واحد، تحت حكم رجل واحد، فسوف تتحول الوحدة إلى حكم واحدية الواحد وليس وحدة اليمن وإنما توحد الواحد في السلطة سواء أكان فرداً من “سنحان” أو حزباً في “عدن”. هذا الكتاب “الجمهورية اليمنية أريد أن ينزل إلى المكتبات قبل أن يصطلح المتحدون، أو أن يتمزقوا، والكتاب الآن قيد التجليد في المطبعة بدار الفكر المعاصر، في بيروت.
كذلك هناك كتابان جديدان الأول بعنوان “رجعة الحكيم بن زايد” و”الحكيم” رجل هو رمز لليمن ولتجاربتها الزراعية والإجتماعية، والثاني هو كتاب “الجديد والمتجدد في الأدب اليمني” وهو كتاب من مجلد واحد بحدود “2300” صفحة يدرس الأدب اليمني من أيام الممماليك الأولى.
س: وعلى مستوى الشعر هل هناك شخصية يمنية كان تأثيرها في بداياتكم الشعرية؟
ج: لعل الشاعرين “محمد محمود الزبيري، وزيد الموشكي” أول من دفع الشباب اليمني في الأربعينيات إلى الشعر لأنهما تمحورا السياسة، والإيقاظ الجماهيري، وكانت أغلب قصائدهما توزع سراً، وتقرأ سراً كمناشير ثورية، مع أنها لا تتجاوز الدعوة إلى الإصلاح والحكم الدستوري.
س: وشعراء الحداثة من منهم كان له بصماته في شعركم؟
ج: كان “بدر شاكر السياب” أول من أثر على منتصف الخمسينات، ووجدت في شعره الحداثة الحقيقية والأصالة، لأنه كان على إلمام جيد بالشعر القديم وكان أغلب شعره من العمودي المتطور، لذا لفت انتباهي إلى قراءة “الشعر الحديث” فتتبعته من منتصف الخمسينات إلى الآن، بعد هذا اكتشفت أن الحداثة ليست مقصورة على الشعر المعاصر بأشكاله الأربعة، وإنما هي منبثة في الشعر القديم، لأن الحداثة تتكون من الرؤية الشعرية، ومن تجاوز التقاليد السائدة في أي عصر، ومن الشمولية في تركيب القصيدة، وصلتها بالوجدان الجماعي، وهذه موفورة في كل شعر من شعر العصور، إلا أنها في الشعر المعاصر أوفر وأجد ذلك الشعر الجديد لم يعد يقوم على حداثة واحدة، وإنما يحتاج إلى عدة حداثات: حداثة القاعدة الفلسفية، حداثة المنهج التعبيري، حداثة الرؤية، حداثة الشكل.
س: ألا توافق أستاذنا الكبير بأنه ربما يتحول التأثر إلى التأثير لدى الأديب مع مرور الزمن؟
ج: كل بادئ لا بد وأن يتأثر بأسلافه، ولا يمكن أن يظل المتأثر متأثراً لأن تأثيره سيكون فيه الأصالة إذا كان قد تلقى عن أصالة، أما الذي يظل متأثراً فهو لا يملك إضافة لأن التأثر يخلق الصوت الخاص للشاعر والكاتب، وهو بمثابة إضاءة بحث عن الصوت الخاص، وعن الملكات الخاصة، لكل شاعر لكي يتجدد الشعر ولا يظل مكرراً أسلافه أو معاصريه فالتأثر ضروري لأنه علامة الأصالة لكن إذا لم تتبلور الأصالة، وتحدث الرؤية الخاصة، والصوت المتميز، فإن المتأثر سيبقى مجرد ظل أو صدى.
س: هناك أشكال برزت إلى السطح حول قضايا النقد وتخلفه عن الجانب الإبداعي، ما هي أسباب ذلك في تقديركم؟ وكيف يمكن خلق حالة من التوازن بين الإبداع والنقد؟
ج: إنه من الضروري أن يكون المبدع أكثر تجاوزاً وأبعد نظرة من الناقد لأن الناقد يتعامل مع نصوص، بينما المبدع يخلق نصوصاً ويخلق عواملها من داخلها، ومن خارجها فلا بد أن يوجد فرق بين الناقد والمنقود، لأن الناقد يقيم أعمالاً جمالية، ومخلوقات بديعة، على حين أن الأديب المبدع هو الذي يخلق هذه الأعمال، فلا بد أن يكون المبدع أكثر تقدماً وفي كل التواريخ الأدبية نجد النقاد متخلفين مقارنة بالمبدعين.
الآن يعنى النقاد بالتجارب الشعرية، أو التجارب الرؤيوية يعنون بالمذاهب الأدبية، يعنون بالمدارس هذا رومانتيكي، هذا واقعي من مدرسة الواقعية الجديدة، هذا من المدرسة الرمزية، هل هذا مباشر؟ هل هذا غير مباشر: هل هذا إيجابي؟ هل هذا رمزي؟.. إن النقاد دائماً يتعاملون مع ظواهر النص لكن المبدع مع خلق النص، فمن الضروري أن يكون عالم النقد أو فن النقد غير الفن الأدبي المنقود، ولو لم يوجد هذا التغاير لما وجد النقد، ولا يمكن أن يوجد نقد متخلف إلا في ظل أدب متخلف أيضاً، أو لم يكن متقدماً كما ينبغي. إضافة إلى أن النقاد يتعاملون مع مبدعين مشهورين، وقلما يتابعون المدارس الجديدة والناشئة الجديدة لأنهم يرونهم مجرد مجربين ولا يزالون في طور التجربة وبعضهم يسمونهم مغامرين.
وفي الحقيقة أن الناقد الحقيقي هو الذي يخلص إلى روح النص، ويعرف السر الأدبي في الرواية وفي القصيدة ولا تكون الظواهر المذهبية، أو الظواهر المدرسية، إلا مجرد طريق لمعرفة سر الإبداع في النص.
س: إلى جانب البيئة تعرف أن الوراثة كان لها دور كبير في تكوينك وبمعنى آخر لها دور في تكوين الإنسان ثقافياً فإلى أي مدى حدث الامتزاج بين البيئة والوراثة لديكم؟..
ج: في كل قطر من الأقطار عدة بيئات لأن الواقع متعدد الجوانب، لهذا تلقنت من البيئة دراسة الفنون الشعبية، ومن الثقافة العليا طرائق البحث، واستغوار النصوص، وقد كانت بيئتي إبان ميلي إلى الشعر تتكون من تقاليد القديم، ومن تأثير التعليم الفقهي واللغوي، وكان التراث اليمني من دوافع الشعر، حتى إن كتب الفقه لا تخلو من المنطقية من مثل قوله: “الماء لا يطهر الماء” لأن الذي يطهر غيره لا يتطهر بجنسه، وكان في الفقه الشيعي مسائل أرسطية ومسائل فيثاغورثية بصفة خاصة، لهذا تعرفت إلى البيئة كقاعدة فلسفية أمكن معاصرتها، ودخولها فلسفة العصر التجريبية والعلمية، متجنباً الفلسفة الوصفية، فأكثر ما أفادتني البيئة والوراثة، هي البيئة التعليمية التي شكلت قاعدة التثقف، ومدتها بالمسائل الفلسفية والحصيلة اللغوية على أن الثقافة لا تكون الأصالة الشعرية، وإنما تصقلها وربما كانت الثقافة الضخمة عبئاً على الشاعر، وهذا ما ينبغي أن يفكر فيه الدارس، فمثلاً شعر العقاد، فإنه كان يرزح تحت “الفنقلة الكتابية” والفرويدية النفسية التي استعملها في دراسة العبقريات “ومعنى الفنقلة: أي الجدل القولي والكلمة منحوتة”.
س: والمرأة في حياتك وشعرك أين هي؟
ج: هي في كل حياتي هي أمي وأختي، وابنتي، لو كان لي أولاد.. هي جدتي وأرضي لأن الأرض أم جميع الخلق… وهي حبيبة وصديقة وطيف وحقيقة وتخيل… المرأة أشياء كثيرة… إنها أكثر من موقف وطني أو اجتماعي أو إنساني.
ولا يظنن أحد أن المرأة والرجل شيء واحد ولا يظنن أحد أن المرأة مختلفة عن الرجل صحيح أن هناك اختلافاً فيزيولوجياً، وأنها تحمل وتلد، ولكن هذا بطبيعة الحال ليس تقليلاً من شأنها وإنسانيتها بل هو ميزة لها، والمهم أن يسعى الإنسان إلى تكوين ذاته وشخصيته.
س: ما أجمل ديوان أو كتاب أبدعته قريحتك أستاذ عبدالله؟ وهل هناك قصيدة لها وقعها وحساسيتها في ذهنك أكثر من غيرها؟
ج: لا أقول كما يقول الشعراء: كل قصائدي كأولادي، أو كل أعمالي الكتابية كأبنائي، أنا أرى أن أجود دواويني هو ديوان “زمان بلا نوعية” الذي صدر عام 1979م، وأجود كتبي: “فنون الأدب الشعبي في اليمن” والذي صدر عام 1981م، هذا من ناحية حسياسيتي نحو هذين العملين. أما وقع القصيدة فآخر قصيدة هي الألصق بالنفس، فكل قصيدة لدي جيدة حتى تنشأ الأجود أو الأحدث لأن العمل الأخير هو الذي يشعر صاحبه بأنه خلق شيئاً، وأما الذي مضى عليه وقت، فإن جدته تتلاشى، فيظل الشاعر محباً لأقرب النتاج بل وأكثر حنيناً إلى الذي سوف ينتج.
س: المبدئية سمة واضحة في شعرك، كيف توظف هذه الأداة؟ ومن أي الينابيع استقيت “مبدئية” عبدالله البردوني؟ ولأي الأهداف الفنية والإنسانية تستخدمها؟
ج: ما من شك أن لكل شاعر قضية والذي لا يرتبط بقضية كبرى فإنه ينتج جمالاً مجانياً ولعل التزامي ناشئ من الحس السياسي الذي تمحور الأدب وتناسج فيه. أما الأهداف التي أتغياها فهي التوق أن يكون الغد أفضل من اليوم، وأن يكون الإنسان أحسن حالاً مما كان لأن التغيرات التي تحول كل شيء إلى غيره قادرة أن تحول الإنسان مما كان إلى ما ينبغي أن يكون، وهذا يتطلب ثورة من الداخل على الداخل لكي تموت الأحاسيس الذاتية، ويندمج الإنسان في الوجود الكلي، والوجدان الجماعي.
س: الأستاذ البردوني شاعر، وناقد، ومؤرخ، ولكن يحلو للبعض أن يشكك في قدراتكم النقدية والتاريخية ليخلو له الجو في هذا المجال بقصد توظيف النقد وكتابة التاريخ لخدمة السلطات، أرجو توضيح هذا الأمر بصورة شاملة.
ج: أنا في الحقيقة كثير الشك في أعمالي، ولست حسن الظن بنفسي، وأنا أشكر هؤلاء الذين يشككون في كتاباتي، ولا أريد لأحد أن يقبل الأمور كقضايا مسلمة، يجب أن يكون هناك شك في كل ما هو قائم وما سيقوم، لأن التقبل المطلق يعطي غباء مطلقاً، فما من شك أن النقد جرح في المفهوم العربي، وأنه يحتاج إلى نقد فما ادعيت يوماً من الأيام أنني ناقد، وما ادعيت أنني مؤرخ، وإنما أتعامل مع الكلمة، ومع الكتابة، ومع القصيدة بالطريقة التي أحس أنها تؤدي عني وتشغل في بالي شيئاً يهم الناس، وأريد إيصاله إليهم، فلا بد أن الشك أو التشكيك في ما أكتب شيء مفيد، وشيء يسرني كثيراً، لأن هذا التشكيك دليل على أن كتاباتي تشغل أناساً فتجعلهم يقولون في الحق والباطل والتجريح والإشادة، وغيره، ولو لم تكن هذه الكتابة ذات أهمية لما حاولوا أن يشككوا فيها فكلما شكك البعض فيك أو ندد البعض فهو ما يسمى بالأدب الخطير، ولا بد من أن يتفهم الواحد أن التشكيك والاتهامات والتنديد دليل على الخطورة لأن العادي لا يعادى.
س: وأخيراً ما نصحيتكم للجيل الصاعد من أصحاب الأقلام الواعدة؟
ج: لا أظن أن المتجه إلى الثقافة، أو الغائص فيها يحتاج إلى وصية أو تعاليم، لأنه قادر على الإبداع والتفوق إذا ركب موجة العمل والنشاط، ولست من الذين ينصحون أحداً لأنني ما تقبلت نصح أحد.