مآتم وأعراس

مآتم وأعراس
موقع البردوني - ديوان في طريق الفجر

ديوان في طريق الفجر >  مآتم وأعراس

29 شعبان 1382هـ

يناير سنة 1963م

كيف كنا يا ذكريات الجرائم
مآتماً في الضياع يتلو مآت

مكيف كنا قوافلاً من أنينٍ
تتعايا هنا كشهقات نادم

وقطيعاً من البراءات يهوي
من يدي ذابحٍ إلى شدق لاقم
ومضينا يسوقنا سيف جلادٍ
وتجترنا سكاكين ظالم

* * *

ضاع في خطونا الطريق فسرنا
ألماً واجماً على إثر واجم

والسكون المديد يبتلع الحلم
ويسري في وهمنا وهو جاثم

والدجى حاقد يبيع الشياطين
فنشري من القبور التمائم

وخطانا دم تجمد في الأشواك
جمراً وفي الصخور مياسم

ورياح الثلوج تشتم مسرانا
فتشوي وجوهنا بالشتائم

* * *

كيف كنا نقتات جوعاً ونعطي
أرذل المتخمين أشهى المطاعم؟

وجراحاتنا على باب “مولانا”
تقيم “الذباب” منها ولائم

وهو في القصر يحتسي الشعب خمراً
ودماً والكؤوس غضبى لوائم

ويرائي وفي حناياه دنيا
من ضحايا وعالمٌ من مآثم

فنفديه وهو يغمد فينا
صارماً مدمناً ويستل صارم

ويشيد القصور من جثث الشعب
المسجى ومن رفات المحارم
ويغطي بالتاج رأساً خلاياه
وأفكاره ذئابٌ حوائم

وتلال من الحراب وكهفٌ
من ضوارٍ وغابة من أراقم

* * *

كيف كنا ندعوه مولى مطاعاً
وهو “للإنجليز” أطوع خادم

هدنا الضعف فادعى قوة “الجن”
وبأس الردى وفتك الضياغم

فتحاماه ضعفنا واتخذناه
إلهاً من “شعوذات” المزاعم

عملق الدجل شخصه وهو قزمٌ
تتظناه قاعداً وهو قائم

وصبي الشذوذ وهو عجوزٌ
نصف ميتٌ… وباقيه… نائم!

وأثيمٌ أيامه… للدنايا
ولياليه للبغايا… الهوائم

ويداه يدٌ تجرح شعباً
ويدٌ تقطف الجراح “دراهم”

* * *

ويولي على الوزارات والحكم
رجالاً كالعانسات النواقم

ولصوصاً كأنهم قوم “ياجوج”
صغار النهى كبار العمائم

وطول الذقون شعثاً “كأهل
الكهف” بل كالكهوف صمٌ أعاجم

يحكمون الجموع والعدل يبكي
والمآسي تدمي سقوف المحاكم

تارة يرقصون فوق الضحايا
وأواناً يشرعون المظالم

فيسمون شرعةَ الغاب حزماً
إن أصابوا فالذئب أحزم حازم

ويصلون والمحاريب تستفتي
متى تصبح الأفاعي… حمائم؟

ويعودون يلفظون الحكايا
مثلما تنثر النثيل البهائم

ويميلون يعبرون الرؤى خيراً
وشراً من خاطر الغيب ناجم

كلهم متحف الغباء… وكلٌ
يدعي أنه محيط المعاجم

فيلوكون من “مريض” التواريخ
حروفاً من فهرسات… التراجم

وينيلون “باقلا” ثغر “قسٍ”
ويعيرون “مارداً” جود “حاتم”

كيف هُنَّا فقادنا أغبياءٌ
ولصوص متوجون أكارم؟

وصغار مؤنثون وغيدٌ
غاليات الحلى رخاص المباسم

* * *

هكذا كان حاكمونا وكنا
فنحرنا فينا خضوع السوائم

وانتظرنا الصباح حتى أفقنا
ليلةٍ وهو ضجةٌ من طلاسم

أترى قامت القيامة أم هب
العفاريت يطحنون القماقم؟

وأصخنا نفسر الوهم بالأوهام
والظن بالظنون الرواجم

ووراء الضجيج إيماء رعدٍ
يزرع الشهب في يديه خواتم

والدجى يعلك السكون ويعدو
مثلما الخيول الشكائم

وسألنا ماذا؟ فأومت طيوفٌ
زاهرات البنان خضر المعاصم

وتحدى صمت القبور دويٌ
شفقي الصدى عنيد الغمائم

والعيان الكبير ميعاد رؤيا
أنكرت صدقه العيون الحوائم

وإذا فاجأ اليقين على الشك
حسبت اليقين تهويل واهم

* * *

وهنا حرق الغيوم انفجار
والصدى يعزف اللهيب ملاحم

فتراخى “قصر البشائر” كالشيخ
ولاذت جدرانه بالدعائم

واحتمى بالقوى فضج عليه
لهبٌ عارمٌ يلبيه عارم

وحريق يدمي قواه ويمضي
وحريق جهنمي… يهاجم

فارتمى في اللظى كما ترتمي الأفيال
حمر الرؤوس جرحى القوائم

وتعالى الدخان والنار فالليل
نهار صحو الأساير غائم

وتنادى الشروق من كل أفقٍ
ثورة فانبئي الربى يا نسائم

فإذا مأتم المآتم أعراس
نشاوى مزغرداتٌ نواغم

* * *

أشرق الثائرون فالموت عرسٌ
وأنين الحمى لحون بواسم

وارتعاش الخريف دفءٌ ربيعـ
ـيٌ، وصيفٌ داني العناقيد دائم

والجراح التي على كل شبرٍ
أثمرت فجأةً وكانت براعم

* * *

من رأى الثائرين زحفاً من الخصب
وزحفاً من شامخات العزائم؟

وصباحاً ضافي الشروق مطلاً
وصباحاً في شاطىء الليل عائم

وشباباً توهجوا فانطفى “نيرون”
وانهار أغبر الوجه فاحم

واستثاروا دفء الحياة فمات الم
وت، وانقض عرشه وهو رافم

وأطلت وجوههم من وراء
الليل، كالصحو من وراء الغمائم

ومشوا تزرع الدروب خطاهم
موسماً طيباً يجر مواسم

وشموساً هواتفاً وانتصاراً
حاسماً يهتدي على إثر حاسم

والضحى في الدروب يمرح كالأ
فراح، في أعين الصبايا النواعم

* * *

فتهادت مواكب الشعب ألواناً
كنيسان مائج الحسن فاغم

وتوالت حشوده الكثر تشدو
فالربى والسهول شادٍ وباغم

ونسينا في غمرة البشر… عهداً
أسود القلب أحمر السيف قاتم

كلما عب جيفةً مد للأخرى
كؤوساً كحنجرات… الضراغم

كان حكامه ذباباً عليها
من صديد الجراح أخزى المعالم

وذئاباً بلهاً وكنا قطيعاً
قسمونا واستجمعونا غنائم

* * *

فانقسمنا برغمنا وسألنا
أين أين القربى؟ وأين المراحم؟

أوما نحن إخوة أمنا الخضراء؟
فيم اختصامنا؟ من نخاصم؟

أنجبتنا هذي البلاد فأنهت
بدع الفن قبل بدء العوالم

وغذتنا تآخيا كان أبقى
من ربى ريفها ووهج العواصم

* * *

فمضوا يطعموننا الحقد حتى
جهل المرء قصد وهو عالم

وتمادوا في الهدم حتى كسرنا
معول الحقد في يدي كل هادم

ودفناً حكم الشذوذ رفاتاً
واحتشدنا نتوج الشعب حاكم

والتقينا نمد للفجر أفقاً
من دم التوأمين “عادٍ” و”هاشم”

ومراحاً من تضحيات “البلاقيس”
ومغذى من تضحيات “الفواطم”

فانطلق حيث شئت يا فجر إنا
قد فرشنا لك الدروب جماجم

وزحفنا نهدي الهدى ومددنا
من قوانا إلى الأعالي سلالم

وسمونا صفاً مبادئه الحب
وغاياته سماء المكارم

* * *

وأضأنا حتى انثنى سارق الإسلام
عريان يحتمي بالهزائم

واشرأبت أرض النبي تدوي
من “سعودٌ”؟ أطفى أغشم غاشم!

وغبي سلمٌ لكل عدو
وهو حرب على أخيه المسالم

من رآه يرجو “حسيناً” ويهذي؟
من يقينا هولاً من النار داهم؟

فيعود الجوع عنه سؤالاً
هل لطاغٍ من غضبة الشعب عاصم؟