البردوني ساردا.. الزبيري رائيا.. الدكتور عمر عبدالعزيز

البردوني ساردا.. الزبيري رائيا.. الدكتور عمر عبدالعزيز
موقع الشاعر الكبير الأستاذ عبدالله البردوني

>  البردوني ساردا.. الزبيري رائيا.. الدكتور عمر عبدالعزيز

توطئة:
لا يشترك عبدالله البردوني ومحمد محمود الزبيري في كونهما شاعرين ومجايلين لبعضهما بعضا، بل أيضا في كونهما يخرجان من أساس وتضاعيف ثقافة شاملة وجدت في الشعر مساحة للتعبير عن ما يتجاوز الشعر!!، وفي هذه المداخلة أود الإشارة بطريقة مختزلة ورمزية إلى تلك المحطات والأفاق التي تسم كلا الشاعرين الكبيرين بالثقافة السردية والرؤياوية، وسأركز على البعد السردي عند البردوني، والبعد الرؤياوي عند الزبيري معتبرا أنهما يتشاركان في كلا البعيد، ويؤكدان على نموذج المثقف الشامل الذي يستبطن مختلف الأحوال والأنماط الفنية في إطار إبداعه.
هل كان البردوني والزبيري يستجليان تلك الخصائص توصيفا وتصنيفا ومفاهيم؟ أم أنهما باشرا الممازجة الإبداعية ضمن تلقائية الرائين الكبار والمحلقين الأفذاذ؟
هذه المداخلة تتوخى قراءة الشاعرين ضمن أفق يستدعي مقولات علم الجمال، ويبحث عن النص بوصفه قيمة تتجاوز تخوم النوع الفني الواحد، تأكيدا على أن الثقافة الشاملة اصل في الإبداع الكبير.
البردوني ساردا
يعرف الشاعر العربي الراحل عبدالله البردوني كرمز معاصر من رموز الشعر العربي الموصول بتاريخ البيان والبديع القادمين من أساس الموسيقى الشعرية، بمحدداتها المعروفة عبر القافية والتفعيلة، ويعرف أيضا بوصفه الشاعر الذي استطاع أن ينزاح بمفرداته الشعرية صوب شكل من أشكال التطوير والحداثة بالرغم من استمرار إقامته في الكتابة ضمن أنساق العمود والقافية، فقد كان البردوني يتمتع بحصيلة لغوية فذة استمدت وهجها من ذاكرة “البصير” الذي طور أدواته السمعية وذاكرته المعرفية بصورة قل أن نجدها عند المبصرين بعيونهم، فقد كان موسوعة تتحرك على الأرض، وحالة استعادات وامضة للتاريخ البياني العربي بشعره ونثره قل أن يكون لها مثيلا.
وما لا يعرفه الكثيرون عن البردوني تلك الإمكانيات الاستثنائية التي كان يتمتع بها كسارد حقيقي، ولقد تجلّت تلك الإمكانيات في عدد من المستويات كما سنبين هنا:
· في الشعر: كتب البردوني سلسة من القصائد المحايثة للتاريخ والسير والحكايات الشعبية ممازجا بين الشعرية والنثرية، وقد شكلت مجموعة القصائد ذات النفس التاريخي السردي قيمة استثنائية في مشهد الشعر العربي الذي عرفناه خلال العقود الأخيرة من القرن المنصرم، وقد اشتملت تلك القصائد على أسماء الرموز والأماكن،وكانت تستقرئ الحاضر من خلال الإسقاط التاريخي ممسكة بالمزاج الشعري مما لفت أنظار النقاد العرب إلى موهبة فذة تجعل الإبداع والمعني يتساوقان بصورة استطرادية.
· الأحاديث الإذاعية: من يستمع إلى سلسلة الأحاديث الإذاعية التي قدمها البردوني في الإذاعة اليمنية يقف على منهج سردي، وتوتر رشيق في الخواطر، وقدرة استثنائية على محاصرة المعلومة وضبطها زمنيا، وإمكانية خاصة في استنتاج أحكام القيمة الموضوعية، مع قدر كبير من التوصيف والتصنيف الذهني الذي يتبدّى كشكل بنائي محكم الضبط، والملفت أن هذه البنائية النصّية الشفاهية تتقاطع إيجابا مع استطرادات الذاكرة والتنويعات المدارية للأفكار، والربط بين المعلومات حتى يخيل اليك انك أمام فن للفنون الممزوجة، فقد حبا الله البردوني بقدرة على ممازجة المعارف وتطويع النصوص الشفاهية والمكتوبة، والتدليل على أن كل نص شفاهي أو مكتوب يحمل في طياته نصوصا بصرية وموسيقية. لا أستطيع وصف تلك الحالة إلا باعتباره سردا غنائيا وبالمعنى الواسع للكلمة، فالشعرية في مثل هذه الحالة تتقمص أبعادا تتجاوز الشعر بالمفهموم الذي نعرفه ونألفه، تماما كما هو الحال عند أبي حيان التوحيدي صاحب “الإشارات الإلهية” الذي انزاح بالنثر إلى آفاق شعرية متقدمة، وتماما كما نلاحظ عند جبران خليل جبران الذي وصفه البردوني بأنه الشاعر الذي “نثر الشعر وأشعر النثر”. والشاهد إن البردوني قام بعكس ما فعله أبي حيان، فاذا كان أبو حيان سارد شاعر، فان البردوني شاعر سارد.
· الكتابات الصحفية: كان البردوني يتواصل مع قرائه أسبوعيا عبر جريدة 26 سبتمبر اليمنية، وكان يحررا صفحة بكاملها، والذين قرأوا تلك الصفحات الثرية بالمعلومات والفنون لاحظوا كيف تنساب المعاني برشاقة ودون قلق، وكيف تنتظم التفارقات والتمفصلات، وكيف يستغرق المتلقي في لجة التداعي الناعم مع الرؤى والأفكار التي تنساب كالماء الزلال.
تلك الميزة النثرية الشاعرية لم تكن مقيمة فقط في مدى الكلمة وأبعادها الدلالية والاشارية، بل أيضا في كامل النص المرصوف بانتظام يتحدّى التداعيات والخواطر، بل ينزاح بها إلى آفاق سردية واضحة المعالم، وبأنساق تجعل من التفارقات قيمة واحدة.
تلك واحدة من الإحالات السردية المبهرة للبردوني،وهو أمر يتطلب استقراء وإعادة قراءة متجددة للشاعر في أفق غير الذي عرفناه وألفناه

الزبيري رائيا متعددا
الشاعر محمد محمود الزبيري مات مستشهدا برصاص غادر في منطقة”برط” اليمنية بعد أن بذل جهودا كبيرة للمصالحة الوطنية عندما كان الاصطفاف على أشده بين أنصار الملكية وأنصار الجمهورية.
تلك المأثرة الإصلاحية لم تكن جديدة في حياة الزبيري وهو الذي كان قد اقترب كثيرا من نظام الإمامة في شمال اليمن محاولا إصلاح النظام من داخله، غير انه باء بالفشل، وتأكد له لاحقا أن العادة أقوى من الحقيقة، وان الوهم اكبر من الموضوعية في النظر إلى الأمور، وان نظام الإمامة كغيره من أنظمة الجور والظلم ليس بوسعه مغادرة مرابع طمأنينته بصورة طوعية واتساقا مع حكمة التاريخ ونواميسه.
هكذا علمتنا سنوات العرب العجاف، وتاريخ الويلات والانقلابات التراجيدية، فالأنظمة تنهار تحت وطأة المظالم، والتحولات تأتي بصورة قسرية عسيرة حتى يختلط فيها الحابل بالنابل، وتتهاوى فيها المحاسن والمساوئ معا !!.
بذل الشهيد الزبيري قصارى جهده للإصلاح من الداخل، وكانت النتيجة أن تعرض للمطاردة والهجرات المتتالية، ابتداء من عدن التي كانت حينها مستعمرة بريطانية، مرورا بباكستان حيث تعرف على آداب المتصوف والشاعر الباكستاني الكبير محمد إقبال، وحتى مصر عندما أصبح على تماس بحركة التنوير العربية الكبرى مساهما فيها وحاضرا في أساس مفاعيلها الإبداعية الإحيائية، فقد قدم شعرا متساوقا مع كبار شعراء الإحياء، فيما تاق إلى التغيير في اليمن، وكان إسلاميا رشيدا،وسطيا أشعريا بامتياز.
تعرف على أفكار الأفغاني ومحمد عبده وطه حسين ومحمد حسين هيكل وحبيب جاماتي والمازني والطهطاوي وعلي احمد باكثير والعقاد، سواء بصورة مباشرة أو عبر مؤلفاتهم، وكانت اليمن تواكب جملة الآراء والمنطلقات الحالمة لرجالات النهضة والتنوير،وكان الزبيري يحتل مكانة مفصلية في هذا المشهد.
دهرية الزبيري: بداية أفضل أن أقوم بتعريف إجرائي لما اقصده بالدهرية حتى لا يختلط المفهوم الروحي بالجانب الابستمولوجي، فاستبعاد الميتافيزيكا في هذا الجانب ليس إلا أمرا إجرائيا لا ينكر المثال، ولا يتنطّع على النص القرآني الذي وصف عرب الجاهلية بقوله تعالى: “إن هي إلا حياتنا الأولى نموت ونحيا فيها”.، وكذلك دهرية اليهود الذين قالوا لموسى عليه السلام: “أرنا الله جهرة”.
لذلك فإنني اعتمدت ذات المسار الذي انطلق منه بعض علماء البرهان والمنطق الرياضي الجبري ممن بحثوا في تجليات العلوم خارج الميتافيزيقا دون أن يقصدوا نكران الدين، أو يخلطوا بين الدين والدنيا.
فالدهر هنا رديف للزمان والمكان، فانا استعير هنا مفهوما طالما تكرر في الآداب النقدية والإبداعية العربية المعاصرة تحت مسمى “الزمكانية” محايثا بينه والدهر، فالدهر زمان ومكان، غير أن دهرية الإبداع تتجاور مع الزمان المفتوح، وتنخلع عن المكان المعلوم مما يصوغ القول بان للإبداع زمنه الخاص الذي يتخطّى مفهوم الزمن الفيزيائي.
قيل لأبا يزيد البسطامي: صباح الخير يا أبا يزيد.. فرد قالا: لا صباح ولا مساء !! فأبا يزيد مخطوف بزمنه الخاص الذي تتقاطع فيه الأزمنة كلها، فالماضي والحاضر والمستقبل في حالة من الاعتمال والتصارع المؤكد..لذلك أوجز وكثّف حينما سأله احدهم: من أنت يا أبا يزيد، فقال: أنا شيخ الوقت !!.
إذا، زمن الإبداع لا ينتمي لدهر الحدث أو دهر الثبات بل ينتمي لدهر التحوّل بامتياز، ذلك أن زمن الإبداع تبشير بالقادم “دهر حدث” ورفض للسائد “دهر ثبات” وانتماء لمشروع التغيير “دهر تحول” وابحار في اللامكان واللازمان “دهر الدهور”.
من هذا المنطلق أرى أن الزبيري يجمع هذه الدهور في ذاته، مثله مثل كل المبدعين والرائين الكبار، فيما سنأتي عليه تفصيلا وتباعا، ولكن قبل ذلك لا بأس من الوقوف أكثر على ماهية الدهر. يقول الزبيري:
يوم من الدهر لم تصنع أشعته شمس الضحى بل صنعناه بأيدينا
وفي هذا بيان لمفهوم الدهر عند الزبيري بوصفه مفهومازمكانيا، وهو بهذا المعنى يتخطّى دهرية “أخيل” الإغريقي الذي التقطه “هوميروس” في ملحمته وقدمه بوصفه النموذج الأقصى للحالة الأبيقورية المترعة باللذة وفلسفة الوجود الموصول بالظاهر المباشر، قد كان “أخيل” محاربا صنديدا، يعيش البطولة بوصفها التعبير عن الانسحاق في الأنا المنتصرة ، أو الذوبان في العدم الذي يأتي من انتفاء الحياة الدنيا دونما معرفة لما بعد ذلك، بل دونما عناية بما يلي الحياة.
تلك النزعة البطولية الدهرية وسمت القوم قبل الإسلام ومنهم على سبيل المثال لا الحصر أمروء القيس وعنترة ابن شداد، فقد قال امروء القيس تعيرا عن نزعته الدهرية:
أرانا موضعين لأمر غيب ونسحر بالطعام وبالشراب
فالغيب لديه قائم في المستحيل، بل هو افتراض لا يمكن إدراك كنهه، فلماذا يرهق نفسه وجسده من اجل ذلك الغيب المجهول.
وعند ما قيل للمهلهل وهو في سكرته اليومية: لقد قتل أخاك كليبا، رد قائلا: اليوم خمر وغدا أمر، فاستبعد بهذا القول أي قلق يقض مضجع لذته وانسيابه في دهر الحدث اليومي، بل الأبيقورية المترعة بالتبرير والمنعة الذهنية ترجمانا للحال وتماشيا مع المقال.
وقال امرؤ القيس عندما أحسّ بان رفيقه في رحلة السفر إلى قيصر قد أصيب بالجزع والفزع بعد أن طال بهما الدرب.. قال:
بكى صاحبي لما رأى الدرب دونه وأيقن إنا لاحقان بقيصرا
فقلت له لا تبك ويحك إنما نحاول ملكا أو نموت فنعذرا
دهرية الجاهليين والأغارقة المشابهين لهم كانت لا ترى من الوجود سوى البعد الذي يتماهى مع الأنا السوسيولوجية والسيكولوجية، لأنهم كانوا لا يؤمنون بالغيب إلا لمحا، ولا يرونه إلا عارضا عابرا كما أومأ امرؤ القيس، غير أنهم كانوا على درجة كبيرة من الحرية الفردية، وقدر وافرمن النبل البطولي، فقد كان الدهري الجاهلي يقدس خصمه المصروع ويقول فيه:
حاسيته الموت على استفّ اخره فما استكان لما لاقى ولا جزعا
تماما كما فعل “أخيل” الإغريق الذي بكى خصمه “هكتور” بعد أن صرعه بحربته، لكأنه يعيد تدوير مقولة الشاعر الجاهلي:
ونحزن حين نقتلكم عليكم ونقتلكم كأنا لا نبالي!!
لم تكن دهرية الزبيري بطولية فقط كحال عرب الجاهلية والاغارقة المشابهين لهم، بل كانت إلى ذلك سابحة في فضاءات اخرى ألخصها فيما يلي:
· دهر الحدث: لأنه كان مهجوسا بالتغيير،ساهم في التمهيد لثورة 26 سبتمبر، ذلك الحدث الزلزالي الذي غير مرجعية الحكم والياته في اليمن الشمالي، ثم أفاض بحضور واسع في جنوب اليمن،فقد كانت سبتمبر بمثابة المقدمة التاريخية والموضوعية للكفاح المسلح في الشطر الجنوبي، وكان الزبيري احد صناع “دهر الحدث”.
· دهر الثبات: كان الزبيري حاول تغيير نظام الإمامة من داخل النظام فلم يفلح كغيره من الحالمين الكبار بألفية جديدة ومتجددة، فوجد نفسه في نهاية المطاف رافضا لنواميس واليات الإمامة التاريخية، مما جعله ثوريا انقلابيا يرفض الثبات ويقول بالتحوّل ، ومن هذه الزاوية كان ضد “دهر الثبات”
· دهر التحول: ولأنه تاق للتغيير،فقد كان من الطبيعي أن يلتحق بحركة “الأحرار اليمنيين”، وان يشكل ثنائيا إصلاحيا مع النعمان، وان يتأسى بأفكار الورتلاني، وان يتأثر بالشواهد العصرية التي رآها في عدن الاستعمارية، وان يواكب الجدل الفكري الإبداعي في مصر، وبهذا المعنى كان الزبيري إحيائيا بامتياز، فقراءة نصوصه الشعرية الأكثر تعبيرا عن شاعريته ترينا كيف انه كان يتموضع بامتياز في خانة كبار شعراء الإحياء العرب، تلك الحركة التي تاقت لإعادة إنتاج الماضي
· دهر الدهور: نحن هنا أمام حالة تستدعي قراءة ما وراء الظاهر أو التنويع على ذلك البعد الذي استقاه الزبيري من منبعين: الأول يتعلق بصوفية محمد إقبال ذات النزعة العملية الفاعلة في المجتمع، والثانية تتعلق بصوفية محي الدين ابن عربي ذات الطابع المفتوح، مما يتجلى في تنويعه الشعري على إحدى قصائد “ترجمان الأشواق”.
وقبل أن نقتبس بعض فقرات القصيدة الزبيرية التي على روي وقافية قصيدة الشيخ محي الدين لابد من الإشارة إلى أن هذا النوع من التساوق لم يكن من قبيل المعارضة الشعرية التقليدية، بل كانت حالة من التواصل الذوقي والروحي، ما يجيز القول بأن الزبيري كان يتلمّس الخطى في الدهر السابق واللاحق للدهور الاعتيادية التي اشرنا إليها سلفا. يقول في قصيدته:
ذكريات فاحت بريا الجنان فسبت خاطري وهزّت كياني
عمر في دقيقة مستعاد ودهور مطلة في ثواني
فكأن الماضي تأخر في النفس واسترجعت صداه الأماني
وبعد هذه القصيدة بالذات تستحق وقفة مطولة لاستسبار عوالم الرؤية الفوق شعرية للزبيري مما يتسع له المقام والمقال.
** مدير تحرير مجلة الرافد.. خاص ب(عناوين ثقافية).