گائنات الشوق الآخر (قراءة في دلالة السؤال والنداء): عبد الودود سيف

گائنات الشوق الآخر (قراءة في دلالة السؤال والنداء): عبد الودود سيف
موقع الشاعر الكبير الأستاذ عبدالله البردوني

>  گائنات الشوق الآخر (قراءة في دلالة السؤال والنداء): عبد الودود سيف

“كائنات الشوق الآخر” الديوان التاسع لشاعر اليمن عبد الله البردوني. ويأتي صدوره مع نهاية عام 1986 بعد مضي ما يقارب أو ينيف الأربع سنوات على صدور ديوانه الثامن ” ترجمة رملية الأعراس الغبار” ومعنى ذلك أن الديوان يشكل حصاده الشعري على امتداد الفترة الماضية، منذ صدور ديوانه الثامن، ويحوي إحدى وعشرين قصيدة، غالبيتها – إذا لم أخطئ – تنشر في الديوان لأول مرة.
وكائنات الشوق الآخر” عنوان قصيدة في الديوان، استعير عنوانها للديوان كامل كما هو الحال عادة في كل دواوين البردوني – تقريباً – التي تختار عناوينها من عناوين قصائد مخصوصة تتضمنها.
ومرة أخرى يعيدنا هذا العنوان إلى عناوين دواوين البردوني الأولى (في طريق الفجر) (مدينة الغد)، (السفر إلى الأيام الخضر) في حين أن الدواوين التالية لها كانت قد نحت منحى آخر وجعلت من عناوينها دلالات على رؤية الواقع المعاش (وجوه دخانية في مرايا الليل) (زمان بلا نوعية) ترجمة رملية لأعراس الغبار.
ولا شك أن قسمة العناوين بهذا النحو الثنائي المتعادل -تقريباً- بين الواقع والواقع الآتي مع المستقبل، أو بالأحرى بين الدلالة على ما يرى في السطح، والدلالة على ما يتشكل في الأعماق، أمر بالغ الأهمية، خاصة لمن يطمح في مسايرة تجربة البردوني الشعرية ورصد أبعادها.
ولا تزمع هذه السطور العجلى أن تتابع رصد المسار المذكور، ولكن تطمح إلى التعريف بالمعنى الخاص الذي يسبغه الديوان على “كائنات الشوق الآخر”، من خلال قصيدته الرئيسية الحاملة للعنوان المذكور.
وأهمية القصيدة المذكورة لا ترجع فقط لكون الديوان قد استعار عنوانها الخاص، ولكن ترجع أهميتها في جانب آخر أيضاً، لموقعها الخاص بين قصائد الديوان.. حيث يلاحظ أن الديوان قد افتتح بقصيدة (غير ما في القلوب)، وجعل من القصيدة / العنوان أولى قصائده وكأنه يشير بذلك إلى أن القصائد التالية لها تفصيلات منوعة في تجربتها الخاصة، وتشكل ما يشبه سباقاً واحداً يصب في تأكيد معناها المميز الذي يمثله الديوان ككل.
القصيدة تتكون من سبع وستين بيتاً، في واحد وعشرين مقطعاً، لا تزيد عدد أبيات أطول مقطع منها عن سبع أبيات، كما في المقطع الخامس عشر، ولا تقل أبيات المقطع الواحد عن بيتين كما تكرر ذلك في أكثر من مقطع.
والسمة المميزة للقصيدة أنها لا تتخذ نفس الطابع البنائي المعتاد لقصيدة البيت، ولكن تبني نفسها بطريقة خاصة، من داخل محتواها الخاص.
ومحتواها لذلك ينسجم نفسه بطريقتين: التساؤل والإخبار عن نفسه، بالاستناد في إخباره على التساؤل. ومن ممازجة السؤال بالإخبار تنمو القصيدة تدريجياً حتى تستكمل قوامها ومن ثم بناءها الخاص.
ورغم أن السؤال يستحوذ على القسم الأكبر من أبيات القصيدة، حيث يتداخل في نحو ما يقارب أربعين بيتاً من مجموع عدد أبياتها المذكورة، إلا أنه لا يخرج عن ثلاث صيغ رئيسية كما سنرى. بل أن الصيغة الأولى والثانية تنحصر فقط على ديباجة القصيدة المتمثلة بالاثني عشر بيتاً الأولى، والصيغة الثالثة تتحدد في بقية أبيات القصيدة المكملة.
والصيغة الأولى تنحصر بدورها على المقطع الافتتاحي المكون من ثلاث أبيات، والصيغة الثانية تحتل الثمان أو التسع الآبيات الباقية من أبيات ديباجة القصيدة.
ويمكن تسمية الصيغة الأولى بالصيغة المركبة، والقصد من معنى التركيب هنا الجمع بين التقرير والسؤال في آن معاً في صيغة واحدة، وظاهر الصيغة السؤال. ومضمونها الفعلي التقرير. ولذا تتخذ الصيغة أداة التساؤل (ل ماذا )، فيبدو القصد من السؤال، معرفة سبب ما يتضمنه السؤال في محتواه من معنى، بينما القصد الفعلي للتساؤل هو تغطية مضمونه المقرر فيه بصيغة السؤال ليس إلا. كإن السؤال، هنا، وجود زائد.
وحين نحذف أداة التساؤل “ل ماذا ” من أبيات الافتتاح التالية، يظهر لنا معنى الحقيقة المرة التي تنطلق منها القصيدة وبني عليها موضوعها اللاحق، ولكن تتخفى على حقيقتها المرة بالسؤال لهدف بلاغي بحث، هو عدم نقل القارئ إلى جوها المفعم بالسوداوية والقنوت قبل الأوان. فكأن الغرض البلاغي للسؤال إذن تخفيف أثر الوقع على القارئ:
(ل ماذا ) المقطف الداني بعيد عن يد العاني؟
(ل ماذا ) أزهر آنيُّ وليس الشوك بالآني؟
(ل ماذا ) يقدر الأعتي ويعيا المرهف الحاني؟
والمعنى الخاص الذي تنطلق منه القصيدة – في البدء – أن من يعاني عادة ليس هو من يجني قطاف معاناته دائماً، لأن. المعاناة تفضي – فيما تفضي إليه من النتائج – إلى الرهافة والحنو.
والأقدر على التنصل من نبعات المعاناة هو الأوفر حظاً في تحقيق الجنى.
ولا يخلو المعنى من البساطة كما لا يخلو بحال من أثر التأمل.وهذا الجانب الأخير هو الذي يعطي للمعنى عموميته. غير أن ما يهمنا هنا هو تتالي الثنائيات في التعبير عن المعنى. ثنائية العاني واللاعاني. والمرهف الحاني والأعتى. والزهر والشوك….. الخ.
أي أن هناك طرفين يتنازعان ” القطف ” يترتب عن تنازعهما أن يحظى صاحب الورد بالشوك، وصاحب الشوك بالورد.
وهي في كل الأحوال نتيجة غير طبيعية وعكس لقوانين المنطق الإنسانية والعقلية.
والصيغة الثانية من التساؤل تستند على نتائج لا منطقية السياق السابق، فيصبح هدف التساؤل فيها مُنصباً على ترسيخ المعنى السابق، وذلك من خلال رفع “اللامنطقي” إلى مصاف ماهو “منطقي” والتساؤل من ثم عن جدارة أي منهما وأن يوضع الاثنان في مصاف واحد، فهذا يعني ضمنياً التقليل من شأن المنطق وإعطاء الأهمية لما ليس منطقياً. لكن أن يتجه السؤال إلى التساؤل عن جدارة أي منهما، فمعناه البلاغي الضمني أن العقل بدأت تساوره الشكوك بنفسه، وابتدأ من ثم معها يتساءل ويبحث عن منطق اللامنطق، ويغفل قوانين المنطق الاعتيادية.
وأكثر ما يلاحظ أثر هذه الصيغة على المقطع الثاني والرابع:
أيستسقي الدم الصادي ندىً أم خنجراً قاني.
أيخشى الرعب رجليه أيحذر كفه الجاني.
أيدري السوق والعجلات من ذا يحمل الثاني.
ومن أهدى إلى الأجدى خطى المضنى أم الضاني.
وهل سجادة الأفعى نقيض المرقد الزاني.
والاستسقاء أو السقيا في: أيستسقي.. تصب في نفس فكرة ” المقطف “التي ابتدأت بها القصيدة، وتوضح بالتحديد معنى معاناة العاني المذكور. و”الدم ” – في السقيا- تزيد معنى ” المعاناة: وضوحاً وتخصيصاً أكبر. كما أن الندى “يصب بدوره في معنى” الورد ” ويصب ” الخنجر ” في معنى الشوك.
ومن الوجه الآخر فإن السوق والعجلات ” وانقلاب المقاييس – في السؤال – على أي منهما يحمل الثاني، يشكل النتيجة الطبيعية لاختلال الموازين واختلاط المنطق باللامنطق.
كل ذلك في نتيجته النهائية يمهد لابتداء القصيدة، بعد أن انصرفت الأبيات السابقة للتوطئة لها. ومع دخول القصيدة لموضوعها يظهر الشاعر بضميره المخصوص ” أأستفتيك ” في البيت الثالث عشر.
وهذا يعني على مستوى السؤال انتقاله من التعميم إلى التخصيص ومن إلقائه مجرداً عن التحديد إلى تحديد طرف بذاته يلقي عليه.
وهذا بالضبط ما تتولاه الصيغة الثالثة، التي أهم ما يلاحظ عليها اقترانها بالنداء.
غير أن النداء قد يلي السؤال، وقد يتقدم السؤال.
فإن تقدمه السؤال انتفى معنى السؤال، وأصبح مجرد مناسبة للإخبار. كما نلاحظ من الأبيات:
أأستفتيك يا أشجار؟ فوقي غير أغصاني
كومض الآل إيراقي كلغو السكر اعلاني
وكالحدبات أثدائي وكاللصقات ألواني.
أتستسقي أروماتي متى يطلعن أفناني
أريد مدى اضافياً ثرىً من صنع اتقاني
وتاريخاً خرافياً أعلق فيه قمصاني.
أيمكن كل مرفوض وهذا الشوق إمكاني.
وموضوع الأخبار هنا: إخبار عن واقع هذا الواقع يتمثل في: شجرة تحمل غير أغصانها فتومض وتلغو وينقلب ظهرها بطنها. وباختصار أنه واقع غربة.. يصنعها أو يصنعه الأساس السابق الذي يجعل من ” المقطف ” ثمرة لمن لم يعان في بذرها ولم يحن على أشجارها.
ان الأشجار في ذلك ” المقطف ” أشجار بلا ثمار. تومض بأثمارها من بعيد كالبرق وتلغو لتعلن عن إثمارها فلا يتحقق منها شيء وإن أثمرت فتثمر ثماراً غير طبيعية لأن أغصانها التي عليها ليست أغصانها. وكما يغترب المقطف / الأساس عن ذويه، ويصبح ملكاً لغير ذوي الشأن، تغترب أشجاره عن نفسها، وتصبح بدلاً من أن تكون أثداء للإرضاع تصبح حدبات شائهة على ظهور الأرض. تصبح ” سدراً ” لا يدل في حقيقة سوى على كونه بديلاً لشجرة أصلية ضائعة.
وينتقل الإخبار من الواقع إلى الأخبار عن الحلم: الواقع البديل. ويتخذ أسلوب الإخبار صيغة الاشتهاء ” أريد “وماذا يريد؟ يريد ما تريده الشجرة عادة من تربة ومناخ. جواً إضافياً تتفيأ فيه. وتربة حقيقة تترسخ فيها. وبذلك تؤكد ذاتها وتصنع تاريخها الخاص. بل وستصنع لنفسها تاريخاً خرافياً يحقق المعجزات.
وينتقل النداء ليحل محل السؤال. ويحل السؤال محل النداء
وذلك في السياق المكمل:
أيا بستان هل تصغي؟ لمن، والقحط سلطاني؟
أليس الموت كاللاموت والمشدود كالواني؟
ونلاحظ هنا التدرج من المقطف إلى الأشجار إلى البستان والمقطف كان مستلباً، والأشجار كانت تشي بحالة تبدل شبيه بالتبدل الذي أحال جنتي سبأ إلى أشجار لا أثمار فيها. وها هو البستان محكوم بسلطان القحط اللانهائي. أو محكوم بالموت المهيمن الذي يبدو كالموت. لقد وصل الموت إلى ذروته. وتساوى فيه معنى الموت بالحياة. حتى أصبح يظن ما هو موت بأنه حياة. وذلك أنكأ أنواع الموت.
هنا يعيدنا السياق إلى موقف الشاعر الجاهلي الذي كان يمر على بيوت أحبابه الداثرة، ويسائلها ويبكي على أطلالها وقد حدث الشيء ذاته. مسائلة الأطلال وبكاء الديار:
ألست بيوت أحبابي ولكن أين سكاني؟
أتذكرهم هنا كانوا عناقيدي وريحاني
على أحضانهم أصبو ويستصبون أحفاني
لماذا جئت تشجيني أأنت رسول نيساني.
أتنكر نكهتي؟ كلا تلوح كبعض عيداني
لقد تحول المقطف إذاً إلى حلم، وتحول الحلم إلى ذكرى وأصبحت هذه الذكرى كذكرى عيد النيروز و”شم النسيم” ولكن بدلاً من أن تكون عناقيد وريحان أصبحت “كبعض العيدان ” اليابسة.
ويتجه التساؤل إلى البستان:
ترى هل ينمحي وضعي إذا أعلنت كتماني.
لماذا يغتدي طيري وأثوي خلف حيطاني.
ألا يا ليتني نهر وكل الأرض بستاني.
ولما لم يعد جواب السؤال لا من الأشجار ولا من البستان تحول السؤال إلى الوجهة النقيض وهو ” المقهى ” مقبرة الوقت والضياع على سطح الأرض العربية.
والمقهى يلبسها السياق وجه بيوت الأحباب التي كانت تلوح قبل قليل كالأطلال ولذا فهو يستبكيها كما كان يستبكي تلك الأطلال، ليكتمل الوجهان بكاؤه وبكاؤها:
أأستبكيك يا مقهى بقلبي غير أحزاني
وأنكى ما أعي أني أنوء بحمل بنياني.
وأني – بعد ما ولى بنو عثمان – عثماني.
أمامي ظهر أيامي وخلفي وجه سجاني.
وهكذا يعود الإخبار إلى طابعة القديم. شكوى الغربة مرة ثانية. وإن أصبح موضوع الشكوى هنا مختلفاً عن السابق.. حيث كانت الشكوى هناك تتحدث عن تحول جديد طرأ على الواقع، بينما موضوع الشكوى هنا تتحدث عن واقع قديم عاد إلى نفسه مجدداً.
وبمثل ما أدت مخاطبة الأشجار في السابق الوقوف على ديار الأحبة ومساءلتها أدت هذه المسآءلة في شقها الثاني، الأطلال / المقهى إلى البحث عن بيوت الأحباء حيث تكون. ولأنها في الواقع أطلال خواء، فقد أخذ البحث عنها هذه المرة يتجه إلى القلب:
أيا بيتاً هنا في القلب كيف أبث تحناني
إليك أصيخ: هل تحكي أضعت هناك تبياني
أقول، يقول عني السقف غير لغات أركاني
لأن أباك ” عنسي ” وخال الأم ” باذاني ”
أتذكر كنت بنياً ولون الباب رماني
وكان السور قاتياً ومرأى الصحن مرجاني
وكنت تشير ” بالكاذي ” وبالورس الغويداني
وكنت مؤزراً بالطيب كالفجر الحزيراني
وبالأحباب معموراً وكنتَ أحب جيراني
تنث الشدو ” سعدياً ” وأحياناً ” قمنداني”
أمن قلبي إلى سمعي تمد غرام ألحاني
أمن صدري على صدري تلم فلول أزماني
هل استوقدت أعراقي؟ أم استنفرت جدراني
أحس تهدمي يهفو إلى نزعات شيطاني
أشم عبير تاريخي وأسمع نبض عمراني
فلا طيفي ” نجاشي ” ولا طيري ” سليماني ”
أطعت زمان إسكاتي أأعصي الآن عصياني.
وقد كان السياق يخاطب من قبل (بيوت الأحباب) وأصبح هنا يخاطب (بيتاً) بذاته وكانت غير محددة المكان تماماً فأصبحت هنا في موضع “القلب” (أيا بيتاً هنا في القلب) كما كان الحديث عن تلك البيوت يجري من خلال الحديث عن أصحابها الذين غيرهم الدهر، فأصبح الحديث عن هذا البيت من خلال صاحب القلب المخصوص، أي الشاعر، ومن خلال ذكرياته الخاصة عن صورة ذلك البيت الذي عرفه وغيره الدهر أيضاً فيما غير من المتغيرات.
والبيت وصاحبه شيء واحد في الأصل، لكنهما ينفصلان إلى “منادي” و” منادى”. البيت منادى، ومع ذلك فهو يتحدث إلى الطرف الآخر فيما هو يصغي إليه. وهذا الذي يؤدي بهذا الطرف – المنادي – إلى اكتشاف نفسه واكتشاف واقعه واكتشاف أسباب انفصاله عن بيته الساكن / المسكون فيه.
لقد اتخذت الغربة من قبل في السياق أشكالاً متعددة، وكانت تشكل موضوع شكوى متعددة الجوانب لكننا لم نطلع أثناء ذلك على ما يشير إلى أسبابها.
وهاهي الأسباب تفصح عن نفسها الآن بصوت أحجار البيوت وبصوت ما تبقى من ذكرياته المسكونة فيه (أقول، يقول عني السقف..).
وهي أسباب يلخصها سبب رئيسي واحد هو انفصام هوية الانتماء إلى الواقع وضده في آن معاً.
وقد اختزل السياق التعبير عن حالة انفصام الهوية هذه بتشاطر النسب إلى الأبوة والخوؤلة المتضادين.
الأب في طرف عنسيٌ وخال الأم في طرف باذاني:
لأن أباك عنسي وخال الأم باذاني
والعلاقة ما بين العنسي والباذاني علاقة تضاد تاريخية. لا يمكن لأحدهما أن يتعايش في ظل الآخر وبالتالي على أحدهما أن ينفي الآخر – بالقتل طبعاً- إذا أراد أن يثبت وجوده إثباتاً فعلياً.
واثبات الوجود هنا لا يتم لمجرد إثبات الوجود المجرد بل للاستحواذ الضمني معه على مقتنيات وكنوز الطرف الآخر.
وأول هذه الكنوز كنز ” أزاد” الثمين. درة الصولجان وقلادة عرش أرض سبأ.
وقد اقتنى العنسي قلادة أزاد واستحوذ على وجوده بعد نفي وجود الثاني فكان سبباً لانتصار المقتول ونفي القاتل. وهكذا فقد أثمر هذا التضاد تضاد انتماء مكمل له. انتسب الواقع إليه / إلى هويتهما الواحدة المزدوجة. فأصبح الأب عنسياً والأم باذانية وتوزع في اتجاههما معاً وعاش على بقية انقسامه على نفسه.
وإذن أي بيت هذا الذي تفتتحه الخصومة ويؤسس بنيانه انقسام هوية الانتماء؟ إنه متوازع في كل الجهات.
والشاعر يبحث عنه في نفسه من خلال أطياف الذكرى ويحاول تذكر وجهه الذي كان فيمنحه أحلى ما في الوجود من الصفات. البن، الرمان، القات، المرجان، الورس الغويداني، الطيب، الغناء السعدي، الغناء القومنداني، وهي صفات كلها ذات خصوصية يمنية بعضها اكتسبت خصوصيتها اليمنية تاريخياً (المرجان، الورس، الطيب) وبعضها معاصرة (البن، الرمان، الغناء) وبعضها اكتسبت خصوصيتها اليمنية في القصيدة من قافيتها (الغويداني، القومنداني) مما لزم معه إيضاح دلالتها المقصودة بهوامش إضافية على النص، (راجع النص).
وبصرف النظر عن توفيق السياق في تحويل كل أو بعض هذه الدلالات الخاصة إلى رموز عامة كما هو الشأن في توفقه في رمز العنسي وباذان السابقين، أم عدم توفقه فإن القصد من الحشد السابق يمكن أن يفهم منه على أنه توظيف لمعنى المحلية في رسم جنة خاصة يستهدف رسمها السياق وتأخذ تفصيلاتها من اليمن التاريخي والمعاصر معاً.
أو لنقل بمعنى آخر أنها جنة بمعناها ودلالاتها التاريخية ولكن صورتها بالمكونات المذكورة آنفاً تقربها إلى صورة صنعاء البردوني التي تفجع عليها – في أشعاره مراراً – مما ألم بها من قحط وخواء 00 باسم التحديث والعمران 0
وينصت السمع لرجع صدى الذكريات ويمعن في تنصته بالسؤال ولكن من دون جدوى. فقط يحس صوت التهدم الداخلي الذي يتفجر في أعماقه باسم العمران وباسم شيطان “المدينة”.
ويتلفت من يمين ومن يسار فلا يرى شيئاً لا طيف نجاشي ولا طير سليماني. كل شيء في هذا الواقع المنفصم الشخصية يفتقد شخصيته بما في ذلك حتى الغزو المادي والروحي يفتقد شخصيته أيضاً.
ويتعاضد – مع نهاية فقرة القصيدة الرئيسية – الإخبار والسؤال فيدلي الأول بحقيقته ” أطعت زمان إسكاتي ” ويكمل الثاني مؤداها ” أأعصي الآن عصياني “.
ولو جاز أن نحصي – في آخر الأمر – ما أثمر عنه انقسام الهوية من نتائج فإن هذه النتائج تتلخص في كون ذلك البيت كان يدخل إلى القلب على شكل جنة ويخرج الآن – مع نهاية المعنى – بشكل سؤال يردد نفسه ” أأعصي الآن عصياني” ويعود السؤال ثانية للتقدم عل النداء في أول الفقرة الجديدة:
أأدنو منك يامرسى شئوني ليس من شأني
أتقرؤني أما تبدو فصولي غير عنواني
لأن البحر غير البحر في قدميه أشجاني
فلا كفاي من أهلي ولا الأمواج خلاني
بحكم الوضع والعادات ألقاها وتلقاني
بودي أن أحيل البحر وشماً تحت أرداني
وأرحل تاركاً خلفي لأِّم الرمل أدراني
وقد كان السياق ينادي من قبل بيتاً في القلب وكان السؤال التالي له يتجه إلى أكثر من معنى وأكثر من جهة في وقت واحد وتقدم هنا السؤال على النداء حاصراً تقدمه عليه بمعنى رئيسي واحد وألحقه من بعد سؤال ثان في معرض الإخبار واتخذ المنادى دلالة المرسى.
وبذلك يسلمنا السياق إلى منادى خامس بعد المناديات الأربعة السابقة (الأشجار، البستان، المقهى، البيت).
والمرسى من الرسو نقيض الإبحار أو إلقاء قلاع الإبحار والتوقف عن السير في البحر. وهذا المعنى الجديد يسلمنا إلى دلالة جديدة تضيء معنى السياق السابق وتجعلنا نتصور الرحلة السابقة من الأشجار إلى البيت عبر البستان والمقهى إبحاراً متواصلاً في مشوار رحلة واحدة.
ومن الوجه المكمل تحيلنا هذه الدلالة الجديدة إلى دلالة أخرى أخذت تظهر في السياق التالي لها وهي دلالة البحر.
والبحر – في السياق – يبدو بصورتين صورة أصلية تآلف الشاعر معها وأصبح يعرف البحر من خلالها وصورة أخرى مختلفة طرأت عليها بعض التغييرات وهي الصورة المجسدة في السياق سوى تغيرها.(لأن البحر غير البحر… إلخ).
وفي ظل هذه الصورة المتغيرة يرى البحر غير البحر. وأداة التعريف ” ال ” للبحر في السياق أداة التعريف العهدية.. فكأن معنى التعريف المعطى للبحر هو البحر المعهود الذي سبق معرفته ذات يوم على نحو ما. وهذا هو البحر الجديد ذو قدمين لأن البحر غير البحر في قدميه، وذو أمواج (فلا كفاي في أهلي ولا الأمواج خلاني). والقدمان موضع لرمي الأشجان وبالتحديد أشجان الشاعر. وهذا يعني أن تلك القدمين كانتا تؤديان وظيفة محددة قبل التغير الذي طرأ على البحر، وأصبحتا الآن تؤديان وظيفة أخرى، تلقى تحتها الأشجان ، وهكذا بدلاً من أن تكون القدمان وسيلة للسير وقطع المسافات تحولتا إلى ما يشبه المكان الذي تلقى فيه الزوائد التي لا حاجة لها. أي أصبحتا متوقفتين وأصبح التوقف لا يخلو من تأسٍ.
ومع هذا التغير بدأت تتغير كذلك الأحاسيس وأصبح الشاعر بدوره يغترب عن نفسه ويتنكر حتى لأطرافه ذاتها وينفي انتسابه أو انتسابها إليه (فلا كفاي من أهلي).
ومن الوجه الآخر فإن الأمواج وهي سر ملكوت كون البحر واصل حركة مده وجزره التي تشكل كل شيء فيه، لم تعد كما كانت من خلان الشاعر ورفقته. غدا الشاعر واحداً في جانب وغدا البحر وأمواجه منفصلين عنه في جانب ثان.
وهذا التحول هو الذي أفضى بدوره لكي يصبح الشاعر فصولاً لا تمت إلى عنوانها بصلة. أي أن هذا التحول في أبسط معانيه امتداداً لحالة الطلاق السابقة بين نسب الأب ونسب الأم المشار إليه، إنه الثمرة الطبيعية لمسخ المخلوق عن هويته.
ولذا فإن السياق وهو يستخدم – كما رأينا – “لأن..”التعليلة” في معرض تحديده لأسباب الغربة في قوله:
“لأن أباك عنسي..” يستخدم هنا كذلك ” لأن.. ” التعليلية في قوله لأن البحر غير البحر “.
والتعليل الأول ” لأن أباك..” كان يرد عوامل الغربة في انفصام هوية الواقع عن نفسه إلى ازدواجية نسب الأب والأم وتناقضهما في التعبير عن معنى الحقيقة الواحدة فيهما، بينما التعليل – الثاني – هنا يرد هذه العوامل إلى علاقة المبحر ببحره والشاعر بقضيته والمواطن بوطنه.
وهي في مدلولاتها جميعاً تصب فيما يمكن تسميته بعلاقة البنوة أو الوجه الآخر المكمل للهوية.
والسؤال في بدايته ” أأدنو منك يا مرسى..” أي هل آن الأوان لكي ألقي شراع إبحاري كشاعر وأسكت؟
وهو تماماً نفس السؤال السابق ” أأعصي الآن عصياني “.
إن مضمون السؤالين يجعلنا نؤلف من شقي دلالتهما الوحدة دلالة أخرى ضمنية، وهي أن الشعر بمعنى من معانيه ” عصيان”. عصيان القبول بالأمر الواقع وعصيان مهادنة النفس على قبولها بالأمر الواقع.
والعصيان بهذا المعنى هو الحل، الوجه الآخر النقيض للواقع، ذاته. هو الرغبة في نسف الواقع المشوه من جذره وإعادة تشكيله من جديد.
والشاعر وهو يعاني من انفصام ” بنوته ” بذلك البحر الذي لم يعد غير البحر الذي عرفه وأحبه وأكسبه هوية الانتساب إليه، لا يسلم كما هيئ لنا في البداية بذلك السؤال: أأدنو منك يا مرسى؟ وإنما يطالعه شوق آخر مضاد:
بودي أن أحيل البحر وشماً تحت أرداني
وأرحل تاركاً خلفي لأم الرمل أدراني
انه يعي بأن تحول الأشجار – السابق – عن وظائفها في الحياة وأن قبول ” البستان ” بسلطان القحط، وأن التغرب عن الذات بكل مظاهره المختلفة، ماهي سوى ” أدران ” تعْلَق بالنفس أو بالوجه أو بالأصابع من جراء ” عرق” الإنسان في معاناته للوصول إلى الحلم، ولذا فإن الحلم حين يصبح ” بحراً أو ” وشماً ” يرسم تحت ” الأدران”، ولنلاحظ في ذلك التشابه اللفظي بين المتضادين، فإنه وحده الكفيل بتطهير مظاهر تلك الأدران المستنقعة.
وعند هذه النقطة يحدث التفات من السؤال إلى النداء ويقدم النداء ويؤخر السؤال على هذا النحو:
ألا يا كائنات الشوق أين ترين شطآني
أناديكن: من لبّى؟ ومن يا صمت ناداني؟
وهل هذا الذي أجتر كالأنقاض جثماني؟
أيا هذا لمن تهذي؟ أهذي صخر إذعاني
أما استنطقت أشباحاً بل استنطقن إمعاني
أتسأل طالباً رداً؟ أليس الحل إنساني
أما للموج طوفان؟ وهذا الهجس طوفاني.
وقد اشتق عن النداء الرئيسي ” ألا يا كائنات الشوق ” ندائين إضافيين. أحدهما ” ومن – ياصمت – ناداني “. والنداء هنا اعتراضي. والثاني ” أيا هذا لمن تهذي.. !! ” تعبير عن نوع من الحوار الداخلي مع النفس.
” وكائنات الشوق ” إيقاع سادس في نفس جوقة النداءات السابقة.. وقد نشأت فكرة النداء هنا كرد فعل على نداء ” المرسى ” السابقة.
وفيما كانت فكرة (المرسى) تطرح نفسها كتعبير عن حالة من السآمة المؤقتة، تطرح (كائنات الشوق) نفسها كتعبير نقيض يتجه إلى المستقبل البعيد، والتعبير الضمني أثناء ذلك عن الاستعداد المفتوح في الانتظار، ولكن مع حث الأشواق على التسارع والتعجيل بمجيء الآتي المرتقب.
و ” المرسى ” كان ينطوي على معنى التوقف عن الإبحار، ولم ينطو في نفس الوقت على أي تحديد لمعنى هذا التوقف. أما النداء في الفقرة الأخيرة فيربط تساؤله اللاحق بتحديد الشواطئ التي ينتهي عليها الرسو (ألا يا كائنات الشوق أين ترين شطآني). والشواطئ تشير ضمنياً إلى معنى الوصول للجهة – أو الجهات – المقصودة بالإبحار، وهي الحلم.
والسياق لا يطلعنا على معنى (الكائنات) المناداة، في الوقت الذي نطالع في هذا السياق معنى (الشوق) بصور متعددة من خلال مضامين السؤال المتتالية فيه: أين ترين شطآني؟ من لبى؟ ومن.. ناداني؟ وهل هذا الذي أجتر جثماني؟ …..إلخ.
غير أن الشوق يحدد ضمنياً معنى (كائناته).. وقد رأينا كيف أن هذا الشوق تلبس – في بادئ الأمر – أحلام (الأشجار) في العودة إلى أغصانها، وفي كتابة تاريخها – الجديد -الخاص، كما توسوس به رغباتها. ورأينا – ثانية – أن هذا الشوق يمتزج بمعنى (البحر) ويتطلع إلى حالته إلى (وشم) يطهر بمائه العذب ” (أدران ” الرمال الآسنة.
وهاهو (الشوق) – ثالثة – يتداخل بمياه بحره / حلمه الواسع، ويصبح منتهى غايته رؤية (شطآنه) من غب هذا الحلم المتداخل فيه، ليلقي على ضفافها مرساه.
أي أن ” كائنات ” هذا ” الشوق ” هي كائنات بحره حلمه الواسع من حوله، وأنه فيما يتطلع إلى ” شطآنه ” يتطلع إليها بعيون كائنات بحره الواسع كلها. وإن كانت المسألة التفصيلية التي يعني بها السياق هي التساؤل عن من لبى من هذه الكائنات نداءه، وعن من ناداه فيها، ليقيس في ضوء ذلك المسافة – النهائية – الفاصلة بين العيون المتشوقة وأحلامها.
وفي نهاية الأمر فإن المدلول الكلي لسياق القصيدة الكامل يصب في بلورة معنى ضدي نقيض، هو ما يشير إليه عنوان القصيدة بالاسم (كائنات الشوق الآخر). ولإيضاح هذه المسألة تماماً يمكن النظر ثانية إلى الصيغة الخاصة التي تآلف فيها السؤال بالنداء، وشكلا من خلالها صيغة السؤال الثالثة التي سبق الإشارة لها مع بداية الموضوع.
لقد ارتكز السياق – كما رأينا -على ستة محاور، شكلت مجتمعة صيغة تآلف السؤال بالنداء على امتداد السياق.
واتخذ التآلف المذكور هذه الصورة المجملة:
أأستفتيك يا أشجار؟
أيا بستان هل تصغي؟
أأستبكيك يا مقهى؟
أيا بيتاً هنا في القلب كيف أبث تحناني؟
أأدنو منك يا مرسى؟
ألا يا كائنات الشوق أين ترين شطآني؟
أي أن الفقرات الست في نهاية الأمر هي مؤالفة السؤال بالنداء من خلال تقديم أحدهما على الآخر، في كل مرة من المرات الست. وقد تقدم السؤال في المرة الأولى، وتقدم النداء في المرة الثانية، وعاد ليتقدم الأول، ثم تأخر.. وهكذا.
والمحصلة الإجمالية تقدم السؤال على النداء اتخذ هذه الأحوال:
ا أستفتيك..؟ ا أستبكيك..؟ ا أدنو منك…؟
والمنادى في هذه الأحوال على التتالي: الأشجار، المقهى، المرسى.
والمحصلة الإجمالية لتقدم النداء على السؤال أتخذ هذه الأحوال أيا بستان..، أيا بيتاً…..، ألا يا كائنات الشوق… !
والسؤال فيها على التتالي:
هل تصغي؟ كيف أبث تحناني؟ أين ترين شطآني؟
وموضوع التساؤل في الصيغة الأولى:
الاستفتاء.
الاستبكاء.
الدنو.
وموضوع التساؤل في الصيغة الثانية:
الإصغاء.
بث الحنان.
رؤية الشطآن.
ومن خلال لفظ السؤال، في هذه الأسئلة جميعاً، نستطيع تحديد شكل من أشكال العلاقة بين السائل والمسئول. والعلاقة بين الأشجار المستفتاة والشاعر المستفتي هذه الأشجار علاقة (إفتاء) أو (استنصاح)، فكان المفتي يمثل قيمة نموذجية مرجعية و(المستفتي) مستنصح يستهدي بنصحه.
وسبب الاستفتاء هنا شكوى واقع الحال التي غدا معها الشاعر / المستفتي يرى نفسه (شجرة) تحمل غير أغصانها من جهة، وفي ذات الوقت يرى نفسه، بما هو فيه، قابلاً على أن يحقق معناه وذاته المنشودة بأوسع ما في نفسه من الأحلام، من جهة ثانية.
وموضوع السؤال / الاستفتاء في هذه الحال هو كيفية تحقيق الوجهين: استعادة الذات وتحقيق حلمها. وقد اكتست الشكوى واكتسي الإفصاح عن الحلم في السؤال طابع العلاقة المعنوية المشتركة بين السائل والمسئول، والمنتزع من معنى الأشجار. ومعنى ذلك في نهاية المطاف أن السائل والمسئول يمثلان شيئاً واحداً في حقيقة الأمر، والغرض من السؤال إيضاح ما تعانيه الأشجار في الواقع من أنواع التغريب، وما تكتنز به رغم ذلك من دفئ الأحلام.
والعلاقة بين (المقهى)، الطرف الثاني في السياق، وبين الشاعر هي (الاستبكاء)، أو طلب البكاء. واستبكاؤك الشخص طلبك البكاء منه لأي سبب من الأسباب.
وسبب طلب البكاء هنا كان – كما رأينا لامتلاء قلب الشاعر بالأحزان التي استعاد معها أحزان الماضي، وأصبح حزنه لذلك مضاعفاً من حزن الحاضر والماضي على السواء.
والمقهى لا يمكن استنتاج دلالاته الدقيقة في السياق تماماً، ولكن المقهى أثيرة في شعر البردوني على الدوام، ويتم تردادها والإكثار منها لمرادفتها لمعنى الفراغ والتجوف واللغط الأبله بدون طائل.
وهي بهذا المعنى تساوي تلك الأغصان الطارئة الشاذة التي كانت تحملها الأشجار السابقة، وتنطبق عليها نفس صفاتها الخاصة (كومض الآل.. وكلغوا السكر)
وفيما يستبكي الشاعر المقهى على أحزانه الخاصة، يستبكيها ضمنياً على أحزانها في ذات الوقت بل قد يكون الاستبكاء هنا مقصوداً به الطرف الأخير… لأن وجودها الطارئ في الحياة اليمنية لا يمثل علاقة على التطور للأفضل، ولكن يعيد إلى الأذهان ذكرى بني عثمان ” الآيلة، ويثير في النفس مجدداً أحزان الماضي ثانية.
وليس ثمة علاقة مباشرة بين (المرسى) الطرف الثالث في السياق – وبين الشاعر، إلا من حيث كون ” المرسى” مضاداً “للبحر” الذي تربطه بالشاعر علاقة خاصة.
والسؤال أأدنو منك يامرسى ينطوي ضمنياً في معناه على سؤال – آخر – يكمل الأول (أم لا أدنو؟ ) والباعث على السؤال التغير الطارئ في علاقة البحر بالشاعر. وهو تغير يحمل في ثناياه نفس ملامح التغير السابق في الأشجار.
وكما كان الشاعر يشعر بأنه شجرة تحمل غير أغصانها في السابق أصبح الآن يشعر بأن أشجانه لم تعد هي أشجان بحره السابق، ولم يعد لذلك كما كان – موجة في أمواج بحره لقد أصبح موجة على الرمل الذي يطمح أن يطهر أدرانه. ومعروف بالطبع ماذا يؤل إليه شأن موجة على رمل في النهاية. وباختصار: فقد أدى هذا التغير بشقه الثاني – إلى إفقاده محتواه الخاص الذي كان يدل عليه من قبل.
أي أنه جرد في السابق من معناه كشجرة، وجرد لاحقاً من انتمائه لبحره. وفي السابق كان هو المستهدف، وأصبح المستهدف لاحقاً بحره. وبذلك تكامل الوجهان، واستلب في ذاته وانتمائه معاً.
ولئن كان يشوق في السابق لاستعادة انتمائه، فيصبح حلمه مزدوجاً. خاصاً وعاماً. أي يصبح كغربته الخاصة والعامة المزدوجة تماماً.
وهكذا يمكن القول: أن الغرض الرئيسي من تقديم السؤال على النداء يستهدف بدرجة رئيسية الوصول إلى هذه الغاية، غاية شكوى الواقع وتجسيد مظاهر الغربة فيه. وغاية تجسيد الحلم، الوجه النقيض ، في ذلك الواقع، للغربة.
ومن الوجه الآخر فإن لفظ السؤال في صيغته تقديم النداء على السؤال ، قد اتخذ في حالاته الثلاث السابقة الدلالات الآتية: الإصغاء، بث الحنان، رؤية الشطآن.
وهي دلالات تنم عن انمحاء الفواصل بين طرفي الخطاب الرئيسين: المنادي والمنادى. أو الشاعر والظرف المتوجه إليه بالسؤال.
والمنادى في الحالات الثلاث، كما رأينا، كان بهذا التتالي: البستان، البيت، كائنات الشوق. ومعنى ذلك أن ثمة علاقة خاصة ما، يمكن ملاحظتها ما بين المنادى هنا والمنادى في الصيغة السابقة، وتتخذ هذا النحو من التداخل الأشجار / البستان، المقهى / البيت، المرسى/ كائنات الشوق.
والعلاقة بين الأشجار والبستان علاقة جزء بكل، بحيث لا يمكن فصل الثاني عن الأول، لأنه لا يكون إلا به ويمكن تصور مجموعة من الأشجار في أي مكان، وقد لا تكون بستاناً ولكن من الاستحالة تصور بستان من دون أشجار. وعلى حين تكون الأشجار أساساً لتكوين البستان، فإن معنى البستان يضفي عليها خصوصية أكثر تحديداً، ويضفي على دلالتها معنى السقي والتشذيب والاعتناء والرعاية… الخ.
والأشجار قبل أن تصبح بستاناً في سياق القصيدة كانت تحمل غير أغصانها ولا تعطي ثماراً ذا نفع أما وقد تحولت في السياق إلى بستان فإنها أصبحت تعاني من قانون القحط العام. والقحط هو عدم الإثمار بسبب الجدب وقلة أو انعدام الماء.
وهذا يعيدنا ضمناً إلى معنى البحر لأن البحر في آخر المطاف هو الماء. وهكذا فسبب القحط، وبالتالي تساوى الموت واللاموت التي نوه إليها السياق، كما رأينا، راجعة في أساسها إلى كون البحر لم يعد بحراً، وهكذا بدوره أدى إلى القحط وإلى شل الحياة.
وحالة الموت المذكورة الناجمة عن تغير البحر، أفضت بدورها في السياق، كما رأينا أيضاً، إلى تحول البيوت إلى أطلال يقف الشاعر عليها متسائلاً عن سكانها، وعن عناقيد ذلك البستان ورياحينه.
أي أن الرحيل عن الديار لم يتم في الأصل إلا بعد أن هيمن القحط، وكف ذلك البستان عن أن يثمر بشيء، وهذا بدوره يعيدنا إلى قصة تبدد ” أيادي سبأ ” في الأرض، بعد خراب جنتيهم التي يسميها السياق هنا بستاناً.
واذن فالأشجار / البستان ثنائية معنوية يستهدف السياق التعبير بها في شقها الأول (الأِشجار) عن الحاضر ويستهدف بها في شقها الثاني ” البستان ” التعبير عن الماضي والمعنى الضمني لتزاوج الماضي بالحاضر.. يمكن استنتاجه من خلال معنى (الحلم) الذي وإن ورد كما رأينا في السياق، كمضاد لمعنى الغربة في الحاضر المشكو، إلا أنه تطلع في ذات الوقت لاستعادة الماضي المجسد في صورة ” البستان “. كما يصبح شكوى الحاضر هنا، لا يستهدف الغربة في دلالتها الحاضرة وحسب، ولكن يستهدف الغربة من حيث هي أسباب معرقلة للحلم المتطلع إلى استعادة الماضي ووصله بالحاضر.
وحين يتقدم السؤال على النداء فإن صيغة النداء تتخذ (يا أشجار) وذلك لقربة من المنادى، وكونه يعيش معه في دائرة الحاضر القريب. أما حين يتأخر السؤال ويتقدم النداء فذلك يعطيه الفرصة لمد صوت النداء (أيا)، والوصول بواسطة هذا المد إلى الماضي البعيد “بستان” والاستفتاء وأن صبت دلالياً في توحيد الطرفين المنادي والمنادى ببعضهما، إلا أنها تنطوي كذلك على معنى تباعد المنادي عن طرف المنادى، فيصبح هذا الأخير بمنزلة أعلى من منزلة المستفتي، وذلك بسبب أن الواقع غرب من فيه وألبس الطرف الأخير وجهاً غير وجهة الحقيقي وجعله يتعامل مع الأول بغير حقيقتهما الواحدة.
في حين أن الشاعر هو يخاطب ” البستان ” أو يناديه، يشعر بقدر أعلى من الاستئناس، ويخاطبه رغم بعده كمن يخاطب نداً له في مجلس واحد، بقوله ” هل تصغي ”
والعلاقة بين (المقهى) والبيت علاقة تضاد.المقهى لا تلجأ إليه إلا في حالات خاصة من السأم وطلب الاسترواح، والبيت مقر استئناسك الدائم بنفسك. والمقهى في دلالته المشار إليه سابقاً نقيض لمعنى البيت الذي يعني التأصل والتجذر في الأرض. وبعد ذلك فالمقهى يندس في أي زاوية أو مكان ما من أماكن المدينة الواسعة، ولكن البيت المخصوص في القلب، كما قرأنا في السياق.
والأهم أن المقهى يرد في السياق كمناقض لمعنى الأشجار السابقة له، ويرد تالياً لها بقصد تأكيد غربتها الخاصة في واقعها. وترد البيت من الجانب المقابل كامتداد لمعنى (البستان) السابق له. بل أن خصوصية البيت المشار إليه مستمدة من ترابطه بمعنى البستان. وقد رأينا السياق في معرض تفصيله لذكرى هذا البيت لا يلتفت تقريباً إلى وصفه من الداخل، ولكن يصفه من خلال البستان الذي حوله، فيصبح البيت وبستانه شيئاً واحداً.
وفيما يكون موضوع سؤال المقهى هو ” الاستبكاء “، يكون موضوع سؤال البيت هو الحنان. وقد اتخذ الأول الهمزة أداة للسؤال، وأصبح المعنى أأستبكى أم لا استبكي وجعل الثاني أداة سؤاله ” كيف “، لانطوائها على ما لا يحصى من طرق بث الحنان ”
واتخذ النداء الأول (يا) للقريب، واتخذ الثاني أيا لنداء البعيد… رغم أن المقهى في الخارج، والمنادى البعيد الثاني في القلب.. تدليلاً على كونه منادى حلم.
وقد انتهى سؤال الأشجار والمقهى إلى سؤال طرف ثالث يمثل حالة وسطى، تضع حداً نهائياً لثنائيتهما المتضادة، وهو ” المرسى ” وانتهى سؤال البستان والبيت إلى سؤال طرف ثالث يكملهما، وهو كائنات الشوق “.
وهكذا فقد أدى تقدم السؤال على النداء إلى تضاد المنادى التالي له الأشجار/ المقهى وجاء المنادى الثالث ” المرسى ” ليكون بمثابة نهاية لتضادهما، في حين أدى تقدم النداء على السؤال إلى تكامل حلقات المنادى التابع له البستان / البيت / كائنات الشوق.
وبينما كانت أداة النداء في الصيغة الأولى للقريب “يا” ولفظ السؤال ينم عن انفصال المنادي عن المنادى الاستفتاء / البكاء / الدنو، فإن أداة النداء في الصيغة الثانية تنم عن البعد ولكن لفظ السؤال “هل تصغي؟ كيف أبث / أين قرين ” ينم عن القرب.
على أن النداء في الصيغة الأخيرة يتخذ شكل حركة من الخارج إلى الداخل، فيبدأ في أول الأمر بالنداء البعيد إلى الخارج ” أيا بستان هل تصغي ” ويرتد إلى الداخل ” أيا بيتاً في القلب كيف أبث تحفاني ” ثم يرتد ثالثة إلى التطلع في الأفق الخارجي البعيد الذي لا يعرف اتجاهه أو مكانه على وجه التحديد، ولذلك يتغير شكل النداء هنا، وتسبق ” ألا ” الدلالة على التنبيه أداة النداء ” يا.. ” كما يتخذ السؤال أداة ” أين ” التي تدل على اللاتحدد المكاني، وبالتالي تنطوي ضمنياً على اللاتحدد الزماني.
وفي ضوء دلالة البستان والبيت الأخيرة التي رأيناها تفصح عن نفسها – مؤخراً -، يكتسب الشوق من خلالها بعداً إضافياً جديداً إلى بعده المنوه إليه آنفاً، ويصبح شوقاً لاستعادة (جنة) الماضي التي حالت الغربة في الحاضر دون ” قطافها “.. رغم المعاناة وسقيها بأشواق الدماء، كما رأينا ذلك في بداية مطلع القصيدة.
وفي المؤدى الأخير فإن الشوق إلى تلك ” الجنة ” يبدو هنا شوقاً (آخر) مختلفاً عن الشوق الذي كان، وأدى فيما أدى إلى سقوط الحاضر مغترباً في نفسه، للأسباب التي تتساءل عنها القصيدة في بادئة أمرها، وتجلوها من ثم بشكل أوضح في سياقها اللاحق.
وهو شوق آخر جديد لأنه سيصل المستقبل بالماضي، بصورة يتم فيها تجاوز الحاضر، ويندمج فيها الشوق بالحلم، كما تتواصل فيها الأشجار ببحرها، فتسترد أغصانها الحقيقية المتغربة، ويخضر من ثم البستان العظيم ويعود للبيت المهدوم أركانه وباختصار: يصبح في ظله المستقبل امتداداً للماضي وتطويراً للأجمل فيه، وليس محاصراً بانقطاع أرومة النسب، ويعاني كالحاضر من انفصام هوية الانتماء للذات وضدها في آن معاً
وإذا كانت الصيغة الأولى من السؤال تمهد، كما رأينا، لموضوع القصيدة الرئيسي، ولكن بصورة يضطلع فيها السؤال بالتخفيف من حدة التقرير الذي ينطوي عليه التمهيد، وتواصل بعدها الصيغة الثانية فكرة التمهيد ذاتها، مع إجابتها الضمنية على الأسئلة السابقة المطروحة، بردها إلى قوة اللامنطق المسيرة للوجود والحياة الإنسانية، فإن الصيغة الثالثة من السؤال تواصل ظاهرياً سياق الصيغة السابقة لها من جهة وتلجأ أثناء ذلك إلى تفصيل مظاهر قوة (اللامنطق) في الواقع المخصوص للشاعر، وإلى البوح برغباته المضادة لما في الواقع بشكل حلم.
ومن الجهة الأخرى تلجأ إلى تذكر الماضي الجميل الذي كان.
وهناك يصبح لمعنى تذكر الماضي قيمة مزدوجة، حيث ينطوي معناه على المفارقة مع ماهو قائم، وهذا بحد ذاته يعمق من معنى الغربة المشكوة في الحاضر، وفي ذات الوقت ينطوي معناه الجميل على بلورة وجه الحلم الذي كان يفصح عن نفسه بصورة مباشرة من قبل، مما يجعل من الوجهين، الحلم المفصح عنه والحلم الضمني في الحنين إلى الماضي، يشكلان شيئاً واحداً يصب في معنى ” الشوق الآخر ” المقصود في العنوان
ومن خلال تمازج صيغ التساؤل الثلاث ببعضها تأخذ القصيدة في نهاية الأمر قوامها وأبعادها التفصيلية ومن ثم بناءها ووحدتها الكلية.
ويمكن اختصار كل ما سبق بالتعبير عن صورة بناء القصيدة على هذا النحو:
تساؤل مركب (سؤال ظاهري = تقرير ضمني)
تساؤل بسيط (تعميق صيغة السؤال السابق + إجابة ضمنية على السؤال، أو الأسئلة السابقة)
تمازج النداء بالسؤال (سؤال + نداء) = (صورة الواقع + صورة الحلم) + (نداء + سؤال) = (الماضي المضاد للحاضر + الماضي المكمل لحلم الحاضر)
والقصيدة بصورتها التي رأيناها توضح الطور التجريبي الذي وصل إليه البردوني في محاولاته المختلفة لتطوير قصيدة البيت، كما تؤكد بصفة تامة ما سبق تكراره من قبل عن نزوعه إلى إثبات مقولته النقدية – الشائعة – عن إمكانية التجديد الشعري خارج لعبة الشكل الخارجي للقصيدة. أعني التجديد حتى في ظل الشكل القالبي البيتي للقصيدة.
ولا شك أن البردوني قد أفلح في هدم الموضوع التقليدي لقصيدة البيت وحلق هو يعبئ قصيدته بموضوعه الخاص الجديد كما يحلق أي شاعر آخر مقتدر. والدليل على ذلك أنني كقارئ للقصيدة قرأت ما قرأت فيها من الدلالات. وهذا بالطبع من حقي، كما هو من حق أي قارئ آخر للديوان أن يقرأ فيه ما يريد قراءته منه، بما في ذلك حتى لا يقرأ منه شيئاً إذا أراد.
ولكن السؤال الذي قد يطرحه من يرى أن القصيدة البيتية لم تخلق إلا للغناء، قد يكون على النحو التالي: هل أفلح البردوني مع ذلك في أن يحتفظ لقصيدته بنفس جماليات وشاعرية قصيدة البيت الغنائية المعتادة؟ وإذا كانت الإجابة بالنفي فإن السؤال المكمل الذي قد لا امتلك الإجابة عليه هو:
هل يمكن أن تتم قراءة دلالة القصيدة أي قصيدة – بمعزل عن جماليتها التي تصنع دلالتها، انطلاقاً بالطبع من أن التلقي والقراءة والدلالة أمور لا يمكن فصلها عن بعضها؟
ورغم أنني قد قرأت القصيدة مخلصاً وانتهيت إلى ما انتهيت إليه من دلالتها الخاصة إلا أن المسألة التي لا يمكن أن أحسمها مطلقاً، مع نهاية هذه القراءة، هي:
ما إذا كان قد تشابك أثناء قراءتي للقصيدة – دلالة حب البردوني بغيره من الدلالات الأخرى المقروءة في النص. رغم حرصي الشديد على الفصل بين الشاعر وأثره (أقصد نصه)
وأن يكن قد حدث التشابك المذكور، رغماً عني، فهذا يقوي، بلا شك، الاعتقاد الذي يذهب إلى القول بصعوبة الفصل بين النص وكاتبه وقارئه.
عن صحيفة (الثقافية).. “من كتاب عن البردوني للكاتب”