المقابلة الصحفية مع مجلة (المشاهد السياسي)

المقابلة الصحفية مع مجلة (المشاهد السياسي)
موقع الشاعر الكبير الأستاذ عبدالله البردوني

>  المقابلة الصحفية مع مجلة (المشاهد السياسي)

نشرت في العدد 183 الصادر بتاريخ12سبتمبر1999م
أجرى الحوار: نوري الجراح
رحل عبدالله البردوني الشاعر والشخصية الثقافية الكبيرة في اليمن. عاش 71 عاماً أمضى 65 سنة منها في
الظلام. فقد أصابه العمى وهو في السادسة من عمره. لكنه مذ ذاك تحول إلى شعلة للشعر والأدب والوطنية في بلاده اليمن التي عرفت خضات كبرى وثورات وظروفاً اجتماعية أليمة. عرف عن البردوني حبه الجم للناس، وتواضعه، وحماسته لكل جديد، فضلاً عن ثقافته الشعرية الرفيعة ومعرفته العميقة بالتراث، وتضلعه بالأدب الشعبي في اليمن، وفوق كل ذلك أمانته وموضوعيته. فهو وإن كان من شعراء قصيدة العمود الجديدة التي برز فيها عمر أبو ريشة خصوصاً، إلا أنه كان باستمرار إلى جانب الشعراء في اختيار الأشكال الشعرية الأنسب لهم، والأكثر استجابة للتعبير عن تجاربهم الروحية والجمالية. كان لقائي به في سنة 1983م خلال زيارة لي إلى صنعاء. ولدى لقائي به قلت له: لو رجعت من صنعاء ولم ألتق بك لكنت اعتبرت زيارتي ناقصة. كان معلماً حقيقياً من معالم بلاده، وشخصية حرة ذاقت المرارات وعرفت السجون بسبب مواقفها الوطنية.
في لقائي به الذي نشرت جزءاً منه في تلك السنة نفسها، وظل أكثره غير منشور تركت البردوني يتكلم على سجيته، ونادراً ما سألته، فقد كان راغباً يومها في أن يقول شيئاً لزائر عربي، فكيف إذا كان هذا الزائر شاعراً. قلت: إنني سعيد أن أجلس إليك في هذه الغرفة ولم يكن طولها يزيد عن ثلاثة أمتار، أما عرضها فمتر ونصف المتر، على أكثر تقدير، مازلت إلى اليوم أذكر تلك الغرفة التي وقتني لظى حرارة الصيف بينما كنت في الطريق إلى بيته في وسط صنعاء.
في تلك الرحلة كنت صحبة شاعرين صديقين قاسم حداد من البحرين، ومحمد بنيس من المغرب، وكان الشاعر عبدالعزيز المقالح قد استضافنا بكرم كبير، وجعل لنا تاكسياً وسائقاً يمضي بنا أنى كانت الوجهة التي نريد، فقضينا معاً اسبوعين من الزمان في صحراء مأرب، وحواري صنعاء، وجبال حجة كانت أياماً جميلة مثل الخيال فقد افتتحناها بلقاء الرئيس الراحل عبدالله السلال أول رئيس للجمهورية اليمنية، واختتمناها بالوقوف فوق الغيوم في جبال حجة الشاهقة.
قلت للبردوني: زرت حجة وقلعتها
فقال: سجنت هناك في تلك القلعة في عصر الإمامة.
اللقاء بالشاعر عبدالله البردوني -بتشديد الدال وضمها نسبة إلى قرية بردون اليمنية- لقاء ينطوي على عالم يضج بأنوار البصيرة، تفيض بما سمعت وأحست ولمست، وبما تشكل وتراءى لها في أبعاد ومستويات تتصل على نحو شفيف، وحاد، ومبدع، وقوي الشكيمة، بالعالم الخارجي.
في غرفته الصغيرة المعتمة التي يصل المرء إليها بواسطة دهليز، أشد عتمة، تصل أرضه بسقفه ربطات الكتب، جلست إليه، وفي غضون كوب من الشاي، وقليل من الدقائق، بينما الشاعر يدخل ويخرج تارة “بترمس” الشاي، وأخرى بكتب كان منذ ما قبل مجيئي يداول أمره بها، رحت اتفحص المكان. كان شديد الضيق، لاتبدو أشياؤه مستقرة، ما خلا الرسم الزيتي في أعلى النافذة للبردوني بريشة أحد الاصدقاء.
ها أنا في بيت شاعر كفيف البصر، مدهش البصيرة، كما سوف يتبين لي بعد حين.
أهلاً بك في بيتك -قال الشاعر- كانت النافذة مفتوحة، وأشار إليّ لمساعدته في اغلاقها، لأن الضجة تنبعث من خارج، وبات علي أن أتلمس طريقي في شبه عتمة إلى مفتاح النور فأضيء لنفسي الغرفة، ولألمح ما يشبه ابتسامة، أو طيفها يرف على محياه.
كوب آخر من الشاي، وبعض دعابات من الشاعر، ولايلبث الحديث أن يدور، فتستحيل الغرفة إلى عالم مليء بالشخوص والأسئلة والقضايا. لقد بدد البردوني الإشكال الكبير الذي وجد نفسه فيه بسبب عماه وهو في سن السادسة، من خلال ذلك النهم الذي جعله يُقبل على العالم الخارجي تاركاً لحواسه الجائعة إلى الرؤية في اللمس بالأصابع، والمعرفة أن تتخاطب وتتفاعل فتنتج حاسة عليا جديدة، هي الأكثر عنفاً ورغبة وفرحاً بنفسها وبما يحيط بهذه النفس.
أسهم البردوني من خلال عطائه الشعري والنقدي، في إغناء حركة الشعر العربي بصوت ذي خيارات فنية وفكرية شكلت إضافة إلى حركة الشعر العربي، خصوصاً ببعده الكفاحي الاجتماعي والإنساني، فضلاً عما شكلته هذه الظاهرة الشعرية من مصباح مضيء في الشعر خصوصاً، وفي الأدب اليمني بصورة عامة.
– على رغم قيام محاولات نقدية جادة للتعريف بالحركة الشعرية والأدبية في اليمن، بعضها قام بها د. عبدالعزيز المقالح، وأخرى قمت بها أنت، خصوصاً في كتابك “رحلة في الشعر اليمني” فإننا مانزال نجهل الكثير عن هذه الحركة، لاسيما ما آلت إليه في السبعينات والثمانينات من هذا القرن؟
– لعل مطلع الستينات هي بداية حركة الشعر الجديد في اليمن، لأن تلك الفترة، هي فترة التمخضات، فترة بزوغ البراعم، وفترة انفتاح الزهور التي تبرعمت في الخمسينات.
لا أجزم أن بداية حركة الشعر الجديد مقرونة بفجر الستينات، وإنما أقول أنها بدأت تتضح أكثر منذ بداية الستينات، أو أن القصائد التي كتبت في الخمسينات انتشرت في مطلع الستينات وفي منتصفها وأواخرها، فتحديد أوائل الستينات يتعلق بمعرفة هذه الحركة وظهورها، لكونها بزغت قبلاً، ومن العجيب أن الحركة الشعرية التي ظهرت في الستينات، ظهرت بشكلها العمودي المتطور، الذي كان طابع الشعر الجديد منذ أواخر الاربعينات عند بدء شاكر السياب في “انشودة المطر” وعند نازك الملائكة في “شظايا ورماد” وعند صلاح عبدالصبور في “الناس في بلادي” وعند خليل حاوي في “نهر الرماد” وعلى ظهور هذا الجديد علامات استفهام عدة، وتساؤلات، منها: هذا الجديد هل هو ناشيء من اليمن، ومن تربة الواقع اليمني، أم أنه كان مسترفداً أنفاسه وتركيباته من قراءة الشعر العربي الجديد الوافد من مصر ولبنان وسورية والعراق؟
أغلب الذين مارسوا القصيدة الجديدة، سواء استمروا في انتاج الشعر، أم لم يستمروا، مثل الشاعر ابراهيم صادق، أول من نشر قصيدة جديدة في منتصف الخمسينات، وكانت قصيدته أقرب إلى الشعر العمودي المتطور، لأنها تعتمد على بحر المتدارك. وعلى غير تواتر هذا البحر واضطراده. مثلما يقول:
(هذي صنعا ليست صنعا
هذه صنعا ذيب يعوي
فأس في اشجار يهوي
أزهار في كم تغوي)
في هذه القصيدة تقريباً لاتلمس خروجاً بيناً على العمود القديم.
– بمعنى أن ليس هنا ثمة خروج حاسم، لكن هذا ما نراه الآن، نحن الذين شهدنا الانجازات اللاحقة التي جاءت بها حركة الشعر الجديد، إنما ما تستشهد به، ربما شكل في حينه تطوراً أساسياً ومهماً؟
– بالتأكيد، ونحن نرى نظيره في “أشباه ونظائر” و”قارب على الخليج”، و”رسالة عن مقبرة” و”شباك وفيقة” لبدر شاكر السياب، فالشعر الجديد من الخمسينات إلى قسم من الستينات كان شعراً عمودياً متطوراً، وإبراهيم صادق هو الشاعر الأول الذي مارس بنجاح هذا النوع من الشعر في اليمن. صحيح أن هنالك شعراء مثل علي عبدالعزيز نصر، زاولوا القصيدة العمودية المتطورة لكنهم لم يحققوا نجاحاً كالنجاح الذي حققه ابراهيم صادق في منتصف الخمسينات أو في العام 1956م تحديداً.
لقد ظلت القصيدة هي الفاتحة إلى مطلع الستينات، وهناك توالت القصائد الجديدة، من عبده عثمان الذي كان يدرس في القاهرة وسعيد الشيباني الذي كان أيضاً يدرس هناك.
وتساءلنا: هل هذه القصائد ثمرة المطالعة والتأثر؟ أم هي ثمرة تحولات يمنية؟ أم ثمرة تحول واقع عام في كل من اليمن وفي القاهرة؟
– هل هناك مايمكن أن نسميه فواصل بين الواقع الثقافي والواقع الاجتماعي والسياسي؟
– الواقع الثقافي قد يكون متقدماً احياناً وقد يكون الواقع الاجتماعي متأخراً أو أدنى إلى التأخر في بلادنا العربية هذه المسألة من أصعب المسائل لأن عملية التناغم الحميم بين الواقع الاجتماعي والواقع الثقافي هي أن يشمل التطور كل المناحي الاجتماعية والثقافية. القصائد اليمنية الجديدة ظهرت من طلاب كانوا يدرسون في القاهرة من أمثال الشاعرين اللذين ذكرت قبلاً لكن هنالك شعراء أبدعوا القصيدة الجديدة وهم لم يغادروا اليمن، كالدكتور عبدالعزيز المقالح.
– هل تقصد أن المقالح بدأ كتابة الشعر الحديث قبل أن يغادر كطالب إلى القاهرة؟
– بالضبط. فهو كان هنا في بداية الستينات، لكن ربما يكون قد خرج من اليمن في تلك الفترة في زيارة قصيرة إلى السودان وإلى القاهرة في رحلة إنما في مطلع الستينات عندما بدأ يزاول قضايا الشعر، كان مقيماً في اليمن، وكان من العاملين في الحقل الاعلامي هنا، وبدأ يكتب القصيدة الجديدة بشكلها العمودي.
– هل تقصد أن المقالح لم يكن حتى ذلك الوقت قد حسم أمره، وحدد خياراته الجمالية؟
– هذا أمر يصعب الجزم فيه، لكن قصائد المقالح الجديدة لم تظهر إلا في مجموعة “لابد من صنعاء” التي صدرت في القاهرة عام 1970م في ذلك الحين كان المقالح مقيماً في مصر، هذه المجموعة يمكن وضعها في ثلاث خانات: “العمودي المتطور”، “العمودي الخالص”، ذو الرؤية الجديدة و”الجديد” بمعناه التفعيلي، وليس بمعناه المنفلت أو النثري. وإنما المضبوط القواعد، سواء في عموديته، أو في عموديته المتطورة، أو في قصائده الجديدة.
كذلك ظهرت سنة 1971م مجوعة “مأرب يتكلم” وهي مجموعة مشتركة في شطرها الأول كانت لعبده عثمان وفي شطرها الثاني للمقالح، الذي تولى طبعها وتنقيحها وتصحيحها. هذه المجموعة أظهرت قصائد لعبده عثمان مابين منتصف الخمسينات وأوائل السبعينات، ولقد اتضح أن عبده عثمان يشبه المقالح في جملة القصيدة الجديدة، إما عمودية متطورة، وإما جديدة، وإما عمودية. لكن الفروق بين الشاعرين تكمن في أن المقالح كان أكثر تجويداً في القصيدة العمودية. وعبده عثمان يجيد العمودية المتطورة والقصيدة الجديدة. أكثر منه إجادة في العمودية الخالصة. والمقالح في جملة القول، كان يجيد في الاشكال الثلاثة. وهذا يدل على أن عبده عثمان كان أقرب إلى منبع الجديد، وإلى المعارك الجدلية حول القديم والجديد، وإلى تحمسه حول الجديد والقديم، فكان في الجديد أجد وأوفر إبداعاً منه في العمودي، لكن القصيدة الجديدة عند عبده عثمان لاتخلو من كسرات، ولاتخلو من انعدام الضبط عند الذين يتشددون في النظام العام للتفعيلات، فأنت تجد في قصائده الجديدة بعض تسامح في تواتر النغم. أو في تجاوب النغم، أو في تداخل الكسرات هنا وهناك، وربما كانت هذه ظاهرة من ظواهر الشعر الجديد.
لقد اهتممت كثيراً بشعر عثمان والمقالح، باعتبارهما الطليعة بالنسبة للشعر اليمني، وإن كانا لايمثلان الطليعة في الشعر العربي الجديد عامة. يمكن أن تضع المقالح وعبده عثمان في صف صلاح عبدالصبور وعبدالمعطي حجازي، وأمل دنقل، واحمد سويلم، وفتحي سعيد لكن الذين نجد لهم الريادة المحلقة، والقيادة الصاعقة بمعانيها الجمة هم: السياب، كحاوي، ودرويش، فهذان يمثلان الطليعة بالنسبة للشعر العربي عموماً. إنما أظن أن الذين بدأوا في الستينات أو في منتصف الخمسينات لم يشكلوا طليعة، بل امتداداً للطليعة أو يمكن أن نقول أنهم عصافير في حديقة واحدة.
– ماذا عن الأسماء الشعرية الجديدة التي ظهرت لاحقاً في اليمن؟
– منذ مطلع السبعينات لمعت أسماء جديدة في الشعر اليمني وبدأت من عواصم عربية ثقافية خارج اليمن. فكما كان عبده عثمان وسعيد الشيباني وعبدالعزيز المقالح طلاباً في القاهرة عندما نشروا قصائدهم كذلك ظهر حسن اللوزي كشاعر يكتب القصيدة الجديدة بحساسية حادة.
– هو اليوم وزير الاعلام والثقافة؟
– نعم، وقد بدأ في القاهرة العام 1968م فالذين تألقوا في السبعينات لابد أنهم لاحوا وتلامحوا في الستينات، والذين تألقوا في الستينات لابد أنهم تلامحوا في الخمسينات، وهكذا فإن الفترة الزمنية ليست قيداً على البداية. وماحصل بالنسبة لجيل السبعينات الشعري، هو أنه ظهر من خارج اليمن، فاللوزي كان طالباً في جامعة الأزهر عندما بدأ ينشر القصيدة الجديدة، كذلك بدأ في أوائل السبعينات عبدالودود سيف، ويحيى الارياني، وعبدالله سلوم ناجي، وعبدالرحمن فخري، واسماعيل الوريث، وجنيد محمد جنيد وجلّ هؤلاء كانوا طلاباً في جامعة دمشق.
– ما رأيك في القصيدة الجديدة التي ظهرت في سورية؟
– القصيدة الجديدة حديثة العهد في سورية، لم تتبلور إلا في منتصف الستينات وقصائد ادونيس في الخمسينات كانت عمودية، أمثال “قصائد أولى” و”نداء الأرض” و”إذا قلت ياسورية”. الخ.. ادونيس عندما أصدر “أوراق في الريح” كان ثمرة البيئة البيروتية، أكثر منه ثمرة البيئة الدمشقية.
– هل يمكننا أن نجزم بأن الحركة الشعرية اليمنية في بعض رموزها. تشكل صدى للحركة الشعرية العربية؟
– قد تكون في معجمها الأول في جملة رؤاها مشابهة للشعر العربي، لكن ظهور القصيدة اليمنية جاء على فترتين، الأولى قصائد غير متواصلة، والثانية مجموعات متواصلة. فترة الستينات حفلت بقصائد غير متواصلة، أما السبعينات فحفلت بمجموعات متواصلة، وفترة تبازغ شعراء جدد كما أشرت.
إنما شعر السبعينات تشابهت ملامحه ورؤاه حتى كاد المرء يفقد السمات المحددة، والخصوصيات التي تشير إلى فلان وتدل على فلان.
– هذا الكلام ينسحب على كم كبير من النتاج الشعري في المنطقة العربية عموماً وفي الفترة المشار إليها؟
– صحيح، إلا أنك لاتقدم اثنين أو ثلاثة من الشعراء يملكون أصواتهم الخاصة وخصوصياتهم الذاتية والثقافية والفكرية، ممن امتلكوا معجماً خاصاً، وحساسية مختلفة، وإجادة شعرية.
– ترى ماهي أبرز الهموم على المستوى الفني في القصيدة اليمنية الجديدة، أيضاً أبرز الهموم التي تتضمنها المستويات الفنية المتباينة في هذه القصيدة؟
– لاشك في أن الهموم الوطنية هي أبرز الهموم، لكنها متعددة الإيماءات والسمات والقسمات وهذه الهموم هي الأصعق والأكثر سيطرة على النفس طبعاً في ذلك يندرج الخوف على الوطن، والخوف من الوطن على النفس، الخوف من الجيران على الوطن، الخوف الوطني، والحب الوطني والفدائية الوطنية، هي الغالبة على القصائد بشكل عام. إلاّ أن الوطنية ليست قوقعة. إنما هناك رؤيا إنسانية، ففي القصائد الوطنية بعد إنساني، وبعد تاريخي، فاليمني يحس أن مأساوية وطنه هي مأساوية كثير من الأوطان. ومأساوية التخلف العام، هي مأساوية الصراع العنيف الذي لانملك مواقعه، ولانملك أسلحته، ولو أردنا أن نستشهد على الهموم الوطنية في شعرنا اليمني فقصائد الذين ذكرت اسماءهم من الشعراء تحفل بها. والمجموعة الأولى للبردوني اسمها “من أرض بلقيس” أي اليمن، تلتها مجموعة المقالح العام 1970م “لابد من صنعاء” تلتها مجموعة عبده عثمان والمقالح “مأرب يتكلم”، هذا ما يتصل بالمجموعات الأولى، كذلك تجد مجموعات محمد سعيد جرادة، وهو شاعر كلاسيكي مجيد. “لليمن حبي” وعلي عبد عفيف “لليمن كل حبي” وهكذا تجد اسم اليمن أو مأثرة من مآثر اليمن، أو إشارة تاريخية توميء إلى اليمن بمثابة عناوين لمجموعات شعرية.
كذلك هناك عناوين لقصائد بهذا المعنى. هذه مجرد دلالة على الهم اليمني لدى الشاعر، وأؤكد أن الشعر اليمني ينظر إلى الوطنية من مطل إنساني، ومن خلال حس حضاري، ومن خلال بعد تاريخي، وحلم مستقبلي أيضاً.
– هل شكل البعد السياسي في القصيدة اليمنية في وقت من الأوقات مقياساً لجودتها ومرجعية قيمية ينتفي معها الحديث عن الشروط والمستويات الأخرى المكونة للقصيدة؟
– لاشك في أن القصيدة فن شعري أولاً، وموضوع سياسي ثانياً، وموضوع قومي ثالثاً والقصيدة أول شروطها أن تكون شعراً، ومعنى أن تكون قصيدة، أي عند القصد، وذات مبدعة لقصد. شروط القصيدة ليست في موضوعها السياسي أو القومي أو الوطني. شروطها تكمن في قيمتها الفنية. ثم إن تعدد الشروط الفنية للقصيدة، لم تعد مقيدة ببلاغة التشكيل، أو الاستعارة أو المجاز، لقد تطورت أساليب البلاغة، وتطورت أدوات الفن، كما تطور البحث عن أرهف الأدوات الفنية التعبيرية. فكيف نضع للقصيدة شروطاً من خارجها؟ لابد أن تكون شروط كل قصيدة من داخلها، مع مراعاة سعة المساحة للتطور الفني لغوياً وبيانياً ورؤيوياً. هذه القصيدة تكون جيدة لأن لها لمحاً رؤيوياً، لها قاعدة فلسفية، لها موضوع وطني مثلاً، هذه القصيدة جيدة لأنها عبرت عن رؤيا غريبة، وأشارت إلى غرابة في العالم، وأعادت صياغة المرئيات العادية إلى مشاهد غير عادية، هذه القصيدة جيدة، لأنها مزجت الفلسفة بالشعر، والشعر بالتفلسف، وكونت من الفكر والشعور كياناً فنياً يفيد ويثير، ويثير لأنه يفيد والعكس صحيح.
التقويم من جهة واحدة لم يعد قائماً، وذلك لسعة مساحة اللغة، ومساحة الشروط الفنية، التي تطورت بتطور البلاغة، التي تحولت من مجاز إلى رمز ومن تشبيه إلى إشارة ومن كتابة إلى كناية تاريخية، أو إلى مانسميه رفضاً، أو أي شكل من أشكال الرفض، فالتطورات البلاغية، والتطورات في اللغة الأدبية، حسب تطورات لغة المجتمع، ولغة القواميس تبعاً للغة المجتمع، لابد أن تُرى.
مثلاً، قد أرى قصيدة محمود درويش جيدة لكن هذا يحدث من آفاق عدة لا من أفق واحد، أنما لا أشترط أن ينظم محمود درويش على طريقة أدونيس ولا أدونيس على طريقة سعدي يوسف، ولا سعدي يوسف على طريقة عبدالعزيز المقالح، لابد من أن تتعدد الأنماط بتعدد الصيغ، وتعدد الموضوعات وتعدد البيئات التي تنتج الشاعر وشعره.
– المسألة الفلسطينية شكلت، منذ نشأتها، واحداً من أبرز هموم الانسان العربي، وبرزت هذه المسألة في نتاجات المبدعين العرب على اختلاف بلدانهم واتجاهاتهم الفكرية والأدبية، كيف نتلمس انعكاس هذه المسألة على الانسان والمبدع في اليمن؟
– القضية الفلسطينية من أفظع القضايا النفسية بالنسبة لليمني وهي من أكبر الهموم لديه. حتى أننا نرى في تخلفنا الاجتماعي والاقتصادي واحداً من الأدلة على وجود الاستعمار الذي احتل فلسطين، لو كانت أمتنا تملك أمرها، لما أمكن احتلال فلسطين فأصل القضية ليس احتلال فلسطين، وإنما هو انهيار الأمة الذي شكل سبباً رئيسياً في احتلال هذا الجزء الغالي من الوطن العربي.
عندما أفكر في مأساوية بلاد العرب، في التخلف، في الانحطاط السياسي، في الوحشية، أتأكد من أن هذا التخلف هو السبب في احتلال فلسطين، وسيكون السبب في احتلال أجزاء أخرى، سيكون مصيرها كفلسطين وقضية فلسطين هي هّم فلسطيني عربي، إنساني، بشري، تاريخي، حضاري، ولا أظن أن هناك إنساناً ينظر إلى الجوهر التاريخي للإنسان إلاّ ويرى في اغتصاب فلسطين جريمة من أفظع الجرائم البشرية.
ولو لاحظت الشعر اليمني، لرأيت في كل مجموعة من مجموعاته، قصائد كثيرة، قد تشكل نصف المجموعة، وقد تشكل ربعها هي بمثابة قصائد عن فلسطين، كذلك قد تجد مجموعات كاملة، تعنونت بعنوان فلسطين، مثلاً المجموعة الأولى للشاعر عبده عثمان عنوانها “فلسطين في السجن” صدرت العام 1967م، كذلك تجد في مجموعات عبدالعزيز المقالح ما لايمكن حصره من قصائد تتصل بالمسألة الفلسطينية، ففلسطين هي الحريق الدائم، في المصابيح الشعرية، سواء كانت بمفهومها المباشر أو بمفهومها الرمزي، أو بمفهومها العام، لأن احتلال فلسطين هو الصورة الصارخة لوحشية الاستعمار على أوطاننا، وعلى ضعف أوطاننا أمام التوحش الاستعماري، وهذا كله يحثنا للبحث عن مكامن القوة لتجاوز هذا الواقع السيء.
– لديّ تساؤلات حول حركة النقد في اليمن هل يمكن القول أن في اليمن حركة نقدية؟ ماهي أبرز اتجاهات هذه الحركة، كذلك صلتها بحركة النقد في الوطن العربي؟ ومن ثم أبرز إنجازاتها. وعلى المستوى الشعري هل استطاع بعض النقد استشراف وقراءة النصوص الشعرية الجديدة بلغة توازي تطور هذه النصوص؟
– إن وجود حركة جديدة في الأدب اليمني أو في غيره من الآداب العربية، يحتم بالضرورة وجود النقد، لأن النقد مرتبط بالنتاج الأدبي، سواء كان شعراً أو كتابة أو خطابة، فكل قول إنشائي يعكس سخطاً أو رضى والمشكلة أن أدبنا ينطلق من هاتين النقطتين. لهذا كان النقد في اليمن، وفي غيره من الأقطار العربية مجاملة أصدقاء أو قدحاً لأعداء، هاتان النقطتان هما أهم منطلقات النقد سواء كان هذا السخط شخصياً بين الناقد والمبدع، أو كان بين مدرسة أدبية ومدرسة أدبية أخرى، لكن الناقد بطبيعته كالشاعر، لابد أن يتخلص من ذاته ويقترن بموضوع يخفف من غلواء هذه الذات.
النقد الذي واكب ظهور المجموعات الشعرية أو القصائد التي لم تتشكل في مجموعة كان على وجهين، إما تشجيعي من جانب البعض ممن يرون أنفسهم معلمين أو نقد تقويمي ممن يرون الأدب تقويمياً، وإن كان هذا لايخلو من سخط على الرداءة، أو ذاك لايخلو من الرضى عن الإجادة، لكن المشكلة أن أزمة النقد ترد إلى أزمة الشعر نفسه، فالشعر الذي عمره أربعة وعشرون عاماً، لم يبلغ درجة النضج، لهذا كان النقد على هذا المقاس كان هنالك النقد التقويمي السريع، وكان هناك نقد المديح المطبل والمزمر، والنقد المتهجم، أما النقد الذي ينتزع من داخل النص فهو نادر في البلاد العربية كلها، وهو ذو شقين، إما نقد مثقفين ثقافتهم أعلى من ثقافة الشعراء أو نقد خصوم ثقافتهم دون مستوى الشعراء، لهذا وقعت المدارس النقدية كلها في هذه الأزمة بعضها بسبب من طبيعة النقد نفسه وبعضها بسبب من طبيعة الشعر الذي يثير النقد وأغلب ماصدر في اليمن من الكتب ومن الفصول لايبلغ مبلغ النقد بمعناه التجريحي، أو بمعناه الاشادي، وإنما الأغلب دراسات بمعنى دراسة للقصيدة، كيف بدأت؟ وكيف تطورت؟ وأين وصلت؟ دراسة للأدب الوطني، دراسة للأدب السياسي، أي دراسة فصائل من الأدب.
– تقصد أنه يأخذ طابعاً تاريخياً؟
– نعم هو تاريخ للأدب الانساني، وليس هناك نقد إلا في ما ندر، أكثر الذين ينتجون النقد والدراسات هو المقالح، وأبرز ما كتبه، من ألف باء الشعر إلى البيت إلى القصيدة، كذلك له كتابان آخران هما “أدباء من اليمن” و”فرسان السبعينات”.
وصفي لحركة النقد في اليمن ينطبق على المقالح بالدرجة الأولى فهو يعمل على مسح مراحل الشعر الجديد وانتاجه وتطوره، إلاّ أنه لم يلمح أحياناً إلى الذين توقفوا عند مرحلة، ولم يتلفت إلى الذين دخلوا الشعر شكلاً، ولم يجيدوا مضموناً، هو يهتم كثيراً بالتجديد الشكلي، أما بالنسبة إلى دراسة الأنواع الأخرى من الآداب فهي قليلة قلة هذا النوع، كدراسة القصة اليمنية مثلاً. إذ لم يصدر إلى الآن إلا كتاب واحد عن القصة القصيرة في اليمن، وهذا يرجع إلى ضآلة هذه المادة وإلى عدم وفرة الإبداع والتواصل في هذا الجنس الأدبي، كذلك المسرحية لم يكتب عنها إلاّ مجرد مقالات في المجلات الثقافية، أو بعض فصول في الكتب، أو تدخل في سياق دراسة عامة للآداب. ولهذا لم نكن نبعد عن الحقيقة، عندما بدأنا في الكتابة عن الشعر لأنه فارس الساحة الأدبية في اليمن.
– كيف ترى من وجهتك إلى “القصيدة الجديدة” أو “القصيدة الأجد” حسب تعبير المقالح، و”القصيدة النثرية” كما أسماها البعض القصيدة التي هي كما يبدو في حل من أغلب الضوابط التي تحكم القصائد العمودية وقصائد التفعيلة؟
– يبدو لي أن التسميات في اللغة العربية تخضع للون، أو تخضع للشكل، أو تخضع للحجم، مثلاً عندما لمسوا الحجر، وقالوا هذا حجر أو صخر، فهم أخذوا التسمية من هذه القوة، كذلك عندما سمعوا الحمام يقول: حم، حم، قالوا حمام، كذلك انتزعوا اسم الغراب من لونه لأن لونه يشبه الغروب النهائي، وانتزعوا أسماء بعض الحيوانات من أصواتها كطائر القطا الذي يقول: قطا، قطا، قطا، كذلك اسماء الكتب جاءت من عناوينها الداخلية، أو من الخداع في عناوينها مثل “الجوهر المكنون” و”مفتاح العلوم”، التسميات جاءت كما يبدو لي مستندة إلى بعضها البعض، ففي أول الأمر قالوا القصيدة العمودية ثم قالوا “قصيدة عمودية متطورة” تنتهج البحر القديم، وتتسامح في كسراته، ولاتنتظم برتابته، بعدها جاءت القصيدة التي اسموها احياناً “القصيدة الحرة” لأنها لاتلتزم بالقوافي، وأحياناً اسموها ب”القصيدة المرسلة”” لأنها ترسل نفسها على سجيتها دون أن تتقيد ببحور تنتهي عند شطآن دون تقيد بجمل تقف عند قافية. فالقافية مكان الوقوف سواء كانت القصيدة عمودية، أو عمودية متطورة، أو جديدة، أو نثرية. ثم جاءت “القصيدة النثرية” وليس فيها وقفات. لقد سميت “قصيدة” لأن فيها جو الشعر، وسميت “نثرية” لأنها تخلو من النظام العام المتعارف عليه في كل من القصيدة الجديدة والقصيدة العمودية، فهي تملك من صفات الشعر الإيحاء بالجو والفضاء النفسي، والتعبير الشعري، لكنها ليست نثراً لأنها لاتملك قواعد النثر من مقدمة ونتيجة، فسميت “قصيدة نثرية” لكن التسميات كلها لاتدل بالضرورة على روح المسمى، ولاعلى جوهر المسمى، فهناك قصائد نثرية رديئة، وفي منتهى الرداءة، وهناك قصائد عمودية جيدة وفي منتهى الجودة، فقضية التسميات كلها مجرد تعريفات مثل تسمية الأشخاص، مثلما تجد لصاً اسمه “”أمين” أو تجد كاذباً اسمه “صادق”، إذن القضية ليست قضية الشكل وحده وإنما ماذا يحتوي هذا الشكل؟ ماذا يملك من إثارة فنية؟ ماذا يملك من الاستعارة؟ ماذا يملك من أسر القارىء؟ ماذا يملك من افتتاح ملكاته؟
الشعر لايحتاج إلاّ إلى شرط واحد هو أن يكون شعراً، كيفما أتى في القصيدة العمودية أو في القصيدة النثرية أو في القصيدة الجديدة، ومهما كانت التسميات، واعتقد أن أولئك الذين سموا الشعر الجديد للمرة الأولى بالشعر الحر، كان كلامهم ينطبق على الشعر العمودي المتطور، لأنه لايلتزم قافية واحدة وأنا لا أجد مبرراً لتسمية بعض الشعر ب”قصيدة النثر” وأظن أننا لابد وأن نسمي الشعر بأسماء من داخله، نسميه من خلال معطياته نفسها.
– ماذا تطلق إذن على هذا النوع من الكتابة الشعرية، أعني ما يسمى بقصيدة النثر؟
– في الحقيقة لو نظرنا إلى تطور النثر فلن نجد القصيدة المذكورة تطوراً للنثر وإنما نجدها امتداداً للشعر، ولها جوانب من النثر، وهي لاتتصل بالنثر الكتبي، أو المجلاتي، أو الصحافي، أو الإذاعي.
تجربة الماغوط
– في هذا السياق كيف ترى إلى تجربة محمد الماغوط؟
– تجربة الماغوط تجربة ناجحة وأنا أتكلم عن مثل هذه التجربة الحقيقية. الماغوط يمتلك جواً شعرياً وتعبيراً شعرياً وإيماء شعرياً، ويكاد يمتلك النغم الداخلي، وكذلك يملك ايماضات هامة من النغم الخارجي. وأظنه أنجح من كتب قصيدة النثر، وأنا قرأت كل شعره وهو مميز بأنه شاعر دون أدوات الشعر المتعارف عليها هو شاعر يكاد يملك الشاعرية تتدفق من عبارته ومن صورته، لأن الصور الشعرية لديه متلاحقة، وهي صور ليست لذاتها، وإنما هي دلالة على عوالم.
– ماذا عن التجارب الجديدة تجارب السبعينات والثمانينات في سورية ولبنان والعراق كيف ترى إليها؟
– إنني أعتقد أن حركة الشعر الجديد في سورية أسست على يدي الشاعر عبدالباسط الصوفي وهو يكاد يكون رائداً لقد انطلق من القصيدة العمودية ومن ثم توصل إلى القصيدة الحرة، إنما إنجازه الأساسي ربما يكمن في البعد الرؤيوي الذي ارتاده بقصيدته العمودية وذلك التفجير المبدع للصورة والإيقاع وفي تلك التراثيات من خلال النظام نفسه.