الكتابة النقدية عند البردوني “سماتها وتوجهاتها العامة”… الدكتور حيدر غيلان

الكتابة النقدية عند البردوني “سماتها وتوجهاتها العامة”… الدكتور حيدر غيلان
موقع الشاعر الكبير الأستاذ عبدالله البردوني

>  الكتابة النقدية عند البردوني “سماتها وتوجهاتها العامة”… الدكتور حيدر غيلان

مثل تميزه في الشعر كان للبردوني تميز في الكتابة النقدية عن معاصريه من النقاد، سواء أكان هذا التميز ايجابيا أم سلبيا، المهم أن للبردوني في جهوده النقدية ملامح بارزة على مستوى الاسلوب وعلى مستوى القضايا والآراء، وسوف أحاول في هذا الحيز تقديم لمحة موجزة عن هذه السمات العامة في كتاباته النقدية بشكل خاص والنثرية بشكل عام.
تعدد مصادرتها النقدية:
فقد اقترب البردوني من الاتجاه الرومانسي والمنهج النفسي في اهتمامه بتفسير عملية الابداع، من خلال الحديث عن مراحل الإبداع، ودور المبدع والمحفزات الإبداعية فهو يؤكد أن للإبداع محفزات منها: الطبيعة بما تحمله من مؤثرات وعوامل الحزن والفرح والكبت والتعويض والتوتر، ولكنه يرد الاستجابة لهذه المؤثرات إلى ملكة الاستجابة لدى المبدع فقد يستجيب لمؤثر ولايستجيب لآخر. وتناول غموض العمل الإبداعي وردها إلى عوامل نفسية في المبدع، ونظر إلى العمل الإبداعي بعد صدوره من المبدع على أنه كائن آخر، فلايستطيع المبدع تفسير الحالة التي قال فيها إبداعه، ولايجوز له تعديل هذا العمل لأنه أصبح خارج لحظة الإبداع “1”.
واهتم بالعلاقة بين الأدب والمجتمع لكنه لم ينطلق من ايديولوجيا محددة في التزامه الأدبي، فهو -أحيانا- يرى أن الأدب انعكاس للمجتمع يصور مايدور فيه -وأحيانا- يرى ان الأدب يؤدي إلى التغيير والإصلاح، ومرة يراه تابعاً لتغيرات المجتمع. وقد كانت تطبيقات البردوني النقدية مترجمة لهذه الرؤية فجاءت معظم مقالاته وفصول كتبه تتناول المضامين “الاجتماعية” “2”.
ومن خلال قراءة البردوني -كما يبدو- لافكار تين وسانت بيف، حول أهمية البيئة وأثرها في الأدب، نجد أنه ومنذ مطلع السبعينيات يقدم رؤية حول أهمية المكان في الشعر واستمر في الكتابة عن تأثير المكان في كتب ومقالات متعددة، ولم يقف عند المكان، بل امتدت معالجاته لتشمل الخصائص التي يمتاز بها أدب مافي مكان وزمان محددين “الاجتماعية” “3”.
وإلى جانب هذه التوجهات نجد تأثرا واضحاً بالنقد القديم ونقاد عصر الاحياء – كما سنلاحظ لاحقا.
الجرأة في طرح الآراء وإثارة المعارك الكلامية:
يمتاز البردوني بالجرأة في طرح القضايا والآراء الخلافية التي أثارت معارك نقدية، وكانت أهم الآراء التي أثارت ردوداً واسعة للنقاد في اليمن رأيه عن الخصوصية المحلية في الشعر اليمني وخاصة شعر الزبيري. وأراؤه في التجديد والقصيدة الجديدة، وتعليقاته على بعض الكتابات الشعرية والنثرية.
فقد كتب البردوني مقالة ذكر فيها ان الشعر اليمني وخاصة شعر الزبيري يخلو من الخصوصية المحلية ولايشم قارؤه روائح اليمن، ونشر ماتحتويه هذه المقالة من آراء ضمن كتاب “رحلة في الشعر اليمني”، فتوالت الردود مفندة هذه المقالة وتذكر الأدلة التي تثبت خطأ البردوني الذي قام بدوره بتناول اهمية الخصوصية المحلية وقيمتها في الأدب في كتابات متعددة “1”.
وقد شكل البردوني أحد اطراف الصراع بين القديم والجديد “2” فكانت آراؤه في القصيدة الجديدة تثير ردوداً واسعة من قبل شعرائها ونأخذ مثلا قول البردوني في إحدى المقابلات الصحفية: ان المصابيح الكهربائية تدلت على شوارع العاصمة في الستينيات وبدأت السيارات تعبر شوارعها في الستينيات ايضا إذا صح أن هذا تغير فسوق يتغير شكل شعرنا في السبعينيات لأن الجديد مازال مجرد شكل، والأشعار الجديدة التي ظهرت ليست من بيئة اليمن وإنما من أثر التعليم في الخارج “3”.
فتوالت ردود شعراء القصيدة الجديدة متهمة البردوني بالوقوف ضد التجديد، وأنه بدأ يشعر بغربة الشكل التقليدي.
ويعلق البردوني على هذه الردود قائلاً: أصحاب الشعر الجديد مايزالون غير واثقين بفنهم على تمكنه وجودته لهذا فهم يبحثون عن الاعتراف الكامل به، فهم يحسون أن الشعر المرسل قد أصبح فن العصر، وعندما تفاجئهم مناسبات اجتماعية يلاقون الإقبال الجماهيري على القصيدة العمودية الجيدة فيحسون أن فنهم مايزال يلاقي منافسا قوياً من الشعر العمودي، والحقيقة ان الشكل غير هام في الشعر وإنما المضامين الاجتماعية هي موضع الاهتمام وغاية رسالة الشعر وإلى جانب المضمون الأسلوب الشعري الدال على الاصالة بكامل معناه وهذا موقفي من الجديد. “4”
وقد كان للبردوني بعض الآراء التي تثير أصدقاءه وزملاءه النقاد وتدعوهم للرد على مايطرحه من آراء في كتبهم، يقول الدكتور عبدالعزيز المقالح في رده على الحلقات التي نشرها البردوني متناولا كتابه “شعر العامية في اليمن” وقد كان بيني وبين الصديق الكبير مداعبات خفيفة على البعد، ويبدو أن القرب سوف يزيد من تلك المداعبات ويوسع من دائرتها.. وقد رحل الصديق الكبير في كتابي خمسة أيام وكان حصاد هذه الرحلة خمس نقاط نشرها في ستة أعمدة من الصحيفة وفيها -أي تلك النقاط الخمس- من الخلط والتغابي مايدفعني إلى وقفة قصيرة.. “1”.
أما الشاعر أحمد الشامي فقد نشبت بينه وبين البردوني معركة كلامية أسفرت عن تأليف كتابين هما “من الأدب اليمني نقد وتاريخ” سنة 1974م و”مع الشعر المعاصر في اليمن” سنة 1980م، تناول في الكتاب الأول كتاب “رحلة في الشعر اليمني” للبردوني وفي الثاني عرج على شعر البردوني.
ويبدو أن آراء البردوني في كتابه “رحلة في الشعر اليمني” عن شعر أحمد الشامي هي التي دفعته للرد، يقول البروني: وأحمد الشامي من مدرسة الزبيري كماقلت، وإن كان أقل انتسابا إلى القديم البعيد، فآثار العصر أغلب عليه موضوعاً وأسلوباً لكنه كما توحي مقدمة ديوانه “النفس الأول” يجمع بين السلفية والعصرية والتواضع والغرور، ولعل الغرور اصدق عليه من التواضع، فبعد أن تكلف التواضع بانبائنا بان شعره لم يؤد مافي نفسه وبعد أن أثبت شعراء ونفاهم في نفس الوقت أخذه الغرور فقال “لقد قلت شعراً” يستحق النشر، قرضوه إن شئتم بالألسن أو بالأنياب والملاحظ على هذه المقدمة بقلم الشاعر أنه يقول: إن قصائده لم تؤد مافي نفسه لكن كيف يمكن للشاعر الأصيل أن يذكر الحالة التي قال فيها كل قصيدة؟ “2” ويقول البردوني عن الشامي في مكان آخر من رحلته:.. وقد كان له “اي الشامي ” قبل سجن حجة قصائد تعد بشاعر ممتاز.. ولما استضاف سجن حجة “أحمد الشامي” في من استضاف وجدنا شعره يخفت ويغمض كثيراً، وقد تحدث عن هذا في مقدمة ديوانه “النفس الأول” فقد أحس ان اشعاره لاتنقل مشاعره ونحن نحس معه أن ألفاظه لا تدل ولاتوفي وأن جهوده المتواصلة لم تؤد ثمارها المرجوة على أوراقه “3”.
ويواصل الحديث عن شعر الشامي قائلاً: اننا نقرأ قصائده وبالاخص الطوال فتنظر متى سيتجلى هنا؟ أو متى سوف يلوح؟ وينظر هل هو غامض العبارات؟ وما سبب الغموض؟ ان الغموض يأتي من امتلاء النفس بالمشاعر أو من خلو الرأس من الافكار “1”
ويصل إلى هذه النتيجة: تدل نصوص أحمد الشامي على انه يريد ان يقول شيئاً فلا يقول المراد ولا يومي إليه على طول مرانه وحبه الشديد للشعر “2”.
وهذا ما يفسر رد الشامي العنيف الذي تناول البردوني شاعراً وكاتباً وانساناً ، فهو يقول على سبيل المثال: بل لمست ان البردوني قد بدأ يحس بخلو الميدان من فرسان البيان في اليمن.. فحدا به الظن إلى الاعتقاد بأنه أمير شعراء اليمن وانه مغرية وطه حسينه وبشاره وهومبروسه.. وظللت فترة طويلة مشغولاً عنه بنفسي وبالتأليف والضرب في مناكب الأرض، وإذا قرأت اسمه في ذيل قصيدة مررت عليها مرور الكرام ثم تجاوزتها إلى صفحات أخرى اغراز للوقت.
ويعلق على كتاب البردوني “رحلة” قائلاً: لقد كانت الرحلة ممتعة وكنت أظن أنها ستكون في ربوع اليمن فقط فإذا بها تطوف بي اصقاعاً أخرى، حقاً إنه كتاب ممتع، قرأته للمرة الأولى، وإذا بها تشدني إليه، فقرأته ثانية وثالثة وظللت أرجع إليه بين الفينه والأخرى ولكن بألم، وأسى، وكأن البردوني لم يحاول في “رحلته” مراجعة الأصول الأدبية قديمها وحديثها ولذلك فقد فاته ذكر ما ينبغي ان يذكره من نصوص وأسماء.
اقتراب لغة نثره احياناً من لغة الشعر:
ومن سمات الكتابة النثرية عبدالبردوني بشكل عام، اقتراب لغة نثرة من لغة الشعر، ومن خلال تتبعي لهذه القضية في كتابات البردوني، وجدت أنها تكثر في بدايات كتبه ومقالاته وعند الحديث عن عملية الابداع لكنه عندما يتعدى مقدمات موضوعاته، وكتبه، يبدأ بتناول قضايا الأدب والنقد تبدأ لغة البردوني الشاعر بالاختفاء وتعود عندما تقابله مسألة تتعلق بأهمية الأدب أو بعملية الابداع.
ونكتفي بأمثلة بسيطة من تلك الكتابات، فهو مثلاً يفتتح كتابه”رحلة في الشعر اليمني” بقوله: “هذه الأرض التي تشمخ جبالها حتى تتكئ عليها النجوم.. والتي تمتد سهولها حتى تتعب أسفار العيون في اجوائها وهذه الأرض التي تخصب وتخضر حتى تورق الصخور وسطوح البيوت والتي تجف حتى تعتصر الريح لعابها،وتحتسي الشمس ظلها، هذه الأرض المتقلبة الاجواء المخضرة المكفهرة الشامخة الممتدة، توحي الشعر ودواعيه بتقلباتها إذا لاقت الحس الشاعري الأصيل، لأن منبع الشاعرية منتزع من تقلب النفوس وتغيرات الاحوال.. هذه اليمن اتهمت بالشعر حتى كان كل مافيها شعر وشاعر،واتهمت بانعدام الشاعرية حتى كأن ليس فيها قلب ينبض ولسان يترجم””1”.
ولكن عندما بدأ البردوني بتناول العصور الأدبية قلل من استعمال هذه اللغة الشاعرة وفي حديث البردوني عن النص الفني وأثره في المتلقي يستعمل هذه اللغة الفنية التصويرية ومع هذا نجد أنها لاتفتقر إلى الدقة في تقديم الفكرة، يقول: “تبتكر صورة النص في نفس المتلقي صوراً منها،و مختلفة عنها كما تفعل الأرض حين تحول البذرات اليابسة إلى عوالم من الخضرة، أليست صور الزروع والنخيل والكروم مغايرة لحبات بذورها التي ربتها الأرض وأرضعتها السماء؟ اذن فالنصوص في النفوس الانسانية كالبذور التي تخرج من تيبسها عشرات الالوان البهيجة.. فكما أن غاية الأرض والمطر هو الانبات والادرار، فإن غاية الثقافة العليا أن تعيد صياغة النفوس وتبتدع عوالم الملكات حتى يصبح البديع مبدعاً في غيره مغايراً لأصله..””2″
كثرة الثنائيات والموازنات
ومن سمات الكتابة النثرية عند البردوني ،ولعه بالموازنات، فلايكاد يخلو مقال من مقالاته أو كتاب من كتبه من هذا المنحى،ويبدو أن البردوني كان على اطلاع بما كتب قديماً وحديثاً عن الموازنة وبخاصة قول الآمدي الذي أشار فيه إلى ضرورة اجادة الموازنة لكي يصبح الناقد ناجحاً في نقده،ولاتقتصر الموازنات عند البردوني بين الأدب العظيم والأدب الجميل، والموازنة بين الأدب الضروري والأدب الكمالي،والموازنة ين الآني والخالد من الأدب، والموازنة بين العام والخاص في الاساليب القولية ،والموازنة بين الخطرات الأدبية والأحكام النقدية، وبالاطلاع على عناوين البردوني في الجدول الآتي ندرك مدى ولعه بالثنائيات”1″ التي توحي بالموازنة أوالبحث عن علائق أواستعراض شيئين متناقضين أومتشابهين أومكملين لبعضهما بعضاً أومشتركين في سمات معينة أومختلفين في سمات ومشتركين في أخرى:
ويمكن ملاحظة هذه الثنائية من خلال عناوين كتبه مثل”رحلة في الشعر اليمني قديمه وحديثه” وكتابه”الثقافة والثورة في اليمن وكتابه “من أول قصيدة إلى آخر طلقة”.
ولا يأتي هذا الولع بدراسة النظائر والمتشابهات ومدى الاختلاف والاتفاق بين الظواهر وبين الشعراء وشعرهم محض مصادفة إنما يأتي من إيمان البردوني بأهمية الموازنة، يقول: الموازنة والمقارنة تكشف المزايا وقسمات الشخصية إلى جانب أنها تثري البحث عن طريق لمس العلائق الأدبية بين القديم وبين المعاصر والأكثر معاصرة(1)
بل ان الدراسة لا تحقق عمليتها عند البردوني إلا بالبحث عن أصول الظواهر ونظائرها واشباهها:”إن كل دراسة تنبتر عن أصولها وتخرج عن نظائرها تجانب روح العلم وروحيه الفن الشعري ” (2)، ولايستطيع الناقد الكشف عن عبقرية المبدع
ـ في رأي البردوني إلا بموازنته باسلافه ومعاصريه: “من السهل أن نقول فلان عظيم ومن السهل أن تقول الحركة الفلانية تقدمية، لكن من ذا يقبل هذا بدون استخلاص العظمة من حياة العظيم ومكوناته الزمنية، ومقارنته بأسلافه ومعاصريه، حتى تبين هل هذه العظمة ظاهرة تاريخية أو فرادة شخصية “3”
ومن الموازنات الطريفة عند البردوني موازنته بين ظواهر الأدب الشعبي وشعرائه وظواهر الأدب الفصيح وشعرائه فقد اتخذ من كتابيه(فنون الأدب الشعبي في اليمن) و(الثقافة الشعبية..) وسيلة للموازنات والمقارنات بين الأدب الفصيح والأدب الشعبي وبين الأدب الشعبي في اليمن وغيره من الشعوب، يقول عن الكتابين “..فإن بين الكتابين اشتراك في مقارنة أقاويل الشعب اليمني بأقاويل الشعوب الأخرى، وبأقاويل شعرية ونثرية من نتاج العصور الأدبية كلها، فكما أن الكتاب الأول عني بالأشباه والنظائر في الفنون، فإن هذا الكتاب عني بالأشباه والنظائر من أقاويل الشعوب في كل العصور لمعرفة اشتراك الشعوب في التجارب والتعبير عنها…” (4)
الكتابة الموسوعية(الاستطراد)
أدت ثقافة البردوني الموسوعية وولعه بالموازنات كما ذكرنا إلى كثرة الاستطرادات (5) في كتاباته، وهي سمة تظهر في معظم مؤلفاته! عندما تقرأ كتاباً أو مقالة للبردوني تجد فيها الأدب، والتاريخ، والسياسة، وينقلك من القديم إلى الحديث، ومن الحديث إلى القديم، فلا تنظر أن يقف بك عند حدود عنوان المقالة، أو الكتاب ويبدو أن هذه الاستطرادات كانت، نتيجة لتأثر البردوني بأسلوب الكتاب القدامى، فهو يعد هذه السمة سمة الاستطراد من السمات المهمة التي يجب على الباحث الالتزام بها حتى يعطي الظاهرة حقها من الدراسة والتحليل. يقول عن كتاب(الثقافة والثورة في اليمن) الذي يجمع فيه الأدب والتاريخ والسياسة:
“فهذا الكتاب يعترف بكثرة استطراداته، ويعرف قيمة هذه الكثرة لأنه حاول أن يكشف كيف فهم الثقافة وكيف ينبغي أن يفهمها المثقفون، وكيف يجب أن تؤديها الكتابة ذات الطابع البحثي” (1)
ويعتبر الوقوف عند الظاهرة وعدم تجاوزها عيباً من عيوب الكتابة:
“ان التعريف بحادثة لايكلف الحبر الذي يراق عليه إذا لم يؤد ذلك التعريف إلى معرفة تهدي إلى معارف، وقد لاحظنا الكتب التي تتوخى التغيير إلى الافضل كيف تستكثر من ضرب الامثال وتجلية الحجج وايراد نظائر كل حدث واشباه كل قضية” (2)
بل إن البردوني يجعل إثارة القضاياالعامة عند تناول القضايا الأدبية الخاصة دليلاً على إخلاص الناقد لمهنته:”نقدت بإخلاص وأظن القارئ الجاد سوف يرى الاخلاص حتى من وجهة نظر واحدة هي إثارة القضايا العامة عند دراسة كل شاعر لأن القارئ لايهتم بالثناء، ولابالقدح وإنما يهتم بما أثير من القضايا العامة التي هي موضع تساؤل وأظنني وفقت في إثارة القضايا فرجعت في كل قضية إلى أصولها الفنية ومايحيط بها ويمتد إليها من ظواهر الأدب المعاصر والقديم، لأن الفنون متصلة ببعضها متصلة الماضي بالحاضر..” (3)
ومن هنا يصبح الابتعاد عن الموضوع الذي يتناوله أمراً دعت إليه الضرورة العلمية، يقول:”وقد ابعدني قليلاً عن ديوان حكاية الصحاب تتبع النظائر في تاريخ أدبنا لأن تداعي الخواطر، وإرضاء الذوق الأدبي دعياإلى هذا التقصي” (4) مع اعترافه بأن طول المقدمات دليل على سقم النتائج (5)، فإنه راح يبحث عن مسوغات لاستطراداته، قد تبدو غير مقنعة، ومنها فلسفته عن المقالة: “هذا يرجع إلى أكثر من سبب منها فلسفتي عن المقالة: عندي أن المقالة الحقيقية هي ماتشكل نواة كتاب أو مشروع كتاب، وكل ما يكتبها هو المزيد من التفاصيل على أساسها والإكثار من بسط الإجمال” (6)
ومع هذا فإن للبردوني مقالات تتسم بدقة في وضع العنوان ولايكثر فيها من الاستطرادات، وتبدو اكثر ترابطاً(1)
قلة الإهتمام بالمنهجية في العرض والتناول:
ونعني هنا بالمنهجية في العرض تنسيق المادة، وعرضها بطريقة تظهر ترابطها ببعضها، يبدو أن البردوني لايهتم بهذه القضية كثيراً لاسباب قد تعود إلى إعاقته البصرية وثقافته الكلاسيكية، ففي كتابه(رحلة في الشعر اليمني الأول) الذي أصدره عام1972م، لايقسم الكتاب إلى ابواب أو فصول وإنما يقسمه حسب العصور الأدبية مكتفياً بوضع العناوين الآتية لتشكل تقسيماً داخلياً للكتاب
(العصر الجاهلي، عصر الخطورة، عهد الاجترار، عهد النهضة، عهد الثورة، الشعر الشعبي، فنونه وأطواره)، فضلاً عن أن الكتاب يفتقر إلى التوازن بين مادة عصر ومادة عصر آخر، فقد كان نصيب العصر الجاهلي سبع صفحات فقط وكان نصيب(العصر الإسلامي) ويشمل الأموي تسع صفحات و(عصر الخطورة) الذي يعني به العصر العباسي سبع صفحات وعهد الاجترار الذي أطلقه على عصور الانحطاط إحدى عشرة صفحة، بينما احتل عصر النهضة وعهد الثورة مائتين وأربعاوثلاثين صفحة، وبهذا يكون الكتاب بالاعتماد على محتواه، مكرساً لتناول الشعر اليمني الحديث، أما العصور السابقة للعصر الحديث فبالإمكان عدها تمهيداً لهذه الدراسة، وهذا ما ذكره البردوني عن كتابه، وقد تناولنا تعليقه على بعض الآراء التي طرحت حول كتابه هذا في الفصل الأول.
هذا بالنسبة للعنوانات الرئيسة في الكتاب، أما العنوانات الفرعية فلم تصنف حسب ظواهر الشعر في كل عصر من العصور ومع هذا اتخذ من دراسة الشعراء وسيلة للتعريف بالشعر وخصائصه في كل عصر من العصور ومع هذا لم يتناول إلا القليل منهم بل إنه أحياناً يكتفي بالحديث عن شاعر واحد ليكون دليلاً على الشعر اليمني في ذلك العصر، كما فعل في تناوله للعصر الجاهلي ، حيث اكتفى بالحديث عن الشاعر عبديغوث الحارثي(2)
وللبردوني كتابان عبارة عن مقالات نشرت في الصحف والمجلات وأذعت من إذاعة صنعاء الأول (قضايايمنية) صدر سنة 1977م والثاني (اشتات) صدر عام 1996م
ـ وتتوزع موضوعات هذين الكتابين بين الأدب والتاريخ والسياسة، ويذكر البردوني في مقدمة كتابه(قضايا يمنية) الأسباب التي جعلته يعزف عن تبويبه قائلاً: لقد كان في مقدوري أن اسمي كل مجموعة فصلاً فأضع فصلاً للفكر الثوري وثانياً للفكر السياسي وثالثاً لثقافة الثورة ورابعاً للأدب الثائر وخامساً للأدب الثوري…الخ ولكنني لااريد أن اعقد ما يصعب عقده أو مالا حاجة إلى افتعال انعقاده فجاورت بين الموضوعات المتقاربة… لأن كل مقالة كانت تسطر نفسها بمقدمة تشكل ستاراً رقيقاً بينها وبين سابقتها أو تاليتها
وفي الحقيقة إننا لانجد توافقاً في ترتيب مقالاته في هذا الكتاب، ومع أن الأسباب التي وضعها لعدم تبويبه لهذا الكتاب قد تكون مقبولة إلا أنه يعود ليقلل من أهمية التبويب في هذا الحوارمع كتابه:
ـ “من الجائز ان اعتبرك كتاباً من ناحية شكلية إذا كان بالضرورة تقسيم الكتاب إلى أبواب وفصول فاين أبوابك وفصولك؟
ـ وهل تسأل عن ابواب في عصر الانفتاح؟ إني أرفع مبدأ سياسة الانفتاح أو مبدأ الأبواب إذا كانت لاتؤدي وظائفها.
ـ هذا مزاح دبلوماسي، إذا لم تضبطك أبواب فهل تقيدك روابط فصول؟
ـ نعم وليس بالضرورة أن أقول: فصل كذا، لأن القارئ أذكى مني وغاية الغباء تجاهل المعلو” (2)
ومن هذا الحوار نستنتج أن البردوني لايرى أهمية كبيرة للتبويب،
بل إنه يعدها عملية شكلية فقط حين يعتمد في حواره السابق على القارئ ليضع لكل مقالة فصلاً مستقلاً، مع أن الغرض من الفصول والأبواب هو تنسيق المادة وترتيبها وليس لمجرد التسميات ومع هذا فالبردوني في كتبه التي تلت هذا الكتاب اعتمد على تقسيم كتبه إلى فصول ففي كتابه اليمن الجمهوري يقسم الكتاب إلى أحد عشر فصلاً ويقسم كل فصل إلى مباحث، ويبدو هذا الكتاب اكثر انسجاماً من حيث ترتيب المادة العلمية لولاأنه يجمع بين التاريخ والأدب والسياسة وقد يكون السبب الرئيس ان هذا الكتاب لم يجمع من مقالات منشورة في الصحف والمجلات.
وفي كتابه(الثقافة والثورة) الذي أصدر عام 1991م يقسم مادة الكتاب إلى فصول لكن هذه الفصول تفتقر إلى الترابط والتناسق في ترتيبها وتعدد مجالاتها.
أما كتاب(من أول قصيدة إلى آخر طلقة، دراسة في شعر الزبيري) فقد وزع مادته على سبعة وعشرين فصلا، ومن الواضح أن عدد هذه الفصول يدل على خلل في التقسيم، حيث كان بامكانه أن يجمع الفصول التي تتناول قضايا متقاربة تحت باب واحد فمحتوى الكتاب يتوزع بين الحديث عن حياة الزبيري، وبين الابعاد الموضوعية والفنية في شعره، ومن الاسباب التي أدت إلى القصور في ترتيب فصول هذا الكتاب، وتعدد العنوانات التي كان يمكن أن تدمج تحت عنوانات رئيسة، أن معظم فصوله كانت عبارة عن مقالات نشرت قبل طباعته في الصحف والمجلات فنذكر منها هذه العناوين التي نشرت في صحيفة “26سبتمبر” قبل طباعة الكتاب ثم أصبحت فصولاً في هذا الكتاب.
فالكتابة الصحفية ، والتأثر بثقافة النقاد القدامى ، وتقليده لبعض النقاد في عصر النهضة مثل: طه حسين، والعقاد ، وسلامة موسى ، ومارون عبو، وغيرهم كما ذكرنا إلى جانب حرمان البردوني من نعمة البصر ومن الدراسة الأكاديمية في الجامعات كل هذه الأسباب كانت وراء القصور الذي نجده في تنسيق كتاباته النقدية أؤ النثرية.
ـ غياب الهوامش وفهارس المصادر والمراجع من كتاباته النقدية:
وأدت هذه الأسباب أيضاً إلى بروز ظاهرة أخرى تمثلت في غياب الهوامش من كتاباته النثرية فلا تجد في كتبه ومقالاته هامشاً واحداً ، مع أن البردوني كان يكثر من الهوامش في دواوينه الشعرية فيشير إلى معاني الكلمات الغامضة للقارئ ، أما في كتاباته النقدية وغيرها من الكتابات النثرية ، فقد كان يشير إلى المصادر أو المراجع في ثنايا المتن في حالات قليلة لأن البردوني لا يرى أهمية كبيرة لإثقال البحوث بالهوامش ، فهو يقول في مقدمة كتابه قضايا يمنية في حواره مع الكتاب: حكاية المراجع تستدعي وقفة: هل عملية الكتاب تتبع من أسلوبه وصحة عرضة ورهافة رؤيته؟ أم ترجع مئات الهوامس؟ علمية الكتاب لا تأتي من المراجع وحدها لأن المرجع الخاطئ يجعل تبنيه أكثر خطأ وأنا لا أدعى علم الدنيا ، فأنا عصير قراءة وثمرات ملاحظة ولم أتشكل من لا شكل وانما أنا أوراق اخضرت من أشجار ، وتعنقدت من أكثر من كأس وانبثقت من آثار القراءة والملاحظة ويحاول البردوني اقناعنا برأيه هذا بإعطاء بعض المسوغات منها انه كان شاهدا على عصره وانه جاري في ذلك نقاداً قدامى ومحدثين ،يقول: “صحيح لم اثقل أوراقي بالهوامش ، ولكنن تضمنت الروايات وذكرت المراجع بالاسم في ثنايا البحوث ، هذا من جهة، ومن جهة ثانية فأنا سجلت أحداث عصري على مختلف عقوده، وهذا العصر أنا وأمثالي شهادة ميلاده وسجل وقائعه إذا لم أشر إلى مراجع أخرى فلأني وأمثالي مرجع المراجع.. لم يلمح الجاحظ إلى مرجع وكتبه اليوم أهم المراجع عن أدب عصره وثقافة جيله أو أجياله وأدبيات طائفته “المعتزلة”.. وهل لي أن أمثل بالمعاصرين؟ فمن ذا يكتب من السبعينيات إلى ماشاء الله دون أن يكون العقاد ومارون عبود وميخائيل نعمية أخصب مراجعه مع ان كتبهم لا تشير إلى المراجع في الهوامش ولا تسحب أذيالاً، لأن عملية الكتاب تتلألأ من عرض الكاتب ومنهجه التحليلي..
وفي نهاية هذه المقدمة يعطي البروني مسوغاً قد يكون مقبولاً أما ما ذكره من أسباب لعدم اهتمامه بهوامش المراجع ،فلا يمكن التسليم بها، ولعل العذر المقبول يتمثل في فقدانه للبصر فالبردوني لا يقرأ متى يشاء ولا يكتب متى يشاء، وانما يعتمد على مخزونه من قراءات غيره، التي تلعب فيها الذاكرة دوراً كبيراً لكنه يحتفظ بالفكرة ولا يستطيع الاحتفاظ بالنصوص والصفحات والمراجع ، يقول البردوني على لسان كتابه: على ان هناك من هو كثير القراءة قليل التأليف، أو قليل المقروء كثير التأليف ، مثلك ياصحبي فأنت لا تقرأ متى تريد وما تريد ولا تكتب في وقت حس الكتابة، لأن الغير من ضرورياتك، وأنت مواطن صغير لا تنسق لك سكرتارية، فإذا قدمت جهد المقل فهو منك فوق المنتظر.
فإذا قصر البردوني في ترتيب مادته العلمية وصنع الهوامش فالسبب الأساس يرجع إلى أنه لا يستطيع القيام بكل ما يريد وفي الوقت الذي يريد ومع هذا فقد كان البردوني كما قال عن نفسه قليل القراءة، كثير التأليف وقد قدم الكثير للنقد والأدب والثقافة في اليمن على الرغم من عدم التزامه ببعض الضوابط المنهجية ، فما ذكرناه لا يقلل من أهمية ما قدمه البردوني فهناك فرق بين طريقة عرض المادة العلمية وبين المادة العلمية نفسها ، فقد كان لشاعرنا وكاتبنا ظروفه ومبرراته الخاصة كما ذكرنا.
– عن صحيفة الثقافية