السخرية في شعر البردوني.. الدكتور وليد مشوح

السخرية في شعر البردوني.. الدكتور وليد مشوح
موقع الشاعر الكبير الأستاذ عبدالله البردوني

>  السخرية في شعر البردوني.. الدكتور وليد مشوح

السخرية هي الحدود الأربعة لجغرافية شعر البردوني، فما وصف إلا وسخر، وما تغزل إلاَّ وسخر، وما هجا إلا وسخر، وما مدح إلا وسخر، وما تعرض لموقف وطني أو قومي إلا وسخر، إذن فالبردوني قهقهة عالية عندما يحس بوجوده المحيط، وتفجع مؤلم عندما يتبصر في كونه الخاص، أي هو بكاء يشبه الضحك، أو ضحك يتماهى مع البكاء.
ماذا ق عبدالله البردوني حناناً، ولا رأى جمالا، ولم يهنأ بمال أو عيال، ولا قرأ في وجوه أصدقائه وخلأنه مافي دواخلهم، لذا عاش غربتين: غربة الروح وغربة الفرح، بينما ظل يكابد محابس عدة، إذا ابتدأت بالفقر وانتهت بالعمى.
وهكذا اعتمد شعره” عكازة” يتلمس بها طريق الحياة، وسخريته” مذبة” يذب بها ظلامتين: ظلامة الذات، وظلامة الآخر، وكثيراً ما نجد إحساساته تلك في قصائد جاءت كتصوير انطباعي لصمت الخارج وظلام الداخل:
يا حياتي وياحياتي إلى كم
احتسي من يديك صابا وعلقم
وإلى كم أموت فيك وأحيا
أين مني القضا الأخير المحتم
أسلميني إلى الممات فإني
أجد الموت منك أحنى وأرحم
وإذا العيش كان ذلاً وتعذ
يباً: فإن الممات أنجى وأعصم
ما حياتي إلا طريق في الاشْ
واك: وأمشي بها على الجرح والدم
وكأني أدوس قلبي على النا
ر، وأمشي على الأنين المضرَّم
لم أفت مأتماً من العمر الا
وأُلاقي بعد بعده ألف مأتم
وحياة الشقا على الشاعر الحسا
س، أدهى من الجحيم وأدهم
إلى أن يقول:
أيها ذي الحياة وما أنت إلا
أمل في جوانح اليأس مبهم
غرة تضحك العبوس وتبكي
فرحاً هائناً، وتشقي منعَّم
يا حياتي، وما معنى حياتي وما معـ
نى وجودي فيها لأشقى وأُظلم
أنا فيها مسافرٌ زاديَ الأحلا
م والشعر والخيال المجسم
وشرابي وهمي، وآهي أغاريـ
دي، ونوري عمى الظلام المطلسم
لم أجد ما أريد حتى الخطايا
أحرامٌ علي حتى جهنم
كل شيء أرومه لم أنله
ليتني لم أُرد، ولا كنت أفهم
أنا أحيا مع الحياة ولكن
عمري ميت الأماني محطم(1).
والقصيدة بحد ذاتها تقرير نفسي يفضح دخيله الشاعر وإحساسه المريد تجاه الحياة التي يعيشها، وهي في الوقت نفسه صرخة احتجاج حادة تعبر عن معاناته على الاصعدة كافة.. وهو يعترف بذلك قائلا” وكان حادث العمى مأتماً صاخباً في بيوت الأسرة لأن ريفه يعتد بالرجل السليم من العاهات، فرجاله رجال نزاع وخصام فيما بينهم، فكل قبيلة محتاجة إلى رجل القراع والصراع الذي يقود الغارة ويصد المغير(2).
أما إذا عنَّ على بال أحدنا السؤال القائل: لماذا جنح البردوني في شعره صوب السخرية المريرة، وطفحت موضوعاته الشعرية بالهجاء الخشن والجارح والذي يصل على الأغلب إلى حدود التشهير؟
إننا نرى في ذلك سببين: الأول نابع من تركيبه النفسي الذي تكون في بدايات وعيه الحياتي، إذ ظل يعاني من مرض الجدري سنتين فَقَدَ بعدهما نظره، ورواء بشرته إذْ ترك له المرض -ذاك- ندوباً في بشرة وجهه، وعلى صفحة روحه، كما ترك ظلاماً أبدياً يحيط بحياته، لذا جنح إلى المشاكسة والعدوانية نتيجة لفرط الإحساس تجاه الحياة ومن عليها، وقد أكدت الدراسات النفسية على الطبيعة العدوانية لدى أصحاب الحاجات المستديمة.. وخاصة أولئك الذين فقدوا نعمة البصر.
أما السبب الثاني فنابع من تأسيسه الثقافي عموما، والشعري على وجه الخصوص، فالشاعر كان يبحث في خبايا الشعر العربي الموروث عن الفكر السكِّين، والصورة المقصلة، والخيال الإهانة ليشبع نزوعه في تحدي المحيط، كذا كانت اهتمامات، البردوني الشعرية، البحث عن الشاعر الهجَّاء، والقصيدة الهاجية، جمعها وخزنها في ذاكرته، ثم أعاد صياغتها، وأعطاها خصوصيته، فانماز بذلك، وبرع في رسم الصورة الكاريكاتورية داخل إطاره الشعري البردوني.
وبدأ يقرض الشعر وهو في الثالثة عشرة من عمره، وأكثر هذا الشعر شكوى من الزمن، وتأوه من ضيق الحال، وفي هذا الشعر نزعات هجائية تكونت من قراءة الهجائين، ومن سخط الشاعر على المترفين الغُلُف، فقد كان يتعزى بقراءة الهجو ونظمه، وهذا بدافع الحرمان الذي رافقه شوطاً طويلاً، فبكي منه، وأبكى، وكان يظهر في هذا الانتاج طابع التشاؤم والمرارة..(3)
هي ذي سخرية البردوني ومراميها ودوافعها وغاياتها، فهي وليدة بؤس وحرمان، لا وليدة ترف، ولا هي مجرد ظاهرة تجلت في شعره بعفوية كاملة. السخرية وصورها وغائياتها: قراءة سريعة في نماذج من أشعار البردوني لم تكن سخرية البردوني كما أسلفنا مجرد ظاهرة بقدر كونها إرادة فنان مبدع طامع بتحطيم المألوف الصوري واللغوي والخيالي، وصولاً إلى تغيير السائد وإدانة الراهن المعيش، لذا تنوعت الصورة الساخرة، وتعددت غاياتها ومراميها، فتحولت إلى سمة وسمت في شعر هذا الشاعر الفذ. لقد تصاعد شعوره بالمسؤولية الاجتماعية حتى كاد أن يصل إلى سيادة الأنا المبدعة لتكون محور كونه الشعري.. وهكذا فرط باللغة حيناً، وبالصورة حيناً، وبالخيال، فضخَّم الواقع، وعبث بالموروث التقليدي ليضحك الآخر عبر بالموروث التقليدي ليضحك الآخر عبر مرثية تحمل مفارقاتها بذاتها.
سخر مهاراته، واستغل موهبته، فاستعمل المذاهب كلها، وعبر المدارس كلها، ليحقق الغائية الجوهرية من رسم الصورة الشعرية النافرة، ولو اضطر أحيانا إلى المتصور المنفر.
تنقل البردوني بين المدارس، فمن الكلاسيكية إلى السوريالية إلى الكلاسيكية الجديدة إلى الرومانتيكية وكان يطيل المكوث في غرفاتها.
ومن القديم إلى الجديد صنع تاريخا جديدا للقصيدة العربية إذْ حافظ على طرازها وجدد في تأثيثها الداخلي، فهو رغم محافظته على الأسلوب البيتي في القصدة، شاعر مجدد ليس في محتويات قصائده فحسب، بل في بناء هذه القصائد القائمة على تحطيم العلاقات اللغوية التقليدية، وابتكار جمل وصيغ شعرية نامية صحيح أن إيقاعه كلاسيكي محافظ، لكن صوره وتعابيره حديثه تقفز، في أكثر من قصيدة وبخاصة في السنوات الأخيرة إلى نوع من السوريالية، لتصبح فيه الصورة أقرب ما تكون إلى ما يسمى باللامعقول(4)
الحيرة تفترس الشاعر فهو ينوس بين الغناء والأنين، بين الضحك والبكاء يحاكم الأشياء بصورة رومانسية تشف عن نفس قلقة معذبة، وروح دائبة في البحث عن السكينة والاستقرار.
اعتمد الشاعر في شعره الساخر على ركائز متعددة لإيصال غايته من إبداع نصه الشعري، فنراه حيناً يلمح عبر الرمز إلى مضحكات ومبكيات يقوم عليها زمانه، وحينا آخر يطرق موضوعته بنزق صارخ يحتاج إلى مباشرة استنكارية فيها جفاء وخشونة، وفي أحايين كثيرة يعتمد على الحوار فيتحول نصه إلى مسرحية درامية، علما أن كل الركائز كانت تتأطر بإطار قصصي تبرز فيه مفارقات مكانية وزمانية واجتماعية وسياسية وديناميات أخرى يريد تغييرها فعلا.
فالنص الإيقاظي يحتاج إلى لغة فضَّاحة وصورة مقلوبة وخيال مستحيل:
يا بن أمي أنا وأنت سواء
وكلانا غباوة وفسولهْ
أنت مثلي مغفل نتلقى
كل أكذوبة بكل سهولة
ونسمي بُخْل الرجال اقتصادا
والبراءات غفلة وطفولة
ونسمي براءة الوحش طغيا
ناً ووحشية الأناس بطولهْ
ونقول: الجبان في الشرأنثى
ووفير الشرور وافي الرجوله
يا ابن أمي شعورنا لم يزل طفلا
وها نحن في خريف الكهولةَ
كم شغلنا سوق النفاق فبعنا
واشترينا بضاعة مرذولةْ
لا تلمني ولم ألمك.. لماذا؟
يحسن الجهل في البلاد الجهولة(5)
إنه يسخر من العلاقات الاجتماعية السائدة ويبرز التي تهد الجسد الاجتماعي كالجهل والتسطح والكذب والنفاق والبخل ووحشية الإنسان ضد أخيه الإنسان واضطهاد الأنثى وتمجيد الذكور وتخلف المجتمع واستيراد البدع والنِّحل والتقليد الأعمى وأموراً كثيرة فصل بها تفصيلا، أدخل النص في مباشرة سردية أملتها عليه وجهة النصر الذي أراد له أن يكون كذلك لأنه يتوجه بالأصل إلى متلق أمي على الأغلب، أو مترف جهول لا تهمه علل مجتمعه، فانصرف عن مشكلاته إلى حدود التنكر، فما عاد يهمه ما قيل وما يقال. لقد أراد البردوني، عن قصد وتصميم أن يوصل أفكاره إلى أكبر عدد من الناس، فلا حظ أن الكوميديا هي الأكثر قبولا، عند العامة الغالبة، كذلك أحس باندحار القيم المثالية، أمام الجائحة المادية، فعقد على أن يسبح ضد التيار، وأن يسير على الطريق الشائكة الوعثاء، وهكذا قرر أن يكون منتجه الفني مصنوعا من خصوصية مادته.. وبهذا اتفق مع الناقد الفذ يوسف سامي اليوسف في رأيه القائل.
“وفي صلب الحق أن الفنون وألآداب.. ولا سيما الشعر، هي أولى الأنشطة التي تضررت نتيجةً لاندحار المثالية أمام المادية، ففي سواء هذا الاتضاع الشامل، يتحتم على تلك الأنشطة نفسها أن تصاب بالتجفف والتقلص النوعي، أو بانحسار الكيفية الجوهرية للمنجزات الفنية والأدبية في الغالبه الأعم، فمن غير المعقول أن يخسر الإنسان قيمته دون أن تخسر أنشطته العليا قيمتها هي الأخرى إذا لا مراء في أن جميع منتجات الإنسان إنما تستمد قيمتها من قيمته خاصة ولكن الفنون مع ذلك ستظل حتى في سواء هذا التدهور الشامل، قيمةً جُلى، أقله في نظر أولئك الحساسين المرهفين، الذين لا يطيقون الاكتفاء بالبعد الحيواني للحياة البشرية، كما أنها سوف تظل على الدوام، واحة يانعة تزهر في جون هذا التصحر الروحي الآخذ بالاندياح في كل اتجاه، ودون أن يقبل التراجع بأي حال من الأحوال.. فالإنسان هو الحامل الوحيد للقيمة في هذه الدنيا التي لا تتمتع بأية قيمة في حضرة العقل الكامل.. وهذا يعني أنه علو لا يعلى عليه إلا بإيجابه الخاص أي الا بتحاوزه لذاته، في ذروة كما له، أو صور روحانيته البحتة التي هي علو فوق المادة وثقلها وجلافتها وعجمتها، وافتقارها إلى أي تسويغ ممكن، مهما يك نوعه”(6)
سخر البردوني من الواقع، وجسم الصورة الساخرة حتى بدت في كثير من معانيها عبثية وغير معقوله، وكان بذلك يدين الواقع المعيشي، ويحتج على الراهن، ويحث على التغيير أملا في نظام ورفاه وطمأنينة واستقرار وعزة.
كما كان يعرض لبؤسه وفاقته كما يتحدث عن الفقر الاجتماعي وما يولده من أمراض نفسية تهدد طمأنينة الإنسان وتعذب الروح، فيجري تبادلا بين السلبي والإيجابي حتى يكاد أن يوزع الفكرة بينهما، فاللص الذي يسطو على منزل الشاعر يصاب بالإحباط؛ كونه وجد حالة بائسة تشابه تلك التي يعيشها فكانت سبباً في انحرافه.. وهكذا سخر الشاعر من سارقه وتشفى من حالته الإحباطية.
شكراً، دخلت بلا إثارهْ
وبلا طفورة، أو غرارة
لما أغرت خنقت في
رجليك ضوضاء الإغاره
لم تصلب الطين السكون
ولم ترع نوم الحجاره
كالطيف، جئت بلاخطى
وبلا صدى، وبلا إشاره
أرايت، هذا البيت قز
ما لا يكلفك المهاره؟
فأتيته ترجو الغنا
ئم، وهو أعرى عن مغاره
***
ماذا وجدت سوى الفراغ
وهره تشتم قاره
ولهاث صعلوك الحروف
يصوغ من دمه العباره
يطفي التوقد باللظى
ينسى المرارة، بالمراره
لم يبق في كوب الأسى
شيئا حساه إلى القراره
ماذا؟ اتلقى عند صعلو
ك البيوت، غني الإماره
يا لص، عفواً إن رجعت
بدون ربح، أو خساره
لم تلق إلاَّ خيبةً
ونسيت صندوق السجاره
شكراً أتنوى أن تشرفنا
بتكرار الزياره(7)
نلاحظ أن الفكرة استغرقت ثلاثة مشاهد ساخرة. فالمشهد الأول يصف مهارة اللص وولوجه داخل المنزل، ثم يعرض في المشهد نفسه حالة المنزل المحسوسة(الصمت، الفراغ، السكون ، الخواء) وهنا تصطدم الغاية الكيدية، بكيدية الغاية والتي تمثلت في خيبة أمل اللص تجاه ماهو فيه، وإحباطه تجاه ما هو مقدم عليه، أما المشهد الثاني، فيمثل التشفي الذي أظهره (الفنان) وهو يشعر بمشاعر اللص الذي خابت آماله في تصيد الثمين والخفيف، بيد أنه لم يجد سوى الفقر والفاقة وقد رمز إليهما ب” هرة تشتم فاره” هرة جائعة، وفأرة ماتت جوعاً وما وجدت شيئا يدفع عنها غائلة الموت، وشاعر أثقلته الهموم الحياتية، فراح يصوغ الألم نصوصاً إبداعية، وهو يرتشف المرارة والأسى، وهنا يبرز المضحك المبكي في المعادلة التي تقوم عليها الصورة.
وفي المشهد الثالث يتعالى ضحك الشاعر، فينعي على اللص غباءه وجهله، فهو لم يختر المكان الصحيح، ولا الصيد الثمين.
أما اليمن فحاضر دائما في شعره، منه يستقي فنه وذاته، وعليه يعلق آماله وآلامه، وفيه يصب مواجده وبوحه، إنه الكل في ترابه ومائه وتاريخه وبنائه وعاداته وتقاليده.
لقد حَنِق الشاعر على أولئك المتنفذين الذين هدموا قديمه بحجة التجديد، وما دروا أنهم بفعلهم ذاك قد هدموا التاريخ وطوحوا بأمن الفقراء، فرسم بناء عليه صورة لذلك الواقع، صورة مضحكة مبكية، أبرز فيها خراب الذات والعمران في الوقت نفسه.
يا قاتل العمران.. أخجلت
المعاول.. والمكينه
الآن في فمك النفوذ
وفي يديك دم الخزينه؟
جرحت مجتمع الأسى
وخنفت في فمه.. أنينه
وأحلت مزدحم الحياة
خرائبا، ثكلى طعينه
ومضيت من هدم إلى
هدم، كعاصفة هجينه
وتنهد الأنقاض في كفيك
أوراقاً ثمينه
***
من أنت؟ شيء عن بني الإنسان
مقطوع القرينه
ذئب على الحمل الهزيل
تروعك الشاة السمينه
عيناك، مذبحة مصوبة
ومقبرة كمينه
ويداك زوبعتان
تنبح في لهاثهما الضغينه
يا وارثا عن ” فأر مأرب”
خطة الهدم اللعينة(8)
وهنا نلاحظ خطوط المؤثرات التراثية والأسطورية في تكوين ثقافة البردوني، وأهميتها في نفسه الشعري، وتشكيل صورته الفنية، فقد أشار إلى الأسطوره القائلة: إن فأرا دأب على فتح ثغرات في سد مأرب فتم تصدعه وخرابه.
ظل البردوني منحازا إلى طبقة الفقراء، وفضح الحيف الواقع عليهم، وجسم الهوى المعيشية التي تفصلهم عن الأغنياء، ،أدان انحياز السلطات المكونة للدولة إلى الاغنياء على حساب الحقيقة:
إنما لو لمست جيب غني.
في قوى قبضتيه، قوتي، ومنعي
لتلاقي الزحام حولي يدوي
مجرم، واحتفى بركلي، وصفعي
ولصالح القضاة: مااسمي وعمري
من ورائي؟ ما أصل أصلي وفرعي؟
فيقص القضاة أخطار أمس
وغدي وانحراف وجهي وطبعي
من سوابقي نصف سفر
وفصول أشد عن خبث نبعي
سأُدعى تقدميّاً خطيرا
أو أُسمَّى تآمرياً ورجعي
وهنا سوف يحكمون بسجني
ألف شهر، أو يستجيدون قطعي
وسأبكي ولن يغير دمعي
أي شيء من وضع غيري ووضعي(9)
ويدين التسطح الفكري الذي يعاني منه جيل الشباب، ويفضح انصرافه عن القضايا الوطنية والقومية، ولهاثه وراء المستورد من اللباس والغناء والموسيقى مما يتهدد خصوصية الأمة وهويتها القومية والإنسان:
جيل التحرر والهوى
عبد التفاهة والأناقة
جيل التفتح والتمزق
والحداثة، والعتاقة
حيران يغمره الشروقُ
ولا يرى أي ائتلاقةْ
ومرفه للجوع في ذرات
طينته.. عراقة
غضبان يبلع بعضه بعضا
ويفخر بالصفاقة
وسينتهي وجد السلاح
وليس تنقصه الحماقة(10)
دأب الشاعر في كل إبداعه الشعري على تجسيد القضايا الحيوية التي تهم جماهير وطنه، إنْ في السياسة أو الاقتصاد أو الحياة المعيشية، واختار الأسلوب الساخر أداة لتصوير تلك الهموم، لأنه وجد في السخرية طريقا إلى عقول مواطنيه، فهي الأكثر حفظاً وترديداً من قبل التندر، وبالتالي فإنها قابلةً للتأمل والإثارة وصولاً إلى الصحوة والعمل على تغيير الواقع، لكنه كان كثيراً ما يصل إلى نقطة اليأس، فينعي على نفسه جهدها وقلقها ومحاولاتها الدؤوبة على الإيقاظ والحث، عندها يسخر من نفسه التي طالما ركضت وراء سراب الأمل.
من تُغنِّي هنا؟ وتبكي على ما؟
كل شيء لا يستحق اهتماما
القضايا التي أهاجتك أقوى
من أغانيك من نواح الأيامى
خلف هذا الجدار تشدو وتبكي
والزوايا تندي أسى وجثاما
هذه ساعة الجدار كسول
ترجع القهقرى وتنوي الإماما
من تُغني يا ” كاهن الحرف” ماذا؟
هل سعال الحروف يشجي الركاما(11)
ويشهد الشاعر متغيرات متتالية في سياسة بلده، فمن انقلاب إلى انقلاب، من اغتيال إلى اغتيال، ومن اقتتال إلى اقتتال، حتى كادت الأيام أن تتشابه وأصبح الاضطراب عادة، لذا سخر الشاعر من هذا الواقع.
ولدت صنعاء بسبتمبرْ
كي تلقى الموت بنوفمبر
لكن كي تولد ثانية
في مايو.. أو في أكتوبر
أو في أول كانون الثاني
أو في الثاني من ديسمبر
ما دامت هجمتها حبلي
فولادتها لنا تتأخر
رغم الغثيان تحن إلى
أوجاع الطلق ولا تضجر(12)
وهنا لابد من التنويه إلى أن الشاعر البردوني تحول في شعره إلى ناقد سياسي عبر سخرية موجعة، فكان الملمح يتبدى في ديوانه الموسوم ب لعيني أم بلقيس” وهي اليمن، لذا غلبت على الديوان المذكور القصائد الساخرة الناقدة المتوجهة إلى الوطن، المجسمة لحراكه السياسي على وجه الخصوص(13).
وإذاً؛ تماهى البردوني مع أبي العلاء في الإحساس بالصورة وتوليفها وتلوينها من ألوان مشاعره، ثم فلسفة الفكرة التي أراد أن يرسلها إلى المتلقي، وماثل بشار أبن برد في تضخيم المشهد وسوَّقه، نحو الإحساس بالضحك، فإنه يلتقي مع الخطيئة في سلاطته الهجائية، وتحوله في انتقاده لذاته والسخرية منها وإيصالها إلى حدود” التشيؤ” عبر لغة ” سوقية” ليضحك منه وعليه طبقات المجتمع بمستوياتها الثقافية كافة:
هنا.. أرقم الصدى
وانمحى كالخربشة
وكالصلاة أرتقي
وأرتمي كالدروشة
أهمى ندى وأرتخي
كالتربة المرششة
سحابة تزرعني
تفاحة ومشمشةْ
نعشاً تجره الحصى
إلى الوعود المنعشة
مقبرة تلبسني
عباءة مزركشة
عمامة زيدية
ولحية منتفشة(14)
كان البردوني يختار شخوصه من القاع، ويسخر من تركيبتها النفسية، ثم يدين الظروف التي أوصلتها إلى الهاوية المعيشية والإخلاقية، فهو عندما يصور بائعات الهوى، إنما يكثر التساؤل، كمثل قاض يتوجه باستجوابه إلى المتهم، بحيدة عادلة:
قل لها.. قبل أن تفض يديها
هل غرام الذئاب يحلو لديها؟
وهي ليست شاه.. ولكن لماذا
تتوالي هذي الهدايا إليها؟
مقلتاها أظما من الرمل.. ماذا
يرشف المرتوون من مقلتيها؟
عشق هذا الزمان يخلع وجهاً
ويغطي وجهاً.. ويبدي وجهيها
إنهم عاشقون.. فليخدعوها
أن يلاقوا أعز من جانبيها
تحتسي منهم الجنيهات..لكن
لاترى عشقهم يساوي الجنيها
تمتطي كفها الهدايا..ولكن
كل مُهدٍ لا يمتطي منكبيها
فهي أشقى من عاشقيها وأقوى
غير أني أخاف منها عليها(15)
كذلك فهو يجترح نموذجاً من أولئك الذين يصنعون الثورات في الوطن العربي، وكيف يتنكر له رفاقه، فيبيت مهملاً منبوذاً.. إنه يريد القول إن تأكيد المقوله: الثورة كالهرة تأكل أولادها إذا جاعت:
من أنت؟.. ماذا تساوي
وكل ما فيك خاو(ي)
تحس جلدك ثلجا
مطينا وهو كاو(ي)
تئن، تخفي ضجيجا
أنت الصدى وهو عاو(ي)
من تسطو عليهم
وأنت وحدك ثاو(ي)
كسلان كا لجذع تقوى
عليك أدنى الهراوي
لاتشتهي أي شيء
وكل مافيك طاو(ي)
تعبُّ عشرين قرصا
وأنت كالأمس ذاو (ي)
لا الطب يعرف داء
ولا الدواء يداوي
كل القلاع اللواتي
أقلقتها في تهاو(ي)
فاهدأ فخطوك ماض
والدرب مُصغٍ وراو (ي)(16)
وفي هذه تظهر مشاكسة البردوني الأسلوبية والصرفية، والمشاكسة نابعة من اعتداده بنفسه أولا، إذ يريد إثبات وجوده اللغوي بإثبات الياء التي نصت القاعدة الصرفية على حذفها في حالتي الرفع والجر، كذلك فهو يسخر من النحاة والصرفيين الذي تشددوا بقواعدهم حتى على حساب جمالية الصياغة ثانيا:
واللعبة الشعرية” في جانبها الساخر” التي برع فيها الشاعر البردوني هي تلك التبادلية بين الظاهر والباطن في الممارسة السياسية، فهو يوصل المتلقي إلى المفارقات المضحكة في السياسة عندما يصف الحل الواقعي بوجود قناع، ويعري الواقع عندما يزيح القناع، فتنكشف اللعبة ويبدأ فصل الضحك:
غير رأسي.. اعطني رأس (جمل)
غير قلبي.. اعطني قلب (حمل)
ردَّني ماشئت..(ثورا)..(نعجة)
كي أسميك يمانيا بطلْ
كي أسميك شريفاً..أوأرى
فيك مشروعَ شريفٍ محتمل
سقط الميكياج، لا جدوى بأن
تستعير الآن، وجهاً مفتعلْ
كنت حسب الطقس تبدو ثائراً
صرت شيئاً.. ما اسمه؟ ياللخجل(17)
ويدين الشاعر أساليب التحقيق في أجهزة الأمن، ويسخر منها، ويسلط الضوء الفضاح على ما يدور في هاتيك الأقبية، ليستكمل بذلك الصورة البائسة التي رأى وطنه فيها، وقد استخدم فيها لغة الحوار، حوار” الطرشان” بين المحقق والمتهم، فيظهر التفاصيل الصغيرة وكأنها دواهٍ عظيمة يؤاخذه عليها قانونهم
وماذا عن الثوار؟ حتماًعرفتهم!
نعم حاسبوا عني، تعدوا بجانبي
وماذا تحدثتم؟ طلبت سجارة
أظن وكبريتا.. بدوا من أقاربي
شكونا غلاء الخبز. قلنا ستنجلي
ذكرنا قليلا..موت” سعدان مأبي”
وماذا؟ وأنسانا الحكايات منشد
” إذا لم يسالمك الزمان فحارب”
وحين خرجتم، أين خبأتهم، بلا
مغالطة؟ خبأتهم، في ذوائبي
لدينا ملف عنك.. شكراً لأنكم
تصونون/ ما أهملته من تجاربي
لقد كنت أميّاً حماراً وفجأة..
ظهرت أديبا.. مذطبختم مآدبي
خذوه.. خذوني لن تزيدوا مرارتي
دعوه.. دعوني لن تزيدوا متاعبي(18)
وكلما اثقلت الهموم صدر الشاعر وضميره، ازدادت لفظته حدة وسخرية فتحولت إلى سكين جارحة، في الوقت الذي تتحول فيه لغته إلى لغة شارعية بسيطة كي يصل إلى أكبر عدد ممكن من الناس.
الخاتمة
البردوني ظاهرة إنسانية تحتاج إلى اهتمام الدارسين النفسانين، فلا يستطيع أمرؤ أن يصل إلى مغاليق شعره مالم يصل إلى دواخله وأنماط تفكيره.
شاعر سخر من كونه، لأنه رأى في بصيرته وحشية الإنسان ضد أخيه الإنسان، فأدرك عندئذ أهميته كمبدع يترتب عليه أن يكون حاديا في مجتمع، فنادى بالثورة على التخلف.
شاعر وجد نفسه جزءاً من سخرية القدر الذي سخر منه في ولادته، في مكانه وزمانه، في عماه، في عجزه، في عدم نجاحه أو مقدرته على التغيير، في ترسيمه كاهناً للحرف.
شاعر يماني حتى النخاع، فاليمن هو، وهو اليمن، وكلاهما من سخريات القدر الظلوم كما كان يصرح بقوله” أنا واليمن توأمان متماثلان كتضاريسه (يشير إلى الندوب التي تركها مرض الجدري)، وهو أعمى لا يرى الحضارة، وأنا أعمى لا أرى الجمال والنور، وهو عقيم ما ولد معطى حضاريا، وأناعقيم ما استخلفت ضنى يحمل اسمى إذن أنا وهو متماثلان حتى التماهي(19) وهو في سخريته التي تتمظهر في شعره، إنما يصدرها عن نفس كليمة حزينة محيطة أرادها أن تكون تعبيرا عن واقع معيشي يقوم على المفارقات المتضادة.
الهوامش:
1. الأعمال الكاملة، المجلد الأول، ديوان من أرض بلقيس، من قصيدة “مع الحياة” ص (187) وما بعدها، إصدار دار العودة. بيروت، سنة 1986م.
2. نفسه، المقدمة الشاعر بقلمه.
3. نفسه، ص (52-53).
4. نفسه، المقدمة ص(23)، بقلم الدكتور – عبدالعزيز المقالح.
5. نفسه، من ديوان “في طريق الفجر” قصيدة “أنا وأنت” صفحة(42).
6. القيمة والمعيار، يوسف سامي اليوسف، ص(11-13) إصدار كنعان، دمشق، سنة 2000م.
7. الأعمال الكاملة، من ديوان “مدينة الغد”، ص(83-84) المجلد الثاني.
8. نفسه، ص(105-107) من قصيدة “سفاح العمران”.
9. نفسه: من قصيدة “ضائع في المدينة” ص(118-119).
10. نفسه، من قصيدة “حماقة وسلام” ص (129-103).
11. نفسه، من قصيدة “كاهن الحرف” ص (142-143).
12. نفسه، من ديوان لعيني أم بلقيس” ص (172-174) من قصيدة “صنعاءوالموت والميلاد”.
13. انظر المجلد الثاني من الأعمال الكاملة، ديوان لعيني أم بلقيس، القصائد على الصفحات: 172، 177، 189، 212، 216، 219، 226، 231، 24، 251، 26، 264. ناهيك عن أبيات توزعت على قصائد الديوان المذكور بأكملها.
14. المجلد الثاني، من ديوان “السفر إلى الأيام الخضر” من(302- 303) من قصيدة “طقوس الحرف”.
15. نفسه، من قصيدة ” من بلادي عليها” ص(325-326).
16. نفسه، من قصيدة ” مناضل في الفراش” ص(385) إلى ص(287).
17. نفسه من ديوان “وجوه دخانية في مرايا الليل” ص (504-505) من قصيدة “بعد سقوط المكياج.
18. نفسه، من قصيدة “سندباد يمني في معهد التحقيق” ص (51-513).
19. أنظر كتابنا “الصورة الفنية في شعر عبدالله البردوني” في طبعته الأولى منشورات اتحاد الكتاب العرب بدمشق سنة 1995م، والثانية من منشورات دار اليمامة السعودية، الرياض، ضمن سلسلة كتاب الرياض عام 2000م “الباحث”.
عن (مجلة الكويت العدد 227 الصادر في 1سبتمبر2002م)