جمالية التكرار في شعر البردوني… عبد الله علوان

جمالية التكرار في شعر البردوني… عبد الله علوان
موقع الشاعر الكبير الأستاذ عبدالله البردوني

دراسات >  جمالية التكرار في شعر البردوني… عبد الله علوان

كثيرا ما نسمع أدباء الحداثة يرددون عبارة (لا جديد تحت الشمس) وهذه العبارة بصيغتها الحديثة تنكر التبدلات، ليس في الطبيعة وحسب، كما توحي بذلك العبارة، بل إنها تنكر، بطريقة غير مباشرة، التبدلات الاجتماعية والفكرية بما في ذلك الأدب والشعر على وجه التحديد.
وإنكار التبدلات، أو اختلاف الظواهر المتكررة في ذاتها وصورها، هو إنكار لقانون التبدلات الكمية والكيفية، وإنكار لقانون الاختلاف بين الظواهر، أو الاختلاف في إطار الظاهرة الواحدة، مثل تعاقب الليل والنهار أو تعاقب الفصول، واختلاف الأجواء، واختلاف حركة الكواكب والأفلاك وما يترتب على حركتها من تحولات في العناصر الأولى واستحالة بعضها إلى بعض وأثرها على المناخ والكائن.
وهناك مثل شعبي يقول (كل يوم وله شمس وريح) وهو مثل عفوي صادق، ويعترف بالتبدلات الكمية والكيفية، وباختلاف الظواهر المتكررة، ومن خلال ظاهرة التعاقب بين الليل والنهار والفصول، ومن خلال حركة الكواكب والأفلاك. وتأثيرها على المناخ والكائن، وهو من قوله تعالى (يسأله من في السموات والأرض كل يوم هو في شأن…الآية 29 سورة الرحمن) وقوله تعالى من سورة الرعد الآية 39 (يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب) راجع تفسير الشوكاني للآيتين، وإقراره بالتبدلات الاجتماعية والتاريخية والطبيعية.
ومن هذا وذاك ندرك أن قانون التكرار لا ينفي قانون التبدل والاختلاف، بل يؤكده، والعكس صحيح أيضا.
قد يتشابه اليوم بالأمس، كما يشبه الولد أباه، أو كما يشبه الشخص نوعه، لكن الاختلاف هو القاعدة بينهما، فقانون التشابه والتمايز لا ينكر قانون التباين والاختلاف، وإنما لكل قانون مجراه، أو لكل مقام مقال، كما يقول البلاغيون.
وفي أيامنا هذه انتشرت في أوساط الحداثيين نغمة شاذة تقول إن شعر البردوني متكرر، وذلك عند ما يكون الحديث دائرا حول شعر البردوني وأدبه، وغرضهم من ذلك ليس إغلاق أبواب النقاش عن البردوني وشعره وحسب، بل ولغرض إبعاد الجماهير عن شعر البردوني، بصورة خبيثة.
وقولهم هذا، لا يختلف عن قولهم القديم (لا جديد تحت الشمس)، ولكن العبارة هنا موقوفة على شعر البردوني، وفي مجالس يكون فيها النقاش حول شعر البردوني وقوة إبداعه ومتانة شعره وصدقه الجمالي وحرارة القيم الجمالية فيه.
وعندما تطالب هؤلاء العدميين بالدليل، أو بالبيان أو بالتحديد أو بضرب المثل وتقديم الشاهد، يعجزون عن إثبات ما يدعون أو بيان دعوتهم أو تحديدها. لا لأنهم يجهلون شعر البردوني، وأدبه وحسب، بل لأنهم يجهلون حقيقة الأدب وقواعده، ويقولون ما يقولونه ترديدا ببغاويا، أي أنهم يقولون ما لا يعرفون، أوهم يهرفون بما لا يعرفون……………..؟!
والتكرار في الشعر ظاهرة لا ينكرها إلا جاهل، أما الأكثر جهلا فإنه الذي لا يقدر على تحديد الفروقات بين أمس الدابر، واليوم الحاضر، وما يعتور هما من تبدلات طبيعية، واجتماعية، وفكرية، وهم لا يعرفون ما الثابت من المتحول، أو المتحول في الثابت ولكنهم يخبطون العشواء.
ومن الثوابت في الشعر تلك الظواهر الجمالية التي عالجها الشاعر الجاهلي بصورة فنية آسرة، كما عالجها الشاعر الأموي وعالجها الشاعر العباسي، وكما وقف عندها شعراء النهضة، على طريقتهم واستوقفت شعراء الرومانسية، وشعراء التفعيلة، ولكن بأساليب مختلفة اختلاف الأزمنة والأمكنة، واختلاف الأساليب العصرية، واختلاف مستويات الوعي، وتفاوت الشعراء، بل واختلاف الحالات الشعورية في ذات الشاعر الواحد، ونظرته المتبدلة من موقف لآخر، لأسباب يفرضها الواقع الشعري المتبدل.
فالظاهرة الطللية في الشعر الجاهلي، هي من مظاهر الجمال الثابتة، هذه الظاهرة لم تنتف عن الشعر عبر العصور ولكن التعبير عنها اختلف من عصر إلى عصر ومن شاعر إلى آخر اختلاف أحوال ظاهرة الأطلال، فأطلال زهير ابن أبي سلمى، غير أطلال طرفة ابن العبد، وأطلال البحتري تختلف عن أطلال أبي تمام، والمتنبي، وعن هؤلاء تختلف أطلال شوقي وأطلال إبراهيم ناجي، وعن أطلال كل هؤلاء الشعراء تختلف وقفة البردوني الطللية، على بيته القديم في بستان السلطان:
أيا بيتا هنا في القلب
كيف أبث تحناني…؟
أتذكر كنت بُنّيا….؟
ولون الباب رماني…؟
وكان السورقاتيا
ومرأى الصحن مرجاني
وكنت تشير بالكاذي
وبالورس الغوايداني
تبث الشدو سعديا
وأحيانا قمنداني
أحس تهدمي يهفو
إلى نزعات شيطاني
وهل هذا الذي أجتر
كالأنقاض جثماني…؟
(كائنات الشوق الآخر)
وكالظاهرة الطللية، نجد الحب كظاهرة جمالية ثابتة، متكررة لا في شعر الأعشى والمرقش وامرئ القيس وكل شعراء الجاهلية بل في الشعر الأموي كذلك، فغزل عمر ابن أبي ربيعة، لا يختلف عن غزل امرئ القيس الجاهلي وحسب، بل يختلف عن غزل جميل بثينة، وعنهم يختلف غزل جرير، وغزل الأخطل يختلف عن غزل الشريف الرضي وعن هؤلاء يختلف غزل السياب، وغزل نزار قباني وغزل جرادة ولطفي جعفر أمان.
وكما أن حكمة زهير بن أبي سلمى موضوع جمالي خاص به، إلا أن الحكمة شعرا لم تغب، لا عن الفرزدق ولا عن بشار بن برد، ولا عن صالح بن عبدالقدوس، وأبي تمام، ولاعن المتنبي والمعري، وشوقي ورشيد الخوري، وهي حاضرة في شعر البردوني حضور الحياة كلها كما في قوله من قصيدته (أغنية من خشب):
تغل العواسج في كل آن
وفي كل عام يغل العنب
أما الشعر التفعيلي، فيكاد يخلو من الحكمة، إلا من لم اقرأ لهم. وهكذا قل في مواضيع الشعر الأخرى، كالبطولي، والفخر والمديح والهجاء والرثاء، والوصف….الخ.
أما وسائل البيان والتعبير فهي من الظواهر الثابتة، وتختلف اختلاف الشعراء، كاللغة وأساليب البلاغة، من استعارة وتشبيه وتمثيل ورمز، فكل عناصر المجاز وسيلة بلاغية لبيان حقائق المعرفة الشعورية في كل عصر ومع كل الشعراء.
وفي ثوابت اللغة وأدوات التعبير يكمن المتبدل والمتكرر في آن، فالتكرار ظاهرة ثابتة في كل الثوابت وفي كل المتغيرات.
كذلك من الثوابت المتكررة في الشعر، أشكال التعبير، كالأوزان والقوافي، فلا شعر بدون الوزن والقافية، أو بمعنى آخر لا شعر بدون نسق بلاغي، محكم، لغة وتراكيبا ومعنى.
قد تقوم الموهبة الشعرية بالتجديد في الأوزان والقوافي، بل وفي التراكيب اللغوية وأساليب التعبير، بل أن الموهبة مطالبة بذلك، ولكن…..ولكن في إطار ذلك الثابت، أما الخروج على أدوات التعبير وأشكاله، بذريعة الحداثة، فذلك هو الجهل الفظيع، أو التدمير المقصود لأشكال الثقافة العربية – الإسلامية كذلك قل عن ظاهرتي الشعر والشاعر.
فالشعر ظاهرة ثابتة ومتكررة في حياة البشر، ولا تتجلى هذه الظاهرة المتكررة إلا عبر الشاعر…. فالشاعر شخصية متكررة مثله مثل الشعر، أو مثل الإنسان أو مثل الفصول والأيام.
وإذا كان الشعر بكل مظاهره الفنية والمعنوية هو ظاهرة ثابتة ومتكررة، فإن التعبير عن تلك الظواهر هو ظاهرة متكررة، ولكنها تتكرر في صور مختلفة اختلاف الأزمنة والأمكنة واختلاف الأساليب والشعراء، فما هو متكرر في الشعر هو متبدل في صورته الشعرية.
إن الشعر صورة أدبية، ولكنها صورة ذاتية متفردة، ومحكومة بخصائص الموهبة النفسية واللغوية، وبخصائص الموهبة الفنية والفكرية، حتى وإن تكررت هذه الصورة لدى الشعراء، كما يقو ل نقاد (التناص) أو تكررت عند الشاعر الواحد كما يقول النقاد بشكل عام.. وشعر البردوني، يخضع لهذه القاعدة الشعرية، فكل صورة شعرية قالها البردوني في مرحلته الرومانسية يرجع ويعيد صياغتها في المرحلة الواقعية، ولكن بتلقائية وبدون قصد، وإنما الموضوع الجمالي هو الذي يعيد حضوره في ذات الشاعر فيعيد الشاعر صياغته.
فما كانت صورة غامضة في دواوينه الأولى تصبح صورة أدبية واضحة في دواوينه الأخيرة، وكل هذه المراجعات العفوية في الأدب، تخضع لعدة مواقف جمالية واجتماعية وتاريخية، ثم إنها تتبدل تبدل الواقع الشعري نفسه وتطور مستوى الوعي من مرحلة شعرية إلى أخرى. وأتساع المدارك وتبدل الوعي بهذه الحقيقة الجمالية أو تلك.
والأهم من هذا وذاك، هو أن الثورة اليمنية، منذ حركة 1948م حتى وفاة الشاعر عبدالله البردوني، هذه الثورة هي واقع البردوني الشعري، وهذا الواقع الثوري، كان ومازال متبدلا، ومادام هذا الواقع متبدلا، فهو بالضرورة متكرر في الشعر بصورة متبدلة أيضا.
على ذلك فنحن عندما ننظر إلى تكرار الصورة الشعرية أو تبدل موقف الشاعر من خلال شعره، ومن هذه الظاهرة الجمالية أو تلك، عندما ننظر إلى ذلك لا يحق لنا إنكارها على الشاعر لأن ذلك حقه وحده دون غيره.
ولا يحق لأحد أن يتهم الشاعر بالتكرار الشعري، إلا بعد دراسة شعره ودراسة واقعه الشعري وما لازم ذلك من تبدلات في الواقع ذاته، وتبدلات في الصياغة الشعرية.
ولا يحق لأحد اتهامه بالتبدل أو التراجع فذلك من حق الشاعر دون غيره، بل يجب النظر إلى هذه المواقف المتبدلة، أو المعاني الشعرية المتكررة، أو انقلابها إلى النقيض، من خلال الصدق الشعري أولا ثم من خلال صياغة الصورة الأدبية بلاغيا ولغويا، ثانيا، ثم ما داخل ذلك من صفات تخضع واقعيا وتاريخيا لمعايير الصدق والكذب، ولمعايير الصواب والخطأ، ولمعيار الإمكانية والواقع…. ومن موقع جمالي فقط.
تلك حقيقة التكرار في الشعر على العموم وفي شعر البردوني على وجه خاص، فهو ليس عبدا للمدارس الجمالية ومبادئها…. وليس عيداً للشعارات الحزبية الكاذبة، أو السياسات المخادعة، ولكنه عبدالشعر وعبدالحب والجمال، إنه الرائد الذي يصدق أهله:
أمي أتلقين الغزاة بوجه مضياف مثالي..؟
لم لا تعادين العدى..؟ من لا يعادي لا يوالي
إني أغالي في محبة موطني…. لم لا أغالي.
** ** **
وفي شعر البردوني، لا يتكرر الموضوع وحسب، بل وتتكرر فيه أدوات التعبير الأولى، مثل اللغة والوزن، وأساليب البلاغة الأساسية كالاستعارة والتشبيه والتمثيل والإشارة والرمز، كل هذه الثوابت تتكرر في شعره، بل تتكرر الصور البلاغية، ولكن بصياغات مختلفة، فالشعر معنى يمارسه كل الناس في كل العصور، أو لنقف عند قول الجاحظ وهو أصدق علماء الكلام، قال الجاحظ: (المعاني في الطريق يصادفها العجمي والعربي، والحضري والبدوي، وإنما الشأن في الصياغة، فالشعر فن من النقش والتصوير، أو كما قال).
والمعاني يقصد بها المواضيع الجمالية، وجملة في الطريق يعني أنها مشاعة لكل الناس، وبعبارة (الشأن في الصياغة) يقصد أن الشعر صورة بلاغية قوامها الأسلوب واللغة، وعلى أسلوب الشاعر ولغته تجرى الأحكام النقدية فقط.
ولو تتبعنا مواضيع البردوني الشعرية، لوجدناها صورا تتكرر في كل أشعاره بأساليب أخرى.
فالطلل ظاهرة نجدها في أكثر من قصيدة أهمها قصائده (ذكريات شيخين) و(مدينة بلا وجه) و(صنعاني يبحث عن صنعاء) ثم قصيدة (كائنات الشوق الآخر) وغير ذلك من قصائد أو أبيات، ولكن في صور مختلفة، فما كان موضوعا للدهشة في ذكريات شيخين، يصبح ظاهرة جمالية مستنكرة في قصيدتيه (مدينة بلا وجه) و(صنعاني يبحث عن صنعاء).
وهذه الظاهرة الطللية، في (كائنات الشوق الآخر) تكون محل استنكار ورفض وإدانة لكل ماهو حديث، أو لكل معاول الهدم الحديثة، وتأتي هذه القصائد في بحور شعرية شجية مفعمة بأنفاس البردوني ونظرته الخاصة، رغم أن هذه البحور قديمة قدم الشعر، كالرمل، والطويل، أو من الكامل والهزج.
وكذلك نجد التاريخ موضوعا جماليا في شعر البردوني، ويأتي بأسلوب سردي متكرر، فهو في (حكاية سنين) موضوعا يتوخى أصالة الحاضر، وقوامه البحر الكامل:
فإذا الثلايا والبطولة
يركلان شموخ صالة
وهو في مسافرة بلا مهمة، موضوع قوامه البحر الخفيف، يقول فيه:
أي شيء أريد ما عدت أغفو
أقلق الدهر مرقدي وشخيره.
ويتكرر التاريخ كموضوع جمالي في قصيدتي (جواب العصور) و(رجعة الحكيم ابن زايد) بأساليب تختلف عن قصيدتي (حكاية سنين) و(مسافرة بلا مهمة).
وكذلك نجد (الثورة) موضوعا في كل أشعاره، أو معظمها، ابتداء من قصيدته (في طريق الفجر) حتى قصيدة (رجعة الحكيم ابن زايد).
وفي استخدامه للرمز، نجد شخصية السبتمبري، شخصية متكررة، ابتداء من قصيدته (لص تحت الأمطار) مرورا بقصائده(مناضل في الفراش) و(ثرثرات محموم) حتى (بغيض العمشي) و(عواصف وقش) وغيرهن.
وحتى المواضيع الجمالية التي تكاد تكون حكرا على البردوني، هي أيضا تتكرر، مثل موقفه من السياسة العرقية، فهو في قصيدة (حوار جارين) يسخر ويتهكم من سياسة الإمام أحمد العرقية، ونجد الموضوع يتكرر في قصيدته (زائر الأغوار) وهو أكثر مواضيع السخرية في قصيدته (من حماسات يعرب الغاراتي) المنشورة في ديوانه (ترجمة رملية لأعراس الغبار).
وبقدر ما كان البردوني يمتدح الرومانسية في ديوانه الأول (من أرض بلقيس)، رجع ليهاجمها بشدة في ديوانه الثالث (مدينة الغد) كما في قصيدته (فارس الأطياف).
ثم إن البردوني الذي كان – وظل- واقعيا حتى آخر يوم من حياته، رجع يهاجم الواقعية بشدة كما في قوله من قصيدة (ثرثرات محموم):
قلت لي إنّ ذا أكيد ولكن
أي شيء مؤكد يا حمادي…؟
وكذلك موقفه من الحداثة، فهو لا يشيد بها، ولكنه يهاجمها بشدة فقد كان يتعامل مع الحداثة بجدية انتهت به إلى التحرر منها راجعا إلى عمود الشعر كما نلاحظ ذلك في قصيدته (وردة من دم المتنبي):
من تداجي يابن الحسين؟ أداجي
أوجه تستحق ركلا ولطما
كم إلى كم أقول ما لست أعني
وإلى كم أبني على الوهم وهما
تلك مظاهر التكرار في المواضيع المتكررة وفي موقفه من المدارس الأدبية، ولكن لا بد من بيان الصورة الشعرية المتكررة وتحديدها عبر أبيات شعرية متكررة من حيث الشكل ومختلفة من حيث المضمون والموقف والصياغة.
ولنأخذ أولا قوله من قصيدة (يقظة الصحراء) يصف الاستعمار القديم، قال يخاطب محمدا عليه الصلاة والسلام:
يا رسول الحق خلدت الهدى
وتركت الظلم والبغي حطاما
قم تجد في الكون ظلما محدثا
قتل العدل وباسم العدل قاما
فقد أصبح العدل مقتولا باسم العدل، ومثله قوله من قصيدة (بغيض العمشي) يصف الاستعمار الحديث:
غيم يعيق البرق لا يندى ويأبى أن يبارح
ويتكرر هذا الوصف في قصيدة (رواغ المصابيح) في قوله
يذبحون الرجا في كل قلب
وينوبون عن بزوغ المرجَّا
ثلاث صور بلاغية متكررة لمعنى، ليس واحدا، وإنما لموقف متعدد الأوجه، هو موقف الاستعمار أو الحداثة من الشعوب العربية.
فالاستعمار يذبح العدل ويعمل من نفسه حكما على الناس، والاستعمار يمنع الغيث باسم الغيث، فلا هو يدع أمطار الله تهطل ولا يدع لنا الشمس تشرق.
والحداثة تقتل آمال الناس، وتعمل من نفسها بوابة للتقدم مع أنها التخلف بكل صفاته وذواته.
الصور مختلفة، من حيث الشكل والموقف، لكن الموضوع الجمالي، متقارب، ولكنه موضوع جمالي جديد خاص بالبردوني وحده.
ثم نجد التكرار في صورتين مختلفتين، الأولى أخذتها من قصيدته (حوار جارين)ٍ وفيها إدانة واضحة للسياسي العنصري، والمتبجح بالسلالية، يقول البردوني يخاطب الشخصيات العرقية:
أنت مثلي معذب فكلانا
صورة للهوان نخزي الإطارا
وتتكرر هذه الصورة في سياق آخر، بنفس الديوان (طريق الفجر) في قصيدته (أنا وأنت) بقوله:
أنت مثلي مغفل نتلقى
كل أكذوبة بكل سهولة
الصياغة متشابهة، وقوامها التشابه الذي يؤكد التمايز ومن بحر شعري واحد، ولغة متقاربة، ولكن باختلاف واضح، هو اختلاف العذاب والهوان والخزي، في البيت الأول، واختلاف الغباء والجهل والغفلة في البيت الثاني. في البيت الأول يدين السياسة العرقية وتبجحها بالنسب، تبجحا يؤكد هوانها وخزيها وبؤسها.
والبيت الثاني يدين شخصية حزبية انفعالية منبهرة بالحداثة أو بالمظاهر الاستعمارية المخادعة، دون وعي بها.
وإذا كانت الصورة الأولى، تجسد معاني الهوان والذل للمتبجحين بالأمجاد العرقية والعنصرية، فإن الصورة الثانية تجسد حالة الغفلة والجهل في كل سياسي لا يقدر على معرفة الحقيقة، وينصاع للاستعمار والحداثة.
كذلك نجد ضحالة السياسة العرقية في قصيدته (زائر الأغوار) فهو يصور شخصية عرقية من نوع. السبئيين، شخصية قحطانية تلفعت بالليبرالية شعارا لها وبقيت محتفظة بالقحطانية كدثار وكلاهما يخفيان حقيقة الإرهاب الليبرالي والتجسس على الشاعر:
من هذا الملغز يا أهلي
بل هذا المعجز يا صحبي
يغشاني من رأسي حتى
لا أدري قدمي من جنبي
ورث (اللنبي) غازٍ أدنى
وجها من عرقوب (اللنبي)
سألت هنا دارا، قالت
ما استنبح مقدمه كلبي
من ذا تدعوه…؟ أخمنه
سبئيا أضحى لا يسبي
لكن أحيانا يفتخر البردوني بجذوره العربية عند الحق، وبصورة تجعل من سلالتي عدنان وقحطان، وحدة إنسانية متعاونة للخير والحب والعدالة الاجتماعية كما في قوله من قصيدة (مآتم وأعراس):
ودفنا حكم الشذوذ رفاتا
واحتشدنا نتوج الشعب حاكم
والتقينا نمد للفجر أفقا
من دم التوأمين (عاد) و(هاشم)
لكن بعد الصلح الملكي الجمهوري، يتراجع الشاعر عن هذه اللفتة العظيمة، بلفتة تدين السياسة العنصرية بكل صورها، كما في قوله من قصيدة (يعرب الغاراتي) من ديوان (ترجمة رملية):
نحن أحفاد عنترة
نحن أولاد حيدرة
كلنا نسل خالد
والسيوف المشهرة
أمراء وفوقنا
عين (ريجن) مؤمرة
وسكاكيننا على
أعين الشعب مخبرة
نحن للمعتدي يد
وعلى الشعب مجزرة
ليس فينا تقدمي
سوى الفخذ والشره
هكذا أمة العلا
من علاها مطهرة
فهذه القصيدة، أعلاه، إدانة صريحة للسياسات العرقية والقومية والوطنية والتقدمية، مع أن الشاعر البردوني عروبي وتقدمي، لكنه هنا يدين هذه السياسات، ويسخر من النعرات الطبقية، والقومية بصورة أكثر من سخريته بالسياسة الرأسمالية:
هل الشيوعي أتى المالي كما قصدت
محنية الظهر والثديين عطارا….؟
كلا النقيضين كالأنقاض فارتجلي
بأسرة الأرض زلزالا وإعصارا
هل اتفقتم تجيئون الشعوب معا
تزعمون عليه الكلب والفارا….؟
(ثوار والذين كانو، جواب العصور)
فالصورة هنا تتكرر بصيغة ساخرة من السياسة الحديثة وبالذات سياسة ما بعد جمهورية نوفمبر 1967 م وحتى وفاته.
* * * **
التكرار إذن يتجلى في معظم الظواهر الشعرية، فالتكرار في الموضوع الجمالي، ينشأ عن احتفاء الشاعر بذلك الموضوع وانشغاله به سلبا أو إيجابا، أو ينشأ عن قوة تأثير الموضوع على الشاعر.
والتكرار في الوزن والقافية، واللغة، ظاهرة ملازمة للتعبير الشعري، فلا شعر بدون الوزن والقافية ولا شعر خارج اللغة.
والتكرار يتجلى أيضا في أكثر من صورة شعرية، إما في القصيدة الواحدة، أو في البيت الواحد، أو في العبارة الشعرية الواحدة، أو في تكرار كلمة مستحبة ويجد الشاعر فيها لذة خاصة.
وهنا سنقف أولا عند تكرار العبارة، ثم الكلمات.
وهذا التكرار يكون إما استيفاءً للمعنى أو تحسينا لصورته، أو أن صورته الواقعية تبدلت في الواقع فأعاد الشاعر صياغته، خذ مثلا قوله يصف السياسة الحديثة، في قصيدته (عازف الصمت) من ديوانه (في طريق الفجر) عام 1963 م.
1- تلحن حتى تراب القبور
وتعزف حتى فراغ الكهوف
فتلحين الرفات، كناية عن سياسة البعث، وعبارة تراب القبور إشارة إلى ذلك، وقريبا من ذلك العزف على فراغ الكهوف.
وتتكرر هذه الصورة الشعرية، في قصيدته (سباعية الغثيان الرابع) من ديوانه زمان بلا نوعية في عام 1977 م.
2- تسيس حتى تراب القبور
وتقبر حتى جنين الأمل.
فالبيت الأول كناية عن السياسة الرجعية، أما البيت الثاني فكناية عن السياسة الحديثة التي تدعي الإحياء وهي تمارس التقتيل والتنكيل وكذلك قوله يصف الايديولوجية الحديثة:
1- لها قامة العصر لكن لها
رؤوس كأخفاف يوم الجمل
فالايديولوجية عصرية من حيث القوام الخارجي ولكنها بعقلية خفيفة أخف من عقليات زعماء معركة الجمل في معارضتهم علي بن أبي طالب بعد بيعتهم له.
وتتكرر هذه الصورة، في قصيدته (مصارحة المأدبة الأخيرة) بصورة تجسد الإرهاب الأيديولوجي الحديث:
2- لها دموية كالصقر
تحت وداعة الورقا
البيت الأول يصور فهاهة الحزبيين وجهلهم، أما البيت الثاني فيصور دهاء ومكر الحداثة وقوة فتكها بالشعوب تحت مظاهر التحديث والحرية والديمقراطية…الخ.
كذلك نجد الشاعر يصف تلابس الحياة الحديثة، في قصيدته (ذكريات شيخين) من ديوانه (مدينة الغد):
1- كل شيء صار ذو وجهين لا
يدري شيء أي وجهيه أصح
ثم تتكرر هذه الصورة في قصيدته (التاريخ السري للجدار العتيق) من ديوانه (وجوه دخانية)
2- عجيبة يا ريح ماذا جرى…؟
تشابه الميلاد والانتحار
يبدو أن المعنى واحد، وهو الاغتراب عن الحقيقة الحياتية، وسياسة الزيف الثوري، ففي البيت الأول تغيب الحقيقة في الأشياء، أما في البيت الثاني فتغيب الحياة نفسها إلى حد أننا نفقد القدرة على التمييز بين ظاهرتين متباينتين، وهما ظاهرتي الميلاد والانتحار، فكل مولود يبدو كالمنتحر في ولادته، وكل منتحر يبدو مولودا، فالدفع بالطيبين إلى الحروب والمقاومة بدون أدوات صراع متكافئة، هو ضرب من الانتحار، والتراجع عن الحروب عند عدم تكافؤ أدوات الصراع، يظهر المتراجع وكأنه المجرم مع أنه يمارس عين العقل، ويفسر ذلك قوله في قصيدة (آخر الموت) من ديوانه (زمان بلا نوعية):
أصبح القتل عادة واشتياقا
أصبحت وحدها النجاة المعابة
فانقلاب القتل من صورته الإجرامية إلى عادة وشوق، أمر خارج عن الحقيقة الحياتية، ومخالف للحياة.
أما المحافظة على الحياة فهي عيب في نظر الأحزاب الثورية، وهنا تبدو الصورة الشعرية كلها محاولة لبيان الحقيقة عبر التكرار، إنه ضرب من استيفاء المعنى وبيانه، في عصر أصبح كله زيفا ونفاقا واستغلالا ونهبا وتقتيلا وتدميرا.
كذلك قوله في قصيدة (صراع الأشباح) من ديوانه (في طريق الفجر).
1- ودنوت منها فانتشت
شفتاي، واخضر افتراري
ثم تتكرر هذه الصورة في قصيدة (ثرثرات محموم) من ديوانه السفر إلى الأيام الخضر في قوله:
2- أضحكتهم كتابة اسمي وفورا
بيضت خضرة النقود مدادي
فالفرح هو القيمة الجمالية في البيتين، لكن ثمة فرقا بين فرح الحبيب بالدنو من حبيبته واخضرار البسمة، وبين فرح المرتزق بالنقود مقابل تنازله عن هويته الوطنية.
كذلك نجد الفارق بين قوله من قصيدة (الغبار والمرائي الباطنية) في ديوانه (وجوه دخانية)
1- عجبا رغم التعري، تنطوي
ذاتها فيها وذات الغير تظهر
وبين قوله من قصيدة (لعبة الألوان) في ديوانه (زمان بلا نوعية)
2- كل مستور تعرى إنما
سرق الأنظار تزوير التعري
فالبيت الأول يقدم صورة لحالة التنكر عن الذات، وادعاء ذات أخرى ليست منه، كالأحزاب القومية والليبرالية، مثلا، أما البيت الثاني، فيقدم صورة لحالة سياسية أخرى، تدعي الإفصاح بالحق، ولكنها لا تعمل به، وإنما تنافق به، أو تزاود به.
وكلا البيتان صورة من أحوال الادعاء السياسي، والنفاق والتمويه والمواربة، وكلها قيم سياسية حكمت الأحزاب السياسية ورجال السياسة، في الفترة من بداية القرن التاسع عشر حتى هذا القرن الحادي والعشرين.، فهم يغالطون بعضهم بعضا، ويتنصلون عن أبسط القيم الأخلاقية في سبيل الحصول على امتيازات سياسية رخيصة، رخص سعيد المرادي، في (ثرثرات محموم).
كذلك يجب التوقف عند هذه الأبيات الثلاثة، من ديوانه زمان بلا نوعية. يقول في البيت الأول من قصيدة (صنعاء في فندق أموي).
1- زمان بلا نوعية ساق ويله
متاخيم يقتاتون أفئدة الجوعى
ويقول في قصيدة (زمان بلا نوعية) بنفس الديوان:
2- أريد ماذا يا زمانا بلا
نوعية لا يدري ماذا يريد
ويقول مرة ثالثة من قصيدة (آخر الموت) بنفس الديوان
3- يا زمانا من غير نوع تساوت
مهنة الموت واحتراف الطبابه
فالزمان الأول تعبير عن حالات الظلم إلى حد نجد فيها الإنسان يأكل أخيه الإنسان بصورة متوحشة.
والزمن الثاني، تعبير عن حالات الجهل والعياء وعدم الدراية بصورة لم يعد فيها اليمنيون قادرين على إدراك مقاصدهم والتعبير عن أنفسهم.
والزمن في الصورة الثالثة تعبير عن تجارة الطب وتوظيف العلم للاستغلال بدلا من التطبيب.
وفي كل الحالات، هو زمن لا نوعية له، إنه زمن الاستغلال والنهب والغش والظلم، زمن الجهل والعياء.
ونجد التكرار أحيانا في العبارات، كما في تكراره لعبارة ( ماذا جرى) كما في قوله من قصيدة (حكاية سنين): ( ماذا جرى…؟ من يخلف المرحوم من أتقى وأخشى)
ثم يقول في قصيدة (زمن بلا نوعية)
ماذا جرى….؟ عصر الرشيد انتهى
واحتل مسرور محل الرشيد
ثم يكرر هذا الاستفهام المذهل في قصيدة (رجعة الحكيم ابن زايد)
1- ماذا جرى….؟ تحيون أعراسكم
على دم ما حان أن يبردا
والعبارات في كل الحالات تصور حالة الذهول من وقائع الثورات العربية واليمنية، ولوقائع التحالفات السياسية الغادرة.
كذلك نجد الشاعر يكرر النداء، بصورة مسرفة، كما في قصيدته (فنقلة النار والغموض).
فهو يكرر النداء إلى تلك الأماكن المعروفة في محافظة عدن كما نلاحظ ذلك في الأبيات التالية:
يا (خور مكسر) يا المعلا
لغة الجدال اليوم أعلا
فيما التصاعق يا (معاشق)
لا أرى للأصل أصلا
يا (دار سعد) لفتة
(يسعد صباحك يا المعلا)
يا (شيخ عثمان) استجب
ماذا ترى…؟ أرجوك مهلا
(صنعاء) مفعمة بما
أججت كيف تكون أخلى
وصداك قهوة (لاعة)
قات (الحديدة) و(المصلى)
لم لا أسائل (صيرة)…؟
يا (جولد مور) إجابة….؟
قولي (كريتر) ما هنا…؟..الخ
القصيدة قيلت أيام أحداث 13 يناير 1986 م، وهي أحداث غامضة الجريمة بشعة الأثر، ومن هذا وذاك اتجه النداء صوب المتناحرين، بل صوب مدينة عدن ومختلف أحيائها لبسالتها باستنكار مما جرى…؟.
خلاصة القول، إن التكرار ظاهرة جمالية، مثلها مثل ظاهرة الشعر نفسه، أو مثل ظاهرة الشعراء، فكل جميل مستحب، وكل مستحب يستلذ تكراره وكذلك شعر عبدالله البردوني محكوم بهذا الجمال وتلك اللذة الشعورية العميقة، إلا من يكره الجمال فلا حكم له، كما قال المتنبي:
ومن يك ذا فم مريض
يجد مرا به الماء الزلالا.
عن موقع (بيت الشعر اليمني).